الفصل الأول

في حدود شبه جزيرة طور سيناء وأسمائها

«شبه جزيرة طور سيناء» بلغة الشاعر: قنطرة النيل إلى الأردن والفرات، وبلغة الناثر: الوصلة البرية بين أفريقيا وآسيا، وبعبارة أخص هي تلك البادية الشهيرة التي تصل القطر المصري نفسه بقطري سوريا والحجاز، وقد أخذت شكل مثلث قعد على البحر المتوسط وانقلب على رأسه، فدخل كالسفين في رأس البحر الأحمر، وشطره شطرين هما خليج العقبة وخليج السويس.

وشبه الجزيرة في الأصل هي البلاد الواقعة بين هذين الشطرين المعروفة الآن ببلاد الطور، ثم امتدت إداريًّا فشملت بلاد التيه، ثم بلاد العريش في الشمال، فأصبح حدها من الشمال البحر المتوسط، ومن الغرب ترعة السويس وخليج السويس، ومن الجنوب البحر الأحمر، ومن الشرق خليج العقبة، وخط يقرب من المستقيم يبدأ من رأس طابا على رأس خليج العقبة، وينتهي بنقطة على شاطئ البحر المتوسط عند رفح.

(١) أسماؤها

وسنسميها بعد الآن: جزيرة طور سيناء، أو جزيرة سيناء، أو الجزيرة، أو سيناء طلبًا للاختصار، أمَّا نسبتها إلى طور سيناء؛ فلأن هذا الطور هو أشهر جبالها، وأمَّا سيناء فلغةً «الحجر»، قيل سميت البلاد سيناء لكثرة جبالها، وقيل إنَّ اسم سيناء مأخوذ من سين بمعنى القمر في العبرانية، فسمِّيت البلاد سيناء؛ لأن أهلها كانوا قديمًا يعبدون القمر، قلت: بل يكفي لنسبتها إلى القمر حسن الليالي المقمرة فيها، فإن صفاء جوها، ورقة هوائها، وسعة أرضها تجعل قمرها أبدع الأقمار.

وقد عُرفت سيناء في الآثار المصريَّة باسم «توشويت» — أي أرض الجدب والعراء — وعرفت في الآثار الآشورية باسم «مجان»، ولعله تحريف مدين، وهو الاسم الذي أطلقه مؤرخو العرب على شمال الحجاز وجنوبي فلسطين، وهي البلاد التي عرفت عند مؤرخي اليونان باسم «أرابيا بترا» — أي العربية الصخرية.

هذا، وقد عرفت في التوراة باسم حوريب — أي الخراب — كما عرفت باسم سيناء، قال بعض علماء التوراة: إنَّ اسم حوريب أطلق على البلاد جملة، واسم سيناء على أشهر جبل فيها، ثم نُسي اسم حوريب وسائر الأسماء القديمة، ولم يبقَ إلى يومنا هذا إلَّا اسم سيناء.

ولقد كانت سيناء في أكثر العصور التاريخية ملحقة بمصر، مع أنَّ سكانها كانوا منذ بدء التاريخ ولا يزالون من أصل سامي كسكان سوريا، وهي في هذا العهد محافظة من محافظات القطر المصري كما سيجيء تفصيلًا.

(٢) البحر المتوسط

أمَّا البحر المتوسط الذي يحدُّ سيناء من الشمال، فطول شاطئه من بورسعيد إلى رفح نحو مائة وثلاثين ميلًا، وطوله على خط مستقيم نحو مائة ميل، وهو شاطئ رملي معرَّض للرياح الشماليَّة الغربيَّة التي تشتد في غالب الأحيان، حتى يستحيل على السفن الاقتراب منه؛ لشدة هياج الأمواج، وليس في هذا الشاطئ ما يصلح لأن يكون ميناءً للسفن إلَّا خليجًا صخريًّا صغيرًا بين مدينة العريش والشيخ زوِّيد، يدعى الجرف الحصين عند بئر المصيدة، فإنه إذا اعتُني به صلح لأن يكون ميناء للسفن الصغيرة.

fig1
شكل ١-١: الموسيو ده لسبس فاتح ترعة السويس.

