وكان بشرًا رسولًا

المعجزة التي اختارها الله للخلود هي القرآن الكريم. ومعجزات القرآن أعظمُ من أن تُحصى. وقد نزل القرآن منذ ألف وأربعمائة عام ونيفٍ. وفي هذه القرون المتطاولة ظهر أعلام الشعراء وعظماء البلغاء، ولكن هيهات وألف هيهات أن نُقارن كل ما نظَموه من الشعر، وما دبَّجوه من النثر الرفيع مع آية من آيات القرآن كقوله جل وعلا: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.

وكان الله — سبحانه وتعالى — يرسل أنبياء قبل النبي الخاتم بمعجزاتٍ حسيَّة يراها البشر رأي العين. فهم رأوا إبراهيم يُلقى في النار، ورأوا النار وهي بردٌ وسلام على إبراهيم. إنها معجزةٌ حسية شهِدها أبناء عصره، وآمن بإبراهيم مَن آمن، وكفر به مَن كفر، مرتئيًا في معجزته مع النار نوعًا من السِّحر. فالإيمان في أغلب الأمر نورٌ في القلب يؤيده العقل، ويؤكده. أمَّا إذا جمَد القلب وتحجَّر؛ فهناك لا حيلة للعقل مع القلب، ولا سبيل للكافر أن يؤمن.

وشهِد عصر موسى العديدَ من معجزات السماء، رأوا عصاه وهي تلقف ما يأفكون، ورأوا الله — سبحانه وتعالى — يشقُّ له البحر العباب، يسير بين أمواجه المتجمِّدة المؤمنون، حتى إذا أمِنوا إلى الشاطئ وعبَروه، انطبقت أمواج البحر على الكافرين من أتباع فرعون، فأُغرقوا أجمعين. ثم آمن من قومه مَن آمن، وكفر منهم مَن كفر.

أمَّا عيسى — عليه السلام — فقد كان معجزةً منذ اللحظة التي حمَلته فيها البتول العذراء، وصار معجزةً لم تتكرَّر وهو يُولد، ثم هو معجزة وهو يكلِّم قومه وهو في المهد صبيًّا. تتابعت المعجزات على يديه، فأحيا الميت، وشفى الأبرص، ونفخ في الطير، فوهب لها الروح بإذن الله.

ومع كل ذلك لم يؤمن به قومه أجمعون. وكما أنشأ بعض أنصار موسى عِجلًا من ذهب وعبدوه، حرَّف بعض أنصار المسيح تعاليمه، وبالغوا فيها. ويشاء الله في علياء سمائه أن يكون موت عيسى معجزةً كمولده، فيرفعه إلى السماء، وينقذه من كيد الكائدين له، أولئك الذين انقلبت معجزاته عندهم نِقمة عليه، وانتقامًا منه.

وتنقضي الأيام وتزول آثار هذه المعجزات، إلا أحاديث على أفواه الناس يصدِّقها مَن يصدِّقها، وينكرها مَن ينكرها.

وأغلب الأمر أننا، نحن المسلمين، ما كنا لنصدق شيئًا من هذه المعجزات، لولا أنها جاءت في القرآن الكريم، فأصبحت عندنا حقائقَ لا تقبل الشك.

وقد اختار الله — سبحانه وتعالى — أن يكون حامل رسالته بشرًا من البشر، ليس له أي معجزةٍ إلا معجزة القرآن التي ذكرها سبحانه بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. وقد فعل وصدَق وعدَه جل وعلا، وانتقل القرآن بنصِّه وحرفِه من القلوب إلى الألسنة إلى الجلود والعظام إلى المطبعة، فتمَّ له الحفظ.

والنبي الكريم الذي حمل إلينا الرسالة بشَرٌ رسول. يقول تعالى في سورة الإسراء في الآيات ٩٠ وما بعدها: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا صدق الله العظيم.

فمعجزة النبي إذن أنه بشرٌ رسول، وأن الله لم ينزِّل ملكًا رسولًا؛ لأن الأرض ليس بها ملائكة يمشون مطمئنين.

وقد جاءني خطابٌ من رجل مؤمن يحسُّ في نفسه غُصَّة، أن النبي — عليه الصلاة والسلام — يتصرَّف تصرُّف البشر، وليس تصرُّف الأنبياء. وهذا ما دعاني أن أسوق إليه وإلى مَن شاء هذا الحديثَ. إنَّ معجزة النبي يا أخي أنه بشرٌ وأنه رسول.

فهو بشرٌ حين يقول: حُبِّب إليَّ الطيب والنساء، وجُعلت قُرة عيني في الصلاة. وهو رسول؛ لأنه لم يعتدِ على حُرمة، ولم يرتكبْ حرامًا ولا إثمًا.

وهو بشرٌ حين يأمر بالحرب ليردَّ بها الأعداء عن دينه، وهو رسولٌ حين لم يثخن في الأرض، ولم يعذِّب الأسرى، وحين راح يتلمس الأسباب للعفو عنهم.

وهو بشرٌ إنسان أبٌ، حين سمِع أن علي بن أبي طالب يريد أن يتزوج على ابنته فاطمة، فيصيح: اللهم إني غاضبٌ، اللهم إني غاضبٌ، اللهم إني غاضب. هو غاضبٌ لأنه بشرٌ، ولأنه يحب ابنته كما يحب البشرُ بنيهم وبناتهم، ولكنه نبيٌّ ورسول وأمين وشريف؛ لأنه لم يقُل إنَّ زواج علي بأخرى على فاطمة يُغضب الله، أو إنه يُخالف الدِّين، أو إنه يقع زواجًا باطلًا.

