الفصل الثاني

في تاريخ سيناء مدة تغرب بني إسرائيل فيها

مع ذكر تاريخ بني إسرائيل منذ نشأتهم إلى دخولهم أرض الميعاد (من سنة ١٩٢١ إلى ١٤٥٠ق.م)

إن أهم أنباء هذه البلاد قديمًا تغرب بني إسرائيل فيها مدة أربعين سنة على ما نراه مفصلًا في أسفار موسى الخمسة، وخلاصته:

أنه بعد الطوفان ببرهة من الزمان عزم نسل نوح على بناء برج بابل، فبلبل الله ألسنتهم حتى لم يعد أحدهم يفهم لغة الآخر، فتبددوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فشاء الله أن يختار له شعبًا يحفظ به الدين الحقيقي، فدعا إبراهيم من أور الكلدنيين (أم قير)، وأمره بترك بلاده والذهاب إلى أرض كنعان (فلسطين) ونشر الدين الحقيقي فيها، ووعده بتكثير نسله ومجيء المسيح من ذريته.

وكانت دعوة إبراهيم في نحو سنة ١٩٢١ق.م؛ فسار إلى أرض كنعان ومعه امرأته ولوط ابن أخيه وحاشيته وخدمه ومواشيه (مارًّا بدمشق الشام في الأرجح)، حتى أتى شكيم المعروفة الآن بنابلس، وهي من أهم مدن أرض كنعان، وهناك تجلى له الرب وجدد وعده له بأن تكون هذه الأرض لنسله.

وفي نحو سنة ١٩٢٠ق.م حصل قحط في أرض كنعان، فشخص إبراهيم إلى مصر وأقام فيها نحو سنة، ثم عاد إلى أرض كنعان، فسكن جهة حبرون المعروفة الآن بالخليل، وهناك ظهر له الرب في الرؤيا، ووعده بأن يعطي نسله الأرض بعد أن يُستعبدوا في أرض غريبة ٤٠٠ سنة، وأن الأرض التي يعطيهم إياها تمتد من نيل مصر إلى نهر الفرات (تك ص١٥)، وعاش إبراهيم بالعز والمنعة إلى أن مات سنة ١٨٢٠ق.م وهو ابن ١٧٥ سنة، ودفن في حبرون في مغارة مكفيلة، وقبره ظاهر إلى اليوم.

وكان لإبراهيم زوجة تدعى سارة توفيت قبله، وجارية تدعى هاجر، فولدت الجارية ولدًا سمَّته إسماعيل، وكان أبًا للعرب، وأمَّا سارة فلم تلد ولدًا حتى بلغ عمر إبراهيم المائة سنة، فولدت إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب الملقب إسرائيل، وخلَّف يعقوب اثني عشر ولدًا صاروا رؤساء أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وكان يوسف أحد أولاد يعقوب أنجب إخوته وأحبهم لدى أبيه، فحسده إخوته وأبغضوه وباعوه للإسماعيليين سنة ١٧٢٨ق.م، فأنزله هؤلاء إلى مصر وباعوه عبدًا، فدخل في خدمة فرعون ملك مصر، ولم يمكث إلَّا القليل حتى بدا من نجابته وسمو مداركه وحسن تدبيره ما رفعه في عين فرعون؛ فرقَّاه إلى منصب الوزارة.

وحدث في تلك الأثناء جوع في أرض كنعان، فجاء يعقوب وأولاده إلى مصر فرارًا من الجوع، فعرف بهم يوسف وعرفهم بنفسه، وأنزلهم على الرحب والسعة، وأسكنهم أرض جاسان (في أطراف المديرية الشرقية)، وكان عدد ذكورهم سبعين، فأقاموا بمصر على معيشتهم البدوية وعبادة الإله الحق، فنموا وتكاثروا وعاشوا أجيالًا وليس ما يكدر صفاءهم حتى مات يعقوب ويوسف، «وقام على مصر ملك لا يعرف يوسف»، فظلم الإسرائيليين وأذلهم، وأمر بإلقاء كل مولود ذكر لهم في النيل قصد إبادتهم.

