إن النفاق قديم
خرج جماعة من العرب في زمن الجاهلية يريدون العراق بتجارةٍ لهم، وكان كسرى يحكمها، وحين اقتربوا من العراق قال قائلهم: «إنَّا من مسيرنا هذا لعلى خطرٍ، فلقد قدِمنا على ملك جبارٍ، ونحن ندخل بلاده دون إذن منه، وما أحسب أننا نستطيع أن نتَّجر في هذه البلاد. والرأي عندي أن يذهب واحد منَّا بالتجارة، فإن قتله الطاغية كسرى؛ فنحن براء من دمه، وإن غنم فله نصف الربح.»
وتقدم شاعر جاهليٌّ اسمه غيلان بن سلمة الثقفي، وقال: «أنا لها.»
فلما دخل بلاد كسرى، وضع كثيرًا من الطيب، ولبس ثوبين أصفرين، وهذا عجيبٌ في ذاته؛ فقد كشف علماء الألوان، بعد هذا الزمان بأزمان، أن اللون الأصفر من أكثر الألوان اجتذابًا للأنظار. وهكذا تجد أن للمنافقين موهبةً خاصةً يعرفون بها كيف يصلون إلى المكامن الخفية من مواطن الإرضاء عند الناس.
جلس غيلان بباب كسرى، وقد أصبح أمره بين الناس شهيرًا، وأخيرًا أذِن له كسرى، وخرج إليه الترجمان، وقال له: يقول لك الملك ما أدخلك بلادي بغير إذني؟
فقال: قل له لست من أهل عداوة لك، ولا أتيتك جاسوسًا لضد من أضدادك، وإنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، وإن لم ترِدها وأذِنت في بيعها لرعيتك بِعتها، وإن لم تأذن في ذلك رددتُها.
وبينما هو ماضٍ في حديثه، سمِع صوت كسرى فإذا به يهوي ساجدًا. ويدهش كسرى والترجمان، ويسأل الملك: لمَ سجدت؟
فإذا هو يقول في دربة المنافق الأصيل: سمعتُ صوتًا عاليًا في القصر، وليس من المعقول أن يعلو في القصر صوتٌ إلا صوت الملك، فعلمت أنه بمقربةٍ منِّي؛ فسجدت إجلالًا وإعظامًا لصوت الملك.
وطبعًا استحسن كسرى ما فعل، وأمر له بمخدةٍ توضع تحته في جِلسته. فحين أمسك بها غيلان، وضعها على رأسه، فضحك الملك وظن بالشاعر الجهل والحمق، وقال عن طريق ترجمانه: إنما بعثنا بهذه لتجلس عليها.
فقال غيلان: أعلم هذا، ولكنني رأيت عليها صورةَ الملك، فلم يكن من حقِّ مثلي أن يجلس عليها، ولكن كان حقها التعظيم فوضعتها على رأسي؛ لأنه أشرف أعضائي وأكرمها عليَّ.
ما أحسب إلا أنك عرفت النتيجة المحتمة لهذا النفاق العظيم، فإن للمنافق إلى العتاة مسلكًا لا يخيب، وطريقًا لا يُكدي، وسبيلًا لا يخطئ.
لقد اشترى كسرى التجارة من غيلان بأضعاف ثمنها وكساه، وبعث معه بنَّائين من الفرس ابتنوا له قصرًا بالطائف، فكان أول قصر شُيد بالطائف.
أرأيت؟ قديمٌ هو النفاق قديم، موغل في الزمن إلى الأعماق الغائرة من أوائل التاريخ. وإن كان هذا الذي حملَته إلينا أنباء الرواة قد حدث في الجاهلية، فهناك مما لم يروِه الرواة ما يُخطئه الحصر، وما يعجز عن الإلمام به ذِكر أو رواية.
سمعنا أنباء النفاق أحاديث، ورأيناه رأي العين، واحتقرناه فلم يعبأ بالاحتقار، وسخرنا منه فلم يُلقِ أي عنايةٍ بالسخرية.
