الكاتب وإبليس
أقرأ في كتاب الأجوبة المسكتة، وقد وجدت فيه حوارًا أُعجبت به غايةَ الإعجاب، فقد كان الحجاج يستعمل كاتبًا له اسمه أبو العلاء يزيد بن أبي مسلم. وكان من شأن الكاتب أن يكون موضع سرِّ الأمير الذي يعمل له. وكان من الطبيعي أن يكون مقرَّبًا إليه أثيرًا يعرف خاصة شأنه، وكان من الطبيعي أيضًا أن يكون الكاتب ذا شفاعةٍ مقبولة.
والحجاج بن يوسف الثقفي من أكبر عُتاة التاريخ، ومن أعظمهم ارتكابًا للمظالم. ولعل تاريخ العرب لم يعرف في عصوره الأولى — وليس في العصر الحديث — طاغيةً في مثل طغواه، وله في الجبروت والفجور أحداثٌ وأحداث، حسبك أن تعلم منها أنه وهو المسلم هاجم الكعبة، واستباح حرمتها؛ ليحارب عبد الله بن الزبير ابن أسماء ذات النطاقين، وكانت على قيد الحياة، حين اقتحم الحجاج الكعبة، وأسرَ عبد الله بن الزبير وقتله وعلَّقه مقتولًا إمعانًا منه في التمثيل به.
ولو مضينا في الرواية عن جبروت الحجاج ما وقف بنا القلم، فلنتركه جانبًا؛ فإن أمره شائع ذائع لا يحتاج إلى مزيد من تفصيل.
ومات الحجاج لأنه إنسان، مهما يبلغ به البغي أقصاه فهو يموت، وهو لا يستطيع أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولًا. وزعموا أنه قال وهو يموت: «اللهم اغفر؛ فقد زعموا أنك لا تغفر.» وهكذا أقرَّ بكفره وهو يموت أيضًا، فمهما يكن فجوره فهو يعلم أن الله يغفر الذنوب جميعًا، إلا أن يشرك به.
ولا تقتصر أنواع الشرك على القول وحدَه، بل إنَّ ألوانًا من الشرك أبشع وأفدح، فحين يشارك إنسانٌ الله في ملكه فيقتل في غير ذنب، ويعذِّب دون سؤال، ويندفع في الحياة إعصارًا من الهول الوبيل، يصبح مشركًا بالقول والفعل جميعًا. لمثل هؤلاء تَفتح جهنم أبوابها. ومهما يحاول الحجاج أن يُوقع بين الله وعباده؛ فإن الله مبطلٌ مَكرَه، فهو مَن يعرف خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.
مات الحجاج إذن، وجرى عليه ما يجري على كل بني آدم.
وتولَّى بعد فترة سليمان بن عبد الملك الخلافة، وكانت قد أصبحت أشبه بالمُلك منها بالخلافة. وأراد سليمان بن عبد الملك أن يتخذ كاتب الحجاج أبا العلاء كاتبًا له، وأراد أن يحتضنه، ويقرِّبه إليه ويصبح كاتم سرِّه وأمين عرشه، والكاتب حين ينال هذه المكانة يصبح ذا شفاعةٍ عند الملك مقبولة، وذا رجاءٍ مجاب. ومَن كان هذا أمره استطاع أن يكون عاصفة ضاربة في شتى مجالات الحياة.
ولعل هذا الحوار الذي أنقله إليك يعينني على تفصيلِ ما أجملت. حين أراد عبد الملك أن يختار ذلك الكاتب ويحتضنه، عارضه في الأمر خامس الخلفاء والمثل الأعلى في العدالة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ولم يكن قد وَلي الخلافة بعدُ بطبيعة الحال، وقد نصحه بالعدول عن أبي العلاء ذاك، وقال له: أناشدك الله يا أمير المؤمنين، ألا تُعيد ذكرى الحجاج بن يوسف، وتحيي سيرته باستكتابك كاتبه، وجعله أمين سرِّك.
فقال له أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك: يا أبا حفص، إني كشفت عنه، فلم أقف له على خيانة، هو لم يسرف في أيام الحجاج دينارًا ولا درهمًا.
فقال أبو حفص عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنا أدلك يا أمير المؤمنين على مَن هو أعف عن الدرهم والدينار من كاتب الحجاج.
فقال أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك: مَن هو يا أبا حفص؟
فقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: هو إبليس، لقد أهلك الحرث والنسل، وأشاع الضلال والفساد في الأرض، ولم يلمس درهمًا ولا دينارًا.
فقال سليمان بن عبد الملك: لقد تركناه بعد أن لزمتنا الحجة.
وإلى هنا ينتهي الحوار الذي نقلته نقلًا يكاد يكون حرفيًّا عن كتاب الأجوبة المسكتة، ورحت أفكر في الأمر.
إذن فالكاتب الفاسد الضمير بجانب العاتية معدوم الضمير أشد هولًا على الناس من إبليس وهو إبليس، فإبليس واضح المعالم جليُّ السمات. قال سبحانه وتعالى في سورة الحجر: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ صدق الله العظيم.
