خطاب إلى الدكتور النمر

أهنئك يا فضيلة الدكتور، عبد المنعم النمر على جائزة الدولة التقديرية، وأعتذر إليك عن هذا الذي قرأته في بعض الصحف لقومٍ تعوَّدوا أن يصوِّتوا ولا يقولوا شيئًا. ولا بأس عليك يا مولانا؛ فإنهم حشراتٌ تخرج من جحورها إذا سمِعت صفيرًا ألأَمَ صادرًا من هناك … من تلك البلدة التي يحكمها مجنونٌ، فهي حكومة بلا عقلٍ، أو من هنالك، من تلك البلاد التي يحكمها ملاحدة، فهي دولة بلا دِين.

وأعتذر إليك مرةً أخرى عن ذلك المأفون الذي اتخذ الحديثَ عنك طريقًا للنيل منِّي، وقد دأب على ذلك، وهو يستثيرني إليه بشتَّى طرقٍ ووسائل، على أمَل أن أردَّ عليه يومًا، فأجعل منه شيئًا مذكورًا، وما هو بشيءٍ حتى يكون مذكورًا.

وإنِّي يا سيدي الدكتور أنصحك — إن كان لمثلي أن ينصح مِثلَك — ألا تفكِّر في الرد على ما كتب؛ فأنا قد أخذت نفسي ألا أرد، وليس موقفي هذا إلا لأني أذكر بيت المتنبي الخالد:

وإذا أتَتْك مَذَمَّتي مِن ناقصٍ
فهي الشَّهادةُ لي بأنِّي كامِل

اضرب عن هؤلاء جميعًا صفْحًا، واطوِ صفحتَهم، وهي مطوية بطبيعتها. وهيَّا الآن إلى كتابك الجليل الذي أصدرته منذ قريب، والذي أعتقد أن العالم الإسلامي أحوجُ ما يكون إليه اليوم.

إن كتابك «الاجتهاد» الذي أقرؤه الآن من أعظم الكتب التي ظهرت في هذه الفترة الأخيرة، وكم كنتَ موفَّقًا حين كتبت تحت عنوان: «الاجتهاد – ضرورة من ضرورات الدِّين والحياة، كيف كان؟ كيف صار؟ وواجبنا الآن».

واسمح لي يا مولاي أن أشدَّ على يدك في قوة؛ لشجاعتك النادرة أن أصدرتَ هذا الكتاب تواجه به فئاتٍ كثيرةً لا ندري أيها أكثر ضلالًا من الأخرى؛ فهناك الجامدون المتحجِّرون الذين يأبون أن يكون دينُنا الحنيف صالحًا لكل زمانٍ ومكان، وهناك المتكسِّبون بالدِّين، ولا يريدون أن يتطور التشريع عند الشرح ومواجهة الجديد في حياتنا، والذين يأبون أن يقرءُوا التاريخ ويروا الشافعي، وهو الشافعي، يغيِّر الكثير مما أثبته عندما جاء إلى مصر. فإذا كان هذا الإمام الجليل يُغيِّر آراءه، حين استبدل مكانًا بمكانٍ، فكيف كان صانعًا لو استبدل زمانًا بزمان؟!

لا أحسَب، يا سيدي الدكتور، أنَّ الأئمة جميعًا، لو أنهم عاشوا زماننا هذا، لغيَّروا الكثير من آرائهم، وتفسيراتهم واجتهاداتهم.

وأنت، يا دكتور، تواجِه بشجاعةٍ جماعاتٍ تريد أن تحمل الدين طوعَ أمرها، وتجعل منه سلاحًا فتَّاكًا تشهره على حياتنا وأمننا وكرامتنا، والمستقر الثابت من معيشتنا، يُخيَّل إليهم في خبالٍ وجنون أنهم بما يمزقون من جنبات الحياة سيصِلون إلى الحكم، ويُصْلوننا بنيرانهم البعيدة كلَّ البعد عن الدين القيِّم.

واجهتَ هؤلاء جميعًا بكتابك هذا الجليل، وإنه ليطيب لي أن أنقل هذه الفقرة الهامة التي جاءت في كتابك تحت عنوان «هل أحاديث الرسول كلها وحيٌّ؟» وفيها تقول: «يعني: هل كل ما نطق به الرسول، أو فعَلَه، أو أقرَّه إنما كان بناءً عن وحيٍّ، أو حراسة وحي، بحيث لو كان غير سليم أو صحيح ينزل الوحي عليه ليصحِّحه كما حصل في بعض الأمور؟ بعض العلماء قال بهذا مستظلين أو مستدلين بقوله تعالى مدافعًا عن رسوله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى الآيات، واعتبروا النطق عامًّا؛ فهو لا ينطق ولا يقول قولًا إلا عن وحي يُوحى إليه … ومثله الفعل … ومع أن الرسول قد برَّأه الله من الميل إلى الهوى والغرض الشخصي في كلامه وفِعله إجماعًا؛ إلا أنهم في تفسيرهم أنه لا ينطق إلا عن وحي في أي موضوع يتكلَّم فيه، ولو في شأنٍ من شئون الحياة العادية، ولو كان في الزراعة، أو الطب، أو الحكم في أمرٍ من الأمور. كلُّ كلامه الذي ينطق به عن وحي أو إلهام من الله.