وفي هذه الأثناء ولد موسى (سنة ١٥٧١ق.م) فخبأته أمه ثلاثة أشهر، ولما لم يعد يمكنها إخفاؤه عن أعين الرقباء صنعت له سفطًا من البردي جعلته فيه، ووضعته على شاطئ النيل في طريق ابنة فرعون، فلما رأته ابنة فرعون رقَّت له وأخذته إلى منزلها، وأحضرت له أمه لترضعه؛ فنشأ ربيبًا لها مصري التربية إسرائيلي العواطف، فرأى ذات يوم مصريًّا يضرب إسرائيليًّا فهاج الدم في رأسه، فضرب المصري فأصابت الضربة مقتلًا؛ ففرَّ إلى أرض مدين، وكان له من العمر أربعون سنة، وهناك تزوج بنت يثرون كاهن مدين، وأقام مع حميه أربعين سنة، وفيما هو يرعى غنم حميه عند جبل سيناء ظهر له الرب في عليقة مشتعلة، وأمره بالذهاب إلى مصر لإنقاذ بني إسرائيل من الذل، وقد حضر له أخوه هارون إلى جبل حوريب بأمر الرب، فسارا معًا وطلبا من فرعون ملك مصر الإذن في إخراج بني إسرائيل من أرضه فأبى، فضرب الله مصر عشر ضربات حتى أذن فرعون للإسرائيليين في الخروج من بلاده، فخرجوا في سنة ١٤٩١ق.م وساروا من مدينة رعمسيس إلى سكوت فإيثام ففم الحيروث على بحر سوف (البحر الأحمر)، ثم ندم فرعون على إطلاقهم فسار بخيله ورجله ومركباته وراءهم «فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشق الماء فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون، فرجع الماء وغطَّى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون … ولم يبقَ منهم ولا واحد» (خر ١٤: ٢١).

وأنشد بنو إسرائيل لنجاتهم بهذه الأعجوبة أنشودة بتسبيح الله (خر ص١٥) تعدُّ من أبدع آثار الشعر العبراني القديم، وساروا في برية شور ثلاثة أيام حتى وصلوا ماءً يُدعى «مارَّة» وكان الماء مرًّا، فتذمر الإسرائيليون على موسى، فأراه الرب شجرة فطرحها بالماء فصار عذبًا، ثم جاءوا إلى «إيليم» فوجدوا فيها ١٢ عينًا و٧٠ نخلة، ثم إلى برية «سين» بين إيليم وسيناء، حيث أنزل الله عليهم المن والسلوى طعامًا، أمَّا المن فقد كان طعامهم إلى أن دخلوا أرض الموعد، وأمَّا طائر السلوى فقد أُنزل عليهم أيضًا في حضيروت، ثم ارتحلوا إلى «دفقه»، فألوش، فرفيديم.

وكان يسكن تلك البريَّة العمالقة فوقفوا في طريق الإسرائيليين ومنعوهم الماء، فعطشوا وتذمروا على موسى، فضرب الصخرة بأمر الرب فانفجرت منها المياه وشربوا.

وأمر موسى كبير قواده يشوع بن نون، فانتقى الأشداء من قومه وحارب العمالقة، وصعد موسى إلى تلة تشرف على محل الواقعة ويداه مرتفعتان إلى السماء يدعو بنصر قومه على الأعداء؛ فنصرهم الله وامتلكوا الماء.

وفي الشهر الثالث من خروجهم من مصر ارتحلوا من رفيديم، وجاءوا برية سيناء مقابل الجبل، وهناك أنزل الله على موسى الوصايا العشر المدرجة في سفر الخروج ص٢٠، القاضية بوحدة الله والجامعة لأسس الآداب، ثم أنزل عليه الشرائع السياسية ثم الطقسية التي لا تزال أساسًا لأحكام الإسرائيليين إلى هذا العهد.

وفي اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر، أي سنة ١٤٩٠، أقام موسى بأمر الرب خيمة الشهادة أو خيمة الاجتماع المار ذكرها.

وبعد أن أقام موسى في ذلك الجبل سنة إلَّا بضعة أيام خرج بقومه قاصدًا أرض الموعد، فساروا بطريق حُضَيروت، فعصيون جابر … فبرية صين وهي قادش.

ومن هناك أرسل موسى رجلًا من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثني عشر، وفيهم يشوع بن نون من سبط إفرايم، وكالب بن يَفُنَّة من سبط يهوذا، فذهبوا وتجسسوا الأرض إلى «مدخل حماة» وعادوا إلى قومهم في قادش وقالوا: «حقًّا إن الأرض تفيض لبنًا وعسلًا، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتزٌّ، والمدن حصينة عظيمة، يسكنها العمالقة في الجنوب، والحثيون واليبوسيون والأموريون في الجبل، والكنعانيون على البحر وجانب الأردن، وليس لنا طاقة على حربهم»، أمَّا يشوع بن نون وكالب بن يفنة فإنهما قالا: لا، بل في طاقتنا حربهم، فمال الشعب لقول الأكثرية وجبنوا عن التقدم، وكان الرب قد أمرهم بالتقدم فغضب عليهم وقضى بتيههم في البرية إلى تمام الأربعين سنة من خروجهم من مصر حتى يموت كل ذلك الجيل ما عدا كالب ويشوع.

