الفصل الخامس

في تاريخ دير طور سيناء القديم والحديث

(١) النساك في سيناء واضطهاد أهل البادية لهم

يظهر أن النساك بدءوا بالمهاجرة إلى جزيرة سيناء والإقامة في أماكنها المقدسة منذ القرن الثاني للمسيح على أثر الاضطهادات التي أثارها الوثنيون ضد المسيحيين في مصر وسوريا، وأهم الأماكن التي نزل بها النساك والرهبان: جبل موسى، ووادي فيران، ووادي الحمام شمالي مدينة الطور المسمَّاة قديمًا «رَيثو» أو «راية».

ومما لا ريب فيه أن هذه الأماكن كانت في أوائل القرن الرابع للمسيح غاصة بالنساك والرهبان، وقد هرب أولئك المساكين من اضطهاد أهل الحضر ليقعوا في اضطهاد أهل البادية، فقد أبنَّا في الفصل السابق أن الأنباط الذين كانوا يتجرون مع مصر بطريق سيناء، وقد أمَّنوا هذه الطريق، دالت دولتهم بعد استيلاء الرومان على عاصمتهم سنة ١٠٦م، وأصبح أهل البادية من نهر الأردن إلى البحر الأحمر لا وازع لهم، يعيشون على الغزو والنهب، وقد طالما غزوا رهبان سيناء ونهبوهم ونكلوا بهم وزادوا الشقاء الذي جلبوه على أنفسهم شقاءً.

وأول من كتب عن رهبان طور سيناء والاضطهادات التي أصابتهم ديونيسيوس البطريرك الإسكندري سنة ٢٠٥م.

وفي تقاليد الكنيسة أن القديسة هيلانة أم قسطنطنين الكبير (سنة ٣٢٣–٣٣٧م) بَنَت لهم برجين في المكان الذين بُنِيَ عليه الدير الحالي؛ لحمايتهم من غارة البدو، وذلك بالقرب من كنيسة العليقة التقليدية التي كلَّم الله عندها موسى النبي، ولعل القديسة هيلانة هي التي بَنَت أيضًا كنيسة العليقة الباقية داخل سور الدير إلى الآن.

ولكن بناء هذين البرجين لم يمنع اضطهاد العربان لهم، ثم إن الاضطهاد لم يكن من بادية العرب وحدهم، بل كان يعبر إليهم من العدوة الغربية للبحر الأحمر أقوام من البجاة فيكتسحون بلادهم وينكلون بهم، وقد روى الراهب أمونيوس الإسكندري الذي زار سيناء عن طريق القدس سنة ٣٧٣م أنه في أثناء زيارته غزا العرب رهبان طور سيناء فقتلوا أربعين راهبًا منهم، وغزا البجاة رهبان راية فقتلوا منهم أربعين راهبًا أيضًا، وقد دوَّن الراهب المذكور خبر هذه الغزوة عند رجوعه إلى الإسكندرية بالقبطية، وبقيَ حتى عثر عليه راهب يوناني يدعى يوحنا يجيد القبطية فترجمه إلى اليونانية، والظاهر أن راهبًا عربيًّا من رهبان الدير يحسن اليونانية نقله إلى العربية، وعند زيارتي الدير سنة ١٩٠٥ اطلعت على الترجمة العربية، فإذا هي مكتوبة بأسلوب كنائسي بسيط يدلُّ أتم الدلالة على حال الرهبنة والرهبان في تلك الأعصر الغابرة، فرأيت أن أثبتها كما هي بعد تنقيح عبارتها قليلًا إتمامًا للفائدة:

(١-١) خبر الراهب أمونيوس عن الآباء القديسيين الذين قتلهم البربر في «طور سيناء وراية»

كنتُ جالسًا يومًا في قلايتي الصغيرة قرب الإسكندرية في الموضع المدعو قانوبوس، فخطر لي أن أسافر إلى فلسطين؛ أولًا لأني لم أعد أطيق رؤية المصائب والتعديات الواقعة كل يوم على المؤمنين من عداة الناموس المردة، وكان أبونا الزائد قدسه بطرس بطريركنا يفرُّ متنكرًا من مكان إلى مكان غير متمكن من أن يرعى رعيته الجليلة براحة ومجاهرة، وثانيًا لأني اشتهيت أن أعاين الأماكن المقدسة وأسجد لقيامة ربنا يسوع المسيح المحيية الطاهرة، وللأماكن المقدسة التي جال فيها مكملًا أسراره الرهيبة، فمضيت إلى تلك الأماكن وسجدت لها وسررت بكل صنائع الله، ثم أحببت أن أشاهد الجبل الأقدس العليَّ (طور سيناء) فسرت في البرية وصادفت رفاقًا محبين للمسيح ذاهبين إلى ذلك الجبل، فوصلنا إليه بمعونة الله بعد ثمانية عشر يومًا، فأقمت هناك أيامًا قليلة متمتعًا بالآباء القديسين، وكنت أزورهم في قلاليهم كل يوم قصد المنفعة؛ لأنهم كانوا يجلسون سكوتًا كل الأسبوع إلى عشية السبت؛ إذ كانوا يجتمعون كلهم في موضع واحد ويقيمون الصلوات الليلية، وفي صباح الأحد يأخذون أسرار المسيح الطاهرة ويعود كل منهم إلى موضعه، وكانت سيرتهم ملائكية ووجوهم مصفرَّة وأجسامهم ذائبة من شدة النسك والحمية، حتى كانوا كأنهم بلا أجسام؛ لأنهم ما اقتنوا شيئًا مما يتنعم الإنسان به، لا خمرًا ولا زيتًا ولا خبزًا إلَّا يسرًا قليلًا كانوا يقتاتون به وبأطراف الشجر حفظًا لأجسادهم، وكان رئيس المكان يحفظ عنده خبزات يسيرة لإضافة الغرباء الواردين إلى هناك للصلاة.

فلما مضت عليَّ هناك بضعة أيام إذ وفد بغتة جمهور من العرب، فقتلوا جميع من وجدوهم في المساكن التي حول الدير، ولما أحسَّ الذين كانوا مقيمين بقرب البرج بالشغب والجلبة لجئوا إلى كنف الأب القديس ذولاس الرئيس الذي كان بالحقيقة عبد المسيح؛ لأنه كان ذا وداعة وطول أناة لم تكن لغيره حتى كان كثيرون يسمونه موسى الثاني، وبعد أن قتل العرب من وجدوه في المكان المسمَّى تتراقن، وفي حوريب وقيدار وغيرهما من الأماكن المجاورة للجبل المقدَّس وصلوا إلينا، وقد كادوا يقتلوننا لولا لطف الله بنا، فإن الله يمد يده إلى المستغيثين به؛ فقد أمر أن يظهر لهيب عظيم في أعلى الجبل، وعاينَّا الجبل كله دخان والنار صاعدة إلى السماء، فخفنا كلنا، وانحلت قوانا من رهبة المنظر، وخررنا على وجوهنا ساجدين للرب، وتضرعنا إليه أن يفرجنا من هذه الشدة التي دهتنا، ولما عاين البربر ذلك المنظر المخيف ارتعدوا كلهم وركبوا جمالهم وفرُّوا هاربين، فشكرنا الله لأنه أراحنا منهم، ثم نزلنا من البرج وفتشنا المواضع التي قتل فيها الآباء فوجدنا ثمانية وثلاثين نفسًا قتلى، وجريحين وهما شعيا وسابا، وكان من القتلى في تتراقن وحدها ١٢ نفسًا وكلهم بحال تفتت الأكباد، فمنهم من كان رأسه لا يزال معلقًا بجسده يمسكه الجلد، وآخر مقطوع من وسطه، وآخر قد بترت يداه ورجلاه وانطرح كعود يابس، فدفنَّا القتلى بنوحٍ عظيم واهتممنا بالجريحين، أمَّا شعيا فإنه توفي بعد ليلة واحدة، وأمَّا سابا فقد كان يؤمل له الشفاء؛ لأن الضربة التي أصابته لم تكن خطرة، فجعل يشكر الله على الأشياء التي عرضت له، ولكنه استعظم الأمر لأنه لم يؤهل لمرافقة القديسين، وقائلًا «ويلي! أنا الخاطي! ويلي! أنا غير المستحق لمصافِّ الآباء القديسين الذين قتلوا من أجل المسيح، ويحي! أنا المطروح عند الساعة الحادية عشرة الذي رأى ميناء الملك وما دخل إليه»، وقال: «أيها الملك الضابط الكل، يا من أرسل ابنه الوحيد لتخليص الجنس البشري، أيها الصالح والمحب للبشر، لا تفرقني من الآباء القديسين الذي سلفت وفاتهم، وليتم بي عدد عبيدك الأربعين.» قال هذا وأسلم الروح في اليوم الرابع من وفاة القديسين.

وفيما نحن نائحون والحزن ملءُ قلوبنا والدموع في عيوننا من أجل القديسين وافانا رجل إسماعيلي فقال: إن النساك الساكنين في البرية الجوانية المسماة «راية» قتلهم السودان، والمكان المذكور على مسيرة يومين منا على شاطئ البحر الحمر، وبعد أيام قليلة جاءنا ناسك نجا من الواقعة، فرحَّب به الرئيس ذولاس وسأله أن يحدثه عما جرى للآباء القديسين والفضائل التي اتصفوا بها، وكيف كانت نجاته هو، فقال: أمَّا أنا فقد سكنت في ذلك الموضع منذ نحو عشرين سنة، وأمَّا الرهبان الآخرون فقد سكنوه منذ عهد بعيد، البعض منذ أربعين سنة والبعض منذ خمسين سنة والبعض منذ ستين، والمكان سهل فسيح جدًّا يمتد إلى الجهة القبلية، وعرضه من جهة الشرق اثنا عشر ميلًا، تحيط به الجبال كسورٍ، وهي وعرة جدًّا، يتعذر سلوكها على من لا يعرفها، ويحده من جهة الغرب البحر الأحمر، وفوق هذا البحر جبل تخرج منه اثنتا عشرة عينًا تسقي أكثر النخل، وعلى أقل من فرسخ منه آبار أخرى وشجر نخيل ليس بقليل، في منحدر هذا الجبل كان مسكن كثيرين من المتوحدين يقيمون في المغاور والكهوف، ولم تكن كنيستهم على الجبل نفسه بل بقرب الجبل، وكانوا أناسًا سماويين يشبهون الملائكة، وقد اقتنوا سيرتهم بأتعابهم ونسكهم وزهدهم في هذا العالم متهاونين بأجسادهم كأنها غريبة عنهم، ولا يمكنني أن أصف جهادهم والمحن التي كانوا يقاسونها كلها فأذكر سيرة اثنين منهم على سبيل المثال:

كان بينهم راهب اسمه موسى، ترهب من صغره وسكن ذلك الموضع، وكان أصله من فاران، عاش هذا في السيرة الملائكية ثلاثًا وسبعين سنة مقيمًا في الجبل في مغارة ليست بعيدة عن الكنيسة، وكان ثاني إيليا النبي في سيرته؛ لأن كل الطلبات التي كان يطلبها من الله كان يمنحه إياها، وقد أعطاه سلطانًا على الأرواح النجسة، حتى إنه شفا كثيرين منها وطردها بصلاته من المصابين، وقد شابه الرسل القديسين؛ لأنه جعل أكثر الإسماعيليين القاطنين في تخوم فاران مسيحيين، فإن هؤلاء لما عاينوا تلك الآيات التي صنعها الله على يديه آمنوا بالرب وأقبلوا على الكنيسة الجامعة طالبين المعمودية المقدسة، وهذا البار منذ نسك في مغارته ما ذاق خبزًا البتة؛ لأن رجال الموضع كانوا يجلبون حنطة من مصر فوق ما كانوا يأكلونه من ثمر النخل، وأمَّا هو فقد كان غذاؤه بسرًا قليلًا وشرابه من الماء الذي عنده ولباسه من الليف، وكان يحب الصمت جدًّا ويستقبل من يقصده بنشاط، وله أجوبة مقنعة معزية، وينام بعد الصلوات الليلية قليلًا ثم يقضي ليله ساهرًا، وفي صوم الأربعين المقدس كان يقفل باب قلايته ولا يفتحه إلَّا يوم الخميس الكبير، وما كان يدع عنده شيئًا لغذائه كل تلك المدة سوى عشرين تمرة وقسط واحد من الماء، هذا ما حدثنا به التلميذ الذي كان يخدمه، وفي أحد هذه الأيام الأربعين المقدسة قدم إليه رجل يسمى أفاديانوس فيه روح نجس جاءه مستشفيًا، فلما أصبح على نحو غلوة من قلاية الشيخ طرحه الروح النجس وصرخ صوتًا عظيمًا قائلًا: يا للغضب! أما أمكنني أن أصرف الشيخ عن «قانونه»؟ وإذ قال هذا خرج من الرجل وبرئ الرجل للحال، فعاد إلى منزله معافًى ممجدًا الله، وقد آمن بالمسيح وكثيرون غيره، ثم إن هذا الولي تلمذ رجلًا يسمى بسويس في نواحي الصعيد كان يسكن فوق قلايته، وقد أقام معه ستًّا وأربعين سنة لم ينقص من قانونه شيئًا، بل كان مقتفيًا أثره ومثاله، وكنت أنا قد أقمت معه عند أول وصولي إلى هناك ثم فارقته لأني لم أطق الصبر على تقشفه ونسكه.

