الرسول والشعراء

كنتُ قد كتبت مقالًا بعنوان «وإن أجراها عمر»، وذكرتُ فيه أن النبي — عليه الصلاة والسلام — قد أهدر دمَ كعب بن زهير؛ لأنه هجا الرسول . وقد جاءني خطابٌ طيبٌ رقيق من شابٍّ يبدو أنه ما زال في بواكير حياته، اسمه عاصم فريد البرقوقي، وقد هزَّني في الخطاب غَيرة الشاب على تاريخنا الإسلامي، وحرصه أن يكون نقيًّا من أي شائبة.

وإني أشكر لابننا عاصم جميلَ ظنه بي، وأنا أكثر شكرًا له على حرصه أن يكون النبي — صلوات الله عليه — أرفقَ بالناس من أن يُهدر دمَهم؛ لمجرَّد أنهم نظَموا فيه هجاء.

ويقول عاصم: وهل من العدل أن يُقتل إنسانٌ من أجل الهجاء الذي يُعتبر الآن جريمةَ سبٍّ؟ لقد جاء القرآن رحمةً للناس، وكرَّم الأم، كما أنني قرأت أن ابنة النبي بكت عندما رأت الكفار يُمعِنون في تعذيب والدها أثناء الصلاة، ولكن النبي الكريم ربَّت ابنته قائلًا: وهل تستطيع حَفنة من التراب أن تُطفئ نور الإسلام؟ ثم هل هذه أخلاق النبي الذي وصفه الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ؟ أعتقد أن هذا الكلام دخيل. أرجو لو سمحتم وتكرمتم رأي سيادتكم.

وإلى هنا ينتهي كلام ابننا المسلم النقي المسالم.

وإنك يا بني محقٌّ في تفكيرك هذا، ولكنك أيضًا لو أمعنت الفكر؛ لأدركتَ أن الأمر لم يكن مجرد هجاء لشخص محمد — عليه الصلاة والسلام — وإنما كان هجومًا شاملًا على الإسلام كله في شخص النبي .

فحين أهدر النبي دمَ هذا الشاعر كما أهدر دمَ شعراء آخرين ممن هاجموا الإسلام في شخصه، إنما كان يحارب من أجل دين البشرية جميعًا، ولم يكن يدافع عن شخصه هو. فالنبي حليمٌ غاية الحِلم، حين يلقي الكفار التراب على كتفيه وهو يصلي؛ لأن هذا عدوان واقع عليه هو؛ فهو عليه الصلاة والسلام بشرٌ رسول كما جاء بنص القرآن. وهو الذي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، وهو على خُلق عظيم، فهو يعفو على مَن يعتدي على البشر فيه.

ولكنه نبي الله وحامل رسالته، وليس من المعقول أن يعفوَ على مَن يعتدي على الرسول فيه. والذين هجوه هَجَوا فيه الرسولَ لا البشر، والرسول هنا حامل رسالة الله ذي القوة المتين … وهي رسالةٌ موجَّهة إلى البشر أجمعين. وليس من الحزم أن يَقبل النبي — عليه الصلاة والسلام — أن يترك الذين يحاربونها دون عقابٍ. ولا بد أن يكون العقاب مانعًا للجريمة أن تستمر، ورادعًا للآخرين أن يرتكبوا نفس الجريمة؛ فليس عجيبًا إذن يا أخانا عاصم أن يأمر النبي بإهدار دم الشعراء الذين يحاربون الإسلام بأشعارهم.

وأنت يا بني، لا بد تدرك قيمةَ الشعر في هذه الأيام التي يتحدَّث عنها التاريخ الإسلامي؛ فقد كان الشِّعر هو وسائل الإعلام جميعًا، وكان الصحيفةَ والمجلة والإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح أيضًا. وكانت القصيدة تُقال اليوم، فلا يكتمل الشهر حتى تكون على أفواه العرب جميعًا، ولم يكن هناك ورقٌ، وإنما كان الناس يحفظونها، ويلقيها بعضهم إلى بعض في مجالس الندوة، ومجالس السَّمر حول النار في الليل، وكانوا ينشدونها في الأسواق وفي المجتمعات. وهكذا يتبيَّن لك أن الشِّعر كان أشدَّ عنفًا في الصراع من السيف نفسه؛ فالسيف يقتل فردًا، ولكن الشِّعر كان يقتل قبيلة بأَسْرها، وإذا كان الفرد يُقتل من أجل فردٍ واحد، فماذا أنت قائل فيمن يقتل قبيلة؟! وربما تظن أنني أغالي إذا أنا سوَّيت بين القتل وإهدار الدم وبين الهجاء الذي لا يعدو بضعة ألفاظ. ولكن هذه الألفاظ كانت تهدِر أعراضًا لقبيلة، وتقضي على شرفها وكرامتها.