وفي نهاية الأربعين سنة أرسل موسى رسلًا من قادش إلى ملك أدوم يستأذنه في المرور بأرضه قائلًا «إذا شربنا أنا ومواشيَّ من مائك أدفع ثمنه … أمرُّ برجلي فقط. فقال: لا تمر»، ونهى الرب بني إسرائيل عن حربه فتحولوا عنه، وارتحلوا من قادش إلى جبل هور في طرف أرض أدوم، وهناك مات هارون ودفن سنة ١٤٥٢ق.م.

ثم ارتحلوا من جبل هور في طريق بحر سوف، فساروا بوادي العربة إلى أيلة وعصيون جابر، وساروا في شرق بلاد أدوم حتى وصلوا أرض مواب، وقطعوا نهر أرنون إلى بلاد الأموريين، فسألوا ملكهم سيحون المرور بأرضه فأبى وخرج لمحاربتهم فهزموا جيشه وقتلوه واستولوا على أرضه، ثم تقدموا شمالًا إلى أرض باشان وتمتد إلى جبال حرمون، وكان يسكنها بنو عمون وعليهم ملك يدعى عوج فضربوه وأخذوا أرضه، وبذلك استولى الإسرائيليون على جميع البلاد الواقعة في شرقي الأردن والبحر الميت (بحر لوط) من نهر أرنون جنوبًا إلى جبل حرمون شمالًا، فأقطعها موسى سبطي رأوبين وجاد ونصف سبط منسي، ثم صعد إلى جبل نبو حيث كان معبد آلهة مواب، ورأى منه أرض الميعاد، وهناك مات «ودفنه الله ولم يعرف أحد قبره»، وكانت وفاته سنة ١٤٥١ق.م عن ١٢٠ عامًا.

«يشوع بن نون» وخلف موسى على قيادة الإسرائيليين يشوع بن نون، فعبر بقومه الأردن إلى أرض كنعان سنة ١٤٥٠ق.م، وفتحها بعد حرب عوان، ووزعها على سائر أسباط بني إسرائيل، فتمَّ لهم بذلك وعد الرب. ا.ﻫ.

هذه هي خلاصة ما جاء في أسفار موسى الخمسة وسفر يشوع عن أصل بني إسرائيل وتغربهم في مصر، وعن تيههم في جزيرة سيناء إلى أن دخلوا أرض الميعاد، فأسسوا فيها مشيخة ثم ملكًا، وامتدت مملكتهم من جبال لبنان إلى وادي العريش شمالًا وجنوبًا ومن صحراء بلاد العرب إلى سواحل البحر المتوسط شرقًا وغربًا، فكان طولها نحو ١٥٠ ميلًا وعرضها نحو ٥٠ ميلًا، وكان لهم شأن مع مصر في كل العصور إلى أن دالت دولتهم وتشتتوا في الأرض كما سنبينه بالتفصيل، وقد عُرِفوا قديمًا في سوريا «بالعبرانيين» قيل لأنهم أتوا من عبر الفرات، ثم عرفوا باليهود نسبة إلى مملكة يهوذا الآتي ذكرها وهو الاسم المعروفون به الآن.

(١) مباحث الخروج

ولنعد إلى الخروج، فإن هذا الحادث العجيب على عظم أهميته لا نعلم عنه شيئًا صريحًا إلَّا عن طريق التوراة والقرآن، ولم يُعثر بعد على أثر من الآثار المصرية أو السورية يشير إليه صريحًا، ويُرجَّح عدم وجود أثر له في مصر؛ لأن ملوكها لم يحيوا من الحوادث إلَّا ما خلَّد لهم من الفخر وطيب الذكر، لا الخيبة والفشل كحادث الخروج.