هذا ويدخل من البحر المتوسط في بر سيناء بين العريش والطينة بحيرة عظيمة، تعرف «ببحيرة بردويل» سيأتي ذكرها.

(٣) ترعة السويس

وأمَّا ترعة السويس التي تحد سيناء الشماليَّة من الغرب، فهي الترعة التي تصل البحر الأحمر رأسًا بالبحر المتوسط، تمتد من مدينة السويس، فتخترق البحيرة المرة، فبحيرة التمساح، فبحيرة البلَّاح، ثم تحاذي بحيرة المنزلة من الشرق إلى أن تصل البحر المتوسط عند بورسعيد، وطول هذه الترعة ١٦٠ كيلومترًا، وعرضها مائة متر، وعمقها تسعة أمتار وخمسون سنتيمترًا، وأكبر البواخر التي يُسمح لها بالملاحة فيها الآن لا تتطلب من العمق أكثر من ثمانية أمتار و٥٣ سنتيمترًا، ولكنهم آخذون في توسيعها وتعميقها حتى تصلح لمسير أكبر البواخر.

وللترعة ثلاثة جسور — كباري — متحركة، يُعبر بها إلى جزيرة سيناء، أحدها شمالي السويس، والثاني عند الإسماعيلية، والثالث عند القنطرة في طريق العريش.

ولقد كان وصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط أمنية كل ملك عظيم قام على مصر منذ أيام الفراعنة، وكان أوَّل من حقَّق هذه الأمنية رعمسيس الثاني سنة ١٣٣٠ق.م، فإنه وسَّط النيل، ومدَّ ترعة من فرع النيل البليوسي عند تل بسطة إلى السويس، طولها نحو ٢٠٠ كيلومتر، وعرضها من مائة إلى مئتي قدم، ثم رُدمت، فجدَّدها داريوس ملك الفرس، ثم ردمت، وجدَّدها البطالسة، ولم افتتح العرب المسلمون مصر على يد عمرو بن العاص كانت مردومة، فاستأذن ابن العاص الخليفة عمر بن الخطاب وجدَّد حفرها، فجعل مبدأها مصر العتيقة وأتمَّها بسنة، وبقيت إلى زمن أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، فوصل إليه الخبر بأن خرج عليه محمد بن عبد الله من سلالة علي بن أبي طالب بالمدينة المنورة، فكتب إلى عامله على مصر يأمره بسد هذه الترعة، حتى لا تحمل المئونة من مصر إلى المدينة، فسدَّها وما زالت كذلك إلى اليوم.

ولكن لم يتم وصل البحرين رأسًا بدون توسط النيل إلَّا في عهد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وذلك بهمة الموسيو ده لسبس — المهندس الفرنساوي الشهير — فإنه نال الإذن بفتحها من سعيد باشا سنة ١٨٥٦م، وألف شركة مساهمة، فدبر ما تحتاج إليه من المال، وأنشأها على رغم ما اعترضه من الموانع السياسيَّة والإداريَّة القويَّة، وقد بلغت نفقات حفرها وتوسيعها ٢٤ مليون جنيه، واحتفل بافتتاحها في ١٧ نوفمبر سنة ١٨٦٩م/١٢ شعبان سنة ١٢٨٦ﻫ احتفالًا بلغ منتهى الأبهة، وقد حضره بعض ملوك أوروبا ونواب جميع الدول.

fig2
شكل ١-٢: اللفتننت توماس واغورن، فاتح طريق النيل والصحراء من الإسكندرية إلى السويس.

وهذه الترعة من أعظم الأعمال التي باشرها الإنسان منذ قام العالم؛ لأنها ربطت الشرق بالغرب، وسهَّلت التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا أعظم تسهيل.