وكان بين هؤلاء الرهبان راهب آخر اسمه يوسف، إلياوي الجنس، يعني من أهل أيلة، يسكن في تلك البقعة على ميلين من الماء، وقد بنى مسكنه بيده، وكان جلًا بارًّا متممًا لجميع وصايا المسيح، وقد أقام في ذلك المكان أكثر من ثلاثين سنة، فقصده يومًا أخ ليسأله عن أمر، فقرع بابه فلم ينل جوابًا، فنظر إليه من المدخل فرآه كله من رأسه إلى قدمه قائمًا كلهيب النار، فارتعد من هذا المنظر وخارت قواه، فسقط على الأرض كميت، وبقي على ذلك ساعة واحدة ثم نهض وجلس قدام الباب، أمَّا الشيخ فلاشتغاله بالمشهد الروحي لم يعلم ما جرى، وبعد مضي ثلاث ساعات ظهر كعادته وفتح الباب وأدخل ذلك الأخ وأجلسه معه، ثم سأله متى جاء، فأجابه: إني جئت منذ أربع ساعات، لكني لم أقرع الباب لكي لا أزعجك، فعرف الشيخ أن الله قد عرَّفه بأموره، فأجابه عن جميع المسائل التي سأله إياها وصرفه بسلام، ثم اختفى عن عيون الناس فلم يعد يظهر لهم؛ لأنه خشي مجد الناس، وكان له تلميذ يدعى أبا جلاسيوس يسكن بالقرب منه، فجاءه فلم يجده، فأقام مكانه في قلايته مغمومًا، وبعد مضي ست سنين عند الساعة التاسعة قُرع باب القلاية فخرج أبو جلاسيوس، فإذا بمعلمه واقف عند الباب، فدُهش من رؤيته ولكنه لم يخف، بل قال له: صلِّ أيها الأب، وإذ صلى قبَّله القبلة المقدسة مسرورًا، فقال له الأب: ما أحسن ما فعلت يا ولدي إذ التمست الصلاة أولًا؛ لأن فخاخ العدو كثيرة! فقال التلميذ: أيها الأب الكريم ماذا رأيت في مفارقتك إياي وتركي يتيمًا مغمومًا لأجلك؟ فقال له: أمَّا السبب في أني لم أظهر فالله يعلمه، ومع ذلك فإني لم أبعد عن هذا المكان ولا مرَّ يوم لم أتناول فيه أسرار المسيح المقدَّسة معكم كلكم، فتعجب ذلك التلميذ من معلمه كيف كان يدخل إلى الكنيسة مع الإخوة ولم يبصره أحد! ثم سأله: لأي شيء جئت الآن إلى عبدك؟ فأجابه: إني اليوم أسافر إلى الرب وأخرج من هذا الجسد الشقي، فجئت أتركه عندك لتدفنه كما تشاء، وحدَّثه كثيرًا عن النفس والسعادة المقبلة ثم بسط يديه ورجليه ورقد بسلام، وجاء الأخ وأعلمنا بذلك فمضينا للحال بالسعف والترتيلات، وحملنا جسده المقدس، وكان وجهه مشرقًا، ووضعناه مع الآباء السالف رقادهم. وأحدثكم الآن عن مجيء البربر وفعالهم: كان الآباء القديسون المذكورون نامين بكل فضيلة، راضين بالمسكنة وعدم القنية من أجل الرب، مصابرين التعب والشقاء، مشتغلين بالصلوات والطلبات، عابدين المسيح الإله، وكان عددنا كلنا ثلاثة وأربعين ناسكًا، وفيما نحن كذلك إذ جاءنا جماعة من الأماكن التي على البحر، وقالوا: إن طائفة كبيرة من البجاة قد عبروا اللجج على أطواف من خشب من جهة الحبشة، وهم الآن محاصرون مركبًا راسيًا عند الشاطئ فيه ركاب من أهل أيلة يريدون المضي إلى القلزم «السويس» في البحر، فأمسكوا المركب وقالوا لنا: خذونا إلى القلزم فما نقتلكم، فوعدناهم بذلك وتظاهرنا أننا نترقب هبوب الريح القبلية حتى دخل الليل، ففررنا منهم وجئنا نخبركم لتأخذوا حذركم لئلا يرسوا في هذا الموضع ويقتلوكم، وعددهم ثلاثمائة رجل، فلما سمعنا هذا احتطنا لأنفسنا وأقمنا حراسًا عند البحر حتى إذا ما أبصروا المركب يخبروننا، وصلينا إلى الله أن يفعل بنا ما يوافق نفوسنا، وبعد ليلة واحدة شوهد المركب مقلعًا ومقبلًا نحونا، وكان الفارانيون الموجودون في ذلك المكان قد صمموا على محاربة البربر (البجاة) من أجل نسائهم وأولادهم وقطارات جمالهم، فاصطفوا فوق النخيل، وكان عددهم مائتين عدا النساء والأولاد، وأمَّا نحن فقد هربنا إلى كنيستنا التي كان يحيط بها حجارة كبيرة ارتفاعها قامتان، ثم إن البرير بلغوا الميناء الذي أرشدهم إليه النوتية وأقاموا تلك الليلة في جانب الجبل من ناحية المغرب عند العيون، فلما أصبحوا أوثقوا النوتية وتركوهم في ذلك الموضع، وتركوا في المركب رجلًا يحفظه، ووضعوا واحدًا منهم يرقبه لئلا يقلع به، ثم أقبلوا نحو العيون، فالتقاهم الفارانيون للحرب، وانتشبت واقعة قرب العيون بين الجبال، وكان رشق النشاب من الفريقين غزيرًا كالمطر، ولما كان البربر أكثر عددًا من الفارانيين ومرتاضين على القتال غلبوا الفارانيين وقتلوا منهم مائة وسبعة وأربعين رجلًا، وفرَّ من بقي منهم إلى الجبال، واختبأ بعضهم بين الشجر، وأسر البربر النساء والأولاد وجعلوهم عند العيون، ثم أقبلوا علينا عدوًا كالوحوش الضارية إلى الموضع المدعو «القصر» ظانين أنهم يجدون عندنا أموالًا جزيلة مخبوءة، فطافوا بالسور وجلبوا وصاحوا بأصوات بربرية، فحصل لنا كآبة عظيمة وحرنا في ما نعمل، فرفعنا عيوننا إلى الله وبكينا بقلب موجع وهتفنا كلنا بصوت واحد: يا رب ارحم، ثم نهض أبونا القديس بولس، من أهل «بتراء»، ووقف في وسط الكنيسة وقال: «أيها الآباء والإخوة، اسمعوا مني أنا الخاطي الصغير فيكم، أنتم تعلمون أننا من أجل سيدنا وربنا يسوع المسيح اجتمعنا في هذا المكان، وأننا من أجل محبته فصلنا أنفسنا عن هذا العالم الباطل، وقصدنا هذه البرية المقفرة متحملين الجوع والعطش ونهاية الفقر؛ لنؤهل نحن الخطاة غير المستحقين أن نصير شركاءه في ملكه، والآن فما يقع علينا شيء بغير علمه، وهو لا يعرض عنا في هذه الساعة، فإن شاء أن يعتقنا من هذه الحياة الباطلة الزائلة لنكون معه فسبيلنا أن نبتهج ونفرح ونشكره، ولا نحزن البتة؛ لأنه لا شيء أشهى وأحلى من معاينة وجهه المحبوب ومجده، اذكروا يا إخوتي كيف كنا نطوب القديسين ونشتهي أن نكون معهم، فها أن مشتهانا قد تمَّ وآن أن نكون معهم إلى الأبد، فلا تحزنوا ولا تجبنوا ولا تأتوا أمرًا يشينكم، بل انشطوا وصابروا الموت فيقبلكم الله في ملكه بفرح ومحبة»، فأجابوا كلهم قائلين: «أيها الأب الكريم، كما قلت لنا نصنع؛ لأنه بماذا نكافئ الرب عن كل ما صنع لنا، نأخذ كأس الخلاص ونستغيث باسم الرب»، ثم دار أبونا وجهه إلى الشرق، ورفع يديه إلى السماء وقال: «أيها الرب يسوع المسيح، إلهنا القابض الكل، رجاءنا ومعونتنا، لا تنسَ عبيدك، لكن اذكر مسكنتنا وأيِّدنا في ساعة الشدة هذه، واقبل أرواحنا ذبيحة مرضية نسيمًا طيبًا، فإنه بك يليق الإكرام والمجد الآن وإلى الدهر.» وإذ قلنا: آمين، خرج صوت من المذبح سمعناه كلنا يقول: «تعالوا إليَّ أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم»، فأحاط بنا الخوف والجزع عند سماع ذلك الصوت وانحلت قوانا؛ لأنه كما قال الرب: «الروح نشيط ولكن الجسد ضعيف.»

أمَّا البربر فإذ لم يكن أحد يقاومهم أحضروا أخشابًا طويلة وصعدوا بها إلى داخل السور، وفتحوا الباب ودخلوا إلينا كذئاب برية وسيوفهم مجردة بأيديهم، فصادفوا أولًا راهبًا اسمه أرميا كان جالسًا على باب الكنيسة فسألوه، وكان أحد النوتية يترجم لهم: «أين رئيسكم؟» فقال بكل شهامة: أنا لا أخاف منكم، ولا أدلكم على من تطلبون لأنكم أعداء الله، فاغتاظ البربر من جرأة ذلك الراهب واحتقاره لهم، وربطوا يديه ورجليه، وأقاموه مجردًا ورشقوه بالنشاب حتى إنه لم يبقَ في جسمه موضع إلَّا أصابته سهامهم، فلما رأى أبونا بولس هذه الأمور تقدم إليهم وقال: أنا هو الذي تطلبونه مشيرًا بأصبعه إلى نفسه، فقبضوا عليه وسألوه: «أين أموالك؟» فأجابهم بكلام لين ووداعة كجاري عادته: صدقوني يا أولادي إني لم أقتنِ في عمري كله سوى هذين الثوبين الشعريين العتيقين اللذين تعاينونهما على جسدي، فشرعوا يضربون عنقه بحجارة ويخزون وجهه بمزاريقهم قائلين له: هات أموالك، وبعد أن عذبوه ساعة واستهزءوا به، ولم يُجدِهم ذلك نفعًا ضربوه بالسيف على رأسه فانشق ذلك الرأس المقدَّس فلقتين، وتدلى على كتفيه من الجانبين وطعنوه طعنات أخرى في بدنه، وهو طريح عند رجلي الأب الذي قُتل قبله.

أمَّا أنا الشقي، فإني لما رأيت هذه الأهوال ورأيت دماء القديسيين منسكبة وأمعاءهم مطروحة على الأرض استولى عليَّ الخوف والجزع، والتمست موضعًا أهرب إليه لأنجو من القتل، وكان في زاوية البيت سعف نخل قليل، وكان البربر مشتغلين ببولس الريس خارج البيت، فاختبأت تحت سعف النخل على أن يصير أحد أمرين: إمَّا ألَّا يلحظني البربر فأنجو، وإمَّا أن يعثروا بي فلا أصبر على أكثر مما كنت أصبر عليه لو لم أختبئ، ثم إن البربر بعد قتل الراهبين خارج الكنسية دخلوا إلى الكنيسة وهم يصيحون ضاربين الهواء بسيوفهم ثم أعملوها في الرهبان بصور تقشعر منها الأبدان.

كان الراهب يحدثنا بهذه الأمور وهو يبكي بكاءً مرًّا، وقد حركنا نحن أيضًا إلى البكاء، ثم قال: كيف أصف الأهوال التي رأتها عيناي؟ كان بين الرهبان فتى حسن الوجه قد ترهب وسنه خمس عشرة سنة، فلما أبصره البربر أرادوا أن يستبقوه عبدًا لهم فاجتذبه أحدهم إلى خارج الكنيسة بيده، فلما رأى الأخ أنه لم يؤهل للموت مع الإخوة وأنه يستعبد لقوم جفاة متوحشين، بكى وولول، ثم رأى أنه لم ينتفع بالبكاء فتشدد واستبسل واختطف سيفًا من أحد البربر وضرب به كتفه، وقد قصد بذلك أن يستفزهم لقتله؛ فكان كما أراد، فإنهم انقضوا عليه بسيوفهم وقطعوه إربًا.