هذا وقد باد سكان سيناء الأصليون، وبادت لغتهم، وتغيرت أسماء الأمكنة التي مرَّ بها الإسرائيليون عند اختراقهم سيناء؛ حتى إنه لم يكد يبقى مكان معروف باسمه القديم؛ لذلك اختلف الباحثون في تفاصيل خبر الخروج: في الملك الذي خرج الإسرائيليون في عهده، والمكان الذي خرجوا منه من مصر، والمكان الذي عبروا منه البحر الأحمر، والطريق التي ساروا بها في سيناء، والمكان الذي حاربهم فيه العمالقة، والجبل الذي نزلت عليه الشريعة، والبلاد التي تاه بها الإسرائيليون، وعدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر، وحقيقة المن والسلوى، وغير ذلك من مباحث الخروج.

ولعلماء التوراة والمؤرخين المحققين في هذه المباحث آراء شتى وتخمينات كثيرة، ألمعنا إلى بعضها في باب الجغرافية، وأظهر تلك الآراء:

أن الإسرائيليين خرجوا من مصر في عهد منفتاح بن رعمسيس الثاني، من ملوك الدولة التاسعة عشرة، وأن مدينة رعمسيس التي خرجوا منها هي الخرائب المعروفة الآن بتل المسخوطة في مديرية الشرقية، وأنهم عبروا البحر الأحمر بالقرب من مدينة السويس، وأن شق البحر الأحمر بريح عاصفة عند عبور بني إسرائيل ورجوعه عند مرور مركبات فرعون يُعللان بالمد والجزر المشاهدين إلى الآن في رأس البحر الأحمر، وأنهم بعد دخولهم سيناء ساروا «بطريق البتراء» فأتوا عيون موسى فعين الهوَّارة «مارَّة»، فعين غرندل «إيليم»، فسهل المرخا «برية سين»، فوادي فيران «رفيديم»، وأن العمالقة حاربوهم في هذا الوادي قرب العين في المكان المعروف الآن «بحصى الخطاطين»، وأنهم ساروا من هذا الوادي إلى جبل موسى، وأن جبل الصفصافة هو الجبل الذي وقف عليه موسى لتلقي الوصايا العشر، وأن سهل الراحة تجاهه هو السهل الذي وقف فيه الإسرائيليون وتلقوا الشريعة من فم موسى، وأنهم بعد أن قضوا نحو سنة عند جبل موسى عادوا إلى طريق البتراء، فمرُّوا بعين حُدْرة «حضيروت»، وهبطوا شاطئ خليج العقبة عند النويبع، وساروا إلى عصيون جابر وأيلة على رأس الخليج، ومن هناك ساروا بوادي العرب «أو بوادي طابا أو بوادي العين» إلى أن أتوا وادي الجرافي، ثم ساروا منه شمالًا إلى برية عين قديس فقضوا فيها بقية الأربعين سنة، ثم عادوا إلى عصيون جابر وأيلة وداروا حول بلاد أدوم من الشرق، فذهبوا بوادي اليُتم إلى أن أتوا طريق دمشق الشام، فساروا فيها إلى شرق الأردن، ثم عبروا هذا النهر إلى أرض الميعاد، وإن المن الذي كان طعامهم كل مدة تغربهم في سيناء، ليس صمغ الطرفاء الذي قال به البعض؛ لأن هذا لا يظهر إلَّا عند اشتداد الحر في شهري يونيو ويوليو، وكلُّ ما يمكن جمعه منه في السنة لا يكفي شخصًا واحدًا ستة أشهر، بل هو حب عجيب كان ينزل لهم مع الندى، ويقول الكتاب: إنه «كبزر الكزبرة، أبيض وطعمه كرقاق بعسل»، وأن طائر السلوى الذي نزل عليهم في برية سين ثم في عين حضيروت هو طائر السمان أو طائر الجراد.

وقد نشر الإفرنج عدة كتب في هذه المباحث كلها، ومن أنفَسها وأحدثها كتاب «من النيل إلى نبو» للعلَّامة الدكتور هسكنز من كبار المرسلين الأميركان في بيروت، نشره في أميركا سنة ١٩١١، وبسط فيه آراءه وأهم آراء الباحثين في جميع المواضيع المشار إليها، ولست أقصد في كتابي هذا بسط تلك الآراء وإبداء رأيٍ فيها كلها؛ لأنه لا يسع الكاتب أن يبدي رأيًا مسموعًا في مثل هذه المباحث الهامة الغامضة، إلَّا إذا سار في طريق الخروج من أولها إلى آخرها، وكان له الإلمام التام بجغرافية مصر وتاريخها القديم والحديث، وفي تاريخ الكتاب المقدس وتفسيره كالدكتور هسكنز، ولكن لما كان موضوع كتابي هذا يقضي عليَّ بطرق هذه المواضيع، وكنت قد زرت أكثر الأمكنة الواقع الخلاف عليها لم أرَ بدًّا من إلقاء دلوي في الدلاء وأن أقول كلمتي في الأمور الآتية، وهي:
  • (١)

    طريق موسى أو طريق الإسرائيليين في سيناء.