هذا، وقبيل فتح هذه الترعة كان المسافرون إلى الهند من الإسكندرية يركبون ترعة المحمودية بالمراكب، تجرها الرفاصات إلى العطف ٤٤ ميلًا، ثم يركبون النيل فرع رشيد بالبواخر إلى القاهرة ١٢٠ ميلًا، ومن هناك يركبون مركبات الأمنيبوس، تجرها الخيل في الصحراء إلى السويس ٨٤ ميلًا، وقد قصَّرت هذه الطريق طريق الهند أسابيع، وكان الفضل في إنشائها إلى «اللفتننت توماس واغورن» من ضباط البحريَّة الإنكليز، توفي في يناير سنة ١٨٥٠ عن ٤٩ عامًا، ولم يكافأ على عمله هذا إلَّا بعد وفاته، فقد نصب له قومه تمثالًا في بلدته شاتام، من أعمال كَنْتْ بإنكلترا سنة ١٨٨٨، وكانت شركة «القنال» قد نصبت له تمثالًا نصفيًّا عند مدخل القنال في بورت توفيق بالسويس، كما نصبت للمسيو ده لسبس تمثالًا كاملًا عند مدخل القنال في بورسعيد.

هذا، وقد كان لمرور تجارة الهند وبريدها بمصر نفع عظيم لمصر وسوريا معًا، ففتح هذه الترعة سدَّ النفع في وجههما، وحوَّلها إلى أوروبا، وكان الإنكليز أكبر المستفيدين من فتحها، مع أنهم كانوا أكبر المعارضين لها في أول الأمر؛ لأن سياستهم كانت تقضي ببقاء طريق الهند على رأس الرجاء، ففي سنة ١٩١١ مرَّ بالترعة ٤٩٦٩ باخرة، تحمل ١٨٨٢٤٧٩٤ طنًّا، فكان ٣٠٨٩ باخرة منها للإنكليز، والباقي لسائر الدول، وكانت الحكومة الإنكليزية قد اشترت أسهم خديوي مصر في ٢٥ نوفمبر سنة ١٨٧٥، في وزارة اللورد بيكو نسفيلد بأربعة ملايين جنيه، فبلغت قيمتها في ٣١ مارس سنة ١٩١١ سبعة وثلاثين مليونًا ونصف مليون جنيه، وكانت أرباح هذه الأسهم في العام المنصرم (١٩١٣) ١٣١٦٦٨٥ جنيهًا.

هذا، وفي الاتفاق الدولي الذي أمضي في ٢٩ أكتوبر سنة ١٨٨٨، تقرر أن يكون حق المرور بالترعة شائعًا لجميع الدول، فتمخر فيها بواخرها المسلحة وغير المسلحة، في زمن الحرب أو في زمن السلم.

ويديرها الآن مجلس عام مؤلف من ٣٢ عضوًا من جميع الدول المساهمة فيها، وفيهم عشرة من الإنكليز، بينهم ثلاثة ينوبون عن الحكومة الإنكليزية.

ومدة امتياز الترعة ٩٩ عامًا من تاريخ افتتاحها، وشروط الحكومة المصريَّة مع الشركة، تقضي بخروج الأسهم كلها من أيدي المساهمين، ودخولها في حوزة مصر عند انتهاء هذه المدة؛ أي سنة ١٩٦٨، وجميع أسهم الترعة الآن للأجانب، فليس للحكومة المصريَّة أو للمصريين سهم واحد منها، ففي سنة ١٩٠٩ اقترحت الشركة على الحكومة المصريَّة أن تطيل الامتياز أربعين سنة، فتدفع لها الشركة أربعة ملايين جنيه مع نصيب قليل من الأرباح، وقد قصدت الشركة بذلك رفع أسهمها، وإطالة أمد أرباحها بإشراك مصر في شيء من الأرباح، فعرضت الحكومة الاقتراح على الجمعية العمومية، وقيَّدت نفسها بقبول رأي الجمعية كيف كان، فرفضت الجمعيَّة الاقتراح بأغلبية عظيمة، بحجة أنه مجحف بحقوق مصر، قالوا: يكفي الذي خسرته تجارة مصر بفتح هذه الترعة، وأنه ليس لمصر الآن سهم واحد من أسهمها، فلا نطيل أجل خسارتنا بيدنا أربعين سنة أخرى، قالوا ذلك وهم آملون دخول الترعة في حوزة مصر عند انتهاء مدة الامتياز.

