الفصل الرابع

في تاريخ مملكة النبط في البتراء وعلاقتها بسيناء قديمًا وحديثًا

(١) مدينة البتراء

fig92
شكل ٤-١: السيق في وادي موسى.
البتراء Petra مدينة حجرية حصينة فخمة للنبط في وادي موسى — أحد فروع العربة — وهي الآن خراب، ومدخل المدينة من الشرق في مضيق يعرف بالسيق، يرتفع عنده جانبا الوادي عموديًّا كسورين عظيمين، طوله نحو ميلين وعرضه من عشر أقدام إلى ثلاثين قدمًا حتى إنه لا يسع الفرسان المرور به إلَّا اثنين اثنين وهو سرُّ حصانته.
fig93
شكل ٤-٢: مدينة البتراء.

وفي نهاية هذا السيق ينفرج الوادي عن الجانبين نحو كيلومتر، وفي هذا المنفرج معظم أبنية البتراء، ثم يعود الوادي فيجري في مضيق آخر صعب المسلك جدًّا يعرف بالسيق الغربي إلى أن ينتهي في وادي العربة.

وفي رأس الوادي نبع ماء غزير يجري فيه فيرويه، وهو حياته وأصل وجود المدينة في القديم، وقد كان مجرى الماء قديمًا مسقوفًا بالحجر، ونقر النبطيون في قلب الصخر عند مدخل المدينة نفقًا عرضه نحو ١٧ قدمًا وعلوه نحو ٢٠ قدمًا وطوله ٣٣٠ قدمًا.

وأكثر منازل المدينة وهياكلها، وقبورها منحوتة في الصخر؛ لذلك سمَّاها اليونان «بترا» أي الحجر، وسمَّوا البلاد التابعة لها «أرابيا بترا» أي العربية الحجرية تمييزًا لها عن «أرابيا فيلكس» أي العربية السعيدة، وهي بلاد اليمن.

ولا يُعلم بالتأكيد الاسم الذي أطلقه مؤرخو العرب على هذه المدينة؛ لأننا لا نرى لها ذكرًا في كتبهم، وارتأى البعض أنها «الرقيم» التي ذكرها المقدسي في كتاب أحسن التقاسيم. قال: «الرقيم قرية على فرسخ من عمان على تخوم البادية»، والتي ذكرها الإصطخري في قوله: «الرقيم مدينة بقرب البلقاء، وهي صغيرة منحوتة بيوتها وجدرانها في صخر كأنها حجر واحد» ا.ﻫ. ولكن «بترا» هذه هي على نحو ١٢ فرسخًا من عمان وبعيدة جدًّا عن البلقاء، وفوق ذلك فإن في تلك الجهات كثيرًا من الأماكن غير «بترا» منحوتة بيوتها في الصخر، وعلى كل حال فإننا نعني «بالبتراء» المدينة التي عرفها اليونان قديمًا باسم «بترا».

وأول من ذكر البتراء في التاريخ ديودورس الصقلي، المتوفى في القرن الأول قبل الميلاد، فقال: «إنها بلاد صخرية، وفيها ينابيع قليلة، ويصعب جدًّا الوصول إليها.»

وقال سترابو المؤرخ الروماني المتوفى سنة ٢٤م: «البتراء مدينة صخرية قائمة في منبسط من الأرض، تحيط به الصخور كالسور المنيع، وليس وراءها غير الصحراء المجدبة.»

وقال بليني النباتي الروماني الذي عاش في القرن الأول بعد المسيح عند ذكر النبط: «إنهم يسكنون مدينة تدعى البتراء في مجوَّفٍ من الأرض، يقلُّ محيطه عن ميلين، تكتنفه الجبال من كل الجهات، ولها نبع يجري في وسطها.»

(٢) مملكة أدوم

وظاهر من موقع هذه المدينة وإجمال حالها أنها عاصمة مملكة أدوم القديمة المشهورة في التوراة، وقد سمَّاها اليهود «سالع» أي الحجر، وسُمِّي الجبل الذي يخترقه واديها جبل «سعير»، وكان أول من سكنها الحوريون سكان الكهوف، ثم طردهم منها الأدوميون ذرية أدوم وهو عيسو بن إسحاق، جاء في سفر التثنية ص٢: ١٢: «وفي سعير سكن قبلًا الحوريون فطردهم بنو عيسو وأبادوهم من قدامهم وسكنوا مكانهم»، وقد تقووا مع الأيام حتى صاروا مملكة يُرهب جانبها امتدت من البحر الميت إلى البحر الأحمر، وكان لهم مدينة على رأس خليج العقبة اشتهرت في التاريخ تدعى أيلة، وقد مر ذكرها تفصيلًا.

وقد أبنا في الفصل السابق ما كان من منع الأدوميين لموسى عن العبور بأرضهم إلى نهر الأردن حتى اضطر أن يدور حول بلادهم ويمر بوادي اليتم، والظاهر أن الإسرائيليين لم ينسوا هذا المنع من الأدوميين، مع أنهم كانوا من جهة النسب إخوانًا لهم، بل كانت سببًا لعداوة استمرت بين الشعبين إلى انقضاء ملك الأدوميين، فإننا نرى في تاريخ مملكة اليهود أن داود النبي (سنة ١٠٥٥–١٠١٥ق.م) أخضعهم لسلطانه (صموئيل الثاني ص٨: ١٤)، ثم عصوا في أيام سليمان (١٠١٥–٩٧٥ق.م) فأعادهم إلى الطاعة وبنى في بلادهم ميناء عصيون جابر قرب مدينة أيلة، ثم عادوا فنقضوا فأذلهم يهوشافاط ملك يهوذا (سنة ٩١٤–٨٩٨ق.م) ثم عادوا إلى الاستقلال، فتغلب عليهم أيضًا أمصيا ملك يهوذا (سنة ٨٣٨–٨١٠ق.م) (انظر أخبار الأيام الثاني ص٢٥: ١١ وملوك الثاني ص١٤: ٧)، ثم تراهم في أيام أحاز ملك يهوذا (سنة ٧٤١–٧٢٦) قد غزوا اليهودية واكتسحوها وأخذوا من أهلها أسرى، ثم لما حاصر نبوخذنصر أورشليم وسبى اليهود إلى بابل سنة ٥٨٧ق.م اشترك الأدوميون في حصر المدينة وسلبها وأخذوا قسمًا من اليهودية.

