فما معك أحد

كان أحد الأمراء يلعب مع صديقٍ له النرد، حين قدِم إلى مجلسهما رجل ذو هيبةٍ في منظره، فهو طويل القامة، عريض المنكبين، أنيق الملبس. ورحَّب الأمير بزائره، وتعرَّف على اسمه، وأذِن له بالجلوس، وأخرج من جيبه منديلًا، وألقاه على النرد، والتفت إلى الضيف يحييه ثم سأله: هل الشيخ من العلماء؟

قال: لا.

– الشيخ إذن محدِّث؟

قال: لا.

قال الأمير: فالشيخ إذن شاعر؟

قال: لا.

قال الأمير: إذن فالشيخ راوية.

قال: لا.

قال الأمير: فالشيخ أديب؟

قال: لا.

قال الأمير: فالشيخ إذن من أهل التجارة؟

قال الشيخ: لا.

فالتفت الأمير إلى صديقه الذي كان يلعب النرد معه، وقال له بعد أن رفع المنديل عن النرد: العب فما معك أحد.

واستأنفا اللعب.

تُرى لو أن هذا الأمير عاش في زماننا هذا، ماذا تُراه كان يفعل إذا وجَّه أسئلته تلك إلى كثير ممن يتولون أعلى المناصب في مختلف مناحي الحياة؟

علِم الله أن الأمير لو فعل؛ لظل يلعب النرد طوال يومه وأمسه، ولما وضع منديله على النرد أبدًا.

فكم نرى المناصب مشغولةً، فكأنها شاغرة من فرط الفراغ الذي يتَّسم به شاغلوها. وهم من فراغهم هذا في ذعرٍ هالعٍ، تدور رءُوسهم حواليهم يحسبون كل صرخة عليهم، حتى لقد سمعتُ أن أحد أفراد الشعب من أصحاب الحقوق ذهب إلى وكيل وزارة وعرض عليه ظُلامته، فإذا بالوكيل يقول: إنك صاحب حق لا شك فيه.

فقال صاحب الحق: فاكتب هذا على الورق المعروض عليك.

– لا يمكن.

– كيف؟

– إذا أنا وافقت قالوا عني إنني وافقت؛ لأني أخذت منك رشوة.

ويذهل صاحب الحق: ما دمتُ صاحب الحق؛ فلماذا أقدم رشوة؟

– وهل أنا الذي أقول هذا؟ إنهم هم الذين سيقولون.

– من هؤلاء؟

– من أدري ومن لا أدري، صحف المعارضة، وزملائي الذين يطمعون في الكرسي الذي أجلس عليه، والمرءوسون الذين قد أكون قد أوقعت بهم الجزاء؛ لتقصير أو تدليسٍ أو تأخيرٍ، وآخرون ممن لا أعلمهم والله يعلمهم.

– إذن يضيع حقي.

– وأنا، أليس من حقي أن أحافظ على نفسي؟

– لا حول ولا قوة إلا بالله، إذن فاكتب على الورق أنك ترفض.

– وأيضًا لا أستطيع.

– ماذا؟ … حتى هذا لا تستطيعه؟

– بالطبع لا أستطيع.

– لماذا بحق السماء؟

– لأنك صاحب حقٍّ، فإذا كتبت على الورق بما يفيد الرفض؛ فسيقولون إنني لم أوافق على مطلبك؛ لأنني طلبت منك رشوة، ولم تقبل أن تستجيب لي؟

– وإذن؟

– لا إذَن ولا يحزنون. ليس أمامي إلا طريق واحد هو أن أضع الورق في درج مكتبي، وينتظر حتى يأتي غيري ويتحمَّل المسئولية.

– هل هذا معقول؟

– وهل ترى شيئًا معقولًا حولك حتى تلتمس المعقولية عندي؟

أنا لا أعرف صاحب الحوار هذا، وإنما نقله عنه ناقل فيما يسمر به الناس. وقد ظللت طوال ليلي صاحيًا مفتَّح العينين حزينًا أو قُل مفجوعًا. ما مصير بلادنا إذا كانت مقدراتها في أيدي قوم مثل هذا الموظف؟!