فإبليس إذن واضح مع نفسه، أخذ على نفسه العهد أن يُغوي الناس، ويحيد بهم عن الصراط المستقيم، وهو في حضرة رب العرش، وقد أنظره سبحانه وتعالى، وأمهله إلى يوم البعث بمشيئة إلهية، فما من شيءٍ في الكون يحدث إلا بمشيئته سبحانه؛ فإبليس إذن يقوم بالعمل الذي رصد نفسه له منذ أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين.
أما الكاتب المخادع فهو شرٌّ من إبليس، وأشد وبالًا؛ لأنه حين أصبح كاتبًا إنما أصبح كذلك بثقةٍ أولاها إياه القراء. وبهذه الثقة أفسحت له الصحف صدورها، وبهذه الثقة قد يختاره السلطان؛ ليكون كاتبه وكاتم سرِّه ونجيه، وهو — لا شك — سيسأله المشورة، فإن لم يكن بعيدًا عن الهوى، يُخلِص السلطان الرأي ويقدم له النصح بعيدًا عن الغاية، بريئًا من النفع الشخصي نقيًّا من الغرض؛ فهو إذن كارثة لا مثيل لها ومصيبة لا دافع لأهوالها.
وحين يقترب الكاتب من السلطان ويصبح قربه منه شهيرًا بين الناس معروفًا، يصبح لكتاباته وقْع آخر غير الواقع الذي يثيره الكُتاب الآخرون عند عامة الناس من القراء، بل وعند الخاصة أيضًا.
وحين يشتهر قُرب الكاتب الذي خلا من الحياء، والذي تجرَّد من الضمير يصبح موئل نفاق عند الناس، وتصبح كل مطالبه مجابة، بل هي قد تصبح أوامر لا تقبل المراجعة، فالحاكم الطاغية يصبح كلُّ مَن حوله طغاة، والكاتب فيهم هو أوسعهم طغيانًا وأبعدهم فجورًا؛ لأن صلته بصاحب السلطان معلَّقة بكل وسائل الإعلام، وهو أيضًا يعمل بكل جهده على إذاعتها حتى لا يصبح أحد في العالم جاهلًا بها.
وهذه الصلة في عصرنا الحديث جسور ممتدة إلى جميع أنحاء العالم، فوسائل الإعلام في كل مكان يهمها أن تنشر كل ما يُتاح لها عن رؤساء الدول، فإذا وقعت على كاتب محترف كان لصيقًا كل ملتصق برئيس دولة؛ فهذا الكاتب طِلْبتهم وبغيتهم ونشيدتهم وهدفهم، يوسعون له مجالات النشر، ويغدقون عليه الأموال إغداقًا لا يمكن أن يُتاح لهذا الكاتب، لولا هذه الصلة الحميمة من رئيس الدولة.
ولما كانت الطيور على أشكالها دائمًا تقع، فإننا نجد الطغاة يختارون أصفياءهم وكُتابهم وذوي الرأي عندهم، وأصحاب المشورة من المنافقين حتى لا يعارضوا، ومن السفلة حتى يحمدوا الظلم، ويمجِّدوا الأخطاء، ويحمدوا الجرائم، ويباركوا ألوان الخسف والجبروت التي ينزلها الطاغية على عباد الله. ومن الحتم أن تكون هذه البطانة من الذين لا يؤمنون بالله ولا بالآخرة؛ لأن المؤمن بالله يخاف عقابه، والمؤمن بالآخرة يخشى نيرانها وجهنمها وبئس المصير.
وهكذا ترى أن الكاتب المعدوم الضمير شرٌّ من إبليس؛ لأن إبليس أعلن أنه سيغوي الناس، بينما الكاتب المنافق يعلن للناس أنه سيرشدهم إلى الحق، ثم يروغ به إلى الباطل. ويقول لهم في العلن إنه سيقدم إليهم الهداية، ثم ينحرف بقرائه إلى الغواية.
فما كان أعظمَ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين نصح سليمان بن عبد الملك ألا يتخذ كاتب الحجاج كاتبًا له؛ لأن هذا الكاتب الذي استخلصه الحجاج لنفسه طالما مدح الطغيان، وهوَّن الجبروت، وجعل مِن فجور الحجاج فخرًا، ومِن ظُلمه عدلًا، ومِن قُبحه جمالًا، ومن كفره إيمانًا.
ومثل هذا الكاتب، إذا كان سليمان بن عبد الملك اختاره وختم له بالوظيفة، لأمسى وبالًا عليه، ولجعل الناس يتوقعون من سليمان بن عبد الملك حجَّاجًا آخر، مسلطًا على أقدارهم وأرزاقهم وكراماتهم وحريتهم وحياتهم.
ما أعظم عمر بن عبد العزيز خامسًا للخلفاء الراشدين! وما أعظمه وهو بعدُ لم يصبح أميرًا للمؤمنين!