ولكن الذين دافعوا عن الاقتراح، قالوا: إنَّ مصر لو قبلته أفادت الشركة بإطالة مدة امتيازها، واستفادت هي مورد مال جديد، ليس لها غير هذا السبيل إلى وروده؛ لأن ترعة كترعة السويس تربط الشرق بالغرب، وتشترك فيها مصالح الدول كلها، لا تُترك لرحمة مصر والمصريين يتحكمون فيها كما يشاءون، وقد كان رسم المرور بالترعة أولًا عشرة فرنكات على الطن الواحد، فخفض تدريجًا حتى بلغ الآن ستة فرنكات وخمسة وسبعين سنتيمًا، وقد وعد الموسيو ده لسبس سنة ١٨٨٣ بأن يكون الحد الأدنى لرسم المرور خمسة فرنكات، فلا بُدَّ من خفضه إلى هذا الحد الموعود به «خصوصًا بعد فتح ترعة بناما»، بل ربما خفض إلى أدنى من هذا الحد، حتى إذا ما انتهت مدة امتياز الترعة جعلوها حرَّة، ولم يسمحوا بأخذ رسم مرور بها إلَّا بقدر ما يكفي للمحافظة عليها، فإذا صحَّ هذا القول ولم يكن لمصر إذ ذاك ما للشركة الآن من القوة لتمشية الرسم الذي توجبه، كان رفض الاقتراح موجبًا للأسف الشديد.

(٤) خليج السويس وموانيه

أمَّا خليج السويس الذي يحد سيناء الجنوبية من الغرب، فطوله من السويس إلى رأس محمد نحو ١٥٠ ميلًا، وعرضه من عشرة أميال إلى ثمانية عشر ميلًا، وأشهر موانيه على شاطئ سيناء مبتدئًا من الشمال:
  • ميناء عيون موسى: على ثمانية أميال من السويس، وفيه محجر صحي قديم.
  • وميناء ملعب: على نحو خمسين ميلًا من ميناء عيون موسى، وقد اتخذته حكومة مصر محجرًا للحجاج بضع سنين، ثم وجدته عرضة للرياح الشديدة، فنقلت المحجر منه إلى مدينة الطور.
  • وميناء أبو زنيمة: على نحو اثني عشر ميلًا من ميناء ملعب، سُمِّي كذلك باسم شيخ يُزار هناك يعرف بهذا الاسم، وقد كان في عهد الفراعنة ميناء معدني الفيروز في سرابيت الخادم، وفي هذا العهد ميناء معدني المنغنيس في وادي بعبعة.

    وبين هذا الميناء وسرابيت الخادم يومان بسير القوافل، تذهب الطريق من الميناء بوادي الطيِّبة، فوادي الحُمر، فرملة القُرَى، فوادي بعبعة، فوادي سوق، فالسرابيت.

    وقد قرر مجلس الصحة والكورنتينات في جلسة ٦ يناير سنة ١٩١٤ إنشاء محلة جديدة للحجر الصحي في هذا الميناء.

