مناقشة
أرسل الأستاذ صلاح شادي مقالًا إلى الأهرام، وكنت أنوي أن أنشره وأناقشه لولا أن الصفحة في الأسابيع الماضية كانت لا تستطيع أن تتَّسع لمقالته الطويلة. ولم ألبث أن وجدت الأستاذ صلاح ينشر مقاله في جريدة حزبية، فأصبح الذي يقع في ضميري أن أناقش ما نشره دون حاجةٍ إلى نشر مقاله كاملًا. وأحسب أن القارئ سيدرك مما سأقتبسه من مقاله فحواه جميعًا.
يتساءل الأستاذ صلاح: لماذا ينافي المنطق أن تكون هذه الجماعات الدينية ممثَّلة في المجالس باختيار الشعب؟
والواقع يا أستاذ صلاح أنني لم أقل إن تمثيلكم في المجالس التشريعية يُنافي المنطق؛ فمنافاة المنطق، أو الاتفاق معه مسألة خلافية تحتمل القبول أو الرفض.
إنما الأمر الذي لا مناقضة فيه ولا شك، أنها تخالف الدستور، وليس في هذا خلاف. وهذا هو الذي ذهبت إليه. وتمثيلكم في المجالس التشريعية، وقيام حزبكم بادئ ذي بدءٍ، يقتضي تغيير الدستور، وهذا ليس رأيًا يحتمل المناقشة، وإنما هو نص دستوري قانوني لا شك فيه ولا شبهة ولا خلاف.
واسمح لي، والأمر كذلك، أن أستشهد بالآية التي سقتها في هذا السياق، وهي قول الله (تعالت أسماؤه): وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.
وأحسب أنك لا تخالفني أن العدل يتم من القاضي إذا طبَّق القانون الذي يحكم في ظله. والعدل يتم من الفرد إذا وضع القانون نُصبَ عينيه، وهو يدلي برأيه فيما يعرض له من أمور الحياة.
أمَّا لماذا أعتبره تحايلًا على القانون؛ فأمر لا يحتمل أن تستعمل فيه كلمة «اعتبار» التي اخترتها. هو تحايل على قانون قائم لا شك في ذلك ولا شبهة.
وتسأل يا سيدي: فهل ترى أن مجرد النداء بتطبيق الشريعة الإسلامية يقع تحت بند من هذه البنود، تقصد التي وردت في القانون رقم ٣٣ لسنة ١٩٧٨م؟
وجوابي عليك يا سيدي: «اللهم نعم، اللهم نعم، اللهم نعم.» لا شك في ذلك.
وهو أيضًا يُنافي قانون الأحزاب في مادته الرابعة في فقرتها الثالثة. وهو أيضًا ينافي الدستور في المادة الخامسة منه التي تُحيل على القانون السالف الذكر.
وإني أسألك يا سيدي: فيم تُخالف القوانين القائمة الشريعةَ الإسلامية، إلا في العقوبات التي تسميها الشريعة حدودًا؟
وأنا يا سيدي أرى أن الإسلام أعظم وأضخم وأكرم وأرفع وأسمى من أن يكون مجرد عقوباتٍ.
وإني أسألك يا سيدي، وأرجو أن تُجيب بهدوء المؤمنين وبسلامهم وبإسلامهم: حين حثَّ القرآن الكريم على الشورى، هل جعلها إلزاميةً للحاكم، أم هي استطلاع رأي، ثم للحاكم بعد ذلك أن يتخذ الرأي الذي يريد؟
أوَليس أقرب إلى روح الإسلام الرفيعة العالية أن تكون الشورى ملزمة للحاكم؟ فهل ترى التمسك بحَرْفية النص أقربَ إلى روح الله القدس وقرآنه المعجزة، أم التوسع في النص وجعل الشورى عصامًا للحاكم؟
وأخرى: حين شرع النبي — عليه الصلاة والسلام — حدَّ الزنا للمحصن جعله الرجم حتى الموت.
كيف كان الوضع الاجتماعي في ذلك الحين؟ إن زواج الأربعة في الإسلام يا سيدي جاء قيدًا لا إباحة؛ فقد كان الزواج قبل نزول الآية الشريفة مطلقًا بلا أي حدود. كان للرجل أن يتزوج من أي عدد من النساء، وجاء الإسلام فسمح بزواج أربع نساء يا سيدي.