(٣) مملكة النبط

ثم نرى النبط بعد ذلك قد حلوا محلَّ الأدوميين، وأسسوا مملكة في البتراء امتدت من دمشق الشام إلى وادي القرى قرب «المدينة» شمالًا وجنوبًا، ومن بادية الشام إلى خليج السويس شرقًا وغربًا، فشملت شمال غرب جزيرة العرب وجزيرة سيناء، ووجدت آثارهم في الحِجْر (مدائن صالح للثموديين) وحوران ودمشق الشام وجزيرة سيناء.

وأمَّا آثارهم في سيناء فهي صخرات كتابية في طريق القوافل من البتراء إلى السويس، وفي طريق العقبة إلى مدينة الطور، وفي الأماكن المقدسة في جبل موسى ووادي فيران، وفي معادن الفيروز والنحاس في وادي المغارة ووادي النصب الغربية، وفي غيرها من الأماكن في بلاد الطور كما بيَّناه في باب الجغرافية، وقد دلَّ ذلك على أن النبط استخدموا طرق التجارة في سيناء وعدَّنوا الفيروز في وادي المغارة والنحاس في وادي النصب، وكانوا يزورون أماكنها المقدسة في جبل موسى وجبل سربال، وسنرى في تاريخ الدير أن رهبانًا من البتراء سكنوا سيناء في صدر النصرانية، وأن أبرشية فيران كانت قبل بناء الدير تابعة لأبرشية البتراء.

وأول من ذكر النبط في التاريخ ديودورس الصقلي وخلاصة قوله «أن النبط يعيشون في بادية جرداء لا نهر فيها ولا سيول، ومن أمهات قوانينهم منع بناء المنازل أو زراعة الحبوب أو استثمار الأشجار وتحريم الخمر مع التشديد في العمل بذلك.

ويقتات بعضهم بلحوم الإبل وألبانها والبعض الآخر بالماشية أو الغنم، ويشربون الماء المحلَّى بالمن، ومنهم قبائل عديدة تقيم في البادية، ولكن النبطيين أغنى تلك القبائل، وثروتهم من الاتجار بالأطياب والمرِّ وغيرها من العطور يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط، ولم تكن تمرُّ تجارة في أيامهم بين الشرق والغرب إلَّا على يدهم، ويحملون إلى مصر القار لأجل التحنيط، وهم حريصون على حريتهم، فإذا داهمهم عدوٌّ يخافون بطشه فرُّوا إلى الصحراء وهي أمنع حصن لهم؛ لأنها خالية من الماء فلم يدخلها سواهم إلَّا مات عطشًا.» ا.ﻫ.

وقد ذكرهم ديودورس في كلامه عند إغارة أنتيغونس سيِّد آسيا الصغرى على البتراء سنة ٣١٢ق.م وارتداده عنها بالفشل قال: «إن النبطيين خلفوا الأدوميين في بلادهم، وإنهم عشرة آلاف مقاتل لا شبيه لهم في قبائل البدو، وإن بلدهم الوعر القاحل ساعدهم على التمتع بالحرية والاستقلال؛ لأنهم كانوا يستغنون عن سائر العالم بصهاريج سريَّة مربعة الشكل منقورة في الصخور تحت الأرض يخزنون فيها الماء، ولكل منها فوهة ضيقة وباطن واسع اتساعه ثلاثون مترًا مربعًا، يملئونها بماء المطر في الشتاء، ويحكمون سدَّها بحيث يخفى مكانها على غير العارف، ولها على فوهاتها علامات ترشدهم إليها لا يعرفها غيرهم» ا.ﻫ. قلت: وهي «كالهرابات» التي لا يزال يستعملها بدو سيناء إلى اليوم.

(٣-١) غزوة أنتيغونس للنبط في البتراء سنة ٣١٢ق.م

أمَّا غزوة أنتيغونس للنبط المشار إليها، فخلاصتها مما رواه المؤرخ شارب الإنكليزي في تاريخ مصر القديم:

إن أنتيغونس كان ينوي غزو مصر ونزعها من يد بطليموس الأول، وكان بطليموس قد استرجع عساكره من سوريا الجنوبية وترك الصحراء بينه وبين أنتيغونس، ولم يكن عند أنتيغونس مراكب تحمي جيشه البرِّي وتساعده على اختراق الصحراء؛ فرأى أن يخضع النبط أو يكتسب صداقتهم ليهاجم مصر بطريق البتراء؛ لأن هذه الطريق أغزر ماءً من طريق الفرما، ولأن مصر لم تكن محصنة من جهة السويس كانت من جهة الفرما، وكان النبط إذ ذاك يتجرون مع سوريا ومصر، ففضلوا البقاء على الحياد، فاستاء أنتيغونس منهم ونوى إذلالهم، فبلغه يومًا أنهم خرجوا من معقلهم لسوق قريبة، ربما ليلاقوا قافلة آتية من الجنوب ويقايضوا بضائع صور الصوفية بعطور اليمن، وأنه لم يبقَ في المدينة منهم إلَّا نفرٌ قليل، فانتقى أربعة آلاف من المشاة وستمائة فارس فدخلوا المدينة عنوة وامتلكوها، فلما بلغ النبط ما كان عادوا ليلًا ونزلوا على اليونانيين من طرق شاقة لا يعرفها غيرهم وأعملوا فيهم السيف والحربة حتى إنه لم يبقَ منهم سوى ٥٠ رجلًا تمكنوا من الفرار وأخبروا أنتيغونس بما كان، وأرسل النبط يلومون أنتيغونس لغزوه بلادهم بعد أن أمَّنهم، وكان أنتيغونس عند مجيء رسل النبط يتميز من الغيظ لما حلَّ بجيشه ولكنه لجأ إلى المخادعة، فكظم غيطه وأظهر للرسل أن مستنكر هذه الغزوة وأن قائده إنما فعل ذلك بغير علمه، ووعدهم بالأمان، وفي الوقت عينه أرسل ابنه ديمتريوس بأربعة آلاف من المشاة وأربعة آلاف من الفرسان لينتقموا للجيش الأول ويفتحوا المدينة، وكان العرب هذه المرَّة متيقظين، وكانت حصانة موقعهم تساعدهم على الدفاع؛ لذلك عجز جيش ديمتريوس هذا وهو زهرة جيش أبيه عن دخول المدينة وعاد بالخيبة، واضطر أنتيغونس إلى مصالحة بطليموس والعودة إلى آسيا الصغرى كما سيجيء.

(٣-٢) ملوك النبط

واستفحل أمر النبط بعد هذا النصر واتسع سلطانه، لا سيما في أثناء انحطاط مملكة البطالسة في مصر والسلوقيين في سوريا في أواخر القرن الثاني قبل المسيح، فأنشئوا دولة منظمة تولاها ملوك ضربوا النقود بأسمائهم واستوزروا الوزراء، وهذه هي أسماء ملوك النبط الذين اتصلت بنا أخبارهم إلى الآن مع سني حكمهم بوجه التقريب:
  • الحارث الأول (سنة ١٦٩ق.م): وهو أول ملك عرف من ملوك النبط، ذكر في سفر المكابيين الثاني ص٥: ٨.
  • زيد إيل (سنة ١٤٦ق.م): ذكر في سفر المكابيين الثاني.
  • الحارث الثاني المقلب إيروتيمس (سنة ١١٠–٩٦ق.م).
  • عبادة الأول (سنة ٩٠ق.م).
  • ريبال الأول ابنه (سنة ٨٧ق.م).
  • الحارث الثالث الملقب فيلهلن ابنه (سنة ٨٧–٦٢ق.م): كان لهذا الملك شأن عظيم في تاريخ هذه الدولة، وكان السلوقيون في سوريا قد ضعف أمرهم لانشقاقهم بعضهم على بعض، فدعاه الدمشقيون ليتولى أمرهم، فتولاهم سنة ٨٥ق.م ولقبوه «فيلهلن» أي محب اليونان، وهو أول من ضرب النقود من الأنباط، اقتبس ذلك من السلوقيين في أثناء سلطانه على دمشق، ثم توالى بعده الملوك فضربوا النقود بأسمائهم، إلَّا الأخير فإنه لم يوجد نقود باسمه، وكان لملوك النبط سكة خاصة تدل على إكرامهم زوجاتهم ترى فيها رأس الملك على وجه من النقود ورأس الملكة على الوجه الآخر، وهذه العادة غير معروفة في غير نقود النبط.

    وفي آخر أيام الحارث حصل أول قتال بين النبط والرومان، فإنه تدخَّل في النزاع الذي وقع بين الأميرين المكابيين هركانوس وأخيه أرستوبولس، وكانت سوريا في ذلك العهد قد آلت إلى الرومانيين، فنصروا أرستوبولس ورفعوا الحصار عن المدينة، قالوا: ولحق أرستوبولس أخاه هركانوس والحارث وواقعهما في مكان يدعى مابيرون، فقتل من جيشيهما ٦٠٠٠ رجل، وكان ذلك سنة ٦٤ق.م.

    وفي هذه السنة قدم بمبيوس صاحب رومية وأقام في دمشق، فوفد عليه الشقيقان هركانوس وأرستوبولس بالهدايا، ورفع كل منهما دعواه بالملك، فلم يحكم لأحدهما، بل أمرهما أن ينتظرا إلى أن يفرغ من محاربة العرب، وشرع في ذلك سنة ٦٣ق.م قالوا: وسار إلى البتراء وأخذها وقبض على الحارث ملكها، ثم أخلى سبيله لقبوله الشروط التي اقترحها عليه، وعاد إلى دمشق.

  • عبادة الثاني ابنه (سنة ٦٢–٤٧ق.م).
  • مالك الأول ابنه (سنة ٤٧–٣٠ق.م): كان معاصرًا لهيرودس الكبير. قالوا: وكانت بينهما حروب طويلة كان النصر فيها تارةً له وتارةً لهيرودس، وأنه تدخَّل في المنازعات التي كانت بين القواد الرومانيين طلبًا لمصلحته ومنعًا لمطامعهم.

    وقد وجد ده فوكوى خطًّا نبطيًّا في بصرى حوران منقوشًا على مذبح، قيل فيه: «أقام هذا المذبح نترال بن نترال للإله كاسيوس في السنة الحادية عشرة لمالك الملك.»