وعلى الرغم من أن النفاق قديم، إلا أنني أعجب من شأنه كل العجب، فهو واسع الانتشار حتى يوشك أن يكون هو الأصل، وما لي لا أقول إنه أصبح هو الأصل حين انكمش الصدق خزيان خجِلًا، وكأنه هو الخُلق الشائن المعيب؟
ولا ننسى واحدًا من زعماء المنافقين في العصر الحديث، سأله طاغوته عن أمرٍ يشغله، فاستأذنه المنافق أن يتيح له بعض الوقت حتى يعود إليه بالرأي الأسَدِّ الرشيد. ويروي المنافق نفسه فيقول إنه راح يدور في المماشي، ويلوب حول نفسه، ويروي أنه راح يصعد ويهبط ويتهم وينجد، حتى أوحى إليه الشيطان ما أوحى، واقتنع هو أنه الرأي الذي لا رأي مثله، حتى إذا فرغ من إلهامه نصب، وإلى مولاه الطاغية رغب، يقول له في سعادة غامرة، وفي هناءة طاغية، وفي جذل مسرور محبور: ما كان لنا أن نقول لك رأيًا، فأنت وحدك صاحب الرأي، فأنت ملهم يصل إليك الرأي من حيث لا نعلم، فكيف لمثلنا من البشر أن يفكر في أمرٍ أنت تفكر فيه؟
وقد كان المنافق وطاغوته كلاهما لا يؤمنان بالله، فالإلهام الذي قصد إليه زعيم المنافقين إلهامٌ هابطٌ من مكان آخَرَ غير السماء، وهو وحده الذي يعرف هذا المكان ولا يعرفه سواه.
أن يحدث هذا كارثةٌ بشرية بالغة الحقارة، فإذا وقع سرًّا دون أن يعلم به أحد، كان في ذاته عارًا. أمَّا أن يرويه صاحبه في كتاب، ويفاخر به، ويُزهى كما يزهى، ويفاخر أنه وسيِّده لم يكونا من المؤمنين بالله، فذلك هو الفجور، أو هو أمرٌ أعظم فداحةً من الفجور، لم تستطع لغة في العالم بعدُ أن تجد له لفظًا، ولكن ربما — ومع انتشار النفاق — تجد له في الغد القريب وصفًا، يُحيط بمدى سقوطه وهوانه.
والمجتمع لم يوقِّع على المنافق جزاء، بل هو يكرمه، وهو أيضًا يوسِّع له في المكان، وأرى من بعده أنواعًا شتى من المنافقين، أشاهدهم بعيني يتقافزون فعلَ القردة، ويسجدون فعل العبيد، ويجعلون من رءوسهم مواطئ أقدام؛ لينالوا منصبًا كبيرًا مرموقًا أو يهتبلوا مالًا.
وأعجب! إنما يطمع الإنسان في المنصب ليكون بين الناس ذا كرامةٍ ووجاهة وجاه. فكيف يمتهن كرامته، ويمزقها، ويُحقِّر ما أكرمه الله به حين جعله إنسانًا، وينسلخ عمَّا وهب له المولى من عزة الأحرار من أجل أن يكون بين الناس ذا كرامةٍ.
أيُشترى المنصب بالكرامة وهو في ذاته جانب قليل من معنى الكرامة؟ كيف يقبل إنسان عاقل رشيد أن يبيع الكل في مقابل الجزء؟ والقليل التافه في مقابل العظيم النبيل؟ كيف يقبل إنسان أن ينحدر إلى هاوية الهوان؛ ليكون أمام الناس في قمة العزة؟
تناقضٌ لا يسيغه منطق، ولكنني أرى المنافقين في كل مكان. وما بعجيب أن ينالوا ما يسعون إليه؛ ففي كل إنسان ضَعف إلى المديح. وكم رأينا الصلب العنيد عند الإشادة به وتعظيم شأنه، يلين ويسجح، ويُقدِّم ما كان يمنع.
