في هذا فاكتبوا أو فاصمتوا

طالعتني جريدة إسلامية بمقالين متتاليين لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الغني الراجحي، فقرأت عجبًا، فما حسبت يومًا أن يحتاج كلامي إلى مَن يشرحه لقارئٍ ما، فكيف بي وأنا أرى ما كتبت يستبهم، بل ويستغلق على شيخ جليل القدْر، أستاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر.

يقول الأستاذ في بداية مقاله الثاني: «تناولنا في حديثنا السابق مع الأستاذ ثروت أباظة الرد على ما زعمه من أن الحدود الإسلامية عقوبات فيها قسوة، وبالإسلام لا يجوز أن يكون فيه قسوة.» وأكتفي بهذا، وأطرق محتسبًا ربَّ العرش العظيم فهو وكيلي، وأنعم به حسيبًا ووكيلًا.

وأعوذ بالله من سوء التأويل والادِّعاء عليَّ بغير ما قلت. مَن أنا حتى يتَّهم حدود الله بالقسوة؟! حنانيك أيها الشيخ الجليل، كيف جاز عندك أنني أناقش الحدود، وهي حدود الله في محكم كتابه وفي كريم تنزيله، الذي نزَّله بالحق وبالحق نزل؟

فرقٌ كبير بين أن أقول: إن العصر الذي نعيش فيه عصر تخلُّف عن حدود الله، ونكص عنها، وبين أن أناقش الحدود في ذاتها.

أنا حاولت أن أناقش محاولةَ تطبيقها بين أقوام لا شرف عندهم، ولا ذمة ولا ضمير ولا خلق، وضربت بالملوك والخلفاء مثلًا، واستثنيت الأئمة الهداة أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وعمر بن عبد العزيز.

فكيف جاز لك يا سيدي أن تتصور أنني أناقش الحدود وهي حدود الله، وإنما كل خشيتي من أقوام يطبقونها، فيميلون بها عن العدل إلى الجور. وهؤلاء سيزعمون أنهم يطبقون الحدود الشرعية، بينما هم يحتالون بها ليحققوا مصالحهم الشخصية، فيصيبون بالحدود خصومهم في الرأي ويعفون منها منافقيهم والسائرين في مواكبهم، هيهات، هيهات، وأنا المؤمن الشديد الإيمان أن أجرؤ على حد من حدود الله! فوالله الذي لا إله إلا هو ما خِفت إلا من بشر لا شرف عندهم ولا ذمة ولا خُلق يحرفون كلام الله، جل وتعالى، عن مواضعه، ويجعلون منه أداة ظالمة جائرة لحكم ظالم جائر.

فأنا يا سيدي أوافقك في كل كلمة شرحتُ بها حدود الله، ولكن اسمح لي أولًا أن أروي إليك قصة عمر بن عبد العزيز التي رويتها عدة مرات، ولم أرَ لها أثرًا فيما يُساق من حجج في الرد عليَّ.

أرسل أستاذ عمر بن عبد العزيز إليه، وهو خليفة يسأله: «إلى أي هدفٍ تقصد بكل العدل الذي تقيمه؟»

فردَّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قائلًا: أريد أن أكون مثل جَدي عمر بن الخطاب، فأرسل إليه الأستاذ يقول: «لن تستطيع … وإذا استطعت، تكون أعظم من عمر؛ لأن الذين كانوا حول عمر كانوا يعاونونه على العدل، أما الذين حولك فسيحاربونك على هذا العدل، وسيقتلونك إن أصررت عليه.» وصدَق حدْس الأستاذ، وقُتل عمر بن عبد العزيز، ولم يكمل سنتين في الحكم.

فالناس إذن هم العامل الأساسي في تطبيق الحدود، وبتلك الحدود، التي لا يجوز للبشر أن يناقشوها، حكم الخلفاء الأربعة، وتبِعهم خامسهم ابن عبد العزيز، فكانوا عُدُلًا حيث حكموا، وكانوا مقسطين غير قاسطين، شرفاء غير ظالمين.

وبكتاب الله وحدوده التي لا يأتيها الباطل من أي جانبٍ لها، ادَّعى خلفاء لا حصر لهم ولا عدد أنهم حكموا، فكانوا جورًا حيث حكموا، وكانوا وبالًا على الإسلام والناس جميعًا.

