بعض المسلمين وليس الإسلام
الإسلام هو أعظم حضارة عرفتها البشرية؛ فمعجزته هي المعجزة الباقية على الدهور، لا يحتاج أن يرويها راوٍ عن راوية، وإنما هي كتابٌ كريمٌ في صحف مطهَّرة، لقِفها عامٌ عن عام حتى زاد بقاؤها عن ألف وأربعمائة عام، وهذا واقعٌ حدَث فعلًا لا مجال فيه لظن، وهو باقٍ إلى قيام الساعة، وهذا يقين المؤمنين الذي يصل في ثبوته عندهم إلى ثقة هي والواقع الذي حدث فعلًا سواء.
وقد يرمينا الملحدون، شيوعيين كانوا أو كانوا آدميين، أننا نؤمن بالغيب. ونسخر نحن المؤمنين مما يقولون؛ فنحن نؤمن بالله الذي يرينا آياته في الآفاق وفي أنفسنا، ونحن مبصرون. نحن نؤمن بأن الروح في الإنسان، والروح في كل المخلوقات هي من صُنع الله، لا يعلم سرَّها إلا هو. وما دام هناك سرٌّ لم يعرفه الإنسان، وهذا السر في ذاته أصلُ حياته ووجوده، وسبب حياة العالم أجمع، فهناك إذن قوةٌ عُليا لا يدركها عقل الإنسان، ولا يستطيع الوصول إليها.
ونعلم، نحن المسلمين، أنَّ هذا القرآن لا يسطع إلا من قوة عُليا لا ندرك مَداها، ولا سبيل لنا أن نبلغ أيسرَ أسبابها. وبهذا نحن مؤمنون، وبكتاب الله نحن مسلمون.
فلا غيب إذن في الأمر ولا غيبوبة.
أمَّا الغيبية الحقيقية، والرَّجم بالظن الذي يصل إلى أبعدِ آفاق السَّذاجة والسطحية، فهما في قول الملحدين، شيوعيين كانوا، أم كانوا آدميين: إنَّ أصل العالَم مادة … عجيبة! أوَكانوا عند ذلك العالَم وهو ينشأ؟ فمن أين لهم إذن أن يعرفوا أنَّ المادة أصله، إلا أن يكون ذلك إعمالًا للظن الذي لم يثبته علم، فادعاؤهم أنهم يعتنقون العلم بهذا الذي يقولون في ذاته غيبية؛ لأن العلم لا يعرف إلا اليقين، فمن أي يقين عندهم أثبتوا أنَّ أصل العالم مادة؟
إنَّ العلماء الحقيقيين أجمعوا في أقطار الأرض جميعًا على أنهم وصلوا من العلم إلى ظواهره، وإلى جزء من مداه، وأنَّ هناك إصبعًا تطلع عليهم عند أمَد معيَّن من بحوثهم تأمر في حسم الملك الواحد الأحد مكانكم. إلى هناك وينتهي اجتهادكم، وما بعد ذلك هو من شأن العليم الأول والآخِر، والذي تنتهي إليه أسرار كلِّ ما في السموات والأرض التي هو بديعها.
ويُجمع العلماء أنَّ هذه الإصبع واحدة، هي هي لا يتغير شكلها في شتَّى مناحي العلوم … هي إصبع الكهرباء والذرة والطبيعة والكيمياء والطب وكل العلوم بلا استثناء.
عرف الإنسان كيف تسير آلة جسمه، ولكنه لا يعرف سرَّ الروح، ولا يعرف ما الذي جعل الكبد تفرز الصفراء، ولا ما الذي جعل العيون تبصر وتفيض بالدمع، ولا عرفوا سرَّ تلك القوة الإلهية المتمثلة في العقل.