  • وميناء أبو رُديس: على نحو عشرة أميال من ميناء أبو زنيمة، وهو ميناء معدني الفيروز في وادي المغارة منذ عهد الفراعنة إلى اليوم، وبينه وبين وادي المغارة ١٥ ميلًا بوادي السدرة.
  • وميناء الطور: على نحو خمسة وخمسين ميلًا من أبو رديس، ومائة وخمسة وثلاثين ميلًا من السويس بشاطئ البحر، ومائة وخمسة وعشرين ميلًا بطريق البواخر، وهو أشهر مواني سيناء وأقدمها، وسيأتي ذكره في الكلام على مدينة الطور.
  • وميناء راية: على نحو خمسة أميال من الطور، وهو ميناء حسن، وله بئر عذبة المياه، وآثار تدل على أنه كان مأهولًا في القديم، وهناك قبر شيخ يزار يعرف باسمه.
  • وميناء جار: على نحو سبعة أميال من راية، وهنا أيضًا قبر شيخ يزار يُعرف بهذا الاسم.

(٥) خليج العقبة وجزره وموانيه

أمَّا خليج العقبة الذي يحد سيناء الجنوبية من الشرق، فطولهُ من رأس محمد إلى قلعة العقبة نحو مائة ميل، وعرضه من سبعة أميال إلى أربعة عشر ميلًا، وفيه ثلاث جزر:

fig3
شكل ١-٣: جزيرة فرعون.
  • جزيرة تيران: عند قاعدته تجاه رأس محمد، بينهما مضيق حرج لمرور المراكب، و«جزيرة سنافر» شرقيها، وكلتاهما قفر بلقع.
  • وجزيرة فرعون: عند رأس الخليج على ثمانية أميال من مدينة العقبة بحرًا، وهي جزيرة صغيرة محيطها نحو ألف متر، مؤلفة من أكمتين صغيرتين بينهما فرجة ضيقة، وبينها وبين بر سيناء نحو ٢٥٠ مترًا، وهي داخلة في حد سيناء.

    وعلى قمتي الأكمتين خرائب قلعة قديمة، لم يبقَ منها سوى صهاريج الماء، ومخازن الغلال والذخائر، ومنازل العساكر، وفي جدرانها المزاغل لضرب النار؛ ولذلك تُعرف عند البدو بالقلعة أو القُليعة أو القُرَيَّة، وهي الآن خراب لا ساكن فيها، وكان يحيط بها سور منيع له باب إلى جهة سيناء، وقد ذكر بعض السياح الإفرنج أنه مرَّ بالجزيرة في أواسط القرن الغابر، فرأى حجرًا فوق الباب عليه اسم باني القلعة وتاريخ بنائها، ولكن هذا الباب قد تهدم الآن، وتهدم السور إلى الأرض، إلَّا أنَّ ما يبدو من أساسه يدل على متانته، وقد فتشت عن الحجر التاريخي المشار إليه في الجزيرة كلها، فلم أقف له على أثر، ولكن عثر بعضهم بين خرائب القلعة على قطع من العملة النحاسية القديمة.

    وقد ظنَّ بعض السياح أنها عصيون جابر المذكورة في التوراة بقرب أيلة، ولكن خرائب قلعتها الحاضرة تدل على أنها أحدث جدًّا من ذلك العهد، والأرجح أنها من بناء صلاح الدين الأيوبي، وأنه بناها لمقاومة الصليبيين، وهي تشبه في بنائها قلعة لصلاح الدين في جوار عين سدر كما سيجيء، ويقال: إنَّ أرنولد ده شنتليون حصرها بالمراكب سنة ١١٨٢م، ثم هُجرت بعد ذلك بمائة سنة واكتُفي بقلعة العقبة.