  • عبادة الثالث ابنه (سنة ٣٠–٩ق.م): وفي أيامه كانت حملة أليوس غالوس القائد الروماني على بلاد العرب، وقد استعان فيها بالنبط، وكان سترابو المؤرخ معاصرًا وصديقًا لهذا القائد، وقد ذكر خبر هذه الحملة. قال: «إنه في سنة ١٨ق.م جرَّد أغسطس قيصر حملة بقيادة أليوس غالوس عامله على مصر لفتح جزيرة العرب، واستنصر النبطيين فأظهروا رغبتهم في نصرته على يد وزير لهم يومئذٍ يسمى سيلوس، ولكن هذا الوزير خدعه فذهب به في طرق وعرة أعجزه المرور فيها، فقضى مع جيشه أيامًا قاسوا بها العذاب ألوانًا، وأقصى مكان بلغه بعد ذلك العذاب مدينة الرحمانية وعليها ملك يدعى أليسارس، فحاصرها ستة أيام، لكن العطش اضطره إلى رفع الحصار والرجوع نحو مصر، وبعد تسعة أيام من رجوعه وصل إلى نجران ومرَّ بالجوف الجنوبي، وما زال يتنقل من بلد إلى بلد حتى وصل الحِجر وسار منها إلى البحر الأحمر ومنه إلى مصر، بعد أن قضى في هذه الحملة ستين يومًا.» ا.ﻫ.

    قلت: ويرى أهل النقد أن سترابو نسب الفشل في هذه الحملة إلى خيانة سيلوس وزير النبط تبرئةً لصديقه أليوس غالوس.

  • الحارث الرابع المقلب فيلومتر شقيقه سنة (٩ق.م:٤٠ب.م): وهو حمو هيرودس أنتيباس رئيس ربع في الجليل، وأراد هيردوس أن يتزوَّج بهيروديا امرأة أخيه فيليب وذلك سنة ٢٧م، فشق ذلك على ابنة الحارث فرجعت إلى منزل أبيها، وانتشبت حرب بين الحارث وهيرودس كان الظفر فيها للحارث، فاستنجد هيرودس بطيباريوس إمبراطور رومية، فبعث إلى فيتالس قائده في سوريا أن يرسل إليه الحارث مكبَّلًا بالحديد، وإذا قتل في الحرب فليرسل إليه رأسه، فشرع فيتالس في الاستعداد للحملة على البتراء، ولكنه تأخر في أورشليم لحضور الفصح، وفي أثناء ذلك مات طيباروس سنة ٣٧م وخلفه على رومية الإمبراطور غاليغولا، فرضي عن الحارث ووسَّع تخوم مملكته وأعطاه دمشق الشام، وفي سنة ٣٩م نرى على دمشق واليًا يحكمها من قِبل الحارث، وقد أراد الوالي أن يلقي القبض على بولس الرسول، ولكن بولس أفلت من يده (كورنثوس ص١١: ٣٢).

    وعزا ده فوكوى إلى الحارث هذا خطًّا وُجد في صيدا على صفيحة من رخام جاء فيها: «هذه الصفيحة قدمها، الحاكم بن زويلا للإلهة دوزارا (ربَّة كان يعبدها العرب في حِجر وأذرع وبصرى وغيرها) في شهر، سنة ٣٢ للحارث.»

    ووجد منقوشًا على قبر في الحِجر كتابة بالنبطية تاريخها حوالي الميلاد هذه ترجمتها: «هذا القبر الذي بنته قمقم بنت وائلة بنت حرم وكليبة ابنتها لهما ولذريتهما في شهر طيبة من السنة التاسعة للحارث ملك النبطيين محب شعبه … فعسى ذو الشرى، واللات وعمند ومنوت وقيس أن تلعن من يبيع هذا القبر أو يشتريه أو يرهنه أو يخرج منه جثةً أو عضوًا أو يدفن فيه أحدًا غير قمقم وابنتها وذريتهما، ومن يخالف ما كتب عليه فيلعنه ذو الشرى وهبل ومنوت خمس لعنات ويغرم الفاعل غرامة مقدارها ألف درهم حارثي إلَّا من كان بيده تصريح من يد قمقم أو كليبة ابنتها … صنع ذلك وهب اللات بن عبد عبادة.»

  • مالك الثاني ابنه (سنة ٤٠–٧٥م): حكم مع امرأته صقيلة، ويظهر أنه ابن الحارث من خطٍّ ذكر ده فوكوى أنه وُجد مكتوبًا على صفيحة فوق باب كنيسة صرخد حوران، قيل فيه: «هذا الأثر أقامه رواهد بن ماتابو … للَّات ربَّتهم المستقرة في صرخد … في شهر آب سنة ١٧ لمالك ملك النبط ابن الحارث ملك النبط المحب لشعبه.» قالوا: وهو الذي أتى بجيش لنجدة فسباسيان القائد الروماني في حربه مع اليهود سنة ٦٧م.
  • ريبال الثاني الملقب سوتر ابنه (سنة ٧٥–١٠١م): وكانت أمه صقيلة وصية عليه، ثم أشرك معه في الحكم امرأته جميلة. ذكر في خط وجده ده فوكوى فوق شبابيك كنيسة صرخد قيل فيه: «أقامه قصيو بن أُذَينة … لامرأته وغدة في السنة الخامسة والعشرين للملك ريبال.»
  • مالك الثالث (سنة ١٠١–١٠٦م): وهو آخر ملوك النبط، فإن الرومان بعد استيلائهم على سوريا ومصر ما زالوا يناوئون هذه المملكة قصد إدخالها تحت سلطتهم حتى فازوا بالغرض سنة ١٠٦ في عهد الإمبراطور تراجان، وقد ضربوا نقودًا خاصة بذلك الفتح على سبيل التذكار.