والأهم من ذلك: هل هذا الموظف محقٌّ أم مخطئ؟ لقد أصبحت الاتهامات تُلقَى جزافًا لا تفرق بين لص وشريف، أو بين ظالم وعادل. العجيب أن اللص ذو جرأة على الحق، فهو يتصرف. والشريف أحيانًا يكون ذا رعدة فهو يتوقف عن التصرف!

ولكن الشريف العادل الذي يمتنع عن إعطاء الحق يصبح لصًّا وظالمًا، بل يصبح شرًّا من اللص والظالم في وقت معًا.

والشريف العادل الذي يصنع ذاك، هو ذلك الرجل الفارغ ذو القامة الفارعة والأكتاف العريضة الذي لا يحوي كيانه شيئًا، والذي دخل إلى الأمير فانصرف عنه.

أصبح هذا الرجل هو السمة الغالبة على أصحاب العقد والحل في مصر قاطبة. الموظف يرفع إلى رئيسه، والرئيس يحيل إلى رئيسه، حتى يصل الورق إلى الوزير بغير رأيٍ فيه ولا مشورة، وحينئذٍ يصبح الورق الذي تقدَّم إلى الوزير هلعًا ورعبًا وخوفًا وتتولاه الحيرة الآخذة، ويدور رأسه في الجهات الأربع أو الجهات الثماني إن شئت، وتدور عيناه في المحاجر، ولا يجد خروجًا من المأزق إلا بأن يُعيد الورق إلى مَن أصعده إليه ليُبدي رأيه، لينزل الآخر إلى مَن رفعه إليه، ليزيحه الآخر إلى مَن أحاله عليه، وهكذا يصدُق على هذا الورق بيت الهجاء القديم:

لعن الله صاعدًا
وأباه فصاعدَا
وبنيه فنازلًا
واحدًا ثم واحدَا

ويظل الورق إما قعيدًا كَسِيحَ الحركة في أحد المكاتب، أو متحركًا في تخاذل كمريضٍ أشفى على الموت، ثم يموت وتموت معه حقوق وآمال، وتُصاب مصر أشد ما تكون الإصابة في اقتصادها وفي سمعتها في الخارج وفي الداخل على السواء.

فلو أن كل مسئول كان يتمتع بنصيبٍ مهما يكن ضئيلًا من الثقة بالله ومن الثقة بالنفس ومن التوكل — لا التواكل — على الواحد الحق، لصدرت القرارات، وسارت الأمور في الطريق الأقوم الذي ينبغي أن تسير فيه.

لا أمل لمصر في أزمتها إلا المواجهة؛ مواجهة من السلطة التنفيذية، قوامها الجرأة في الحق، والحسم كل الحسم فيما يعرفون أنه العدالة ومصلحة مصر، دون خوف ودون تحسب للغوغائية والهتافات الهوجاء المجنونة الفارغة. ومواجهة صادقة أمينة من السلطة التشريعية، فتصدر عنها القوانين الحازمة الأمينة، لا يراعون في ذلك صوت ناخب مغرض، وغير باحثين عن نفع شخصي. فليس أقتلَ للرأي الحر من النفع الشخصي.

إن مصر هي البلد الوحيد في العالم التي تعرف أدواءها وأمراضها كما تعرف دواءها ومصادر شفائها، وتقف مع ذلك عاجزة عن تناول الدواء، والسير في طريق الشفاء. وإن الداء الأول هو تجنب الحق إلى الزيف والميل عن الطريق الأقوم؛ حذرَ أقوال المخربين والهازلين والزاعقين والصارخين والفارغين، وأولئك الذين يصيبون النفع من الدول والأفراد على السواء.

وإن الله لن يكون معهم إلا إذا كانوا هم مع الله، فإنه لا يفلح إلا الصادقون المؤمنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