هذا يا مولانا ما أناقشه، وحاشاي، وأستغفر الله العلي القدير أن أجرؤ على التفكير في مناقشة حدوده، وهي حدوده. إنما أناقش الزمان الذي نحن فيه، ولا أناقش ولا أجرؤ أن أفكر في أن أناقش كتاب الله الباقي الخالد من الأزل وإلى الأزل. فكل ما كتبته يا سيدي لم يكن له بالنسبة لي أي داعٍ، ولا أحب أن أقول عنك — وأنت الفقيه الذي يُفترض فيه أنه محقِّق لا يكتب كلمة إلا بعد أن يضعها في ميزانها الدقيق — إنك ظلمت ولم تنصف، وجُرتَ ولم تقسط، وتجاوزت ولم تعدِل.

واسمح لي يا سيدي أن أورد بعضًا مما كتبت، واسمح لي أن أناقشك فيه. وما أظن أنني إذا ناقشتك أكون قد جاوزت مكاني. أليس تفسير الحدود والتشريع جميعًا ظلَّ مطروحًا على أهل الفقه منذ مئات السنين؟ فما البأس به أن أناقشك، ولو على سبيل الاستفتاء، ومثلي والناس جميعًا من حقهم السؤال، ومثلك والفقهاء من إخوانك عليهم جميعًا أن يفتوا بما يعرفون إذا عرفوا، أو بالقول إنهم لا يدرون، فإنه قيل: مَن قال لا أدري فقد أفتى.

أليس للشيخ الإمام محمد عبده رأي في فوائد البنوك؟ وما لي يا مولانا ألا أحترم رأي الإمام، وهو الإمام؟

دع عنك هذا، وبنا إلى الفقرة التي وردت في بعض ما كتبت. قلتَ، يا مولانا، بالحرف الواحد: «إنه كما تنزل العقوبات الدنيوية بالناس؛ للمعاصي يقترفونها وللإعراض عن هدى الله الذي أنزله، فيغير الله تعالى نِعمه عليه من العزة والكرامة والقوة والسعادة إلى الذلة والمهانة والضنك والشقاوة، فكذلك في المقابل بسبب الطاعات والالتزام بهدى الله وأحكامه، تهبط عليهم الرحمات، ويرفع الله عنهم الضنك والعيش المهين والحياة الرديئة.»

وأكتفي بهذا منك، وأسألك يا مولانا: «مَن أعطاك علم الله؟ وكيف عرفت عدالته العليا؟» والنبي نفسه، وهو النبي، يقول ما معناه: «بين الناس مَن يبدو في عمله في الدنيا أنه من أهل الجنة، بينما هو من أهل النار. ومنهم مَن يبدو في الدنيا من أهل النار، وهو من أهل الجنة.» ما أصدقك وأعظمك يا رسول الله! ولكنني، يا رسول الله، أشكو إليك علماء في زماننا هذا جعلوا أنفسهم مكان الله ذاته، وأفتوا ثم حكموا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ماذا أنت قائل أيها الأستاذ الدكتور في أقوام بغير دينٍ على الإطلاق؟ أترى أنهم وهم أكثر من ألف وثلاثمائة مليون جميعًا تُعساء؟

وماذا ترى يا سيدي العالم الجليل في عالم متحضرٍ لا يَدين بالإسلام؟ ألا ترى معي أنه أولى بك ثم أولى أن تردِّد معي قول الإمام محمد عبده أنه رأى في باريس الإسلام، وإن كان أهلها غير مسلمين، وأنه رأى في مصر مسلمين، ولكنه لا يرى الإسلام.

ألا ترى معي يا سيدي أنَّ لله وحده الحق في إسعاد مَن شاء، وإشقاء مَن أراد، حتى يردَّ إليه كل إنسان كادحًا فيلقاه، ويومئذٍ تعلم نفسٌ ما قدَّمت وأخَّرت.

أترى يا سيدي كل الدول التي يختلف الأمر فيها بين الإلحاد الكامل بفكرة الأديان، وبين اعتناق الدينَين السماويَّين الآخرَين، وبين الدول التي تؤمن بآلهة من البشر مثل بوذا وغيره، أترى أن هؤلاء يُنزِل عليهم الله في حياتهم اليوم سُخطًا؟ فكيف إذن؟ أليس ما هم فيه اليوم لحكمةٍ يعلمها الله سبحانه، وبتقديرٍ منه جلَّ شأنه سبحانه؟ فكيف سمحت لنفسك يا مولانا أن تحكم هذا الحكم المطلق العام؟

إن عدالة السماء لا يعرفها إلا الله وحده، وهو وحده الذي يحدد لها الثواب والعقاب، وبالصورة التي يحددها هو وحده سبحانه. والقول بغير هذا تجاوز لحدود العبد المؤمن، وافتئات على المنطق، وإغفال للأمر الواقع الذي نراه في روسيا الملحدة وأوروبا المسيحية والصين واليابان وأغلب دول آسيا التي تعبد مخلوقًا، هذا غير أديان كثيرة يدين بها أهلها، أقليات كانوا أو كانوا كثرًا من بينها مَن يعبد البقر، وهو البقر، وكل ما يَدين به مؤمن.

