لا نخاف إلا الله

توالت الأنباء من داخل المؤسسات الحكومية عن اللصوص والمرتشين، لم تجامل هذه الأنباء أحدًا؛ فهي حينًا تتناول وزيرًا، ثم هي ما تلبث أن تتفاقم وتصبح أحكامًا نهائية على أربعة من كبار موظفي الدولة. ولا تمثل هذه الأحكام إلا جزءًا يسيرًا من قضايا ما زال الجانب الأكبر منها متداولًا في أيدي القضاة، ثم تهبُّ ريحٌ من وزارة الصناعة تتهم جماعة كبيرة العدد بالرشوة.

وكل هذه الأنباء تعيد إلى المواطن المصري ثقته بحكومته؛ أن الجميع عندها سواء، وأنها لا تتستر على أحدٍ مهما يكن ذا سطوةٍ أو ذا قرابةٍ، وأن القضاء في مكانه الأسنى، لا يعنيه إلا الحق والحق وحدَه، معصوب العينين عن قيمة المتهم ومكانته، متفتح البصيرة في نظره إلى العدالة المطلقة وما يؤيدها من أدلةٍ وشواهد وشهود.

وليس شيءٌ يدعو إلى الثقة في دولةٍ ما مثل القضاء الشريف، وكاذبٌ كلُّ مَن يدَّعي أن مثل هذه القضايا تهز الثقة في الاقتصاد المصري؛ فإن هذه القضايا تؤكد الثقة في الاقتصاد المصري، وإن كانت الثقة في الاقتصاد المصري لا تتأتى إلا بالتغاضي عن المرتشين والتستر على اللصوص والسكوت على المجرمين، فليذهب هذا النوع من الثقة إلى أي جحيم يشاء، ولتظل مصر على ذلك ما تنتهجه من ردع المجرمين، وتقديمهم إلى المحاكمة، وليأخذ العدل مجراه، وليكن بعد ذلك من أمر الاقتصاد ما يكون؛ فالقاعدة الثابتة أن الاقتصاد والصلات المالية إن لم تتسم بالشرف فهي إلى انهيار لا شك فيه.

ولكن العجيب المؤسف أن هذه القضايا جعلت الموظفين الشرفاء في حالة تجمُّد كامل عن إصدار القرار. أضع على رأس هؤلاء الوزراءَ أنفسَهم؛ فقد أصبح الوزراء — وهم يعلمون أنهم شرفاء — يخافون من إصدار القرار؛ فالقرار الذي يستغرق إصداره يومًا أو بعض يوم لا يصدره الوزير إلا بعد عدة شهور. وإذا كان الوزير خائفًا، فوكيل الوزارة هالع، وإذا خاف الوزير وهلع الوكيل، فالسكرتير العام مذعور، ومَن يليه من المسئولين في فرَق مبين، لا يملكون معه أن يضموا أصابعهم على قلمٍ ليتحملوا به مسئولية رأي.

ما هذا الذي يحدث؟ أمعقول هذا؟ ألا تواتي الجرأة إلا اللصوص، ويتجمَّد الشرفاء في سجون الخوف والهلع المذعور والفرَق المرتعش الأليم؟

بمثل هذا يتجمَّد الاقتصاد، ومن مثل هذا يفرُّ من التعامل مع الحكومة كلُّ الشرفاء، مصريين كانوا أو كانوا أجانب، أفرادًا كانوا أو دولًا. هل يُعقَل أن يصبح تخريب اللصوص عندنا واسع السطوة إلى هذا الحد؟ حتى إنهم استطاعوا أن يمدوا أثرهم الخطير إلى الوزراء وهم وزراء؟

أخشى ما أخشاه ألا يكون الوزراء واثقين من شرعية وجودهم على كراسي الوزراء، فإنَّ هذا الشعور مدمِّر فتَّاك، يفتك بمصالح الدولة ويدمر الوزير نفسه.

أحسب أن الوزير في كل قرار يعرض عليه يظل يسوِّف التوقيع بإنفاذ القرار موجهًا نظره إلى أعلى حينًا، يستمد الشجاعة، حتى إذا افتقدها وفقدها راح يُقلب عينيه ذات اليمين واليسار، يحاول أن يتلمَّس التأييد من معاونيه ومساعديه ومستشاريه. وأحسب أن الوزير بهذا يمدُّ جميع هؤلاء بشحنة من الرعب، لا يملكون معها أن يقطعوا برأي. ومن أين لهم الرأي وقد أكلهم الذعر أكلًا وانتهبهم رعب الوزير انتهابًا.

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى وزراء واثقين كلَّ الثقة بشرعية وجودهم على كراسيهم، يؤدون ما يرون أنه الحق ويتوكلون على الله العلي القدير، لا يخشون فيما يفعلون إلا الله وحدَه المطلع على الضمائر لا يخفى عليه من شيء في الأرض أو في السماء. إن المعارضة ستعارض، ولكن ما البأس؟ إن المعارضة هي روح الديمقراطية وأساسها الأول، وفي رفضها يستنير الناس ويعرفون تمامًا ما في القرارات من محاسن وعيوب، ولن يُجمِع الناس على شيء أبدًا. فما أجمعوا على شيء من قبل، وإنما الأغلبية هي صاحبة القرار، وحسب مَن يصدر القرار أن تؤيده الأغلبية.