(٣-٣) البتراء ولاية رومانية

وأصبحت البتراء بعد ذلك الفتح ولاية رومانية، ولم يقم للأنباط بعده قائمة، ومع هذا نرى البتراء سنة ٣٥٨م ولاية قائمة بذاتها باسم «فلسطينا ترتيا» وفيها أبرشية للنصارى وعليها مطران، والمشهور أن أبرشية فيران في قلب سيناء كانت في ذلك الحين تابعة لها.

وقد بقيت البتراء تحرسها حامية من الجند الروماني إلى عهد الإمبراطور فالنس (سنة ٣٦٥–٣٧٨م)، ثم هجرت وخمد ذكرها، حتى إنه في عهد النبي محمد لم يكن لها شيء من الأهمية، حتى إن مؤرخي العرب لم يذكروها في فتوحات الإسلام، وقد ذكروا أيلة على ما مرَّ.

(أ) الصليبيون في البتراء

هذا ولما جاء الصليبيون إلى سوريا استولوا عليها وبنوا فيها قلعة، وبنوا قلعة في الشوبك، وأخرى في الكرك في طريق القوافل إلى الشام من مكة، ولكن ما زال العرب المسلمون يجاهدون حتى أخرجوهم من تلك القلاع في عهد صلاح الدين الأيوبي (سنة ١١٧١–١١٩٣م)، ولكنهم لم يعمِّروا البتراء فخربت وصارت مرتعًا لعرب البادية، ويسكن واديها الآن عند النبع عرب اللياتنة يدلُّون السياح على خرائبها كما مرَّ، وقد ضمَّها السلطان عبد الحميد الثاني إلى أملاكه الخاصة.

(ب) آثار البتراء

وبقيت خرائب البتراء محجوبة عن العالم المتمدن أجيالًا عديدة حتى أحيا ذكرها في هذا العصر الرحالة الشهير بورخارت، دخلها عن طريق الشام في ٢٢ أغسطس سنة ١٨١٢، ومن ذلك الوقت أمَّها كثيرٌ من السياح الإفرنج من دمشق والقدس وسيناء، وكتبوا فيها المجلدات، ووصفوا آثارها وصفًا يشوِّق القارئ إلى زيارتها، وهي تدُلُّ على عظمة المدينة وغنى أهلها في القديم، وأنها زهت كثيرًا في عهد الرومان، وأهم تلك الآثار:

fig94
شكل ٤-٣: خزنة فرعون في البتراء.
  • خزنة فرعون: في منتصف السيق الشرقي الذي يُدخل منه إلى المدينة، وهو هيكل عظيم فحم ورديُّ اللون منقور في الصخر، أقامه في الأرجح الإمبراطور هدريان الروماني للمعبود أيسس، إذ زار المدينة سنة ١٣١م.
  • المرسح: وهو ملعب عظيم منحوت في الصخر في شكل نصف دائرة، مؤلف من ٣٣ صفًّا من المقاعد بعضها فوق بعض بهيئة درج، تسع نحو ٣٠٠٠ شخصًا، وموقع المرسح في آخر السيق الشرقي على نحو ٢٠ دقيقة من خزنة فرعون، ومنه تنفرج الوادي حتى إن الجالس على مقاعد المرسح يرى قسمًا كبيرًا من المدينة.
  • قصر فرعون: وهو هيكل جميل في غرب المدينة بقرب مدخل السيق الغربي، وبقربه البوابة المثلثة، وهي في الأرجح مدخل الهيكل الخارجي.
  • الدير: على نحو ساعة من قصر فرعون إلى الشمال الغربي منه، وهو هيكل فخم على ارتفاع نحو ٧٠٠ قدم من بطن الوادي، وهو يطلُّ على جبل هارون ووادي العربة، أمَّا جبل هارون فهو على يسار القادم إلى البتراء من العقبة في رأس وادي خشيبة، علوه نحو ٤٦٠٠ قدم عن سطح البحر، وعليه مقام النبي هارون المشهور.
    fig95
    شكل ٤-٤: مقام النبي هارون قرب البتراء.
  • المذابح: على المرتفعات في جوار الهياكل، وأهمها المذابح التي على تلِّ النجر قرب خزنة فرعون.
  • القلاع: وفيها قلعة للصليبيين وسور حول المدينة.
  • القبور: ومنها ما ينيف عن ٧٥٠ قبرًا، كلها منحوتة في الجبل في جميع أنحاء المدينة، وأفخم تلك القبول هي التي حول المرسح، وأقدمها القبور التي على تل النجر، وقبر على تل عند وادي التركمانية على «واجهته» كتابة بالنبطية.

(٣-٤) تجارة النبط

وكان النبط شعبًا تجاريًّا، وقد ساعدهم موقع عاصمتهم وحصانتها ووجود النبع الغزير فيها على جعلها محطة للقوافل البرية التي كانت تتردد بين البحر الهندي والبحر المتوسط، فكانت بضاعة الهند تُنقل إلى بلاد اليمن عن طريق عدن، وكان أهل اليمن ينقلونها مع محصولاتهم إلى الحجاز، وكان النبط ينقلونها من الحجاز إلى البتراء، ومن هناك تتفرع إلى مصر «بطريق البتراء» وإلى فلسطين وفينيقية بطريق بئر سبع، وإلى شمالي سوريا بطريق دمشق الشام.