  • وأمَّا رأس محمد: فهو تل صغير في رأس مثلث سيناء، علوه نحو ١٢٠ مترًا، وعلى نحو ٢٠ ميلًا منه شمالًا رأس النصراني.
وأشهر مواني هذا الخليج على شاطئ سيناء:
  • ميناء الشرم: بين رأس محمد ورأس النصراني، على نحو ثمانية أميال من الأول، واثني عشر ميلًا من الثاني، وفي هذا الميناء قبر شيخ يُزار يعرف بهذا الاسم.
  • وميناء النبك: على نحو عشرين ميلًا من ميناء الشرم، وهو أقرب فرضة إلى بر الحجاز، وتجاهه في ذلك البر ميناء الشيخ حُميد، بينهما سبعة أميال أو حواليها، ينتابه الآن تجار الإبل والغنم، وأكثرهم من عرب الحويطات المصريين، فيأتون بالإبل والغنم من بر الحجاز إلى النبك، ثم يخترقون برِّية سيناء إلى السويس، وسيأتي ذكر هذا الطريق تفصيلًا، وفي النبك آبار عذبة الماء وبستان نخيل، قيل وهناك خرائب دير بُني في صدر النصرانية، وبقربه خرائب قرية صغيرة أقدم منه.
  • وميناء ذهب: على نحو خمسة وعشرين ميلًا من النبك، وفي عرض شمالي ٢٨ ٢٨°، وهناك آبار ماء عذبة قديمة العهد، وثلاث جنان من النخيل، قيل وهناك أيضًا خرائب دير قديم، وأنَّ القدماء عدَّنوا الذهب في جواره، ومن ذلك اسمه.
  • وميناء النُّويبع: على نحو ثلاثين ميلًا من ميناء ذهب، وفيه آبار ماء، وحديقة متسعة من النخيل، وطابية صغيرة بنتها السردارية المصرية سنة ١٨٩٣م، وجعلت فيها نفرًا قليلًا من البوليس الهجانة، وألحقتها إداريًّا بمركز نِخل.

    وفي خليج العقبة المد والجذر كما في خليج السويس، وقد راقبناهما مدة إقامتنا في رأس خليج العقبة سنة ١٩٠٦، فكان الفرق بينهما ست أقدام.

fig4
شكل ١-٤: عمودا رفح قبل حادثة الحدود سنة ١٩٠٦.

(٦) الخط الشرقي

وأمَّا الخط الشرقي الذي جُعل الحد بين سيناء من جهة، وولاية الحجاز ومتصرفية القدس من جهة أخرى، فقد عُيِّن بالتدقيق في الاتفاق الذي عقد بين الحكومة الخديوية المصريَّة، وبين الدولة العلية سنة ١٩٠٦ كما سيجيء تفصيلًا، ولم يُعيِّن حد سيناء الشرقي من قبل بمثل هذا التدقيق في عصر من العصور، ولكن يستدل من مراجعة تاريخ مصر وسوريا، ومن التقاليد المحفوظة عند أهل الحدود إلى هذا اليوم، أنَّ رفح كانت في أكثر العصور الحد بين مصر وسوريا على البحر المتوسط، وأيَلة المعروفة الآن بالعقبة الحد بين مصر والحجاز على رأس خليج العقبة، وإليك البيان:

حد رفح

أمَّا رَفَح، فقد جرت فيها عدة وقائع حربية بين ملوك مصر وملوك آسيا، كأن ملوك مصر كانوا يقفون عند رفح للذبِّ عن حدهم، من ذلك مجيء سباقون ملك مصر إلى رفح سنة ٧١٥ق.م؛ لصد الآشوريين عن بلاد مصر، ومجيء بطليموس الرابع ملك مصر سنة ٣١٧ق.م؛ لرد أنطونيوس الكبير ملك سوريا عن مصر، كما سترى في باب التاريخ.

وفي أخبار فتح عمرو بن العاص لمصر سنة ١٨ﻫ/٦٣٩م: أنَّ عمر بن الخطاب ألحقهُ بكتاب وهو في الطريق، ففضه عمرو في العريش وتلاه على أصحابه، وهو:

… أمَّا بعد، فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأمَّا إذا أدركك وقد دخلتها أو شيئًا من أرضها، فامضِ واعلم أني ممدُّك، فالتفت عمرو إلى من حوله، وقال: أين نحن يا قوم؟ فقالوا: في العريش، فقال: وهل هي من أرض مصر أم الشام؟ فأجابوا: إنها من مصر، وقد مررنا بعمدان رفح أمس المساء، فقال: هلموا بنا إذن قيامًا بأمر الله وأمير المؤمنين.