ووصل الإنسان إلى القمر، ولكنه لم يعرف مَن الذي أودع في الوقود هذه الطاقة. عرفوا الظاهر، ولم يعرفوا سرَّه ولا باطنه … توصَّلوا إلى العارض البادي، ولم يتوصلوا إلى ما وراء هذه القوى العجيبة في الجماد، التي بلغ من جبروتها أن وصلت بالإنسان إلى القمر. كلُّ ما استطاع الإنسان أن يتوصَّل إليه هو مدى فاعليةِ ما تحمله المادة من قوة. أما سرُّ هذه المادة، فهو لم يعرفه، كما لم يعرف الطبيب ما الذي نظَّم الجسم هذا النظام الأمثل! ولهذا يضطر الطبيب أن يؤمن بقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ويضطر علماء الأخلاق أن يؤمنوا بقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. فلا شك أنَّ في بني الإنسان مَن هو في أسفل سافلين، وهل هناك أسفل من الجاحدين الذين يرون آيات الله رأي عين في أنفسهم وفي الآفاق، ولا تصيح كل خالجة فيهم: الله أكبر، لا إله إلا الله؟
ثم يدَّعون أنهم مسلمون، أوَمسلمون هم، وهم يقولون بالمادة لا بالله؟ أوَمسلمون هم، وقد حرَّموا ما أحل الله وما نهى عن المساس به؟ أوَمسلمون هم، وهم يَدينون بالولاء لبلاد تقتل النفس الإنسانية، وتعذبها وتشردها وتحبسها وتغلق عليها منافذ الحرية؟ أوَمسلمون هم؟ فهل قرءُوا قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، من الآية ٥٨، من سورة اسمها سورة البقرة؟ أفسمِعوا بها؟ ما أظن؛ وإلا فما لهم يقولون إنَّ المؤمنين بدين الله بعيدون كلَّ البعد عن الحضارة، وإنهم جامدون متحجرون، حتى لقد أشاعوا بين فصيلة من الشباب أن التفتح العقلي والسمو الفكري والتألق الذهني لا يكون إلا لهؤلاء الذين لا يحافظون على دينهم، ولا يرعون حقوقَ ربهم؛ لأنه لا رب عندهم إلا المادة، ولا إله إلا الطغيان، ولا فيصل إلا السلاح ولا حاكم إلا الجبروت.
أوَمسلمون هم؟ فما لهم يطلقون تلك الكبيرة: أنَّ التمسك بأسباب السماء بُعدٌ عن الحضارة؟ ولو أنعموا النظر أو أمضوا الفكر، لتَبيَّن لهم أنَّ الدِّين هو الحضارة البشرية، وأنَّ الدين الإسلامي هو قمة هذه الحضارة؛ لأنه الطريق الذي اختاره بارئ البشر للبشر؛ وإلا فليذكروا هم لنا طريقًا آخر لا يُضل الإنسان، ولا يصبح قطعةً من جمادٍ حقيرٍ لا تصلح أن تكون إنسانًا.
إذا كانوا يظنون أنَّ تخلف بعض الدول الإسلامية دليلٌ على تخلف الإسلام؟ فهم يغالطون أنفسهم، ويغالطون الناس، فما تخلَّف الإسلام، وإنما تخلَّفت الأغلبية الكاثرة من المسلمين، وما كان تخلُّفهم هذا إلا لخروجهم عن أوامر الإسلام وروحه وقيمه الباذخة السموق … فالقرآن يحضُّ على العلم، وهم لم يتعلموا. والإسلام يحضُّ على السعي، وهم قعدوا، ويحض على السمو بالرغبات، وهم سَفَلوا، ويحض على كرم المال والنفس، وهم بخِلوا. فلا والله الذي لا إله إلا هو ما تخلَّف الإسلام، وإنما تخلَّف بعض المسلمين. وبعضٌ منهم آخرُ، ربما كان قليلًا، ولكنه يحطِّم قول المجترئين على جلال ديننا. أولئك قوم غزوا الغربَ في قمة تقدمه العلمي، وكانوا أساتذة أجلَّاء علماء سابقوا فسبقوا، ولم يلحق بهم لاحقٌ. والأمثلة لا حصر لها ولا تعداد. وهم سابقون بفضل دينهم وتمسُّكهم بروح هذا الدين وتعاليمه، وتحضُّره وتقدُّميته؛ فليست التقدُّمية إلحادًا، وإنما هي إيمان؛ فالإلحاد سابقٌ على الدين، والإيمان تصحيح لمسار البشرية، والإسلام أعظم ما هدى به الله البشرَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (سورة المائدة، الآية ٣). وهل يمكن أن تكون آخرُ رسالة من السماء إلى الأرض إلا قمَّة الحضارة الفكرية. فإذا قيل لنا إن غير المسلمين هم الذين تقدموا حضاريًّا، لقلنا لهم ما كان ذلك منهم إلا لأنهم هم طبَّقوا تعاليم الإسلام من علم وثقافة، وسعي وجهد، اهتدَوا إليها بما أودعه الله في قلوب البشر من قبسته النورانية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من حضارة، بينما زاغ المسلمون أنفسهم عن تعاليم دينهم، فتأخَّروا هم، ولكن الدين من تأخُّرهم بَراء. فهم قد تأخروا على الرغم من أنهم مسلمون، لا لأنهم مسلمون، فليس الإسلام مجرد صلاة وصيام وزكاة، وإنما هو روح وجهاد، وسعي حثيث، وتجميل للحياة، وتمازج بين العلم والروح.
وليس هناك دين ولا تشريع أغفل الروح وأفلح، أو أغفل العلم وكُتب له النجاح.
فليُقصر إذن الكافرون الملحدون، وليحترموا آدميةَ الإنسان، وليتركوا له الحرية التي وهبها الله. وأما الإسلام فإنه سيد الحياة، شاءوا أم أبَوا! والله غالب على أمره، وإن كره الملحدون، شيوعيين كانوا، أم كانوا من البشر.