وأمَّا «الطريق من عدن إلى البتراء فالشام» فما زالت مطروقة للآن مع تقدم الملاحة في البحار؛ لأنها طريق الحجاج إلى مكة المكرمة، تمر الطريق من عدن إلى لحج فتعز فزبيد فمكة، وقد حجَّ الشاعر الصوفي الشيخ عبد الرحيم بن أحمد البرعي اليمني، من أهل القرن الخامس للهجرة، فنظم قصيدة صوفية ذكر فيها المدن والأودية والآبار التي مرَّ بها في طريقه من جبل بُرَع باليمن إلى مكة، قال: وضمير المؤنث راجع إلى الإبل:

«فَلَعْسَانٌ» «فسَرْدُد» ثم «مُورٌ»
«فَحيْرَان» لهنَّ به رسيمُ
إلى «حَرَض» إلى «خُلَبٍ» تراءت
إلى «جِيزان» جازت وهي هيمُ
ومرَّت في رُبى «ضَمَدٍ» «وصَبْيَا»
«ولؤلؤة» «وغوَّان» تهيمُ
«وذهبانٍ» وفي «عُمُق» «وحَلْيٍ»
تساورها المفاوز والرسومُ
وفي «يَبَتٍ» وفي كنفَي «قِنُونا»
سرت والليل منعكر بهيمُ
«فدوقَةُ» «فالرياضةُ» فاستمرت
بجنب «الحَفْر» يطربها النسيمُ
إلى «الميقات» ظلَّت خائضات
«غمارَ الآل» يلفحها السمومُ
وباتت عندما وردت «إداما»
نحنُّ فلا تنام ولا تنيمُ
وفي «أم القرى» قرت عيون
عشيَّة لاح زمزم والحطيمُ

ومن مكة تتبع طريق الحج الشامي المشهورة مارَّة بالمدينة، فوادي القرى فتبوك فمعان قرب البتراء فدمشق الشام، وفي سنة ١٩٠٦ مُدَّت سكة حديد من دمشق إلى المدينة متبعة طريق الحج الشامي، عُرِفت «بسكة حديد الحجاز»، وأما طريق القوافل القديمة من البتراء إلى دمشق فكانت تمرُّ بالشوبك فطفيلة فالكرك فضبَّان فحسبان فعمَّان فجرش بالمزيريب فدمشق، وذكر القاضي شهاب الدين العَمري الذي عاش في القرن الثامن للهجرة في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» مراكز الطريق من دمشق إلى الكرك في أيامه، وهي حسب تعريفه: «طفس فالقنية فالبرج الأبيض فحسبان فديباج فأكريه فالكرك»، وقد أصلح الرومان قديمًا طريق القوافل من البتراء إلى دمشق كما أصلحوها من البتراء إلى أيلة.

وظلت مدينة البتراء مركزًا تجاريًّا بين الشرق والغرب إلى أوائل القرن الثالث للمسيح، إذ قامت مملكة الفرس في الشرق ومملكة تدمر في الشمال، وفاز الفرس بتحويل تجارة الهند واليمن عن طريقها القديم وصرفها إلى خليج العجم والفرات.

وفي ذلك العهد كانت الإسكندرية قد صارت مركزًا عظيمًا للتجارة بين الشرق والغرب، وأخذت مركز صور، فكانت بضاعة الهند وجزيرة العرب تجيء ميناء بيرنيس على البحر الأحمر فتنقلها القوافل المصرية إلى قفط، وتُنقل من قفط بالنيل إلى الإسكندرية، فكان تحويل التجارة عن البتراء أكبر ضربة منيت بها، بل كانت الضربة القاضية عليها.

(٣-٥) أصل النبط

هذا وقد اختلف المؤرخون في أصل النبط، فقال فريق: إنهم آراميون وآخر إنهم عرب، أمَّا القائلون: إنهم آراميون فحجتهم أن لغة النبط آرامية، وأن لفظ النبط عند العرب يطلق على أهل العراق. قالوا: لما تغلَّب نبوخذنصر الثاني على أورشليم وأزال مملكة يهوذا سنة ٥٨٧ق.م زحف على مملكة أدوم فأخضعها وجعل في عاصمتها حامية من الجند، وسكن مع الحامية قوم من التجار الآراميين فاشتغلوا بالتجارة وساعدهم مركز البلاد فقووا مع الأيام وأسسوا ملكًا!

وأمَّا القائلون إنهم عرب فحجتهم؛ أولًا: أن مؤرخي اليونان واليهود الذين كتبوا عنهم سموهم عربًا. ثانيًا: أن النبط استعملوا أداة التعريف «اﻟ». ثالثًا: أن أسماء ملوكهم كلها عربية محضة كالحارث وعبادة وريبال ومالك وجميلة.

ويؤخذ من تاريخ مصر للمؤرخ شارب الإنكليزي المار ذكره أنهم هم الأدوميون أنفسهم، قال: كان النبط قبلًا يسمون أدوميين، ثم فقدوا هذا الاسم بعد أخذهم القسم الجنوبي من اليهودية (كما مرَّ) المعروف باسم «أدوميا» إذ اليهود لما استرجعوا «أدوميا» سموا أدوميي الصحراء نباووث أو «النبط.» ا.ﻫ.

وفي التعريفات: «النبط جيل من العجم ينزلون بالبطائح بين العراقين. قيل سُمُّوا بذلك لكثرة النبط عندهم وهو الماء، هذا أصله ثم استعمل في أخلاط الناس.»

وأمَّا قول الفريق الأول: إن النبط تجار آراميون سكنوا مع الحامية التي وضعها نبوخذنصر بعد أخذه أورشليم سنة ٥٨٧ق.م فقول تخميني لم يثبته مؤرخ ثقة، ثم لا يعقل أن تجارًا مستضعفين وحامية صغيرة من الجند كلهم أجانب بعيدين بعدًا سحيقًا عن مركز سلطانهم يؤسسون ملكًا قويًّا في وسط بلاد عربية محضة كالملك الذي أسسه النبط في البتراء، بل لو أسسوا ملكًا لنسب إلى سلطانهم وزال بزواله.