والظاهر أنَّ حد مصر كان في زمن اليعقوبي الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة، وابن الفقيه الهمذاني الذي عاش في القرن الرابع للهجرة، في مكان يقال له «الشجرتين» قرب رفح، قال اليعقوبي في كتاب البلدان:

… ومن خرج من فلسطين مغرِّبًا يريد مصر خرج من الرملة، إلى مدينة غزة، ثم إلى رفح، وهي آخر أعمال الشام، ثم إلى موضع يقال له الشجرتين، وهي أول حد مصر، ثم إلى العريش، وهي أول مسالح مصر وأعمالها …

وقال الهمذاني:

وطول مصر من الشجرتين اللتين بين رفح والعريش إلى أسوان، وعرضها من برقة إلى أيلة، وهي مسيرة أربعين ليلة في أربعين ليلة.

وفي تقويم البلدان لأبي الفداء الذي تُوفي سنة ٧٢٣ﻫ/١٣٢٣م: «حد ديار مصر الشمالي بحر الروم من رفح العريش، ممتدًّا على الجفار إلى الفرما، إلى الطينة، إلى دمياط، إلى ساحل رشيد، إلى الإسكندرية، إلى ما بين الإسكندرية وبرقة. والحد الغربي مما بين الإسكندرية وبرقة على الساحل، آخذًا جنوبًا إلى ظهر الواحات إلى حدود النوبة، والحد الجنوبي من حدود النوبة المذكورة آخذًا شرقًا إلى أسوان، إلى بحر القلزم، والحد الشرقي من بحر القلزم المذكور قبالة أسوان إلى عيذاب، إلى القُصَير، إلى القلزم — السويس — إلى تيه بني إسرائيل، ثم ينعطف شمالًا إلى بحر الروم، إلى رفع العريش حيث ابتدأنا.»

وجاء في تاريخ مصر الحديث بالفرنساويَّة للموسيو «أمادي ريم» عند ذكره زحف نابليون على سوريا بطريق العريش ما ترجمته:

فاستأنف الجيش السير في ٢٤ فبراير سنة ١٧٩٩م، وفي الطريق حيَّا العُمُد المشيدة في الصحراء؛ لتعيين الحد بين أفريقيا وآسيا حتى وصل خان يونس. ا.ﻫ.

وهو يعني عُمُد رفح؛ لأنه ليس في الطريق قبل خان يونس عُمُد غيرها.

وجاء في أسفار المستر «وليم وِتمن» الذي رافق الحملة العثمانية إلى العريش سنة ١٨٠١ ما ترجمته: «وفي ٢٩ مارس سنة ١٨٠١، خرجنا من خان يونس قاصدين العريش، وبعد مسيرة نحو ساعتين وصلنا الحدود التي تفصل آسيا عن أفريقيا، وهناك استرحنا قليلًا عند بئر، ثم واصلنا السير، فمررنا بين عمودين من الغرانيت المصري، قيل إنهما أقيما هناك لتعيين الحد بين القارتين» ا.ﻫ (وهو يعني بئر رفح وعمودي الحدود).

وفي سنة ١٨٦٩م نشر محمد قدري بك كتابًا في تاريخ مصر وجغرافيتها، ثم نشر محمد أمين فكري بك جغرافيته سنة ١٨٧٩م، فأثبتا حد مصر عن أبي الفداء، والمشهور أنَّ إسماعيل باشا الخديوي الأسبق زار رفح في أوائل ملكه، فرأى عمودين من الغرانيت قائمين تحت سدرة قديمة، ومعروفين أنهما الحد بين مصر وسوريا، فأقرَّ ذلك.

