الحطيئة في عصرنا
أما الحطيئة فشاعرٌ من أعظم شعراء جيله، إذا وضعناه في ميزان الشعر وحدَه. أما إذا انتقلنا به إلى ميزان الأخلاق، فالأمر مختلفٌ كلَّ الاختلاف. وحتى أُغنيك عن التفصيل، أروي لك بعضًا مما ذكره عنه المؤرخون.
قيل فيما قيل: إنه لقي الزبرقان بن بدر، وهو رجلٌ من وجوه عصره، وسمِّي بابن بدر لحسنه، وجمال وجهه، وقد استعمله رسول الله ﷺ على صدقات قومه، وأقرَّه أبو بكر في مكانه لم يغيِّره. وتوفي الزبرقان أيام معاوية.
لقي الحطيئة، وعرض عليه أن يستضيفه، فرحَّب بذلك كل الترحيب، ولم يكن الزبرقان متجهًا إلى بيته، وإنما كان في بعض شأن له سيبعده عن داره بضعة أيام، فكتب خطابًا إلى أمه، وأعطاه للحطيئة، وطلب إليها في الخطاب أن تحسن إلى الشاعر، وتكرمه، وتكثر له من التمر واللبن. وكان الحطيئة دميمًا لا تحترمه العين، فلما رأته أم الزبرقان احتقرته، وقصَّرت في شأنه.
واهتبل أعداء الزبرقان من بني بغيض الفرصة، فما زالوا يُغرون الحطيئة أن يترك ضيافة ابن بدر إلى ضيافتهم، حتى استلان لهم وقبِل عرضهم وراح يمدحهم.
ثم راحوا يطلبون إليه أن يذم الزبرقان، وألحُّوا عليه حتى قال أبياته الشهيرة:
ولم يجد الزبرقان ملاذًا يلجأ إليه من هول هذا الهجاء إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد يعجب قراء هذا الجيل أن يلجأ شخصٌ إلى أمير المؤمنين وإمام المسلمين، وأعظم مَن أقام في التاريخ عدلًا، ليشكو إليه شاعرًا نالَ منه ببضعة أبيات.
وقد يجهل قراء هذا الجيل أن الشعراء في ذلك الزمان كانوا التليفزيون والإذاعة والصحافة والسينما والمسرح والندوات أيضًا. وكان يكفي الحطيئة أن يقول أبياته حتى يتناقلها الرواة، فما هي إلا أيامٌ قلائل، حتى تصبح على كل لسان ناطق بالعربية في العالم أجمع.
فليس عجيبًا أن يفزع الزبرقان إلى عمر بن الخطاب. وليس عجيبًا أن يستنشده عمر الأبيات ويرويها له، ويقول عمر: ما أسمع هجاء، ولكنها معاتبة.
فقال الزبرقان: أوَتبلغ مروءتي إلا أن آكُل وألبس؟
فاستقدم سيدنا عمر حسان بن ثابت، وسأله: أتراه هجَاه؟
فقال حسان: لقد هجَاهُ شرَّ هجاءٍ.
فأمر عمر بالحطيئة فحُبس، وراح الحطيئة يكتب الشعر لأمير المؤمنين؛ لعله أن يصفح عنه، وكتب له فيما كتب هذه الأبيات الشهيرة:
وبكى عمر، فإنَّ عمر أوَّاه حليم. بكى وهو يسمع: «ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ». فقال عمرو بن العاص: «ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغَبراءُ أعدلَ من رجلٍ يبكي على تركة الحطيئة.» وقال عمر: «ما أراني إلا قاطعًا لسانه.» ثم قال: «عليَّ بالطست!» ثم قال: «عليَّ بالسكين.» ثم عاد فقال: «لا، بل عليَّ بالموسى فهو أسرع.» فضجَّ الحطيئة، وقال: «إني والله يا أمير المؤمنين قد هجوت أبي وأمي وامرأتي ونفسي!» وتبسَّم عمر وقال: «فماذا قلت؟» قال: قلت لأبي:
وقلت لأمي:
وقلت لامرأتي:
وقلتُ لنفسي:
فقال الذين مع عمر: اصفح عنه يا أمير المؤمنين، ولن يعود إلى هذا أبدًا، وأشاروا إلى الحطيئة أن يقول إنه لن يعود. فقال: لا أعود يا أمير المؤمنين. فقال عمر: كأني بك عند فتًى من قريش، قد بسط لك وسادةً، وكسر لك أخرى، وقال، أنشِدنا يا حطيئة، فرحتَ تنشده بأعراض الناس.