ولستُ في حاجة إلى القول إن صاحب القرار لا بدَّ أن يبذل أقصى جهده للوصول إلى القرار الأمثل؛ فعليه أن يبحث ويدرس ويستشير، حتى إذا اطمأن إلى القرار أصدره.

فإن القرار الصادر في عجلة وبغير دراسة وَبالٌ مستطير.

وفي نفس الوقت القرار الذي ينبغي أن يَصدُر ولا يَصدُر وبالٌ مستطير.

وإنه لمن المحزن أن تكون الديمقراطية مدعاةً للخوف والهلَع، وهي النظام الذي يقوم على رأي الأغلبية، وفي ظله يكون الخطأ نادرًا لا يقع إلا في أضيق الحدود. في حين تتسم الديكتاتورية بالقرارات الرعناء التي لا يسبقها تدبُّر أو تفكير أو دراسة.

والديمقراطية تحتمي من الخطأ بحق الجميع في المناقشة، بينما لا حماية للديكتاتورية إلا الإرهاب، فليس في الديكتاتورية دراسة تسبق القرار، ولا في الديكتاتورية مناقشة للقرار إذا صدر، وقديمًا قال الشاعر:

تلَوا باطلًا وجلَوا صارمًا
وقالوا صدَقْنا فقلنا نَعَم

وإنه لكارثة كبرى أن يخاف الوزير، وهو في حماية من المناقشة الحرة وتداول الرأي.

ولا يخاف الوزير في ظل الطغيان وهو بلا رأي ولا فكر؛ فهو في هذا النظام البغيض لا شيء إلا لسان ينطق عن الديكتاتورية، حتى ولو كان ينطق بغير ما هو مقتنع به.

ولا يجوز للوزير في ظل الديمقراطية أن يخشى الكتَّاب الذين دافعوا عن الديكتاتورية، وارتبطت مصالحهم الخاصة بسيفها الظالم السفاك؛ لأن هؤلاء أصحاب هوًى ولا أمانةَ لهم، وهم لن يؤيدوا الديمقراطية بقلوب خالصة أبدًا.

وقد يقول هؤلاء إن السرقات قد كثرت، وإن هذا دليل على الفساد. وهم يعلمون — ولكنهم لا يقولون — أنه في ظل الديكتاتورية قام الحكام بتأميم السرقات، فلا يسرق إلا أصحاب السلطات وحدهم، والدليل حاضرٌ من قريب، فحسبك أن تذكر جواهر أسرة محمد علي، والقصور المسلوبة والأموال التي صُودِرت لحساب الدولة، فانتهبها حكام ذلك الزمان.

هذه واحدة، وأخرى أنه لم تكن هناك حياة تجارية في ظل الطغيان؛ فالأموال كلها كانت خبيئة مستورة تتخفى وراء الجدران، وتتباعد عن الظنون وتنأى عن الحدس والتخمين، فما كان أحد ليفكر أن يستثمر ماله خشيةَ أن تنقضَّ عليه الحراسة، فتستولي على أمواله جميعًا، هذا إذا لم تضم إليها حريته وكرامته وعِرضه أيضًا.

فمن يسرق السارق؟ وماذا يسرق؟ وهل كان هناك مال حتى يسرقه سارق؟

ولا يجوز للوزير أو أي مسئول في ظل الديمقراطية أن يخشى من قضايا اللصوص المقدَّمين إلى المحاكم، فليس هناك دولة ليس فيها مرتشون أو لصوص بمناصبهم، ولكن الأغلبية دائمًا من الشرفاء.

كل ما في الأمر أن هذه القضايا جديدة علينا بعد فترة طويلة لم تكن لمصر فيها حياة اقتصادية على الإطلاق، وهذه القضايا تشكل موجةً ولكنها لا شك ستنحسر، فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تمسك هذه الموجة العارضة بأيدي الوزراء وأصحاب القرار أن يصدروا القرارات التي يتعيَّن عليهم أن يصدروها، فإن خوفهم هذا قد أصاب الأسواق المصرية كلها بالرعب والتجمد. وكم يحزنني أن أرى العاملين في حياتنا الاقتصادية يُصيبهم الظلم الفادح نتيجةَ الخوف من إصدار القرار العادل.

وكم يصيبني الأسَى لمصر، وأنا أسمع من التجار أن الكثيرين من زملائهم يفكرون في إنهاء أعمالهم التجارية.

وإنك لن تسأل أحدًا ممن يعملون في الحياة الاقتصادية إلا قال لك إن حركة السوق متوقفة تمامًا، وركود السوق خراب. فما الخَطْب إذا توقَّف؟

إن الأدواء الاقتصادية التي تعانيها مصر معروفة حتى لِغير أساتذة الاقتصاد، والدواء الوحيد لمواجهتها هو الشجاعة في اتخاذ القرار.

فإن أحاط بنا الخوف في القرارات الفرعية؛ فويل لاقتصادنا كل الويل، حين يتحتم علينا أن نواجه القرارات الكبرى التي سترغمنا الأيام على اتخاذها، شِئنا أم أبينا.

فيا مصرنا الخالدة، ناشدي المسئولين فيك أن يلوذوا بالجرأة في الحق لا يخشون إلا الله وحده.

فهو وحده سبحانه القاهر فوق عباده، وهو أيضًا الرحمن الرحيم الغفور، جلَّت آلاؤه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