وما بعجيب أن ينالوا ما يسعون إليه، فإن لهم لجاجةً لا تنتهي؛ فالمنافق بطبيعة تكوينه صفيق الوجه ساقط الحياء، فهو يستطيع أن يلح بصورة لا يستطيعها غيره، فإن الحياء وحده هو الذي يرد الإنسان عن كثرة الإلحاح، فمن ضاع حياؤه وجف ماء وجهه فأي شيء يمكن أن يرده عن المبالغة كل المبالغة في الإلحاح؟
والنفس ذات ملالة، وكثيرًا ما يُصاب مَن بيده شغل المناصب بالملل من شدة النفاق ومن كثرة الطلب، والإنسان — من قبل ومن بعد — إنسان. ولعله قائل لنفسه: فلأضعه في هذا المنصب الذي يكاد يموت شوقًا لبلوغه، وهو — على أية حال — ليس شرًّا من غيره!
وما البأس أن نجرِّبه، فإذا لم يرتفع بنفسه إلى مستوى المنصب عزلناه. وكل ذي منصبٍ لا بد يومًا أن يُعزل، وينسى الإنسان أن في رفع الذليل إلى منصبٍ رفيع إهانةً للمنصب، وحطًّا له عن كرامته، وسفولًا به عن مكانته.
ولا عجب أن يكون إنسانٌ من الناس ذليلًا، ولكنْ شينٌ أن يشغل المكان الكريم إنسان ارتضى أن يمحق كرامته، ويمحو حياءه، ويُريق ماء وجهه حتى يجف.
إن يكن التاريخ قد روى لنا قصة غيلان بن سلمة الثقفي مع الطاغية كسرى، فإن التاريخ نفسه لا يهمه شأن غيلان وما استطاع أن يناله من مال كسرى؛ لأن مال كسرى كان يمكن أن يُنفق في أي مصرفٍ من مصارف البذَخ الأرعن المجنون، التي يرمي فيها الطغاة بأموال شعوبهم.
ولكن أن يصل إنسان بلا كرامةٍ إلى منصب له مسئوليته، فتلك إذن هي الطامة الكبرى؛ لأن المنصب ليس جاهًا فحسب، ولا هو وجاهةٌ وكفى، وإنما هو حياة أقوام وصوالحهم، فإن بيد صاحب المنصب مستقبلَ جماعاتٍ وأقوام وأسرات، وبيده أيضًا حاضرهم وعيشهم وحياتهم.
والذليل في المنصب عنوانٌ كريه لكل مَن يعرف حقيقته، وإذا استطاعت الحقيقة من أمره أن تتخفى عن سائر الناس قبل صعوده على أربع إلى منصبه؛ فإن هذا المنصب نفسه سيجعل الخفي من أمره معلنًا، والمستتر من أهوائه شهيرًا جهيرًا.
وبعد، فإن النفاق قديم كما قد علمت، وهو يتجدد مع كل يوم من أيام الحياة، لا ينتهي أمره ولن ينتهي.
وتسألني ففيمَ إذن تكتب ما تكتب، ما دمتَ تعلم أن النفاق سيبقى ما بقيت الإنسانية؟
إنما أكتب لأنه لا بد أن يجد المنافق مَن يقول له إنك منافق، ولا بد أن نظل نقول إن النفاق هوان وإذلال للبشرية، ومحو للكرامة، وتمزيق لكل ما هو شريف ونبيل في حياتنا.
لعلنا — مَن يدري — لعلنا أن نمنع مشروع منافق أن يصبح منافقًا كاملًا، فإن الطريق إلى النفاق — للأسف الشديد — مليء بالإغراء، والطريق إلى الشرف — للأسف الشديد — محشود بالصعاب.
والجنة — كما نعرف جميعًا — محفوفة بالمكاره، والقابض على دينه كالقابض على الجمر. كان الله في عون الشرفاء المؤمنين!