أين أنتم من النبي ﷺ؟
الخوف هو أبشع المشاعر الإنسانية؛ فإنَّ النفس الإنسانية بلطف من الله الرحمن الرحيم تستطيع أن تواجه الشدائد حين تقع. والإنسان في مواجهة البلاء له من عون الله ملجأ ومرتفق، وله من إشفاق اللطيف سبحانه مرفأ ومأمن وجُنة. وللإنسان في هجير الحياة واحةٌ من إيمانه، وله من يقينه في عزيف الرياح الهُوج حوله حصن وسياج.
ولكن الإنسان عند الخوف مذهوب العقل، ذاهل الفكر، ضاع رشده واختل حكمه، يعتصر الرعب مشاعره، فإذا هو حطام وبقايا.
فالخائف لا يدري قدْرَ الكارثة القادمة، ولا هو يعلم كيف ستحلُّ به، ولا في أي جانب من جوانب حياته ستصدعه، ولهذا يقول الرحمن — جل وعلا — وهو الرفيق بعباده الشفوق: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة: ١٥٥، ١٥٦، ١٥٧).
وأنت ترى أنَّ الله حين يختبر عباده، يبلوهم بشيء من الخوف، وليس بالخوف كلِّه، وبعض الخوف هذا أشدُّ وقعًا وفتكًا من الجوع وهو الجوع، ونقص الأموال بل هو أشد فتكًا من نقص الأنفس وهي الأنفس.
فالموت يهون إذا نحن قارنَّاه بانتظاره.
وهكذا هو الله — جل وعلا — رحمن رحيم رءوف شفوق عطوف حانٌّ حنانًا لا تَعرف البشرية له مثلًا … ضئيلٌ كلَّ الضآلة حنانُ الأم على وليدها إذا نحن ذكَرنا معه حنانَ الله، وهزيلٌ غايةَ الهُزال إشفاقُ الأب على بنيه إذا نحن تمثَّلنا معه إشفاقَ الله بعباده.
هذا هو الله!
فمن أين أتت هذه الطُّغمة القاتلة السفَّاحة بقسوتها تلك؟ ومن أين استوحت جبروتها وطغواها؟ وكيف أذِنت لنفسها أن تدَّعى نَسبًا إلى روح الله وهو رحمة؟ وإلى دين الله وهو حنان؟ وإلى كتاب الله وهو الهدى؟ وإلى أحكام الله وهي عدل وقسط وقسطاس مستقيم؟
وكيف تفجَّرت هذه الجماعات بيننا ذعرًا وهلعًا وجبروتًا، تُفشي الخوف، وتدفع به دفعًا إلى أفئدة الوادعين من شعب طيب النفس، كريم العنصر، مؤمن جميعه بروح الله ورحمته وهداه؟
وكيف سمحت لنفسها أن توجِّه التهمة في غيبة الاتهام، وتحاكم المتهم في غيبة المتهم، وفي غيبة كل مدافع، وتصدر الحكم في غيبة الضمير، وتنفِّذ الحكم في غيبة الإيمان منها وفي غيبة العدالة، وفي خفاء عن رجال الأمن الذين لا يجوز أن يُنفَّذ حكمٌ إلا بأيديهم بناءً على حكم صادرٍ من قضاء ينظر القضية مثنى وثلاث ورباع؟
أبِدِينِ الله يَدين هؤلاء؟ لا وربِّ الكعبة، لا وبيتِ الله، لا وحقِّ الكتاب المنزَّل بالحق.
أيتوهَّمون أنهم ما داموا قد أطلقوا لِحاهم أصبح لهم حقُّ قتلنا باسم الدين، وبشرع الله؟ ضلوا والله وفسدوا وأفسدوا، وجنح بهم الطريق كلَّ الجنوح.
أيتوهَّمون أنهم وقد لبِسوا جلابيبهم مُسوخًا وزيفًا أصبحوا قوامًا على المسلمين، يروِّعون أمنَهم، ويقتلون بريئهم، ويجتاحون شوارع مصر يصيبون مَن يتقصَّدون ومَن لا يتقصَّدون، أطفالًا وعابري سبيل ومَن لا شأن لهم بالقضية الباطلة الهازلة الحزينة الدموية التي نصَّبوا أنفسهم زورًا وبهتانًا رعاةً لها، ومدَّعين وقضاة ومنفِّذين؟ خاب رأيهم وضلُّوا، وحقِّ الله، ضلالًا مبينًا.
إنَّ الفتى من هؤلاء يقف أمام المرآة فلا يرى شيئًا، فراغ هو حيث وقف، لا وجود له وإن كان ذا وجه وجسم. ويدرك الفتى أنه ليس له معنًى ولا أعماق، وأنه يمرُّ بالناس حين يمرُّ فكأنه ما وُجد.
والفتى غرير، والرأس فارغ، والعقل هزيل خواء لا أثر فيه لعلم، ولا نصيب له من وسائل تفكير.