فهل ترى المجتمع أو طبيعة الحياة التي نحياها تسمح بزواجِ أكثرَ من واحدة؟ ولعلك تعلم أن نسبة المتزوجين من أكثر من واحدة في مصر جميعًا هي نصف في الألف.
وكانت في أيام الرسول إباحة أخرى أشمل وأوسع، وهي أن الرجل كان يستطيع أن يشتري من يشاء من النساء بغير حدود.
في ظل هذه الإباحات العريضة، رأى النبي العظيم أن الذي يزني بعد كل هذه الإباحات يستحق القتل.
أأربع نساء … وعشراتٌ من مِلْك اليمين ثم يزني؟! إنَّ القتل إذن قليل بالنسبة إليه.
وإني أسوق المَثل من حد الزنا، فهو مجرَّد مَثل، وليس إحاطة بكل الحدود.
وروح الإسلام ترفض الرِّق، وهو أوَّل دين جعل عتق الرقبة تكفيرًا عن التقصير الديني، أو الدنيوي.
أتُراك يا أستاذ صلاح تريد أن تُعيد مِلْك اليمين، حين تطبِّق الشعار الذي ترفعه أنت وصحبك من تطبيق الشريعة الإسلامية؟
أم أنك ستطبِّق أشياء، وتتغاضى عن أشياء؟
بربك يا سيدي، أتريد لأكرمِ كتابٍ أنزله الله الأعظم بدينه الأقوم أن يكون وسيلةً لأفرادٍ أن يتحكموا في الرقاب، ويعتلوا كراسي الأمراء؟
لقد نزل القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة.
وحكم به النبي — عليه الصلاة والسلام — وهو سيد البشر أجمعين، وهو المعصوم، وهو المُلهَم؛ فهو استثناء من كل البشر، ينفرد عنهم بحمل الرسالة والإلهام والعصمة، وبأنه على خلقٍ عظيم.
ثم حكم به أبو بكر الصديق، فكان عدلًا وحزمًا، وكان مثلًا أعلى كريمًا على الناس والزمان، وكيف لا وهو ثاني اثنين إذ هما في الغار … وهو الصديق؟
ثم حكم عمر، فكان رمز العدالة على مدى التاريخ، لم يعرف الزمان له مثيلًا فيما مضى، وما أحسب أنه سيعرف له مثيلًا في آتي الزمان.
ثم حكم عثمان، ولا نملك إلا أن نقول: إنه ذو النورين. ثم حكم عليٌّ، فكان عدلًا مطلقًا.
وانتظر الزمان بعضَ حينٍ، وحكم عمر بن عبد العزيز، فكان خامس الخلفاء الذين طبقوا الشريعة الإسلامية، فأكرموا تطبيقها.
دع هؤلاء إذن يا أستاذ صلاح، وألقِ نظرة على الملوك، ومَن أسمَوا أنفسهم بالخلفاء، وانظر كيف ظلموا، وكفروا وتجبروا وعتوا، وادعوا مع كلِّ معاصيهم أنهم طبقوا الشريعة الإسلامية!
اذكر معاوية، وكيف أخذ البيعة ليزيدَ بحد السيف، وكيف قتل عليًّا والحسن والحسين، وكل آل البيت المطهرين.
واذكر يزيدَ العربيد السكِّير الذي لم يستطِع أحد أن يطبِّق عليه حدَّ السُّكر، مع أنه كان — فيما يُروى عنه — لا يفيق.
واذكر المنصور، واذكر السفَّاحين جميعًا، واذكر مَن أطلق الحَجَّاج يقتل حفيد الصديق، ويقتحم عليه الكعبة، ويقتل بغير حسابٍ عبادَ الله المؤمنين … إن كل هؤلاء يا أستاذ صلاح ادَّعوا أنهم كانوا بالإسلام يحكمون.
أترضى عنهم؟ أم أنت واثقٌ أنَّ الزمن سيجود بمثلِ أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عليٍّ … أو خامسهم ابن عبد العزيز؟
على مدى ألف وأربعمائة عام والملوك والخلفاء يدَّعون أنهم يحكمون بالإسلام، فإذا هم يجعلون الشريعةَ وسيلتهم إلى كلِّ ما تعرِف أنهم صنعوه بعباد الله الأبرياء المسلمين، وغير المسلمين.