كيف يا سيدي الأستاذ تحكم على سعادة هؤلاء في الدنيا جميعًا حكمًا مطلقًا جامعًا مانعًا؟ إنهم ما داموا لا يَدينون بالإسلام الحنيف؛ فهم أشقياء في دنياهم تحيط بهم الفواجع والمصائب. أترى هذا واقعًا، أوَترى هذا من حقك؟

إن الدين عند الله الإسلام، لا شك في ذلك ولا نقاش. أما عقاب الله ومثوبته في الدنيا والآخرة فأمرٌ اختص به نفسه، وما أحسب أنك تفكر أن تشارك الله فيما اختص نفسه به.

وبعد يا سيدي؛ فأنت ناقشت ما ناقشت، وقلت فأسهبت، ولكنك لم تعرض للأمر الأساسي فيما أكتب.

هل من حق أقوام أن يفرضوا علينا رأيهم بدعوى أنهم يدافعون عن الدين؟ وهل من حقهم بموجب هذا الادِّعاء أن يقتلوا الناس بغير محاكمة؟ وهل من حقهم أن ينصِّبوا أنفسهم مدَّعين وقضاة ومنفِّذين وقَتَلة؟

أترى هذا إسلامًا؟ أتراه حقًّا؟ في هذا فاكتب!

أترى أن تصبح جماعة، تدَّعي أنها مسلمة، ذعرًا في طول البلاد وعرضها، تقتل بغير حسابٍ، وتطلق الرصاص بلا سؤال منهم لمن يتقصدونه، فيثيرون بذلك الخوف والهلع في نفوس إخوانهم من البشر؟ أوَترى أن الإسلام يبيح لهم أن يكونوا قَتَلة مجرمين وسفَّاحين بلا ضميرٍ؟ أوَترى من حقهم أن يرفعوا راية الإسلام الحق الشريف الأسمى السلام على إجرامهم ورصاصهم وجرائمهم؟

في هذا يا مولانا، فاكتب.

وفي هذا ينبغي أن يكتب كل مسلم اليوم.

مَن جعل هؤلاء السفَّاحين مسيطرين، والله لم يرضَ لنبيه سيد البشر أن يكون مسيطرًا؟ وهو حامل رسالته وخاتم أنبيائه، وعلى لسانه نزلت آخر كلمة من السماء إلى الأرض؟

في هذا فاكتب يا مولاي.

وفي هذا فليكتب كل شيخٍ يرعى الله ودينه القيم وشرعه الحنيف، أترضى الفتنة يا مولانا تضطرب في البلاد؟

أترى الخوف يا مولانا يتملَّك قلوب المسلمين وغير المسلمين؟ أترضى أن يصبح الأمر فوضى؟

في هذا فليكتب اليوم كلُّ عالِم من علماء الإسلام.

وإذا لم يكتب في هذا، وفي هذا وحده؛ فليصمت! فإنه خير له وللإسلام ألف مرة أن يصمت من أن يميل عن الجِد إلى الهزل، وعن خطر الأمر إلى هيِّنِه وتافهِه.

إن الفتنة تطل على البلاد من وراء ستار يدعي مثيروها أنه إسلامي، وعلِم الله أنهم يفترون على الدين ما يأباه ويرفضه، بل ويحاربه، وإذا لم يتصدَّ لهؤلاء السفاحين علماءُ الإسلام، فوا ضيعَتَا إذن لديننا عند علمائه وفقهائه، ولأئمة منهم المفروض فيهم أنهم المصابيح والهداة!

في هذا فليكتبوا، أو فليسكتوا ولا يقولوا شيئًا مطلقًا. وحسب الإسلام وحسبنا نحن المسلمين المؤمنين بالله، وإنه سبحانه نعم الحسب، وإنه نعم الوكيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