  • (٢)

    عدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر بطريق سيناء.

  • (٣)

    الجبل الذي نزلت عليه الوصايا العشر.

  • (٤)

    البلاد التي تاه بها بنو إسرائيل.

(١-١) طريق موسى

أمَّا «بشأن طريق الإسرائيليين في سيناء» فقد بينت في باب الطرق أن لسوريا وبلاد العرب من مصر سبع طرق لا ثامن لها، وهي من الشمال: طريق الفرما، وطريق العريش، والدرب المصري، ودرب الحج المصري، ودرب الشعوي، وطريق النبك، وطريق البتراء، وأنه لم يكن في عهد موسى إلَّا طريقان مشهورتان وهما طريق الفرما وطريق البتراء، وأمَّا سائر الطرق فإنها كلها أو أكثرها طرق مستحدثة أنشئت أو اشتهرت بعد الخروج بأزمان، بل لو وجدت في زمن موسى ما اختار واحدة منها لصعوبتها وقلة مياهها، ثم لو خُيِّر موسى في ذلك العهد بين طريق الفرما وطريق البتراء ولم يكن ثمت محذور في اتباع أحد الطريقين لاختار طريق الفرما بلا تردُّد؛ لأنها أخصرهما وأسهلهما، ولكن طريق الفرما كانت محمية بحصون المصريين من جهة، ومؤدية إلى بلاد الفلسطينيين الأشداء الممالئين للمصريين من جهة أخرى، هذا وفي سفر الخروج ص١ عدد ١٣: ١٨، نص صريح على السبب الذي أوجب ترك طريق الفرما، وهو:

وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة؛ لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربًا ويرجعوا إلى مصر؛ فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف» ا.ﻫ. (وهي طريق البتراء المتقدم وصفها.)

ولكن مع وجود هذا النص الصريح في التوراة وشهادة الطبيعة والتاريخ أنه لم يكن لسوريا في ذلك العهد غير الطريقين المذكورتين، وانطباق طريق البتراء على رواية التوراة، فإنك ترى جماعة من علماء التوراة يرتابون في كون طريق الإسرائيليين هي طريق البتراء وظن البعض أنها درب الحج المصري.

على أن القائلين بهذا الرأي لا يعرفون سيناء إلَّا على الخارطة، ولو أتوها وجالوا في طرقاتها والتوراة في أيديهم لم يروا أمامهم إلى رأيًا من رأيين: إمَّا لا خروج البتة، وإمَّا خروج بطريق البتراء!

(١-٢) عدد الإسرائيليين

وأمَّا «عدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى» فظاهر عبارة الكتاب أنهم كانوا «ستمائة ألف ماشٍ من الرجال ما عدا الأولاد» (خر١٢: ٣٧)، وإذا حسبنا النساء والأولاد كان عددهم نحو ثلاثة ملايين نفس ما عدا البهائم، وليس في قواد البشر قائد يستطيع جمع جيش هذا مقداره والفرار به من وجه ملك قويٍّ شديد البطش كفرعون مصر، وإن وُجد هذا القائد فإنه يستحيل عليه أن يعدَّ لجيش كهذا الماء والزاد والركائب في برية مجدبة كبرية سيناء كانت منذ الخليقة ولا تزال إلى اليوم قليلة المياه قليلة النبت والزرع والضرع والسكان، وقد تقدم لنا أن سكان سيناء من حضر وبادية لا يزيد عددهم عن خمسين ألف نسمة، وأن سكان بلاد الطور التي اخترقها الإسرائيليون لا يزيدون عن أحد عشر ألف نسمة، ولا نعلم أن عدد سكان سيناء في أي عصر من عصور التاريخ يزيد كثيرًا عما هو الآن، ولا أن طبيعة جوِّ سيناء كانت غير ما هي الآن.

إذن يستحيل تسيير جيش هذا مقداره في برية سيناء إلَّا بتقدير سلسلة متصلة من العجائب الإلهية كل مدة بقائهم في سيناء، وهذا مما لا تتطلبه رواية الكتاب.