(٣-٦) القلم النبطي وبحث في اللغات والأقلام الشرقية

وأمَّا كون النبط قد كتبوا باللغة الآرامية، فليس بدليل على أنهم آراميون؛ إذ لغة التدوين عند قوم لا تدل دائمًا على جنسهم أو لغتهم، فإن جميع المتكلمين باللغة العربية الآن على اختلاف لهجاتهم وأجناسهم يكتبون باللغة الفصحى التي هي لغة قُريش، وليست قريش إلَّا فرعًا صغيرًا منهم، بل إن كثيرًا من متكلمي العربية الآن أعاجم أصلًا وفرعًا، ثم إن اللغة اللاتينية التي هي لغة الدولة الرومانية ظلَّت لغة العلم والنقش على الآثار في أوروبا كلها أجيالًا بعد ذهاب دولتها.

وأمَّا اختيار النبط اللغة الآرامية فيحتاج إلى تمهيد تعليلي: يقول العارفون باللغات الشرقية: إن اللغات الكلدانية والسريانية والعبرانية (التي غدت الآن لغات طقسية) والعربية والحبشية (اللتين لا تزالان حيتين) أخوات لأم واحدة أو فروع لأصل واحد تنوَّعت بتنوع المكان والزمان، وبعبارة أخرى أن في ألفاظ هذه اللغات واشتقاقاتها وتراكيبها وصرفها ونحوها من التشابه والتقارب ما لا يترك أقل ريب في أن أصلها البعيد واحد، وقد عرَّفوه «بالأصل السامي» نسبة إلى سام بن نوح، ثم إن اللغتين الكلدانية والسريانية هما في الحقيقة لغة واحدة، وإنما تختلفان في قاعدة الكتابة واللهجة، وأمَّا اختلافهما في اللهجة فهو كاختلاف اللهجات العربية في مصر والشام والعراق وتونس، والفصل الأعظم المميز لكل منهما اختلافهما في لفظ الألف، فإن الكلدان ينطقون بها صريحة فيقولون في لفظ «إله» مثلًا «إلاهَا» والسريان ينحون بها إلى الواو فيقولون «ألوهو»، وهذه الألف كثيرة في لسانهم، ولهذا كان الفرق بيِّنًا في كلامهم، فاللغة المكتوبة واحدة تمامًا في صرفها ونحوها وبيانها في السريانية والكلدانية، وإنما تختلف قليلًا في كتابتها وقراءتها، فكل فريق يكتبها على قاعدته ويقرؤها على لهجته.

قالوا: وهذه اللغة عينها هي المعروفة «باللغة الآرامية» نسبة إلى آرام بن سام، وقد كانت لغة مملكة الكلدان الأولى أو مملكة بابل، فمملكة آشور، فمملكة الكلدان الثانية في العراق والجزيرة، كما كانت لغة مملكة آرام في دمشق الشام، ولكنها تحولت عن أصلها القديم وتطوَّرت على ألسنة متكلميها في تلك الممالك مع الأيام شأن جميع اللغات حتى صارت إلى ما هي عليه الآن في فرعيها القريبين الكلدانية والسريانية.

وقد كُتبت قديمًا بالقلم المسماري أو السفيني، سُمِّي بذلك؛ لأن حروفه تشبه المسمار أو السفين، ثم لما اخترع أجدادنا الفينيقيون النجباء الحروف الهجائية وعمَّت العالم المتمدن لسهولتها اختارها الآراميون وكتبوا بها لغتهم وانتسخ القلم المسماري.

أمَّا اللغة الفينيقية فقالوا: إنما هي لهجة من لهجات اللغة العبرانية، وقد صدَّق ما قلت في السريانية والكلدانية العلامة المطران يوسف دريان الماروني السرياني والخوري بطرس عابد الكلداني في مصر، وهما من الثقات باللغات الشرقية.

ومن الثابت المؤكد الآن أنه في القرون الأخيرة قبل الميلاد والقرون الأولى بعده كانت اللغة الآرامية لغة المخابرات السياسية والتجارية ولغة التدوين في جميع بلاد العراق وسوريا وشمال جزيرة العرب، كما كانت اللغة اليونانية في ذلك العهد وتلك البلاد لغة العلوم والآداب. قالوا: وكان العرب في شمال الجزيرة يخالطون الآراميين بالتجارة والسياسة، ولم يكن لهم قلم يكتبون به فاضطروا إلى تعلم اللغة الآرامية واستخدام قلمها، وتفرع القلم الآرامي بذلك إلى بضعة فروع منها القلم السامري في السامرة (وفيه كتبت التوراة السامرية)، والقلم التدمري في تدمر، والقلم النبطي في البتراء.

وبقي العرب يستخدمون القلم الآرامي إلى أن قام الإسلام في جزيرة العرب، ودوَّخوا البلدان، فدوَّنوا لغتهم وأصبحت اللغة العربية لغة المخابرات السياسية والتجارية والتدوين بدل اللغة الآرامية في جزيرة العرب كلها وفي جميع البلاد التي افتتحها العرب المسلمون في سوريا ومصر والعراق وتونس وغيرها.