ثم إن البربر لما قتلوا جميع الرهبان فتشوا كل مكان في الكنيسة ظانين أنهم يجدون أمتعة وأموالًا، ولم يعلم هؤلاء الذين لا إله لهم أن الشهداء لم يكن لهم شيء على الأرض، بل كانت قنيتهم كلها في السماء، وكان البربر لما شرعوا في التفتيش انقطع قلبي من الخوف؛ لأني قلت: لا بدَّ أن يفتشوا سعف النخل الذي اختبأت به فيقتلونني شر قتلة، وكنت أتضرع إلى الله أن يعمي قلوبهم عني، فجاءوا إليَّ ونظروا إلى الحوض فاحتقروه وانصرفوا عنه، ثم عادوا إلى العيون وفي عزمهم أن يتموا طريقهم إلى القلزم، فلما ذهبوا إلى الشاطئ وجدوا المركب مكسرًا؛ لأن الرجل الذي أقاموه على حراسته كان مسيحيًّا، فقتل البربري الذي تُرك معه وقطع حبال المركب وفرَّ هاربًا إلى الجبال، وقد قذفت الأمواج بالمركب إلى الصخور فحطمته، فاغتاظ البربر وحاروا فيما يعملونه؛ لأنه لم يعد لهم سبيل للعودة إلى بلادهم، ومن شدة غيظهم بدءوا بقتل الذين استبقوهم من النساء والأولاد، وكانوا كثارًا، ثم أوقدوا نارًا عظيمة وشرعوا في حرق النخيل بلا رحمة، وبينما هم مشتغلون بهذا إذا بستمائة رجل من الإسماعيليين أهل فاران كلهم مسيحيون ورماة بالقوس والنشاب قد أقبلوا مهاجمين، فلما شعر البربر بهم استعدوا للحرب وانتشبت بينهم حرب عند شروق الشمس في بسيط من الأرض، وتراموا بالنشاب مدة طويلة، وأما البربر فإذ لم يكن لهم سبيل إلى الفرار حاربوا مستقتلين إلى الساعة التاسعة من النهار، وقد قتلوا من أهل فاران في ذلك اليوم ٧٤ رجلًا وجرحوا كثيرين، ولكن الفارانيين غلبوهم بكثرة العدد وظلوا يقاتلونهم حتى قتلوهم عن آخرهم.

هذا ولما كان البربر مشتغلين بالحرب مع أهل فاران حصلت لي جرأة يسيرة، فخرجت من مخبئي وتفقدت أجساد القديسين فوجدتهم كلهم قد قضوا نحبهم إلَّا ثلاثة منهم وهم دمنُس وأندراوس وأوريانس، أمَّا دمنس فإنه كان طريحًا يتألم من جراحه؛ لأنه كان في جنبه ضربة قتالة، وأمَّا أندراوس فقد كانت فيه جراحات ليست بالغة فشفي منها، وأمَّا أوريانس فإنه لم يمس بسوء لأن بربريًّا ضربه بالسيف فوقعت ضربته في ثوبه الشعري، فمزقت ثوبه ولم تمس جسده، فظن البربري أنه قتله فتركه وطرح أوريانس نفسه بين جثث الشهداء متظاهرًا بالموت، هذا قام معي فتفقدنا أجساد القديسين ونحن ننتحب ونبكي من هذه الأهوال.

ثم إن أهل فاران بعد أن قتلوا البربر تركوا جثثهم على شاطئ البحر مأكلًا للوحوش وطير السماء، وجمعوا أجساد أهلهم المقتولين في هذه الوقعة والتي قبلها، وأقاموا عليهم مناحة عظيمة ودفنوهم في مغاور في سفح الجبل بقرب العيون، ثم جاءوا إلينا مع رئيسهم أفاذيانوس وساعدوا في دفن أجساد القديسين، وكان البربر قد مثلوا بهم تمثيلًا: فكان أحدهم قد أصابته ضربة قطعته من كتفه إلى صرته، وآخر قد شطر شطرين، وآخر قد قطعت الضربة رأسه إلى عنقه، وآخر نصف أمعائه في جوفه والنصف الآخر متدلٍّ إلى الأرض، ولما جمعنا أجسادهم كلهم جاء أفاذيانوس وباقي رؤساء فاران وقدموا ثيابًا بيضاء وأكفانًا ثمينة، وكفنوا أجساد القديسين، وكان عددهم تسعة وثلاثين؛ لأن دمنس الرومي لم يكن قد توفي بعد، وحمل جميع الحضور سعف النخل وجاءوا لاستقبال القديسين، فحملوا أجسادهم المقدسة بقراءات وفرح عظيم، ودفناهم كلهم في مكان واحد شرقي القصر، أمَّا دمنس فإنه أسلم الروح عند المساء، فحملناه ودفناه في موضع منفرد؛ لأننا لم نشأ أن نفتح القبر لندفنه معهم، وكان قتل هؤلاء الشهداء في الرابع عشر من شهر كانون الثاني في الساعة التاسعة من النهار، وأمَّا أندراوس وأوريانُس فإنهما أقاما هناك ورأيهما منقسم في الإقامة في ذلك الموضع أو الانصراف عنه، وأمَّا أنا فلما كنت لم أطق الصبر على البقاء في ذلك الموضع بعد خرابه على تلك الصورة جئت إليكم، وقد تملقني المحب لله أفاذيانوس كثيرًا لأبقى هناك، ووعد بأن يتعهدنا دائمًا ويخدمنا بنشاط، فلم أذعن له للأسباب التي تقدمت. ا.ﻫ. ثم سألنا الناسك أن نحدثه بما جرى لنا فحدثناه، وكان عدد المقتولين هنا وهناك متساويًا، فصار البكاء والنحيب على الفريقين، ثم قام الأب ذولاس الرئيس وقال: «أمَّا أولئك الإخوان فقد أهلوا للفرح العظيم والملك الدائم بعد تلك الجهادات والأحزان، ولبسوا تاج الشهداء، فلنهتم الآن بأنفسنا ونتضرع إليهم أن يتشفعوا بنا إلى الرب ليكون لنا حظ معهم، ونخدم الله بكل قوانا، ونشكره لأنه نجانا من أيدي الأشرار.»

وأمَّا أنا الخاطي أمونيوس فقد عدت إلى مصر وسطَّرت هذه الأخبار كلها في كتاب، وما سكنت الموضع القديم المدعو قانوبوس، بل سكنت بقرب منف في مسكن جميل بقيت فيه باكيًا ذاكرًا للصديقين شهداء المسيح وآلامهم، ممجدًا الإله الضابط الكل مع الابن الوحيد والروح القدس، الآن وإلى أبد الدهور، آمين. ا.ﻫ.

هذه الأخبار وجدتها أنا يوحنا الراهب بتوفيق الله عند راهب متوحد، مكتوبة باللغة القبطية، وكنت أجيد هذه اللغة، فنقلتها إلى اليونانية لمجد الله ومذبح الشهداء القديسين، وكانت شهادة هؤلاء الأبرار القديسين في عهد ديوقلتيانوس، الملك الكافر، فصلواتهم تحفظنا أجمعين، آمين! ا.ﻫ.

هذه هي رواية أمونيوس الراهب عن غزوة البجاة والعرب لرهبان سيناء في أواخر القرن الرابع كما وصلت إلينا، وأمَّا قول المترجم اليوناني: إن ذلك كان في عهد الإمبراطور ديوقلتيانوس (٢٤٨–٣١٣م) فالراجح خطؤه، نعم إنه كان في عهد هذا الإمبراطور بطرك على الإسكندرية يسمى بطرس (٣٠٠–٣١١م) ولكن زيارة أمونيوس لسيناء كانت على الأرجح في عهد بطرس الثاني (٣٧٣–٣٨٠م)؛ لأن روايته تنبئ أن رهبان طور سيناء لما هاجمهم العرب لجئوا إلى برج كان لهم هناك قرب مكان العليقة، وهذا البرج في المشهور هو من بناء القديسة هيلانة أم قسطنطين الكبير (٣٢٣–٣٣٧م) كما مرَّ، أي بعد عهد ديوقلتيانوس وبطرس الأول بسنين، وفوق ذلك فقد رأيت أن أمونيوس حجَّ إلى القدس، ثم ذهب منها مع جماعة من الحجاج إلى طور سيناء، والمشهور أن طرق الحجاج النصارى لم تؤمَّن إلَّا في عهد قسطنطين الكبير الذي اعتنق النصرانية ونصرها وأمَّن طرقها، بل المشهور أنه لم تكن للنصارى عادة الزيارة إلى القدس وطور سيناء إلَّا بعد أن زارت أم قسطنطين القدس باحتفال ملكي عظيم، وبنت فيها كنيسة القيامة سنة ٣٣٦م، وأمرت ببناء برجين وكنيسة العليقة عند طور سيناء، فأصبح الحج إلى القدس وسيناء عادة للنصارى إلى هذا العهد، والله أعلم.

(١-٢) خبر نيلس الراهب

هذا وممن كتب عن غزو العرب لرهبان طور سيناء نيلس الراهب، من أعيان القسطنطينية، جاء في سيرة هذا الراهب أنه كان محافظًا لمدينة القسطنطينية، وقد تزوج فيها فولد له صبي وبنت، وكان معاصرًا ليوحنا فم الذهب، وقد تتلمذ عنده واشتهر منذ صغره بالصلاح والتقوى وزهد الدنيا، فلما بلغ نحو الأربعين سنة من العمر تمكن زهد الدنيا في قلبه، فصمم على ترك وظيفته وهجر عائلته وبلاده والتنسك في طور سيناء حيث كلم الله موسى، فترك ماله كله لامرأته وبنته، وأخذ ابنه واسمه عبد الله وذهب به إلى طور سيناء، وذلك في نحو سنة ٣٩٥م، وأقام هناك قرب مغارة إيليا النبي في الأرجح إلى أن مات في نحو سنة ٤١١م، وقد كتب عدة رسائل ونسكيَّات روحية مشهورة، وكتب عن غزوة غزاها العرب لرهبان سيناء في عهده، فنقل لي المطران بورفيريوس الثاني مطران سيناء الحالي خلاصة ما كتبه عن هذه الغزوة. قال: روى نيلس:
إنه في ليلة الأحد الواقع في ١١ يناير سنة ٤٠٠م نزلت أنا وابني من الجبل إلى كنيسة العليقة، حيث اجتمع الرهبان للصلاة، وبقينا نصلي إلى الصباح، إذ هجم علينا جماعة من العرب فقتلوا منا الكاهن ثيوذولس والراهبين بولس وحنا، وأخذوا ابني عبد الله أسيرًا، وكان بين شيخ العرب وشيخ فيران عهد صلح لتأمين طريق التجارة، فذهبت ليلًا إلى شيخ فيران وأخبرته بما كان من غدر العرب وأسر ابني، فأرسل وفدًا إلى شيخ العرب في طلب الترضية، وعدت إلى الجبل فوجدت العرب قد قتلوا سبعة رهبان آخرين في ضواحي العليقة، وعاد الوفد إلى فيران بعد أربعة أيام وقال: إن شيخ العرب أظهر مزيد الأسف مما جرى، وتعهد بكل ما يرضي الفارانيين، وأمَّا ابني فقال: إنه لا يزال حيًّا، ولكنه لا يعلم أين هو، فلما رجع الوفد إلى شيخ العرب بمطالب الفارانيين صحبته للتفتيش عن ابني، وفي الطريق التقيت بدويًّا أخبرني أن ابني في الخلَصة قرب بئر السبع، فأخذت دليلًا وجئت الخلصة، فوجدت ابني في كنيستها فوقعت عليه أقبله، وسألته عما جرى له مع العرب، فقال:

كان العرب الغزاة قد أسروا معي عبدًا لأهل فيران، فسمعهم في الطريق يقولون: إنهم سيقدمونني أنا وإياه ذبيحة «لنجمة الصبح» التي كانوا يعبدوها، فلما نزلوا للمبيت فرَّ العبد وبقيت أنا وحدي أبكي الليل كله وأصلي إلى الله لينقذني من أيدي أولئك القساة، وكانوا قد سكروا تلك الليلة فناموا إلى ما بعد شروق الشمس، أي بعد فوات وقت الذبيحة، فأخذوني إلى سوق وباعوني عبدًا لبعض التجار، فافتداني مطران الخلَصة منه، وجعلني في هذه الكنيسة خادمًا. قال نيلس: فشكرت المطران وشكرت الله على نعمه، وعدت بابني إلى طور سيناء مسرورًا. ا.ﻫ.