والفتى يحب أن يشعر به الناس إذا هو بدا للناس، والغالبية الكاثرة من الشباب تحسِن التفكير، وتعلم أنَّ قدْرَ الإنسان إنما يكون بمَخْبره لا بمظهره، وبعلمه لا بتنكُّره. ولكن الفتى الغرير الجاهل فارغ الرأس هزيل التفكير، يريد أن يصبح شيئًا مذكورًا، بلا جهد عقلي، وإن كان على استعداد أن يقوم بجهدٍ جسدي، شأن البَهْم والدواب والوحوش. إذن ليحل لنفسه أن يقول تشبُّهًا بالرسول الكريم ﷺ خسئت أيها الفتى، وأين أنت من هذا الرحاب؟ وأين الثرى من ثريا البشرية وكوكبها المفرد، وحامل أعظم رسالة من السماء، ومَن هو على خُلقٍ عظيم، ومَن أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه؟
خسئت أيها الفتى، وجلَّ النبي عن هذا وصلَّى الله عليه وسلم، وصلَّى عليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وسلموا تسليمًا، جلَّ متسودًا على البشرية أن يكون التشبُّه به في لحية أو جلباب، إنما التشبُّه بقمة البشرية وذؤابتها يكون في الإيمان سما حتى السَّحاب وما فوق السَّحاب، في الخُلق العذب، في الرحمة بالناس، في حب البشر، في الإيناس في أدب السماء، إذا مرَّ باللغو مرَّ كريمًا، وإذا خاطبه الجاهلون قال سلامًا.
أمَّا اللحية يا مَن ترتدون اللحية نفاقًا وجهلًا؛ فقد كان يلتحي بها أبو لهب الذي تبَّت يداه وتبَّ، وكان — لعنة الله عليه — يلبَس الجلباب أيضًا، وكان كل كفار العرب يطلقون لحاهم، ويلبَسون الجلابيب؛ فقد كانت اللحية والجلباب سِمة العصر، وكان النبي ﷺ بشرًا رسولًا. وهكذا بعثه ربُّه، وهكذا سار بين الناس، لا يختلف عنهم في مظهرٍ أو هيئة أو مَلبس، إنما المعجزة فيه أنه بشرٌ رسولٌ لم يُحي ميتًا، ولم يُلقِ بعصاه لتلقف إفكًا. هو بشرٌ يحمل المعجزة. ألم يقل عنه ربُّه، جلَّ وعلا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ؟ أوَلم يقل سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ؟ أوَلم يقُل، تقدَّست أسماؤه: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا؟
هكذا أراده ربُّه، أراده بشرًا يحمل معجزةَ السماء، والرسول ﷺ يعلم هذا كلَّ العلم، ويحرص عليه كلَّ الحرص، ويقول للناس: إنما أنا بشرٌ مثلكم آكلُ وأشرب وأمشي في الأسواق. وكانت اللحية سِمة البشر فالتحى النبي، وكان الجلباب مَلبس العصر فارتداه، بشرًا كسائر الناس، معجزته أودعها ربُّه صدرَه، وأعلنها للناس لسانُه وفِعله.
فما لكم لا تتشبَّهون بالنبي في أخلاقه العظيمة، وإنه لعلى خُلق عظيم؟ ولماذا لا تتأثَّرون بسيرته في أمانته وتتأثَّرون بلحيته؟ ولماذا لا تأتسون به في عدله وشرفه ورحمته وعِفَّته وصبره وتواضعه ونزاهته وطهارته، وتأتسون به في لحيته وجلبابه ونعله، وأين أنتم من نعله؟ واللحية والمَلبس والنعل عارض، والخُلق هو الأصل وهو الحقيقة، ألم يقُل الله عنه في سورة التوبة: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ؟!
فأين … أين أنتم من عنَت إخوانكم ذوي أرحامكم، وأين إعزازكم لهذا العنت؟
وأين حرصكم على المؤمنين، وأنتم تثيرون بينهم الرعب، وتُشيعون القتل وتفشون الدمار؟ ضلَّ سعيكم كم تفسدون!
وأين رأفتكم ورحمتكم؟ أهي قتلُ الناس ممن تتقصَّدون بغيًا وعدوانًا، أم إصابتُكم مَن لا تعرفون من الأطفال والمارَّة قاتلين أو محطِّمين، أو ممزقين؟ أم تحسبون الرأفة والرحمة نعلًا تنتعلون؟ خاب رأيكم كم تضلون!
وما أكثرَ اللحى الصالحة المشرقة بنور الله، وما أكثرَ اللحى الفاسدة المفسدة، وما أكثرَ الجلابيب على جسومٍ ضالة، وما أكثرَ النِّعال في أقدامٍ تسير في طريق عاجَ عن الهدى، وابتعد عن الإيمان، وشطَّ به الفساد، وكانت الرذيلة نبراسه وإمامه ومهواه.
لو أنَّ النبي سيدَ البشر ﷺ شهِد التليفزيون والمذياع، لكانا وسيلتَيه لإعلان الدعوة، ولو أنَّه شهِد الطائرة لركبها لينشر الرسالة. لقد كان النبي قمَّة الذكاء، وكيف لا والوحي يأتيه من الخالق الأوحد الفرد الصمد؟!
ولكن أين أنتم من طريق الله؟ وأين أنتم من الرسالة؟ وأين أنتم … أين من الرسول الكريم؟
ما ذكَّروني إلا بقول ابن الرومي لأحد أغبياء عَصره ممن كانوا يتنكَّرون باللحية عن حقيقة غبائهم:
وإن كنتُ — أستغفر الله — إذ تمثَّلت بالبيتين فشتمت الحَمير، والحَمير لا تقتل ولا تُخيف الأمن، ولا تشيع الفساد، ولا تحطِّم الطمأنينة، ولا تُفشي الرعب بين الناس.
فمعذرةً للحَمير! حيث لا معذرة لكم ولا سلام عليكم ولا رحمة، وانتظروا أمر الله؛ فإنه سبحانه بالظالمين محيط.