ويكمل رجل اسمه ابن أسلم القصة قائلًا: فما انفضَّت الدنيا، حتى رأيت الحطيئة عند عبيد الله بن عمر قد بسط له وسادةً وكسر له أخرى، وقال: أنشدنا يا حطيئة، فراح ينشد بأعراض الناس. فقلت له: أتذكر قول عمر؟ ففزع، وقال: يرحم الله ذلك المرء! أما إنه لو كان حيًّا ما فعلت!
ولعلك اليوم تسألني فيمَ رويتُ لك ما رويت؟ وما تذكُّري لشاعر من شعراء صدر الإسلام؟ وإني لأسمح لنفسي أن أسألك أنت: ألم يذكِّرك ما رويته عن الحطيئة بما تراه اليوم؟ إنني في زمانٍ الحطيئاتُ فيه ملء الدنيا. لو كنت بعيدًا عن مجالات الصحافة والمجالس التشريعية، فإنك لن تعرف ما دفعني إلى روايةِ ما رويت، وإلى قول ما أقول عن الحطيئات، وهو جمع لا أدري مدى صحته للحطيئة.
إني أرى بعيني كثيرًا من الذين يكتبون في الصحافة يهددون كلَّ مَن بيده مسئولية، سواء كان ذا شأن في التليفزيون أو الإذاعة أو المسرح، إذا هو لم يستجب لما يفرضونه عليه من أعمال هزيلة حقيرة تافهة شائنة لهم أو لأصدقائهم، أو لمن يقدِّم لهم الرشا. فإنهم سيشهرون به ويرصدون أعمدتهم الغليظة، وأقلامهم الخائنة لحربه واختلاق السوء عنه، إذا لم يجدوا من الحقيقةِ ما يسعفهم. ولقد رأيت رأيَ العين المسئولين وهم حيارى لا يدرون ماذا يصنعون، إذا هم قبِلوا ما يفرضه عليهم هؤلاء السفاحون من حملة أقلام حطيئة الذليلة.
قدَّموا للناس أعمالًا غثَّة تثير عليهم ثائرة الناس وغضبهم. وإذا هم رفضوا، خرجت عليهم الأعمدة الثِّقال تتهمهم بالحق وبالباطل، وتلقي عليهم ظلالًا كثيفة من شكوك، وتختلق عنهم الأكاذيب، وتشوِّه أمام الناس صورهم بلا حسيبٍ من ضمير أو وازع من شرف.
وقد أرى ما هو أدهى من ذلك وأشد وطأة، حين أجد الأسئلة والاستجوابات وطلبات الإحاطة تنهمر على الوزراء من أجل مطالب شخصية.
فأين المفر؟
وأين لنا بعمر بن الخطاب؟
ماذا تريد أن تصنع بعدلك الناس، هذا الذي تفرضه على الناس؟
لا أريد أن أكون مثل جَدي عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أستاذه يقول: «لن تستطيع، وإذا استطعت تصبح أعظمَ من عمر بن الخطاب نفسه؛ لأن الذين حول عمر كانوا يعينونه على هذا العدل، ويؤيدونه ويؤازرونه. أما أنت فإن الذين حولك سيمنعونك ويحاربونك ويقاتلونك وقد يقتلونك.»
وصدَق حدْس الأستاذ، وقُتل عمر بن عبد العزيز قبل أن يتم سنتين في حكمه.
ويل لنا إذن من زماننا، وقد أصبح حمَلَة الأمانة هم حمَلَة الظلم والابتزاز!
وأراك تسألني عن أمل، وأرى نفسي تبكي، وقد تمزَّقت. ليس من أملٍ إلا في وجه الله. وإن سألتني فلماذا أكتب، فإنني مجيبك أنني أكتب؛ لأنني لا أملك وسيلة إلا أن أشكو العاتية إلى نفسه، لا أرجو أن يثوب إلى فضل من نبالة، وإنما أرجو أن يعلم أن أمره ليس على الناس سرًّا. وما هذا بنافعٍ أيضًا ولا شافع؛ فإن الذي يعتو لا يعنيه في شيء أن يظهر أمره للناس، ثم هو يتحصن مني ومن غيرى بأننا لا نملك الدليل؛ فالتهديد غير مكتوب في عقد مشهر، وإنما هو كلمة تقال في السر، فإذا لم تُصِب من الذي هدَّده مواطنَ خوفٍ وفزع؛ نشَر المبتزُّ ما عنَّ له من هجوم ضارٍ، وأعلنه على الناس، وصوَّره لهم على أنه رأي بريء من كل غرض، بعيد عن كل غاية.
والنتيجة كما نرى: إعلام هابط، واقتصاد مذعور خائف، وعصر مرتعش واجف. وحسبنا الله وحده؛ فإنه نعم الوكيل.