وفوق ذلك فإننا نرى من رواية الكتاب أن العمالقة عند محاربتهم الإسرائيليين في رفيديم وقفوا في وجههم النهار بطوله إلى مغيب الشمس، وقد قدمنا أن سكان بلاد الطور ما كانوا في عصر من العصور أكثر كثيرًا من ١١ ألف نسمة أو نحو ٣٠٠٠ مقاتل، فلو كان عدد مقاتلة الإسرائيليين ستمائة ألف كما هو ظاهر عبارة الكتاب ما أمكن العمالقة الوقوف في وجههم كل تلك المدة، بل ما كانوا وقفوا في وجههم البتة.

وعليه فلا بدَّ أن يكون المراد من عبارة الكتاب غير ظاهرها، وهذا هو رأي أكثر المحققين الذين درسوا الموضوع في أرضه، ومن هؤلاء العلامة بتري المار ذكره، وقد أتى في كتابه «مباحث في سيناء» على تفسير لهذا المعمَّى فقال: إن لفظة «ألف» تطلق في التوراة على العدد المعروف كما تطلق على عائلة أو خيمة.

وتناول هذا التفسير هسكنز في كتابه المشار إليه آنفًا، فأتى بعدة أدلَّة من الكتاب على صحة رأي بتري في كلمة ألف، ثم طبَّق رواية التوراة عليه؛ فكان عدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر نحو «مائة ألف نسمة»، وهذا العدد أيضًا في رأيي أكثر مما تتحمله حال سيناء وتقتضيه رواية التوراة، وعليه فلا بدَّ لعلماء التوراة من استئناف البحث في هذا الموضوع وإيجاد تفسير جديد للأرقام الواردة في الكتاب يحلُّ هذا المعمى تمام الحل حتى لا يزيد عدد الإسرائيليين الذين اجتازوا سيناء عن ستة آلاف مقاتل أو عشرين ألف نسمة على أعظم تقدير، والله أعلم.

(١-٣) جبل الشريعة

أمَّا «بشأن الجبل الذي نزلت عليه الشريعة» فقد انقسم الباحثون فيه إلى فريقين: فريق يقول: إنه جبل سربال، وفريق إنه جبل الصفصافة أحد قمم جبل موسى، ولكل لمن الفريقين أدلة وبراهين يؤيد بها رأيه، على أن المنتصرين لسربال لم يأتوا لنا إلى الآن في كل ما كتبوه بتفسير معقول لما جاء في سفر الخروج (ص١٩ عدد ١: ١٢) وهذا هو بنصه:

في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، في ذلك اليوم جاءوا إلى برية سيناء، ارتحلوا من رفيديم إلى برية سيناء فنزلوا في البرية. هناك نزل إسرائيل مقابل الجبل، فقال الرب لموسى ها أنا آتٍ إليك في ظلام السحاب لكي يسمع الشعب حينما أتكلم معك، اذهب إلى الشعب وقدِّسهم اليوم وغدًا، وليغسلوا ثيابهم، ويكونوا مستعدين لليوم الثالث؛ لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء، وتقيم للشعب حدودًا من كل ناحية قائلًا: احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل أو تمسوا طرفه، كل من يمس الجبل يُقتل قتلًا …

فهذا النص نص يخصُّ جبل الشريعة بثلاث حالات: الأولى أنه يطلُّ على برية أو سهل يسع جمهور الإسرائيليين، والثانية أنه قائم كسور على ذلك السهل حتى يمكن الواقف في السهل أن يمسَّه بيده، والثالثة أن كل من في السهل يستطيع أن يرى مَن على رأس الجبل ويسمع صوته، وهذه الحالات الثلاث ليست في جبل سربال، وهي متوافرة كل التوافر في جبل الصفصافة.

أمَّا جبل سربال فإنه فضلًا عن كونه متحدرًا تحدرًا عظيمًا، ورأسه يبعد عن سفحه بعدًا سحيقًا، ليس في سفحه سهل كبير أو صغير (انظر شكل ٣-٣ الجزء الأول: في جغرافية سيناء الطبيعيَّة، الفصل الثالث: في جبالها).

وأمَّا جبل الصفصافة فإنه قائم كسور على سهل الراحة، ولا يعلو عنه سنة ١٧٦٠ قدمًا، ومساحة ذلك السهل ميل مربع أو يزيد كما قدمنا (انظر شكل ٣-٢ الجزء الأول: في جغرافية سيناء الطبيعيَّة، الفصل الثالث: في جبالها).