وزار عباس باشا حلمي الثاني خديوي مصر الحالي عمودي رفح سنة ١٨٩٨، فأمر فنُقِش على العمود الذي إلى جهة مصر تاريخ زيارته للحدود كما سيجيء. ولما ذهبتُ إلى الحدود سنة ١٩٠٦ صرَّح لي بدو تلك الجهات أنهم منذ نشأتهم يرون هذين العمودين، ويعلمون أنهما الحد بين مصر وسوريا، وأنهم ورثوا هذا العلم عن الآباء والأجداد. ولعل ما أوجب أن تكون رفح الحد بين مصر وسوريا موقعها الطبيعي؛ فهناك يقل المطر، وينتهي الخصب، ويبدأ رمل الجِفار الذي يمتد إلى الدلتا.

حد أيلة

وأمَّا أيَلة، فقد جاء في كتاب أحسن التقاويم في معرفة الأقاليم، لشمس الدين المقدسي المعروف بالبشاري الذي عاش سنة ٣٧٥ﻫ/٩٨٥م: «وفي أيلة تنازع بين الشاميين والمصريين والحجازيين، وإضافتها إلى الشام أصوب؛ لأن رسومهم وأرطالهم شاميَّة.» وحسبها الهمذاني آخر حد مصر من جهة الغرب كما مر. واستولى الصليبيون على أيلة، فخرج صلاح الدين الأيوبي من مصر سنة ٦٦٥ﻫ/١٢٦٦م، فاسترجعها منهم، وجعل فيها حامية من رجاله، وما زالت عساكر مصر تحمي أيلة، ثم العقبة خليفتها إلى أن تسلمتها الدولة العلية من مصر سنة ١٨٩٢م كما سيجيء، وقال أبو الفداء في الكلام عن أيلة: «وهي في زماننا برج وبه والٍ من مصر»، وذكرها المقريزي الذي عاش في القرن التاسع للهجرة فقال: «وأيلة أول حد الحجاز، وكانت حد مملكة الروم في الزمن الغابر»، وقال صاحب كتاب درر الفرائد المنظمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظمة الذي زار مكة بطريق أيلة سنة ٩٥٥ﻫ/١٥٤٨م: «وأيلة آخر حد مصر وأول الحجاز.»

وخلاصة ما تقدم أنَّ التاريخ يدل على أنَّ رفح أو شجرتين في ضواحيها، هي أول حد مصر الشرقي من جهة البحر المتوسط، وأيلة المعروفة الآن بالعقبة كانت تعتبر تارة في الحجاز، وتارة في مصر، ولكنها كانت في أغلب الأحيان تابعة لمصر، أمَّا اللجنة التي نُدِبت لتعيين الحدود سنة ١٩٠٦، فقد أبقت على رفح الحد بين مصر وسوريا، ولكنها ألحقت أيلة بالحجاز، وجعلت رأس وادي طابا قرب جزيرة فرعون الحد بين الحجاز وسيناء، كما سيجيء مفصَّلًا.

هذا وطول الخط الفاصل من رأس طابا إلى رفح نحو ١٥٠ ميلًا، فيكون محيط شبه جزيرة سيناء نحو ٦٣٠ ميلًا كما يأتي:

ميل
٦٣٠ المجموع
١٣٠ البحر المتوسط من رفح إلى بور سعيد بطريق الشاطئ
١٠٠ ترعة السويس
١٥٠ خليج السويس
١٠٠ خليج العقبة
١٥٠ الخط الفاصل الشرقي

وطول الجزيرة من البحر المتوسط إلى رأس محمد نحو ٢٣٠ ميلًا، وعرضها من السويس إلى رأس طابا نحو ١٥٠ ميلًا، ومساحتها بوجه التقريب ٢٥ ألف ميل مربع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