وأحسَب أنك تعرف ما معنى العِرض والشرف والكرامة عند العرب، فهم يأبون كلَّ الإباء أن يمَس إنسانٌ ما، كائنًا مَن كان، ما يعتزُّون به من مفاخر وأصول. وهذه يا بني تقاليدُ تَرى اليوم بعض آثار منها في حياتنا، ولكنها في هذه الفترة من تاريخ العرب كانت تتمثَّل لهم أكثر أهمية مِن الحياة وهي الحياة، ومِن الروح وهي الروح.

فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لشرف القبيلة وأمجادها، فما ظنك بدِين هو أول دِين يأتي للناس كافة؟

قد نقول إنَّ هذا الدين قد جاء ليقضي على هذه الأخلاق الجاهلية، وهذا خطأ شائع … فإنَّ الدين الإسلامي جاء ليقضيَ على مفاسد الجاهلية، وليس ليقضي على مفاخرها وأمجادها. ولكل مجتمع شرُّه وخيره وفساده ومجده. وقد كان الإسلام رائعًا، حين أبقى على الحمية العربية، وعلى حرص العربي على عِرضه وكرامته، وأنه بالإيمان العميق وبالحفاظ على هذه الحمية العربية الشريفة، انتصر هؤلاء العرب الحُفاة الفقراء على كسرى وهو كسرى، وحطَّموا عرش الروم، وانتشر الدين الإسلامي حتى دقَّ أبواب فرنسا.

وعلينا يا بني إذا أردنا أن نحكم على حادثة تاريخية، أن ننظر في الفترة التي وقع فيها هذا الحدث. وأنت لا تستطيع أن تحكم على تصرُّف النبي — عليه الصلاة والسلام — في الأعوام الأولى للإسلام بعقلية التليفزيون والإذاعة بعد ألف وأربعمائة عام من وقوع هذا التصرف.

وبعد، يا أخانا عاصم، فقد أردتُ أن أكتب لك هذا جميعًا؛ لأُظهِر لك أن النبي كان على خُلقٍ عظيم حين أهدر دم هؤلاء الشعراء، وكان بهذا يُدافع عن دين الله.

ولكنني أحب أن أطمئنك بالواقع بعد أن حاولتُ أن أطمئنك بالرأي. فمع أن النبي قد أهدر دم هؤلاء الشعراء؛ إلا أن هذا الإهدار لم يؤدِّ إلى قتل أي شاعر منهم، فقد سعَوا جميعًا إلى النبي، واعتذروا عمَّا ارتكبوه، وعفا عنهم النبي. وهكذا ترى يا بني أن النبي تصرَّف منذ ألف وأربعمائة عام نفس التصرُّف الذي يمكن أن يصنعه اليوم بعد كل هذه السنوات؛ فهو صلوات الله عليه كان يريد بإهدار الدم أن يُظهِر غضبه على الشعراء الذين يهاجمون الإسلام، عالمًا أن أحدًا منهم لن يُقتل، وأنهم سيسعون إليه، يقدِّمون اعتذارهم، ويلتمسون رضاءه، وربما يعلن بعضهم إسلامه أيضًا.

فإهدار الدم إذن لم يكن عقوبةً يوقعها النبي — عليه صلاة الله — وإنما كان إحكامَ سياسة، وبُعد نظر من حامل الرسالة البشير النذير.

وقد استطاع عليه الصلاة والسلام بهذه السياسة أن يأمن جانبَ الشعراء، وقد كانوا يمثِّلون الإعلام كلَّه في هذه الفترة؛ ليفرغ هو إلى المهام العظمى الأخرى في نشرِ الرسالة. وأنت لا شكَّ تعرف كيف كان النبي — عليه الصلاة والسلام — يقرِّب حسان بن ثابت والخنساء والشعراء الآخرين؛ ليجعل منهم هم الإعلام الإسلامي.

وأحسَب أنك الآن تستطيع أن تَطمئن أن نبينا — عليه أحسن الصلاة والسلام — كان سياسيًّا من الطبقة الأولى من السياسيين. وكيف لا يكون وهو الملِهم؟! وإذا استقر هذا الاطمئنان في ضميرك، تحتَّم عليك أن تعرف أن السياسة لا تستطيع أن تكون مسالَمة فقط، وإنما هي حربٌ في موطن الحرب، وسلام في موطن السلام، وإدراك دقيق للموقف الذي لا يصلح فيه إلا الحرب، وللحظة التي يتحتَّم فيها السلام. ولو أنك طالعت تاريخ النبي، لأدركت أنه كان أعلمَ الناس جميعًا باللحظة التي لا محيدَ فيها عن الحرب، وبالأخرى التي لا تصلح إلا بالسلام. ولولا هذه النظرية المهمة اللمَّاحة الذكية، ما انتشر الدين الإسلامي هذا الانتشار في فترةٍ قصيرة غايةً في القِصَر. وبعد يا بني؛ فقد اجتهدت … فإن أكن قد أصبتُ منك مقنعًا، فإنني أحمد الله إليه، وإن تردَّد في نفسك بعد ذلك شكٌّ، فإنني منتظرٌ منك خلجات نفْسك نناقشها معًا. وما على المجتهد إن أخطأ من سبيل … وفَّقك الله، وأصلح لك أيامك قدْرَ ما أصلح نفْسك للإيمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