هذا وقد كان المشهور إلى هذا العهد أن لغة المصريين القدماء حاميَّة غير سامية، ولكن العلامة أحمد بك كمال المتضلع في اللغة الهيروغليفية يؤكد أن اللغة المصرية القديمة واللغة العربية هما من أصل واحد، وأن كثيرًا من ألفاظ اللغتين ومبانيهما واحد، فاليد في لفظهم يد، والعين عين، والأصبع صُباع، ونحو ذلك، وهو الآن يؤلف معجمًا للغة المصرية القديمة لإثبات هذا القول.

وقال في «القلم الهيروغليفي»: إن المصريين القدماء في الدور المعروف بالدور المجهول أو دور الكهنة سكنوا بين الشلال الأول ومنف عند مفترق النيل، وشرعوا في تدوين لغتهم، فجعلوا لكل اسم أو فعل صورته للدلالة عليه، فرسموا الشمس للدلالة على الشمس، والقمر للدلالة على القمر، واليد تحمل سوطًا للدلالة على الحدَث ونحو ذلك، ثم وجدوا أن الصور وحدها لا تفي بالمراد؛ إذ لا يعلم منها ألفاظ اللغة، فاتخذوا من الصور حروفًا تعبِّر عن النطق وكتبوا بها الألفاظ وجعلوا رسم كل اسم أو فعل بعد لفظه تأييدًا له، وهذا هو «القلم الهيروغليفي» في أصله، وفي حوالي الدولة الحادية عشرة اختزلوا هذا القلم لصعوبة التدوين به وسمَّوه «القلم الهيراطيقي» ثم في حوالي الدولة الحادية والعشرين اختزلوا هذا الاسم وسموه «القلم الديموطيقي»، ثم لما تولى اليونان مصر كتبوا اللغة المصرية بالحروف اليونانية المأخوذة عن الحروف الفينيقية وزادوا عليها بعض الحروف التي تنقص اليونانية للتعبير عن جميع ألفاظ اللغة المصرية، فكان من ذلك «القلم القبطي» الذي أصبح الآن قلمًا طقسيًّا كنسيًّا، وأمَّا الأقباط فإنهم الآن يكتبون ويتكلمون اللغة العربية إلَّا من ندر.

ويقول العارفون بالخطوط العربية: إن العرب قديمًا كانوا في بلاد سبأ واليمن يكتبون بالقلم الحميري أو المسند، وأمَّا في الحجاز فلم يكن لهم قلم يكتبون به حتى نزل حرب بن أمية القرشي جد معاوية بن أبي سفيان الحيرة، فرأى أهلها يكتبون العربية بالقلم الآرامي النبطي، فنقل هذا القلم إلى الحجاز، وذلك قبل ظهور الإسلام بقليل، ولما ظهر الإسلام لم يكن من يحسن الخط في مكة والمدينة إلَّا نفر معدود، ثم بنيت الكوفة وزهت في صدر الإسلام، فاشتهر القلم العربي باسم القلم الكوفي، وانتشر في البلاد الإسلامية كلها لشهرة أهل الكوفة إذ ذاك بالعلوم والآداب، وقد تنوع هذا القلم بحسب الزمان والمكان حتى صارت قواعده تعد بالعشرات، وفي أثناء ذلك قام في الإسلام بعض الكتاب فابتكروا قواعد في الخط أسهل وأوضح من القاعدة الكوفية؛ فأهملت هذه القاعدة تدريجًا حتى انقرضت في نحو سنة ٩٣٠ﻫ/١٥٢٤م.

وأشهر الكتَّاب المبتكرين في القلم العربي: ابن مقلة البغدادي المتوفى سنة ٣٢٨ﻫ، وابن البوَّاب المتوفى سنة ٤١٣ﻫ، وابن عبد الملك المتوفى سنة ٦٩٨ﻫ، وابن الشيخ الذي عاش في القرن الثامن للهجرة، ثم كانت الدولة العثمانية فاشتهر فيها القاعدة الفارسية والرقعة، وأشهر القواعد المستعملة الآن في مصر وسوريا والعراق هي: النسخ والرقعة والثُّلُث والفارسي، ثم إن لكل من عرب اليمن والحجاز والمغرب والسودان قاعدة خاصة يكتبون بها تميِّزها عن غيرها.

وهذا مثال من الحروف النبطية التي قيل إنها أصل الحروف العربية، مما رأيته في أسفاري في سيناء:

fig96
شكل ٤-٥: صخرة نبطية في وادي المكتب، وبجانبها كتابة نبطية على صخرة في وادي فيران.
fig97
شكل ٤-٦: تاريخ دير طور سيناء مصوَّرًا. «بيان»: هذا رسم أيقونة في الدير عليها صورة الدير وحديقته، وقد خرج من هيكل كنيسة الدير مريم العذراء وعلى حضنها المسيح الطفل، وإلى يمين الدير موسى يخلع نعليه عند اقترابه من العليقة، وإلى يسار الدير مطران الدير يستقبله الرهبان عند قدومه من مصر، أمامه العربان يتهددون رهبان الدير فيدلون لهم الطعام بسلة من الشباك المعلق، ومن وراء الدير طور سيناء وعلى قمته موسى يتلقى الوصايا العشر، ورسم الطريق الذي يصعد به إلى القمة من الدير، وعن يمينه جبل المناجاة، وعن يساره جبل كاترينا، وقد حملت الملائكة جثة القديسة كاترينا إلى قمته، ومن وراء الجبال بعيدًا عنها البحر الأحمر تمخر فيه المراكب الشراعية، وغير ذلك من الحوادث الشهيرة في تاريخ الدير، وهي من صنع راهب سينائي يدعى الأب ثيودوسيوس عاش في أواسط القرن الثامن عشر. وقد طبع من هذه الصورة آلاف من النسخ، وهي توزع على زوَّار الدير من المسكوب وغيرهم تذكارًا لزيارتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