وفوق ذلك فإن أنصار «سربال» لا يمكنهم تعيين المكان الذي عسكر فيه جيش إسرائيل مدة السنة التي أقاموها في جبل سيناء، سواء كان ذلك الجيش ثلاثة ملايين نفس أو مائة ألف نفس أو عشرين ألف نفس، فقد قدمنا أنه ليس في سفح جبل سربال سهل كبير أو صغير، وليس هناك إلَّا وادي فيران وفرعه وادي عليات الآتي من جبل سربال، وكلا الواديين ضيق حتى إنه ليصعب إيجاد ساحة لعشر خيام منصوبة بعضها بجانب بعض فضلًا عن آلاف الخيام التي لزمت جيش إسرائيل، زِد عليه أن وادي فيران عند النبع لا يصلح للسكنى؛ ليس لضيقه فقط بل لكثرة بعوضه، وقد رأيت أن الحماضة سكان فيران الأصليين كانوا يرحلون ليلًا من عند النبع إلى رجامات البيض على نحو ٣ ساعات غربًا هربًا من البعوض والحمَّيات، ثم إن بدو هذه الأيام الذين يجتمعون في الواحة في موسم البلح يتركون إبلهم وأغنامهم خارجًا عن الواحة، فيمكثون ريثما يجنون الثمر ثم يرحلون عنها، فلا يبقى فيها إلَّا أفراد قليلون من سكانها الأصليين يذكِّرون نخيلها ويزرعون القليل الصالح للزرع من أرضها، ثم إن النسَّاك الذين سكنوا هذا الوادي في صدر النصرانية اتخذوا المغاور ورءوس الجبال سكنًا لهم، وجعلوا كنائسهم على رءوس التلال لعدم صلاحية الوادي للسكنى خصوصًا في الشتاء، فإن الوادي لشدة ضيقه يخنقه السيل ويرتفع الماء فيه إلى حدٍّ عالٍ عن جانبيه.

هذا والمفهوم من عبارة التوراة المتقدم ذكرها أن الإسرائيليين قطعوا المسافة من رفيديم إلى جبل سيناء في مرحلة واحدة؛ فحار الفريقان أنصار سربال وأنصار جبل موسى في تعليل ذلك؛ إذ المسافة من عين فيران إلى سفح سربال لا تزيد عن خمسة أميال ومنها إلى جبل موسى نحو ٣٠ ميلًا بطريق نقب الهاوية و٣٧ ميلًا بطريق الوطية، فهي إذن أقل من مرحلة إلى جبل سربال، وأكثر من مرحلة إلى جبل سيناء، على أن لأنصار جبل موسى مخرجًا من هذه الحيرة، فقد قدَّمنا في باب الجغرافية أن هذا الوادي المعروف الآن باسمين: «وادي الشيخ» من منشئه من جبل موسى إلى بويب فيران، «ووادي فيران» من البويب إلى مصبه في البحر الأحمر، لم يكن معروفًا في القديم إلَّا باسم واحد وهو رفيديم، وأن القسم الأعلى منه لم يسمَّ بوادي الشيخ إلَّا بعد دفن الشيخ صالح عليه بعد الخروج بأزمان، فقول الكتاب: إن الإسرائيليين رحلوا من رفيديم لا يوجب أنهم كانوا كلهم مجتمعين عند عين فيران حين ارتحالهم فضلًا عن أنه ليس هناك محل يسعهم كما مرَّ، فلا بدَّ أنهم كانوا منتشرين من العين صعدًا في الوادي في القسم المعروف الآن بوادي الشيخ، وأن مقدمتهم لم تكن أبعد من مرحلة عن جبل موسى، والله أعلم.

وفوق ذلك كله فإن جبل الصفصافة بما له من الضواحي ينطبق على رواية التوراة كل الانطباق، فعلى هذا الجبل وقف موسى لتلقي الوصايا العشر، وفي السهل غربيه وقف الإسرائيليون لتلقي تلك الوصايا، وعلى الجبل شرقي الدير المعروف الآن بجبل المناجاة الذي يطل على سهل الراحة جعل موسى خيمة الشهادة، وعلى التل الذي في طرف السهل الشمالي الشرقي (حيث مقام النبي هارون الآن) عَبَدَ الإسرائيليون العجل الذهبي الذي صنعه لهم هارون في غياب موسى في رأس الجبل (خر ٣٢)، وأمَّا الجبل المعروف الآن بجبل موسى، فهو الجبل الذي كان يختلي به موسى عن شعبه.