هكذا تصوَّروا استنادًا لهذه الآية، وهو استناد خطأ، غفلوا فيه عن سياق الآية وسبب نزولها؛ فالآيات مسوقة للرد على المشركين، الذين ادَّعوا أن محمدًا يكذب أو يفتري، ويقول قولًا يدَّعي أنه من عند الله، وأنه القرآن. وهم في هذا الادعاء يتجنَّون ويتجاوزون ما عرفوه عنه طول حياته، من أنه لا يكذب وأنه الصادق الأمين؛ وذلك حين أراد الله نفي اتهامهم له بالافتراء في القرآن، وأومأ إلى هذه التجربة في حياته، وقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى فهو صاحبكم ومُعاشركم منذ الصبا والشباب، ولم تجرِّبوا عليه كذبًا قط، فكيف تتَّهمونه بالكذب الآن، بعد كل هذا النضج؟»

وتقول، يا دكتور، في موضعٍ آخر: ونتيجة هذا كله أنَّ الرسول كان يجتهد أحيانًا ويقول باجتهاده، وكان اجتهاده قائمًا على القواعد العامة من القرآن.

وهكذا استطعتَ، يا فضيلة الدكتور، أن تُقدِّم أعظم دليلٍ على ضرورة الاجتهاد، وعدم الوقوف بالآراء الشرعية عند آراءٍ مضى عليها أكثر من ألف عام. فإذا كان النبي ، وهو الموصول الأسباب بذات الله العلية، يجتهد؛ أفلا يجتهد علماء الشريعة والفقه الإسلامي، ونحن نبدأ القرن الخامس عشر من ظهور الإسلام؟

والذي لا شكَّ فيه أن الله سبحانه في علياء سمائه قد أراد لنبيه أن يجتهد، وأن يناقشه أصحابُه الرأي. ولو لم تكن هذه مشيئته، لأوحى لنبيه بالرأي قبل أن يقول، وبالعمل قبل أن يعمله، فمَن غيره سبحانه يعلم السرَّ وأخفى؟ ولكنه يريد الرأي أن يكون شورى، ويريد لنبيه أن يشاور أصحابه في الأمر، بل ويريد لنبيه أن يكون إنسانًا من الناس، يعتب عليه كما تفضَّل سبحانه وتعالى، وكما ذكرتَ أنت في عتابه للرسول في أسرى بدر بقوله جل شأنه في الآية ٦٧ من سورة «الأنفال»: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كما عتب عليه سبحانه وتعالى في إذنِه السريع لبعض المسلمين المنافقين بالتخلُّف عن الخروج معه للجهاد، وذلك بقوله جلَّ شأنه في الآية ٤٣ من سورة «التوبة»: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.

وكما عتب أيضًا في إعراض النبي عن ابن أم مكتوم، بقوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى.

فالنبي إذن إنسانٌ يجتهد ويستشير ويُشار عليه، إلا حين يتنزَّل عليه الوحي من السماء، هنا تعنو الرءوس للحي القيوم. ولا رأي هناك ولا مشورة، وإنما نسمع ونطيع ونخشع، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله.

والنبي — صلاة الله عليه وسلامه — أدرى الناس بهذا، بل هو في خُلقه الرفيع يتواضع حتى لنراه حين يُقبِل إليه رجل يريد أن يسلِم ويقف ببابه، وقد أخذه الرَّهْب، وتملَّكته هيبة الرسول، يقول له في إيناس كريم، وفي عظمةٍ لا تكون إلا لنبي: ادخل؛ فما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة. يا أهو هكذا فقط؟! أليس هو نبي الله المختار، وحامل الرسالة وخاتم النبيين وسيد البشر أجمعين؟

ومن أعظم الوقائع التي رويتها يا دكتور، تلك التي حدثت من بريرة التي أعتقها أهلها وكانت زوجةً لمغيث العبد، فحين ملكت أمرَ نفسها بالعتق، وطلَّقت نفسها، وكان مغيث شديدَ الحب لها، وكانت شديدة الكراهية له، فكلَّم مغيثٌ رسولَ الله في ذلك، فكلَّمها في أن تراجعه وتظل زوجةً له، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: «بل أنا شافع.» فأبت بريرة أن تراجع زوجها، وردَّت شفاعةَ رسول الله. أيُّ دينٍ سامق شامخ سماوي رفيع ديننا هذا؟! نبيٌّ اختاره الله ليتلقى كلامه من السماء يشفع لدى امرأةٍ كانت في أمسها القريب جاريةً تُباع وتُشترى … يشفع ولا يأمر وهي تردُّ الشفاعة، ثم هي لا تجد بعد ذلك من الصحابة أيَّ إعراض، أو غضب عليها إن ردَّت شفاعةَ رسول الله وسيد البشر أجمعين.

فماذا ترى، يا سيدي الدكتور، اليومَ من بعض أناسٍ قد وَرِمَت أنوفهم، ومسهم الكِبْر بزيفه، يُخيَّل إليهم أنهم سيخرقون الأرض أو يبلغون الجبال طولًا، فإذا بلوتَهم وجدت انتفاخ أوداجهم هواءً، ووجدت رءوسهم فراغًا.

أهنِّئك يا سيدي الدكتور بكتابك هذا القيم، وأرجو الله سبحانه أن يستجيب العلماء في مشارق الأراضي الإسلامية ومغاربها لدعوتك، ويقيموا مؤتمرًا يتناولون فيه كلَّ مسائل الفقه الخلافية، حتى يقطعوا الطريقَ على الجهلاء والمدَّعين والمتاجرين بالدِّين القيم.

وفَّقك الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