هذا وكان نيلس يفاخر اليهود بقوله: «إنه بالرغم عن النكبات والاضطهادات التي كانت تحلُّ بالرهبان فإنهم قضوا أيامهم راضين فرحين في نفس الصحراء التي لم يستطع شعب الله الخاص أن يمرَّ بها مرورًا بلا شكوى ولا تذمُّر.» ا.ﻫ.

(٢) أبرشية فيران

والواقع أنه على رغم غزوات العرب وتعدياتهم نرى لرهبان سيناء في بدء القرن السادس للمسيح أبرشية في وادي فيران، فيها عدة أديرة وكنائس، حتى إن المجمع الذي عُقد في القسطنطينية في أيام بطريركها «مينا» سنة ٥٣٦م ضد الهرطوقيين أنتيموس وسافيروس حضره الكاهن ثيوناس نائبًا عن أبرشية فيران، وأمضى اسمه في جلسات المجمع هكذا: «أنا ثيوناس الكاهن بنعمة الله، النائب عن رهبان طور سيناء، وراية وأبرشية فيران المقدسة.»

وكانت أبرشية فيران قبل هذا العهد تابعة لأبرشية البتراء كما مرَّ، إلى أن خمد ذكر البتراء في آخر عهد الإمبراطور فالنس الروماني (٣٦٥–٣٧٨م) فغدت أبرشية قائمة بذاتها.

(٢-١) خبر أنطونيوس الشهيد

وزار أنطونيوس الشهيد سيناء في القرن السادس للمسيح بعد بناء الدير بقليل، وكتب رحلته إليها فقال: «إنه رأى كثيرًا من مغاور النسَّاك عند جبل سيناء وجبل حوريب، وإن عرب البادية أقاموا على جبل حوريب صنمًا من الرخام الأبيض كان يتغير لونه في أثناء احتفالهم بتكريم القمر! وإنه رأى المنَّ الذي كان يهبط من السماء في الوادي بين جبل حوريب وجبل سيناء، وذكر كيف كان الرهبان يجمعونه ويأتون به إلى الدير، وهناك يضعونه في علب صغيرة ويقدمونه للزوَّار بركة، وقد أعطوا منه شيئًا لأنطونيوس وصنعوا منه شرابًا وقدموه له فشرب منه.

ثم ذكر أنطونيوس سفره من جبل حوريب إلى جبل سيناء وقال إنه عندما اقترب من جبل سيناء استقبله عدد لا يحصى من الرهبان يحملون الصليب وينشدون المزامير، ولما وصلوه انطرحوا على الأرض، وكذلك فعل أنطونيوس ورفاقه وبكوا جميعًا.

ثم دخل أنطونيوس الدير فأراه الرهبان النبع الذي رأى موسى عنده العليقة، وكان للدير ثلاثة رؤساء: رئيس يعرف اللاتينية وآخر اليونانية وثالث مصري.

ثم صعد أنطونيوس إلى قمة جبل سيناء في سلَّمٍ عظيم له ستة آلاف درجة، فلما وصل وسط الطريق رأى غار إيليا النبي، وفي قمة الجبل رأى كنيسة صغيرة مساحتها ٦ أقدام مربعة، قال: ولم يكن أحد يجسر أن يقيم هناك، ولكن كان من عادة الرهبان أن يتسلقوا القمة عند الفجر ويصلون، وكان من عادة الزوَّار أن يحلقوا شعور رءوسهم ولحاهم، فحلق أنطونيوس شعر رأسه ولحيته.»

(٣) خبر بناء الدير ورجال حاميته المعروفين بالجبالية

بقي رهبان سيناء يقاسون الشدائد من اعتداء البدو عليهم إلى عهد الإمبراطور يوستنيانوس الروماني الذي حكم في القسطنطينية من أول أبريل سنة ٥٢٧ إلى سنة ٥٦٦م، فسمعوا بغيرته على الدين وأهله، فأرسلوا إليه وفدًا يسألونه أن يبني لهم حصنًا يقيهم هجمات البدو، وكان الرومان قد هجروا حصن البتراء من عهد الإمبراطور فالنس، وبطلت طريق البتراء التجارية إلى مصر بسبب تحويل التجارة من خليج فارس إلى تدمر كما مرَّ، وأصبح البدو من البحر الميت إلى البحر الأحمر يعيثون وينهبون بلا وازع، فرأى الإمبراطور يوستنيانوس وجوب حماية الرهبان وتأمين طريق مصر من العقبة، فأجاب طلب الرهبان وأرسل مهندسًا وبنَّائين، فبنوا الدير الحالي وكان الفراغ من بنائه نحو سنة ٥٤٥م كما قدمنا في باب الجغرافية.

وبعد بناء الدير أرسل الملك يوستنيانوس مائتي رجل بعائلاتهم حامية له، أي مائة رجل من بلاد الروم ومائة رجل من مصر، وأمر بمرتب من الحبوب يرسل إليهم سنويًّا من مصر لقوتهم، فسكنوا محلة بنوها لأنفسهم في جوار الدير، وكانوا كلهم يدينون بالنصرانية.

ثم كان الإسلام في جزيرة العرب سنة ٦٢٢م، وفتح العرب المسلمون مصر سنة ٦٤٠م، وانقطع الزاد الذي كان يرسل إلى الحامية من مصر، ولم يكن للدير طاقة على إمدادها بالقوت، ولا في طاقتها حماية الدير بعد ذهاب دولتها، فاضطر رجالها إلى ترك محلتهم عند الدير وسكنوا البادية حول الدير، ودخلوا في الإسلام، وذلك من عهد بعيد، ولكنهم ما زالوا يعيشون في جوار الدير ويخدمون الرهبان بأجرتهم، والرهبان يحسنون إليهم ويأخذون بناصرهم إلى اليوم، وقد عرفوا بالجبالية نسبة إلى جبل موسى، ويعرفون أيضًا بصبيان الدير؛ لأنهم في خدمته.

واطلعت في الدير على خبر وضعه الرهبان عن بناء الدير والجبالية في دفتر صغير (منقول عن الدفتر الكبير عن سنة ٥٣٠م) فآثرت إثباته هنا زيادة في التبيان، وهذا هو بنصه بعد ضبط عبارته:

نقول نحن القسوس والرهبان القاطنين في طور سيناء: إننا لم نعد نستطيع احتمال اضطهاد العربان الغرباء الذين كانوا يأتوننا من البحر الأحمر والحبشة ومن كل ناحية، ينهبوننا ويذبحوننا ويفعلون بنا كل الشرور التي يلهمهم بها الشيطان، وقد نصحنا الزوار الذين كانوا يأتون من كل الجهات لزيارة الأماكن المقدسة أن نرسل وفدًا إلى الملك يوستنيانوس في القسطنطينية ليبني لنا حصنًا يقينا هجمات العرب، لذلك اجتمعنا يومًا ما في جبل الله الذي كلم عليه سيدنا موسى، واخترنا أناسًا منا يذهبون إلى الملك ويلتمسون منه بناء الحصن، وهم الشيخ المتوحد ثاوضوسيوس وبروكوبيوس وبخوميوس وأنطونيوس وسابا، فسافروا بحرًا إلى القسطنطينية ودخلوا على الملك وقدموا له الدعاء والصلوات المرسلة من الآباء، وخرُّوا أمامه ساجدين وبكوا بكاءً مرًّا وأخبروه بجميع الشرور التي يأتيها البربر ضدنا من النهب والذبح، فرحَّب الملك بهم وبالغ في إكرامهم وأجابهم إلى طلبهم، فأرسل كبير أراخنته جاورجيوس وأرسل معه كتابًا بختم يده إلى نائبه في مصر ثاودورس يأمره بأن يجهز جاورجيوس بما يلزم من المال والمعلمين والأدوات لبناء الحصن، ففعل ثاودورس بأمر الملك ووصل الأرخن جاورجيوس إلينا ومعه كل ما يلزم الحصن من بنائين وأدوات وأموال، وبحث في كل الجهات فلم يجد مكانًا يبني عليه الحصن أفضل من مكان العليقة؛ لأنه في بسيط من الأرض وفيه الماء وهو موضع مقدس فبنى عليه الحصن وهو الدير الحالي.

على أن هذا الحصن لم يقِ الرهبان وزواره من اعتداء البدو؛ لأن هؤلاء كانوا يختبئون في المغاور والجبال، وكلما وجدوا زائرًا أو راهبًا منفردًا انقضُّوا عليه وقتلوه وسلبوه ماله، فلما بلغت هذه الأخبار الملك يوستنيانوس؛ أحضر من بلاد الفلاح جهة البحر الأسود مائة رجل بعائلاتهم، وأرسلهم إلى سيناء، وكتب إلى ثاودورس نائبه في مصر فأرسل إليها أيضًا مائة رجل بعائلاتهم، فبنى الجميع لهم محلة وراء الجبل الشرقي على نحو ثمانية أميال من الدير، وسكنوا فيها وأقاموا هناك في حراسة الدير وخدمة الرهبان، وأمر الملك يوستنيانوس أن يكونوا عبيدًا للدير وفي طاعة الرهبان هم وأولادهم إلى أن يرث الله الأرض وما عليهم، ومن أخطأ منهم فللرهبان الإذن في تأديبه ومجازاته.

ولما كان القفر يابسًا لا يخرج معاشًا أصدر الملك أمره إلى ثاودورس والي مصر أن يجعل للدير راتبًا مستديمًا قدحًا من كل إردب من كل الحبوب كالقمح والشعير والعدس وغيرها؛ لأجل مئونة الرهبان وخدمة الدير، وقد أقرَّ هذه العطية الملوكية بعد ذلك الرسول محمد أول ملوك الإسلام كما هو مثبت في العهدة التي أعطاها للرهبان.

وبقي الصبيان محافظين على دينهم وأمانتهم في طاعة الدير إلى أن قدم السلطان سليم مصر فاتحًا، وذهب عربان البر من كل جنس إلى مصر لتقديم الطاعة له، فذهب صبيان الدير معهم وقالوا للسلطان: جئنا إليك لندخل في دين الإسلام ونخرج من خدمة الدير، فأجابهم السلطان: أمَّا أن تدخلوا في دين الإسلام فحسنًا تفعلون، وأمَّا أن تخرجوا من خدمة الدير فلا؛ لأن أوامر الملوك لا تُنقض؛ لأني إن أنا نقضت أمر الملك يوستنيانوس يأتي غيري بعدي فينقض أمري، ثم أمر فدخلوا في دين الإسلام وبقوا في خدمة الدير، وقد ثبَّت جميع الهبات التي وهبها الملك يوستنيانوس لرهبان الدير، وكتبها النبي محمد في عهدته. ا.ﻫ.

واطلعت في الدير على رواية أخرى لبناء الدير والجبالية مكتوبة على رقٍّ سعته شبران وقبضة في نحو شبرين، وهي تختلف عن هذه الرواية في التعبير وتتفق في المبنى، ومما جاء فيها ولم يكن في الرواية الأولى «أن المهندس بنى أولًا كنيسة مار أثناسيوس ودير راية وكنيسة على رأس جبل المناجاة، ثم بنى دير طور سيناء، وأنه أراد أولًا أن يبني هذا الدير فوق جبل سيناء، ثم لما لم يجد ماء فوق الجبل بناه في مكانه الحالي وهو في وادٍ ضيق بين جبلين يكشفه الجبل الشرقي، فإذا صعد أحد إلى هذا الجبل ورمى حجرًا وقع في الدير، فلما عاد المهندس إلى الملك يوستنيانوس ووصف له موضع الدير غضب من بنائه في موضع مكشوف للعدو، وأمر بضرب عنقه.

وأن السلطان سليمًا فرض على الجبالية نقل تسعين حمل جمل كل سنة من شون مصر إلى الحرمين إكرامًا لفقراء الحرمين، فبقوا على ذلك مائة سنة ونيفًا حتى ضجُّوا من هذه السخرة والتمسوا من الرهبان مساعدتهم على الخلاص منها، فبذل الرهبان مالًا جزيلًا وأراحوهم منها منذ تسعين سنة.» ا.ﻫ.

وقد وقَّع هذا الخبر الرئيس جرمانوس، والأقلوم رومانوس، والراهب توما الشامي، وغيرهم من القسس والرهبان ومشايخ العرب، وعدد الكل ١٢ رجلًا.

ويؤخذ من حواشي معلقة على بعض كتب الدير «أن الصبيان قديمًا اقتتلوا فيما بينهم، فقتل البعض وفرَّ البعض إلى بلاد الشام، والذين بقوا عجزوا عن حماية أنفسهم من العربان فضلًا عن حماية الدير، فعقد الرهبان مجلسًا في جامع الدير، حضره بعض مشايخ الزهيرات (من أولاد سعيد) والعوارمة، وجعلوا الصبيان في حمى المحاسنة (فرع من العوارمة)، وأعطى الرهبان المحاسنة مقابل حمايتهم للصبيان بستانًا لهم في جبل الفُرَيع يستغلونه، ولكن المحاسنة استملكوه ولا يزال في حوزتهم إلى اليوم.»