واذكر هارون الرشيد وسرفه، واذكر المأمون وفقهاء الإسلام، وما صنع بهم من أجل قضية كلامية.
وبعدُ يا أستاذ صلاح، فانظر إلى الخميني الذي قتل من بني وطنه المسلمين في سنواتٍ ستٍّ اثنين وثلاثين ألفًا بأحكامِ إعدام، غير مئات الألوف أو الملايين الذين قتلهم في ساحة الحرب من مسلمي إيران والعراق جميعًا. وهو هو الذي يرفع شعار الحكم الإسلامي.
وفي السودان قطع الطاغية من الأيدي بحكم الإسلام في بضعة أشهرٍ ما لم تقطعه الشريعة على مدى ألف وأربعمائة عام.
ألا تخشى أن تضع قرآن الله بين أيدي طغاة، يستغلونه أسوأ استغلال؟
ألا ترى أنَّ دين الله الأقوم ينبغي أن يظل صلةً بيننا وبين الله سبحانه وتعالى بغير قسر منكم ولا إجبار؟
وإذا كان الله يقول لنبيِّه في آيات شريفة كثيرة عليك البلاغ وعلينا الحساب؛ فمن سمح لك يا سيدي أن تُبلِّغ وما أنت بمُبلِّغ، أو أن تُحاسِب وما أنت بإله؟!
إن المتطرفين من المسلمين في مصر قتلوا أحمد ماهر، والنقراشي، والقاضي الخازندار، ووضعوا القنابل في تجمُّعات الأبرياء، تصيب مَن تصيب في غير دين. وأنت تعرف أنَّ مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا.
وإن كان هذا ماضيًا راح واندثر …
أليسوا هم مَن قتلوا في أيامنا هذه الشيخَ الذهبي، وهو مَن هو خُلقًا وعلمًا؟
ثم قتلوا أعظم زعيم عرفته مصر، السادات، الذي انتصر، فكان انتصاره لمصر وللإسلام، والذي أفشى السلام فحقَّق دعوةَ الله، وهو سبحانه مَن اختار اسم الإسلام؛ ليكون آخر رسالة له من رفيع سمواته إلى عباده في الأرض.
وبعدُ، يا سيدي، فأراك تقول في آخرِ مقالك عنِّي: فهل نسي كاتبنا حديثه السابق عن هؤلاء الأطهار؛ فماذا حوَّلهم اليوم إلى مردة وشياطين، أهي لعبة الانتخابات أم تُراك نسيت؟
وها أنا ذا أجيبك اليوم، وقد انتهتِ الانتخابات، فلا لعبة هناك ولا هنا، وأما أنا فلا وحقِّ الحق ما نسيت.
إنما هم أطهار إذا اعتدى عليهم حاكم، فقتل منهم سبعة في جريمةِ شروعٍ في قتل لم تتم، ولم تثبت.
وهم أطهار حين يُقبض على خمسة عشر ألفًا منهم في ليلة واحدة، كما أعلن هذا طاغيةُ ذلك الزمان. بينهم البريء وبينهم حَسن الطوايا، وكلهم أبناء أو آباء، ويكره الله والحق أن يُرمى بهم إلى السجون زُمرًا بلا محاكمة.
ولكن الله يكره أشدَّ الكراهية القاتلَ منهم، ويحكم في محكم آياته أنَّ الذي يقتل فردًا بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعًا.
وقد استعمل كثيرٌ منكم القتل وسيلةً لتخويف الآخرين، واستعمل كثيرٌ منكم الإرهاب بكل وسائل الإرهاب، بل كان لكم في الانتخابات الأخيرة هذه سلاحٌ مشهور وأنياب حِداد، وإشاعة للذعر بين الناس.
ولا والله لستم إذا فعلتم ذلك بأطهار … وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن كلمة الله هي العليا، مهما تحاولوا أن تجعلوا منها طريقًا إلى حكمٍ في الدنيا، وعليك السلام حيث كنت … بالإسلام نَدين، وبالسلام تكون بيننا التحية. والسلام هو الرباط بين قومٍ يؤمنون.