وقد طرق الدكتور هسكنز في كتابه المشار إليه هذا البحث فكان من أنصار جبل الصفصافة، ولكنه أراد التوفيق بين القائلين بجبل الصفصافة والقائلين بجبل سربال، فأتى برأي جديد غريب في بابه وهو أن معظم الإسرائيليين عسكروا في سفح جبل سربال وكبار الإسرائيليين ومعهم خيمة الشهادة في سفح جبل الصفصافة، وأن الذين شهدوا موسى على جبل الشريعة هم الفريق الذي كان عند جبل الصفصافة لا الإسرائيليون كلهم، والذي حمله على اتخاذ هذا الرأي وجود النبع الغزير في واحة فيران قرب سربال، على أن نصَّ التوراة صريح بأن الإسرائيليين «ارتحلوا من رفيديم ونزلوا في برية سيناء»، «وأن الرب نزل أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء»، وفوق ذلك فإنه لا يحتمل أن موسى وهو قائد عظيم ينشر جيشه أشهرًا من جبل موسى إلى جبل سربال مسافة ٣٧ ميلًا في بلاد غربة تحتاطه فيها الأعداء من كل الجهات، لا سيما وأن الماء وهو الأصل في هذا الرأي متوافر في جبل موسى، فإن فيه من الينابيع الصافية الغزيرة (وقد تقدم وصفها في باب الجغرافية) ما يكفي جيش إسرائيل ويزيد، وهذه الينابيع تروي الآن عدة بساتين متسعة للدير فيها أنواع الفاكهة والثمر، وقد قيل في كرمة سيناء:

بطور سيناء كرم ما مررت به
إلَّا تعجبت ممن يشرب الماء

(١-٤) التيه

أمَّا «البلاد التي تاه بها بنو إسرائيل» فإذا صحَّ أن عين قديس هي بقية اسم قادش برنيع فلا بدَّ أن تكون قادش شملت جميع البلاد الواقعة بين وادي صرام ووادي الأحيقبة شمالًا وجنوبًا، وبين جبل خراشه وجبل الحلال شرقًا وغربًا؛ لأن هذه البلاد تكوِّن بلادًا واحدةً مستقلةً عما يجاورها، تتحدر فيها السيول من الشرق إلى الغرب فتفيض في وادي العريش العظيم، وفيها أراضٍ زراعية متسعة وعيون وآبار شهيرة غزيرة، أهمها آبار مايين وعين قديس وعين القديرات وفرعاها عين القُصَيِّمة وعين المويلح، وربما كان مخيمهم الأكبر عند عين القديرات الغزيرة، وكان سهل التيه العظيم الذي يخترقه وادي العريش مسرحهم العام، ومن ذلك اسمه، والله أعلم.

(١-٥) آثار الخروج

هذا وفي سيناء الآن كثير من الأسماء التي تشير إلى مرور بني إسرائيل فيها بقيادة موسى، وتيههم في بريِّتها، ومن ذلك:
  • اسم سيناء: المعروفة في البلاد في التوراة والقرآن.
  • وعيون موسى: قرب السويس.
  • وحمام موسى: قرب الطور.
  • وجبل موسى: في وسط الجزيرة.
  • وجبل المناجاة: أحد قمم جبل موسى.
  • وعليقة موسى، وبئر موسى: في دير طور سيناء.
  • وصخرة موسى، وجبل مناجاة موسى: في وادي فيران.
  • وحمام فرعون: على البحر الأحمر عند فم وادي وسيط.
  • وعين قديس: في شرق الجزيرة.
  • وبلاد التيه: في وسط الجزيرة، والتقاليد التي يحفظها سكانها الحاليون في سبب تسميتها بالتيه، وقد مرَّ ذكرها.
  • وعين حدرة: في شرق الجزيرة في طريق البتراء.
  • ومدينة أيلة: على رأس خليج العقبة.
  • ووادي موسى، وقبر النبي هارون: شرقي وادي العربة.
  • وسمك موسى: المسمَّى في سوريا «المرَّ» وعند الإفرنج sole وهو سمك مسطح البطن، كأنَّ واحده شطر سمكة قُسمت نصفين، وفي تقاليد أقباط مصر أن موسى لما عبر البحر الأحمر وانشق الماءُ أمامه انشق السمك مع الماء شطرين، فكان كل شطر في جهة فسمي سمك موسى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