(٤) العهدة النبوية

تقدم في باب الجغرافية أن في دير طور سيناء صورة «عهد» قديم منسوب إلى محمد نبي الإسلام يعرف «بالعهدة النبوية»، وفي تقاليد رهبان هذا الدير أن النبي محمدًا كتب لهم هذا العهد في السنة الثانية للهجرة أمانًا لهم وللنصارى كافةً على أرواحهم وأموالهم وبيعهم، وأن السلطان سليمًا العثماني عند فتحه مصر سنة ١٥١٧م أخذه منهم وحمله إلى الآستانة وترك لهم صورة مع ترجمتها في التركية.

وقد رأيت في دير طور سيناء وفي وكالته في مصر القاهرة عدة صور لهذه العهدة بالعربية والتركية، بعضها منسوخ في كتاب صغير، وبعضها على رقِّ غزال، وكل صورة من هذه الصور تختلف عن الأخرى قليلًا، وفي كل منها أغلاط تدل على أن النُّسَّاخ الذين نسخوها كانوا أعاجم أو عربًا يجهلون قواعد اللغة العربية، وأصح هذا النسخ وأقدمها ثلاث مكتوبة في ٣ كراريس صغيرة بالعربية والتركية ومحفوظة في وكالة الدير بمصر القاهرة، وقد وسمت بالأحرف الإفرنجية A. B. C. حسب قدميتها، وأقدمها الموسومة بحرف A، وهذه صورتها مع تصحيح أغلاط النسخ في الحاشية:

بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون. نسخة سجل العهد، كتبه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كافة النصارى.

هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، بشيرًا ونذيرًا ومؤتمنًا على وديعة الله في خلقه؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا، كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعديها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتابًا جعله لهم عهدًا، فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثًا ولميثاقه ناقضًا وبدينه مستهزئًا، وللَّعنة مستوجبًا، سلطانًا كان أم غيره، من المسلمين المؤمنين، وإن احتمى براهب أو سايح في جبلٍ أو وادٍ أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم ذابًّا عنهم من كل عدةٍ لهم بنفسي وأعواني وأهل ملتي وأتباعي؛ لأنهم رعيتي وأهل ذمتي، وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلَّا ما طابت به نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنايسهم وبيعهم ولا يدخل شيء من بناء كنايسهم في بناء مسجد، ولا في منازل المسلمين، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله، ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر، في المشرق والمغرب والشمال والجنوب، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، وكذلك من يتفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعوه ولا خراج ولا عشر، ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم، ويعاونوا عند إدراك الغلة بإطلاق قدح واحد من كل إردب برسم أفواههم، ولا يلزموا بخروج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما أكثر من اثنا عشر درهمًا بالجمجمة في كل عام، ولا يكلف أحدًا منهم شططًا، ولا يجادلوا إلَّا بالتي هي أحسن، ويحفظ لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا، وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليه برضاها وتمكينها من الصلاة في بيعها، ولا يحيل بينها وبين هوى دينها، ومن خالف عهد الله واعتمد بضده من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله، ويعاونوا على مَرَمَّة بيعهم وصوامعهم، ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد، ولا يلزم أحدًا منهم بنقل سلاح، بل المسلمين يذبوا عنهم ولا يخالفوا هذا العهد أبدًا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا، وشهد بهذا العهد — الذي كتبه محمد بن عبد الله رسول الله لجميع النصارى والوفاء بجميع ما شرط لهم عليه — من أثبت اسمه وشهادته آخره:

علي بن أبي طالب أبو بكر بن أبي قحافة عمر بن الخطاب
عثمان بن عفان أبو الدرداء – أبو هريرة عبد الله بن مسعود
العباس بن عبد المطلب فضيل بن عباس الزبير بن العوام
طلحة بن عبد الله سعيد بن معاذ سعيد بن عبادة
ثابت بن نفيس زيد بن ثابت أبو حنيفة بن عبية
هاشم بن عبية معظم بن قرشي حارث بن ثابت
عبد العظيم بن حسن عبد الله بن عمرو العاص غاز بن ياسين

وكتب علي بن أبي طالب هذا العهد بخطه في مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بتاريخ الثالث من المحرم ثاني سني الهجرة، وأودعت نسخته في خزانة السلطان وختم بخاتم النبي، وهو مكتوب في جلد أدم طايفي، فطوبى لمن عمل به وبشروطه ثم طوباه وهو عند الله من الراجين عفو ربه، والسلام.

نقلت هذه النسخة التي نقلت من النسخة المنقولة الكائنة بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — كرَّم الله وجهه — بالأمر الشريف السلطاني لا زال نافذًا بعون المعين السبحاني، ووضعت في أيدي طايفة الرهبان القاطنين بجبل طور سيناء لكون النسخة المنقولة من النسخة الكائنة بخط أمير المؤمنين «ضائعة»، وليكون سندًا على ما يشهد به المراسيم السلطانية والمربعات والسجلات التي في أيادي الطايفة المزبورة. ا.ﻫ.

وهذه النسخة مذيلة بختم المولى بمصر المحروسة، وتصديقه بخطه غير المنقوط هكذا:

حُرِّر بأمري وقُرِّر بمعرفتي، راجعي العفو إلى العلي العلام محمد بن عبد القادر المولى بالمحروسة مصر، حميت عن البلية والإحن، عفي عنهما. ا.ﻫ.

الختم
الواثق بالملك الأقدر محمد بن عبد القادر

ويقول بعض العارفين: إن هذا المولى قام على مصر في عهد السلطان سليمان الثاني سنة ٩٢٦–٩٧٤ﻫ/١٥٢٠–١٥٦٦م.

•••

وأمَّا النسخة الثانية التي في وكالة الدير الموسمة بحرف B فقد ذيلت بما يأتي:

صورة نقلت عن الأصل بدون الفصل والوصل، نمَّقه أضعف عباد الباري نوح بن أحمد الأنصاري، القاضي بمصر المحروسة، عفي عنهما. ا.ﻫ.

الختم

وقد سعيت لدى المحكمة الشرعية بمصر لمعرفة مدة هذا القاضي فلم أوفق إلى ذلك.

•••

وفي الدير نسخة عرفت بالنسخة الطورية تختم بعد قوله: «عفو ربه والسلام» بالعبارة الآتية:
وفي الأصل المنقول منه هذه النسخة المتوجه بالنشان الشريف السلطاني ما صورته:

نقلت هذه النسخة من النسخة التي نقلت من النسخة المنقولة من النسخة الكاينة بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — بالأمر الشريف السلطاني لا زال نافذًا بعون المعين السبحاني، ووضعت في أيدي طايفة الرهبان القاطنين بجبل طور سيناء؛ لكون النسخة المنقولة من النسخة الكاينة بخط أمير المؤمنين «باقية»، وليكون سندًا على ما تشهد به المراسيم السلطانية والمربعات والسجلات التي في أيدي الطايفة المزبورة.

تمت وسطرت هذه النسخة في ثاني رجب المرجب سنة ٩٦٨ / ١٩ مارس ١٥٦١م، ما تضمنته هذه العهدنامة المنسوبة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في حق طايفة القسيسين والرهبان على وفق الشروط، والله أعلم بالصواب. ا.ﻫ.

الختم
طه بن محمد سعد
هذه صورة العهدة المحفوظة في الدير إلى اليوم، ولا سبيل لنا إلى الأصل الذي يقال: إنه صدر عن النبي، بل لا سبيل لنا إلى الصورة الأصلية التي قيل إنها أُعطيت إلى الرهبان عوضًا عن الأصل لكثر النسخ التي في أيدي الرهبان واختلاف بعضها عن بعض، وعدم الاهتداء إلى تاريخ لكل منها؛ لذلك أنكر بعض الباحثين، وفي جملتهم البحَّاثة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار، صحة هذه العهدة وصدورها عن النبي، وقالوا: إن رهبان سيناء اختلقوها للاستعانة بها على دفع ظلم الحكام والغوغاء، وقد أيَّدوا قولهم هذا بثلاثة أسباب مهمة، وهي:
  • (١)

    أن لغة العهدة تختلف عن لغة عصر النبي، ففيها من التراكيب والألفاظ ما لم يكن مألوفًا في ذلك العصر.

  • (٢)

    أنها مؤرخة في السنة الثانية للهجرة، مع أن الهجرة لم يؤرَّخ لها إلَّا في السنة الثامنة عشرة، أي بعد وفاة النبي بسبع سنين، فضلًا عن أن بعض الشهود المذكورين في ذيل هذه العهدة كأبي هريرة وأبي الدرداء لم يكونوا قد أسلموا في السنة الثانية للهجرة.

  • (٣)
    أن مؤرخي الإسلام الذين أحصوا كل قول أو أثر للنبي لم يذكروا هذه العهدة ولا أتوا بأقل إشارة تدل عليها. ودفعًا لهذه الأسباب نقول:
    • (أ)

      إن الرهبان لا يدَّعون أن هذه العهدة هي الأصل الذي صدر عن النبي ولا صورة طبق الأصل، بل هي الصورة التي أُعطيت لهم بعد أخذ «العهد» منهم.

    • (ب)

      إن ثاني سني الهجرة ليس هو تاريخ الأصل، بل إن العهدة التي بأيدينا تذكر أن الأصل أعطي في ثاني سني الهجرة، والظاهر أنه ثامن لا ثاني سني الهجرة فحرَّفه النساخ، ومثل هذا التحريف كثير الاحتمال جدًّا لا سيما من النسَّاخ الأعاجم.

    • (جـ)

      إن عدم ذكر أحد المؤرخين للأصل لا يطعن بصحته؛ لأنه لا يمكن أن يكون المؤرخون قد أحصوا كل أثر للنبي، وقد حُفظ هذا العهد في الدير إلى أن أُخذ منهم، فكان يشار إليه في كل فرمان أو منشور أعطي للرهبان إلى اليوم كما سيجيء.

إذن فالأسباب التي يقدمها المنكرون — على أهميتها — لا تنفي أصل العهدة وصدورها عن النبي، ومن المحتمل جدًّا أن يكون النبي قد أعطى رهبان سيناء عهدًا بقي معهم إلى أن أخذه منهم أحد السلاطين السالفين، وعوضهم عنه عهدًا بروح العهد النبوي ولغة ذلك العصر مع تفصيل اقتضاه الزمان والحال، وهو العهدة التي بيد الرهبان، وتأييدًا لذلك نقول: من المعلوم أن دير طور سيناء هو في طريق بلاد العرب إلى مصر، وقد تبيَّن من أخبار نيلس الراهب قبل بناء الدير أنه كان بين شيخ فاران في الجزيرة وشيخ العرب شرقيها عهد لتأمين الطريق، وبعد بناء الدير سنة ٥٤٥م وانتقال أبرشية فيران إلى طور سيناء أصبح النظر في عقد العهد مع العرب من خصائص رهبان الدير، ولما قام النبي محمد في جزيرة العرب سنة ٦٢٢م أصبح هو المرجع الأعلى للعرب كافة.

ويدلُّ تاريخ الإسلام أنه في السنة السابعة للهجرة سنة ٦٢٨-٦٢٩م أرسل النبي محمد كتبه إلى الملوك والأمراء مثل كسرى وقيصر والمقوقس نائب الرومان في مصر يدعوهم إلى الإسلام، وأن المقوقس أكرم رسول النبي وزوَّده بالهدايا إلى النبي، وليس لرسول النبي طريق إلى مصر أخصر من طريق سيناء المار بالدير، فمن المعقول جدًّا أن يكون الرسول قد مرَّ بدير سيناء ذهابًا وإيابًا، وأن رهبان سيناء قد احتاطوا لأنفسهم وأرسلوا معه وفدًا يطلع النبي على حال ديرهم ويطلب منه العهد تأمينًا للطريق وصيانة لديرهم ومصالحهم، هذا من جهة الرهبان، وأمَّا النبي محمد فيحتمل جدًّا أن يكون قد أعطاهم العهد وأمَّنهم وأوصى بهم خيرًا للأسباب الآتية:
  • أولًا: أن دير طور سيناء هو في طريق مصر من بلاد العرب، ومن مصلحة العرب كما هو من مصلحة الرهبان تأمين الطريق إلى مصر.
  • ثانيًا: أن التاريخ يدلُّنا أن النبي قد حُبِّب إليه النسك والزهد، وكان كثيرًا ما يذهب إلى غار حراء قرب مكة ليتعبد ويذكر الله فيه، حتى بُعث للناس بشيرًا ونذيرًا؛ لذلك كان يميل إلى الرهبان والنسَّاك ويوصي بهم خيرًا، جاء في سورة المائدة: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وقد ورَّث النبيُّ هذا الميل لخلفائه من بعده، خطب أبو بكر الصديق في جيشه عند إرساله لفتح سوريا فقال:

    إذا لقيتم العدو فقاتلوه مستبسلين والموت أولى بكم من القهقرى، وإذا انتصرتم فلا تقتلوا الشيوخ ولا النساء ولا الأطفال، ولا تقطعوا النخيل، ولا تحرقوا الزرع، ولا تذبحوا من الماشية إلَّا ما كنتم في حاجة إليه لقوتكم، وأمِّنوا من ذلَّ لكم ورغب في أداء الجزية، ولا تخلفوا وعدكم ولو لأعدائكم، «وسترون في طريقكم رجالًا متوحدين ناسكين، فاحتفظوا بهم ولا تمسوا أديارهم بضرر»، وأهلكوا اليهود إلَّا أن يسلموا.