وهو بشرٌ حين تدمع عينه لموت ابنه، ولا يستطيع أن يخفي ألمه العميق للكارثة. وأي كارثةٍ أفدحُ من فقدان ابنه، وهو قطعةٌ منه، فهو يبكي على رُغم علمه أن ابنه رُفع إلى الجنة التي يَعِد بها الله على لسانه المتقين من عباده. وأي عباده أعظمُ تقوى من طفلٍ ما زالت الأكتاف تحمله. وهو يبكي لأنه بشرٌ، ولكنه رسول الله في القمة العليا من الإيمان ومن الثقة بربه وبدينه، وبما أُنزل إليه، حين يحاولون تعزيته بقولهم: إن الشمس خسفت لموت إبراهيم. فإذا الرسول يقول فيه: الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسف أحدهما، ولا يظهر آخر لموت أحد ولا لحياته.

وهو بشرٌ حين يتطيَّب حتى لا يَشم الناس منه إلا أجمل رائحة، وهو رسولٌ حين يأبى أن يترك لبنيه أي مالٍ يعينهم على الحياة.

وهو بشرٌ حين يزور فاطمة ويجدها نائمةً وبجانبها زوجها علي، إن غطى الرداء الذي يتدثَّران به الأقدامَ منهما كشف عن صدريهما، وإن غطَّى صدريهما كشف عن أقدامهما. وتأخذه الشفقة على ابنته وزوجها لأنه بشرٌ، ولكن لأنه رسول لا يبحث لهما عن مالٍ لو طلبه لانهال عليه من المؤمنين، وإنما يقول لهما: أأدلكما على خير من هذا؟ قولا: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين مرة، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين مرة. فلأنه رسول حمل كلمة الله: أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ودثَّر ابنته وزوجها بكلمات الله وطمأنينة القلب.

ولأنه بشرٌ أحلَّ دمَ الشعراء الذين هاجموا الإسلام، وكأنما أُلقي إليه أن يفعل وهو مطمئن؛ لأن أحدًا منهم لم يُقتل قط؛ ولأنه رسول قبِلَ توبتهم أجمعين، ورضي إسلامهم.

ولأنه بشرٌ كانت الشفقة تأخذه على ابنته فاطمة، وأعمال البيت والأبناء ترهقها أشدَّ الإرهاق، ولكن لأنه رسول يرفض رجاءَ فاطمة إليه أن يخصِّص لها واحدة ممن سباهم المسلمون في غزواتهم.

فالنبي محمد، يا أخي المؤمن، نبيٌّ لم يَسبق له مثيلٌ في دنيا الأنبياء؛ فقد كان لكلٍّ منهم معجزة زالت مع الأيام؛ لأن كلًّا منهم جاء لقومٍ بذاتهم، وكانت معجزته موجَّهة لهؤلاء القوم وحدَهم. ولكنَّ النبي البشَر جاء للناس كافةً وللعالم أجمع، ولكل الأزمان حتى يرث الله الأرض وما عليها ومَن عليها. فلم يكن عجيبًا يا أخي أنه لم يكن له صرحُ سليمان ذو القوارير، ولا عرف لسان الطير، ولا سُخِّرت له الجن، ولا كان عجيبًا ألا تأكل عصاه ما يأفك الساحرون، ولم يكن عجيبًا ألا يُشَق له البحر.

إنه نبيٌّ فريد في نوعه، نبيٌّ ارتضى له الله أن ينهزم جندُه في موقعة أحد، حتى يثقوا أن نبيهم بشرٌ من البشر، وأنهم إن لم يبذلوا جهدَهم لنصرة دينهم، فإنهم منخذلون.

إنه نبيٌّ وُلد من أبٍ وأم، وقال له الله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. إنه لم يخصَّه الله أن يحيي الميت أو يشفي الأبرص.

إنما خصَّه بمعجزةٍ واحدة، هي القرآن الكريم. وخصَّه أيضًا بكلِّ ما في البشر من طِباع. ألا إنَّه على خُلق عظيم أدَّبه ربه، فأحسن تأديبه. وقد أُرسل في عصر الجهالة والتكبُّر الفارغ فحطَّم الجهل، وأذلَّ التكبُّر، وجعل بكلام الله الناسَ سواءً، وبدأ بنفسه. وإذا لم يكن النبي بشرًا مثله مثل سائر الناس ما بلغ من نفوس أنصاره هذا الإيمان المذهل الذي جعلهم يَفْدونه، ويَفْدون دينَه بأرواحهم.

لقد رأوا فيه إنسانًا مثل كل إنسان في مشاعره، ونبيًّا شامخًا مباركًا.

بشر هو يحبُّ النساء مثل البشر، ولكنه في الحلال كالأنبياء. ويحب الشِّعر كالعرب، ولكن في الكريم من المعاني والرفيع من الخصال مثل الأنبياء، ويحب بَنيه أشدَّ ما يكون الحب شأن الكرام من البشر، ولكنه يأبى أن يجعل أحدًا منهم يتميَّز عن الآخرين بأقل ميزة، فالناس سواء ولو كان أبوهم النبي نفسه سيد البشر.

وبعد يا أخي؛ فإنني أرجو أن أكون قد بلغتُ من نفسك ما أتمنَّى لنفسي أن أبلغ، وأرجو إذا قرأت هذا أن تقرَّ حَيرتك إلى الإيمان الخالص الذي ألمحُ أضواءه في أطواء كتابك، والسلام عليكم ورحمة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