  • ثالثًا: لقد جرت عادة النبي وخلفائه من بعده إعطاء العهود للنصارى، ومعاملتهم بروح التسامح، من ذلك:
    • (أ) عهد النبي لأهل أيلة، وقد مرَّ ذكره برمته.
    • (ب) عهد النبي لأهل أذرح ومقنا.
    • (جـ) عهد خالد بن الوليد لأهل القدس.
    • (د) عهد أبي عبيدة لأهل بعلبك.
    • (هـ) عهد عبد الله بن سعد لعظيم النوبة.
  • رابعًا: أن رهبان طور سيناء قد سكنوا أرضًا يقدسها اليهود والنصارى والمسلمون والوثنيون على السواء، وفي تقاليد بدو سيناء والرهبان أن النبي زار طور سيناء بنفسه وترك فيه أثرًا كما مرَّ، وقد ذكر النبي طور سيناء مرارًا في القرآن الكريم ودلَّ على أنه يقدسه كما سيجيء، فيبعد جدًّا أنه يخيب طلب سكانه، ولا سيما الرهبان والنسَّاك الذين كان من طبعه الميل إليهم، مع أنه أعطى العهد لجيرانهم أهل أيلة كما قدمنا.
  • خامسًا: أن سلاطين المسلمين منذ القديم أقرُّوا هذه الامتيازات المبينة في العهدة التي بين أيدينا، وذكروها في فرماناتهم ومنشوراتهم لمطارنة الدير، بل ذكروا أنهم إنما أعطوهم هذه الامتيازات بناءً على العهد الذي أخذوه عن النبي وأيَّده الخلفاء الراشدون، وأقدم ما وصل إلينا من تلك المنشورات منشور الإمام العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله آخر الخلفاء الفاطميين (٥٥٦–٥٦٧ﻫ/١١٦٠–١١٧١م)، وهذا المنشور يشير إلى «مرسوم» أخذه الرهبان من الأيام الحاكمية أي الحاكم بأمر الله (٣٨٦–٤١١ﻫ/٩٩٦–١٠٢١م)، وعليه جرى جميع السلاطين المسلمين الذين أتوا بعدهما إلى زمان المطران الحالي، بل نرى أن نابوليون بونابرت وقواده عند دخولهم مصر منحوا الرهبان نفس الامتيازات التي منحهم إياها السلاطين المسلمون كما سيجيء.
  • سادسًا: أنه لا يعقل أن قومًا مستضعفين كرهبان سيناء يقدمون في وسط بلاد إسلامية على اختلاق عهد عن لسان نبي الإسلام لا أصل له البتة، ويطلبون فيه من السلاطين المسلمين الامتيازات الجمَّة، بل لو أقدم رهبان سيناء على مثل هذا العمل فلا يُعقل أن سلاطين الإسلام من عهد الخلفاء الراشدين أو من عهد الحاكم بأمر الله إلى هذا العهد يقرُّون رهبان سيناء على ما اختلقوه، ويمنحونهم من الامتيازات ما فيه خسارة لبيت المال بدون تثبُّت أو تحقيق عن الأصل، والأقرب إلى العقل أن يكون لهذه العهدة أصل تاريخي، فإذا لم يكن رهبان سيناء قد نالوا عهدًا كأهل أيلة، فلا يبعد أن يكون العهد الذي أخذه أهل أيلة قد شمل رهبان طور سيناء أيضًا؛ لأن أيلة كانت في ذلك العهد بعد انحطاط البتراء الملجأ الأكبر للنصارى في تلك الجهات، وأن هذا العهد حُفظ في الدير إلى أن أخذ منهم، وعوضوا عنه العهدة التي بين أيديهم، والله أعلم.

ولنذكر الآن بعضًا من الآيات القرآنية التي ذكر فيها جبل الطور وسيناء، والمنشورات السلطانية المشار إليها آنفًا تأييدًا للعهد النبوي:

الآيات التي ذكر فيها جبل الطور وسيناء في القرآن الكريم:

عن سورة البقرة: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

عن سورة مريم: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا.

عن سورة طه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِيوَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.

عن سورة القصص: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

عن سورة الطور: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ.

عن سورة التين: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.

عن سورة المؤمنون: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *َ وشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ.

•••

مقتطفات من منشور الإمام العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله، كما نقلته سنة ١٩١٣ عن درج في وكالة دير طور سيناء بمصر يبلغ طوله نحو عشرة أمتار:

الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم، منشور، مولانا وسيدنا الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين …

ولما عرضت بحضرتنا رقعة مترجمة باسم مقام أسقف دير طور سيناء ورهبانه، ضمَّنوها انقطاعهم للعبادة وجريهم فيها على رسم مألوف لهم وعادة، وأن لهم رسومًا مقررة من الأيام الحاكمية وبأيديهم سجلات شرفوا بها من هذه الدول العالية العلوية، وسألوا تجديد ما بأيديهم؛ خرج أمرنا بإيداع هذا المنشور ما رسمناه من الوصية بهم، والبعث على رعاية جانبهم، وتسهيل مطالبهم، وحملهم على عاداتهم، وإنالتهم من الاحتفاء بهم؛ غاية إدارتهم وإعانتهم على ما يعود بإصلاح أمورهم، ويوجب انبساط آمالهم، وشرح صدورهم، ورعايتهم حيث كانوا من البلاد، وانتخابهم بما يجمع لهم من الطرايف من الخيرات والبلاد، وحملهم على مضمون ما بأيديهم من إعفائهم مما أحدثه الولاة بالحصون الطورية عليهم من الرسوم لأنفسهم التي يعتنون في طلبها فينفقون بسببها وأن يعفي آثارها، ويمنع العربان من الدخول عليهم في دياراتهم واختطاف ما يحصلونه من أقواتهم ويذخرونه لقرى المجتازين بهم وضيافاتهم، ويحملوا في المسامحات بالحقوق والرسوم والأحكار والمقاسمات والأعشار والمقاطعات على ما تضمنته السجلات النبوية التي بأيديهم، والمنع من التطرق إليها بتبديل، وسد الطريق إلى التأويل؟ في شيء منها، وقطع السبيل ورعاية كافة أصحابهم والمتصرفين في سبلهم والمستخدمين في جباية أجر أحباسهم وحماية أجرايهم في تحصيل المستغلات، وإيناسهم، وكف الضرر عمن يقدم عليهم، وقصر الأيدي المتطاولة إلى أذى من يتوجه إليهم من الأعمال المصرية، ومن يؤمنونه لتحصيل أقواتهم من البلاد القريبة والقصية، ونهي الحاضرة عن إعناتهم والبادية وقصرهم بإبطال الرسوم المحدثة وقصر الأيدي العادية، فمن قرأه أو قرئ عليه من كافة الأمراء وولاة الحرب بالشرقية أدام الله تأييدهم وولاة الحصون الطورية أدام الله عزهم وجميع المشارفين النواب والحماة والشاكين والمتصرفين أجمعين؛ فليعمل الممثل فيه ولينتبه إلى ما يوجبه حكمه ويقتضيه، وليحذر من تجاوزه وتعديه بعد ثبوته بالدواوين بالحضرة المطهرة صلوات الله عليها، وإقراره بأيديهم بعد العمل بمقتضاه والانتهاء إلى مضمونه وفحواه إن شاء الله تعالى.

حرر في جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة. ا.ﻫ.

مارس ١١٦٩م
ترجمة فرمان السلطان مصطفى الأول بن محمد إلى المطران غفريل الرابع سنة ١٦١٨م:

إلى أكابر قضاة بلاد الروملي والأناضول والقطر المصري ومصر المحروسة، وإلى أعاظم قضاة ولاية دمشق الشام التي يفوح عبيرها كنفح الجنان، ومدينة بغداد التي تحاكي الفردوس، وإلى نخبة قضاة سائر الأقطار الإسلامية قادة قضاة الإسلام، وإلى القضاة ونوابهم، وإلى جباة الأموال والمأمورين العسكريين ومديري الجمارك والمواني، ونظار بيت الأمانة وسائر رجال السلطة، زادهم الله اقتدارًا.

عند وصول فرماني الملوكي هذا ليكن معلومًا بأن القسيس غفريل مطران دير طور سيناء القائمة أساساته على ذلك الجبل المبارك من قديم الزمن قد رفع إلى سدتنا الملوكية التماسًا مختومًا منه، مستعطفًا استصدار فرمان مقدَّس طبقًا للصكوك التي بيد رهبان دير طور سيناء، وكنصِّ العهد المقدس المنعم به على أولئك الرهبان من سيد الأنبياء «محمد» يوم قاموا للقائه، ورضوا بالحال التي قرَّ عليها الأقوام غير المسلمين، عندما كان قاصدًا البرية المقدسة وزار قبر كليم الله «موسى» عليه السلام، ثم وصل بركابه الشريفة إلى طور سيناء، وعلى مقتضى الأوامر الكريمة الممنوحة لهم من الخلفاء صلوات الله عليهم جميعًا، ومن السلاطين السابقين حماة الدين … وبالجملة فمن فحوى هذه الصكوك وسجلاتها وشروحاتها المحفوظة في الدفترخانة الملوكية … وبموجب معاهدة مقدسة احتفظ بها رهبان الديرين القائمين على جبل موسى عليه السلام في طور سيناء، منذ العصور الجاهلية لا يجوز لأحد من المأمورين العسكريين ولا من رجال السلطة أن يتصدوا لرهبان أو قسوس أو مستوطني الديرين المذكورين حال سفرهم أو زيارتهم لبلاد الروملي والأناضول ومصر ودمشق وجهات البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، وسائر المدن والبلاد والقرى التي في الولايات الإسلامية، أو عند تأدية طقوسهم الدينية، وعند جبي الصدقات من النصارى لأجل قوت وكساء الفقراء القاطنين في الديرين المذكورين؛ ولأجل قوت الأغراب الذين يحجون إلى ديرهم، ولا يكلف رهبان ذينك الديرين في أي صقع من الأصقاع بدفع عوائد شخصية أو ضريبة، ولا تضرب عوائد أو رسوم جمركية على بضائعهم.

ثم عند حصول وفاة أحدهم لا يجوز لمقسمي المواريث أو نظار بيت الأمانة أو أي موظف آخر التدخل في الممتلكات أو الأمتعة المخلفة عن المتوفى؛ لأن ممتلكات الرهبان المتوفين تصبح ملكًا للرهبان الأحياء، كما وأن رهبان هذين الديرين لهم حق الامتلاك بطريق الوقف في أديرتهم وكنائسهم ومزارعهم وفنادقهم وبيوتهم وحقولهم وكرومهم وبساتينهم وسائر ممتلكاتهم من أراضٍ ومراعٍ شتوية ببلاد الروملي والأناضول، ومن كنائس وبساتين النخيل على شاطئ البحر «في مدينة الطور»، ومن أديرة وأملاك موقوفة بحي الجوانية بباب الناصر بعاصمة القطر المصري، ومن جنائن وأراضٍ ومراعٍ شتوية بالإسكندرية ورشيد، وبسائر المواني والأقاليم والمديريات والمدن والبلاد والقرى، ولهم حق الامتلاك في الأملاك والأراضي الملحقة التي ابتاعوها، وفي الأملاك والأراضي الموقوفة أو الموهوبة لهم من المسيحيين بدون معارضة لهم في التصرف فيها من أيٍّ كان، وبدون أن تضرب عليهم ضرائب، وألَّا توضع عليهم مغارم بأي وجهٍ من الوجوه، لا من مديري المديريات ولا الحكمداريين ولا وكلاء المديريات ولا نظَّار الأوقاف السلطانية ولا الجباة ولا مأموري الإيرادات ولا وكلاء بيت الأمانة ولا محصلي الجزية الشخصية، ولا مفتشي الضرائب ولا من سائر الموظفين الحربيين والملكيين ووكلائهم …

ولا حق لأي بطريرك أو مطران أو أسقف بأي إقليم أو أية مديرية أن يتدخل في شئونهم أو يستبد بهم؛ لأن هذا من اختصاص الأسقف المعين رئيسًا عليهم في الجبل المذكور، ولا يجوز لأيٍّ كان أن يكدر صفوهم أو يعاملهم بما يخالف نصوص المعاهدة المقدسة وفرمانات السلاطين السالفين الممنوحة لهم …

وقد أصدرت أمري لكم حتى تسيروا بمقتضى الأوامر السامية الصادرة من سلفائي الأجلاء، وطبقًا لأمري الرفيع القدر مع الاجتناب الكلي لما عساه يكون مخالفًا له، فعوا ذلك وثقوا بمرسومي المقدس.

تحريرًا في اليوم الحادي عشر من صفر سنة ألف وسبعة وعشرين هجرية ا.ﻫ (الموافق ٧ فبراير سنة ١٦١٨).

ترجمة فرمان السلطان عبد الحميد إلى المطران بورفيريوس الثاني مطران سيناء الحالي سنة ١٩٠٤:

الطغراء العثمانية: «الغازي عبد الحميد بن عبد المجيد خان دام نصره.»

عرضت إلينا الخديوية المصرية أن بورفيريورس أفندي رئيس أساقفة طور سيناء استعفى لشيخوخته ومرضه، وأن جماعة رهبان الدير وخوارنته اجتمعوا وانتخبوا في مكانه الأرشمندريت بورفيريورس بوغوتيس أفندي، والتمست منا إصدار براءتنا السلطانية بقبول هذا الانتخاب وتعيين الموما إليه رئيسًا مع درج الشروط القديمة، وقد روجعت القيود فوُجِد أن انتخابهم رئيسًا هو من جملة حقوقهم الممنوحة لهم، فلذلك تعلقت إرادتنا السنية بإصدار براءتنا هذه السلطانية بتعيين الأرشمندريت بورفيريورس بوغوتيس أفندي الموما إليه رئيسًا لأساقفة دير طور سيناء.

وقد أمرنا بألَّا يتعرض لهم أحد في ديرهم وكنائسهم وجنائنهم التي في جبل موسى المقدس وطور سيناء، ولا في كنيستهم وجنينة النخيل والزيتون التي على البحر (في مدينة الطور)، ولا في ديرهم في حارة الجوَّانية بباب النصر في مصر المحروسة، ولا في الوكالتين اللتين لهم عن يمين الحارة المذكورة وشمالها، ولا في المعبد الواقع بجهة كاترينة، ولا في عبادتهم وصلواتهم، ولا في منازلهم ووكالاتهم وغيرها من الأوقاف التي لهم في مصر القاهرة، وألَّا يدخل محلاتهم ولا يتعرض لهم أحد من خفراء المدينة المذكورة.

وألَّا يؤخذ منهم رسم ما على بساتينهم وكرومهم وفواكههم ونخيلهم وزيتونهم وجميع حقوقهم ورسومهم وأحكارهم وأعشارهم في بلاد الطور والشام ومصر، وألَّا يتعرض لهم أحد في حريرهم وأطلسهم الأسود وأوقافهم وكرومهم ومزارعهم التي لهم في جزيرة قبرص، وألَّا يكلفوا دفع رسوم جمارك أو دخولية في مواني البحر المالح والبحر الغربي في الإسكندرية ورشيد ودمياط وقبرص ودمشق الشام ونديس وحوران وقسطه وغزة وبيروت وصيدا وطرابلس الشام واللاذقية وغيرها من المواني، وألَّا تؤخذ الرسوم الجمركية على الصابون والزيت والحبوب والنذور والصدقات الواردة لهم من الثغور الإسلامية.

وأن لهم أن يزوروا قمامتهم في دمشق الشام حسب عادتهم القديمة، وأن لا يتعرض لهم أحد في دفن موتاهم ولا يتعرض لقبورهم.

وأن يحصل لهم الحكام فورًا كل حق يثبت لهم على تمامه، ويمنعوا الناس من التعرض لهم في ذلك بدون وجه حق، وألَّا يتعرض لهم في أمورهم أحد من القضاة والميرميرانات والميرلواءات والملتزمين والأمناء والعمال.

وألَّا يتعرض لهم بطرك الإسكندرية أو غيره من بطاركة الإيالات الأخرى بسوء، ولا أن يتدخلوا في أمورهم بأي وجه من الوجوه، فإنهم مستقلون تحت سيادة رئيسهم.

وحيث إن سيدنا محمدًا رسول الله — عليه أفضل الصلاة وأكمل التحية — أعطاهم عهدًا مباركًا، واتبع مثاله الشريف الخلفاء الراشدون والسلاطين السالفون؛ وتعظيمًا للعهد النبوي ومحافظته على الأحكام الشرعية بأن الطائفة المذكورة تقيم في الجبل المنوَّه به بتمام الأمان والاطمئنان، وعملًا بموجب العهد النبوي المذكور والبراءات الشريفة والأوامر المنيفة الواجبة الاتباع بألَّا يتعدى عليهم أحد من الناس ولا يتعرض لهم بسوء، ومن خالف ذلك العهد والأوامر استحق العقاب الشديد والجزاء الصارم؛ لذلك أعطيت براءتي هذه السلطانية لهم للعمل بموجبها.

تحريرًا في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة وألف ا.ﻫ (٢٣ نوفمبر سنة ١٩٠٤م).

ترجمة المنشور الذي أصدره نابليون بونابرت لرهبان طور سيناء:

الجمهورية الفرنساوية «حرية ومساواة» مركز رئاسة الجيش.

مصر المحروسة في ٢٩ فريمير من السنة السابعة للجمهورية الفرنساوية المتحدة غير المنفصمة (٢٠ ديسمبر سنة ١٧٩٩م).

أنا بونابرت أحد أعضاء الجمعية العلمية الوطنية والقائد العام:
  • (١)

    حبًّا بإسداء الجميل إلى دير طور سيناء؛ لينقلوا خبر فتحنا إلى الأجيال المقبلة.

  • (٢)

    واحترامًا لموسى والأمة الإسرائيلية التي يرجع تاريخها إلى أقدم الأجيال.

  • (٣)
    ولأن دير طور سيناء مأهول بطبقة من الرجال المتنوِّرين والمتهذبين الذين يعيشون وسط سكان البادية الهمج؛ أمرتُ بما هو آتٍ:
    • لا يجوز لأعراب البادية المتحاربين أن يمتنعوا أو يحتموا داخل أسوار دير طور سيناء، ولا أن يأخذوا زادًا أو شيئًا آخر منه مهما كان الحزب الذي ينتمون إليه.

    • يُعيَّن ضابط في الجهة التي يسكن فيها الرهبان لأجل حمايتهم، وعلى الحكومة أن تزيل كل عائق يقف في سبيل ممارسة فرائضهم الدينية.

    • يعفى الرهبان من دفع الرسوم الجمركية على البضائع وخلافها الصادرة والواردة التي تستعمل في الدير، وخصوصًا ما كان له علاقة بتجارة الحرير الذي لهم، وأيضًا محصولات أراضي معاهدهم الدينية، وجميع أملاكهم في جزيرتي ساقص وقبرص.

    • يجب إعفاؤهم من دفع الضرائب والجزية السنوية كالسابق بموجب الحقوق العديدة التي ما زالوا يتمتعون بها.

    • يبقون متمتعين بسلام بالامتيازات الممنوحة لهم في أنحاء عديدة من سوريا ومصر، سواء كان فيما يختص بأراضيهم أو بمحصولات تلك الأراضي.

    • في حالة التقاضي يُعفَون من رسوم المحاكم أو الغرامات التي يفرضها القضاة.

    • لا يجوز مطلقًا منعهم عن تصدير أو مشترى الغلال اللازمة لمئونة الدير.

    • لا يجوز لأي بطرك أو أسقف أو أي رئيس من الأكليروس الخارج عن رهبنتهم أن يتسلط عليهم أو على ديرهم؛ إذ هذه السلطة تنحصر في يد مطرانهم ومجالس الرهبان في دير طور سيناء.

    • على كل من السلطتين الملكية والعسكرية أن يمنعوا كل عائق يحول دون تمتع رهبان طور سيناء بحقوقهم وامتيازاتهم المذكورة آنفًا.

الإمضاء
بونابرت

ترجمة منشور القائد «داماس» الفرنساوي يخوِّل فيه الرهبان سلطة حبس المعتدين على الدير من العربان، عن الأصل المحفوظ في دير طور سيناء إلى اليوم:

الجمهورية الفرنساوية «الحرية والمساواة» جيش الشرق.

عن مركز القيادة العام في اليوم العاشر من شهر بريمير من السنة الثامنة للجمهورية الفرنساوية المتحدة غير المنفصة (١ نوفمبر سنة ١٨٠٠م).

من داماس قائد الفيلق ونائب القائد العام أن الجنرال كليبر القائد العام — رغبةً منه في تأييد الحماية الممنوحة من الجنرال بونابارت إلى رهبان دير طور سيناء حفظًا لأملاكهم وعقاراتهم وصيانة لحقهم في التمتع بها — قد خوَّلهم السلطة بإلقاء القبض على العربان الذين يتجرءون على انتهاك حرمتهم في ديرهم ونهب فواكههم وغلالهم، ووضعهم في السجن، ولكن أوجب عليهم أن يبلِّغوا دائمًا القائد العام أسماء الذين يوقِّعون عليهم الجزاء مع أسماء القبائل التي ينتمون إليها.

الإمضاء
داماس
بعد الاطلاع قد فوَّضنا تنفيذ المرقوم أعلاه
الإمضاء
قائد اللواء في جيش القائد العام: لكرنج

(٥) جامع الدير

إنه على رغم وجود العهدة النبوية مع الرهبان، والتسامح الذي يوجبه الإسلام على الحكام المسلمين في معاملة النصارى عمومًا والرهبان خصوصًا، فإن رهبان طور سيناء اضطروا منذ عهد بعيد أن يشيدوا جامعًا في وسط ديرهم إلى جانب كنيسته الكبرى لا يزال قائمًا فيه إلى اليوم كما بيَّنا تفصيلًا في باب الجغرافية، وقد عُرف هذا الجامع في بعض أوراق الدير بالجامع العمري، حتى ظنَّ بعضهم أن بانيه عمرو بن العاص فاتح مصر سنة ٦٤٠م، ولكن بناء الدير لا يدل على هذه القدمية ولا بدَّ أن يكون لفظ العمري محرفًا عن الآمري، فإن الكتابة على «كرسي الجامع» المتقدم ذكرها تصرِّح أن باني الجامع هو «الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبو المنصور أنوشتكين الآمري»، كما صرحت الكتابة على «منبر الجامع» أن منشئ ذلك المنبر هو «أبو القاسم شاهنشاه» وزير «أبي علي المنصور الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين سنة ٥٠٠ﻫ»، وهذان الأثران لا يزالان في الدير إلى اليوم، وقد دلَّا أن الجامع بُني وأثث في عهد الآمر بأحكام الله الفاطمي (سنة ٤٩٥–٥٢٤ﻫ/١١٠١–١١٣٠م).

ولكن تقاليد الرهبان المحفوظة خطًّا في الدير تصرِّح أن هذا الجامع بُني في عهد الحاكم بأمر الله (سنة ٣٨٦–٤١١ﻫ/٩٩٦–١٠٢١م) قالوا:

إنه في نحو سنة ١٠٠٨م قام على مصر حاكم ظالم غشوم يكره النصرانية يدعى الحاكم، فأمر بهدم جميع الأديرة في مصر وفلسطين حتى كان ما هُدم في فلسطين وحدها نحو ٤٠٠ دير، وسمع بدير طور سيناء فأرسل سرية من الجند يصحبها شيخ عرب سيناء لهدمه، فلما علم الرهبان بخبر السرية فكَّروا في الحيلة التي تنجيهم، فبنوا جامعًا بالطوب الني والحجر الغشيم على عجل، وكان بينهم راهب مصري ذو دهاء وحيلة يحسن العربية يدعى سليمان، فجمع كنوز الدير وذهب معه ثلاثة من شيوخ الدير لملاقاة الجند، فالتقاهم على مرحلة من الدير وسألهم عن الغرض من قدومهم إلى سيناء، فقالوا: إننا آتون بأمر الحاكم لهدم الدير، فقال: إن كان القصد من ذلك الاستيلاء على كنوز الدير، فها هي كنوزه كلها بين أيديكم، وإن كان القصد الرهبان فعندنا عهد من نبي الإسلام يحمينا ويحمي ديرنا، وفوق ذلك ففي الدير الآن جامع تقام فيه الصلاة فيحرَّم عليكم هدمه دينًا، فأخذ الجند الكنوز وتقدموا إلى الدير فرأوا الجامع قائمًا بجانب كنيسته الكبرى، فعادوا إلى مصر وأخبروا ملكهم بما كان فاكتفى به. ا.ﻫ.

ذكر هذا الخبر المطران نكتاريوس (سنة ١٦٥٨م) نقلًا عن خبر قديم مدوَّن بالعربية في بعض كتب الدير، والظاهر أن المؤرخ العربي خلط بين الحاكم بأمر الله والآمر بأحكام الله، وفي كل حال فإن بناء الجامع من الطوب النيء والحجر الغشيم يدلُّ على أن بناءه كان على عجل، وأن بانيه لم يكن ذا اقتدار وحنكة في البناء.

وقد ظن البعض أن ليس بناء الجامع فقط، بل أخذ العهد النبوي من الرهبان، وإسلام الجبالية كانا أيضًا في عهد الآمر بأحكام الله في مبدأ الحروب الصليبية، والله أعلم.

هذا وفي الدير محررات كثيرة بالعربية والتركية، رسمية وغير رسمية، تدلُّ على اضطهاد حكام الطور والعربان للرهبان منذ تأسيس الجامع، ومحررات أخرى تدلُّ على انتصارهم لهم، وها أنا أذكر مثلًا من كل منها:

مثال من المحررات الدالة على اضطهاد حكام الطور لرهبان دير طور سيناء:

عرضحال إلى حضرة مولانا الوزير صاحب الدولة — حفظه الله تعالى وحرسه من كل سوء بمحمد وآله وصحبه أجمعين، آمين.

وبعد، فالمعروض لحضرتكم العلية أن جماعة من الرهبان الذميين قاطنون بدير مبني كالحصار في جبل الطور، وبالدير كنيسة لكفرهم وضرب الناقوس كالكهنة السابقة، وفي وسط الدير المذكور مسجد ومنارة لصلاة المسلمين وإقامة شعائر الإسلام، وكان للمسجد باب متصل لخارج الدير لا يحجب المسلمين عن الصلاة في المسجد، فجعل الرهبان المذكورون الباب المتصل بالمسجد بابًا لديرهم، وصار المسجد لا يصل إليه أحد من المسلمين إلَّا بإذنهم، والذي يريدونه بالمسجد يفعلونه من شرب خمر وغيره، وفي كل عام يأتي إلى الدير المذكور من بلاد النصارى جماعة يتبركون بكفرهم ويأتون معهم بشيء كثير من المال، ففي هذا العام المبارك جمعة تاريخه حضر جماعة من الكفار من بلاد النصارى إلى الدير المذكور، فمات منهم رجل ودفنوه وأخذوا ماله، فمن بعض ما بلغنا أنهم وجدوا معه من النقود ألفين أحمر سكة غير الذي خفي … ولهم في ذلك المحل حكام وبيت مال.

فإن كان حضرة مولانا صاحب الدولة يرضى بذلك الفعل في الإسلام، فلا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم … والكفار تفعل مرادها من غير جزية يدفعونها … وللرهبان المذكورين بمصر المحروسة وكالتان تسميان بالجوانية، وأملاك كثيرة غير ذلك، ولهم في بندر الطور غيط نخيل فوق العشرة آلاف نخلة يجمعون ثمره في كل عام ويعملونه خمرًا، وذلك كله من غير خراج عليه، ولهم بالبندر المذكور أنطوش، وهو حوش فيه طاحون كانوا يطحنون فيه للمسلمين بأجرة، وقد أبطلوا ذلك الطاحون من غير علة ولا سبب، وطلعوا إلى الدير المذكور يفعلون بمرادهم، وكل شيءٍ لا يرضي الله تعالى ولا رسوله، فها نحن عرفناكم بذلك كله والأمر لكم، والله تعالى يديم عزكم وينصر مولانا السلطان وعساكره بمحمد وآله وصحبه أجمعين.

جرى ذلك كله وحرر في السادس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ١١٠٣ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام (٢٥ مارس ١٦٩٢م).

الإمضاءات: الفقير إلى الله تعالى محمد آغا وزدار قلعة الطور حالًا، الفقير شرف الدين نائب الشرع الشريف إمام بالقلعة حالًا، الفقير إبراهيم مراد طوبجي باشي بالقلعة حالًا، الفقير علي جوربجي بالقلعة حالًا، الفقير أحمد محمد طوبجي حالًا، الفقير بيرم محمد سنجق حالًا، الفقير علي رمضان حسن، الفقير عمر محمد سنجق بالقلعة حالًا. ا.ﻫ.

مثال من المحررات التي تدل على نصرة حكام الطور لرهبان دير طور سيناء:

أمضاه الفقير إلى الله سبحانه وتعالى عبد الله القاضي بمصر المحروسة غفر له.

ختمه

الحمد لله وحده، الأمر كما ذكر والله أعلم، كتبه الفقير إبراهيم بن المرحوم سليمان الأزهري، نائب الشرع الشريف بالطور، عفي عنه.

ختمه

شهد بذلك: علي جوربجي كتخدا بالطور «ختم».

محمد آغا الطور سابقًا «ختم».

صفر آغا بالطور حالًا عفي عنه «ختم».

محمد آغا «ختم».

… ينهون أن جماعة من الرهبان المساكين قاطنون في دير جبل مناجاة سيدنا موسى كليم الله عليه أفضل الصلاة والسلام من قديم الزمان، من عهد الصحابة والتابعين، ومن زمن خلافة سيدنا عمرو بن العاص، ومن قبل دولة الجراكسة وغيرهم، وأن الدير المذكور معمور بالرهبان، ومن داخل الدير مسجد يزوره المسلمون ويصلون فيه، وهو مكمل بالفرش والقناديل، قايم الشعائر، وأن رهبان الدير المذكور يجمعون الصدقة من جميع الأطراف والأكناف، ويطعمون فقراء المسلمين والنصارى والقصَّاد والزوَّار وأبناء السبيل والغرباء والمترددين والمنقطعين من طريق الحاج وغيرهم، وأن الدير المذكور يطمئن إليه الحزين ويأوي إليه الخائف ويشبع منه الجائع ويكتسي منه العريان، وهو مورد لجميع من يقصده من المسلمين وغيرهم إذا جازوا عليه، وأن أهل هذا الدير يطعمون ما ينوف عن مائتي نفس من المسلمين وغيرهم في كل يوم، وأن نفعه على الخاص والعام الحاضر والبادي …

والحال يا صاحب الدولة الشريفة أن بطرك القدس حالًا المسمى دوسيثيوس توجه الآن إلى إسطنبول، وحرَّم على النصارى إعطاء رهبان الدير المذكور صدقة أو شيئًا ما، وأن هذا الدير ما له صدقة إلَّا من النصارى وغيرهم من أهل الخير، والآن لما تنقطع الصدقة يرحل الرهبان ويتشتتون ويخرب الدير ويخلى، فتخلى البلاد ويصير بسبب ذلك خوف عظيم من عدم الرهبان وهياج العربان والعصاة في البلاد؛ فتنقطع الطرق على المراكب وغيرها، وينزح العربان القاطنون في البلاد ويصير ضرر عظيم في بندر السلطان نصره الله تعالى، ولا يبقى أمان في البلاد، وتحصل متعبة عظيمة للناس خصوصًا بخراب الطاحون …

فالمسئول من صدقاتكم العميمة وعواطفكم الرحيمة الأخذ بيد الفقراء الرهبان، ومنع ما يتعرض لهم، والاهتمام بمصالح الفقراء، جعلكم الله من سعداء الدارين، وختم لكم بصالح الأعمال، وأرشدكم إلى الطريق المستقيم، ووقاكم شر الأعداء والحاسدين، وأوجب لكم شفاعة سيد المرسلين، وأدام الله تعالى أيامكم الزاهرة، وجمع لكم بين خيري الدنيا والآخرة، بجاه سيدنا محمد ، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم. ا.ﻫ.

ويلي ذلك ٢٧ إمضاء من موظفي قلعة الطور وغيرهم، ذكر بعض المؤرخين أنه كان لهذا الكتاب تأثير عظيم في الآستانة، حتى إن البطرك دوسيثيوس وهو من بطاركة القرن السابع عشر، اضطر أن يتخفى بثياب النساء لينجو بنفسه من اضطهاد الأتراك.

(٦) خفر الدير

كان رهبان الدير قديمًا يدفعون جعلًا معلومًا لكل قبيلة من قبائل سيناء القوية القاطنة في جوار الدير أو في طريقه من مصر أو سوريا؛ لأجل حمايتهم في السفر والإقامة، وحماية القوافل التي تنقل لهم الزاد والمؤنة من الخارج، وكانت تسمى هذه القبائل «خفراء الدير»، وبقي عرب السواركة يطالبون الدير بمرتب الخفر إلى سنة ١٨٧٠ كما مرَّ، أخبرني المرحوم الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة المار ذكره قال: «كنت أسمع أنه كان للدير ٣٥ خفيرًا.»

وكان للدير قديمًا وكالة في فلسطين قرب غزة، ثم انتقلت إلى الجوَّانية بمصر كما مرَّ، وكان الرهبان يعقدون شروطهم مع القبائل الخفراء، فيصدقها حاكم مصر أو شيخ عرب العايد في مصر ويضمن إنفاذها، وهذه صورة اتفاق عُقد بين العربان الخفراء والرهبان وأقرَّه المولى بمصر المحروسة سنة ١٥٤٠م:

الأمر كما ذكر من عبد ربه الفقير حمد بن سعيد الحنفي المولى بالقاهرة المحروسة، بالمحكمة الشرعية بالجامع الحاكمي عمَّره الله تعالى بذكره، بين يدي سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العلامة العمدة نور الدين حمزة الرومي الحنفي، خليفة الحكم العزيز بالديار المصرية، وقاضي المحكمة المذكورة أعلاه، أيَّد الله تعالى أحكامه، أشهد على ما يُذكر فيه — بعد أن أقسموا بالله العظيم، وبنعمة مولانا السلطان الأعظم والخاقان المكرم، مالك رقاب الأمم، سلطان العرب والعجم، إمام الإسلام والمسلمين، قامع الكفرة والمشركين، السلطان ابن السلطان إلى تاسع جد فأكثر، مولانا «سليمان بن عثمان»، خلَّد الله ملكه وثبَّت قواعد دولته ونصره نصرًا عزيزًا، وفتح له فتحًا مبينًا، وجدَّد له في كل يوم نصرًا وملَّكه بساط الأرض برًّا وبحرًا، وأعز أنصاره ونصر جيوشه وأعوانه بمحمد وآله — وهم: حميد بن سالم بن رحمة، عرف بجدِّه، ومحمد بن أحمد بن مسلم، وسليمان بن سلام بن إبراهيم، عرف بوالده، وسالم بن موسى بن خريش، عرف بجدِّه، ونصير بن سويعد بن مسعود، عرف بالقرارشي، الجميع من الصوالحة ومن عرب الطور — الإشهاد الشرعي أنهم من يوم تاريخه يحفظون درك دير طور سيناء وجميع رهبانه القاطنين به والمترددين إليه وجميع تعلقاتهم ومواشيهم وما لهم من الكنائس والبساتين والنخيل بالجبل وبوادي فاران وبساحل الطور بأنفسهم، وبمن يستعينون به ليلًا ونهارًا صباحًا ومساءً، وردع من يتعرض إليهم بسوء وتشويش من العربان ورفقتهم ويذبون عن الدير المذكور ورهبانه وتعلقاته.

وإذا حضر أحد من الزوَّار لا يدخل أحد من العربان معهم إلى الدير المذكور، ولا ينزل أحد بالقرب منه إلَّا مسافة يوم، ولا يحضرون بخيول إلى الدير ولا يدخلونه بالجملة الكافية، ولا يتعرضون للقوافل الواردة إليه من مصر وغيرها، وعليهم حفظ القوافل المذكورة، وكف أسباب الأذى والضرر عنهم وعن الدير المذكور وعن رهبانه والقوافل المترددين إليه من المسلمين والنصارى.

ويدخلون تحت شروط الدير المذكور الجاري به العادة من قديم الزمان وإلى تاريخه، وهو أنه متى مدَّ أحد يده من العربان إلى راهب، أو أخذ منه شيئًا، أو شوَّش عليه في طريق أو غيره، أو دخل على كرم من الكروم المتعلقة بهم، أو كسر باب الكرم، أو هدم حائطًا، أو قطع حبل الدوار، أو حرق باب الدير، أو عارضهم في طرقاتهم، كان عليه «أسيه» يأخذ شيخ العرب جمله، وإذا قُتل أحد من الرهبان أو من الزوَّار المسلمين أو النصارى كان عليهم إحضار الجاني، ويكون عليهم القيام لديوان الذخيرة الشريف بألف دينار ذهبًا سلطانيًّا جديدًا حسبما التزموا بذلك على جاري عاداتهم التزامًا مقبولًا، وشهد بالتوكيل مرسوم الحكم في ثالث عشر صفر سنة سبع وأربعين وتسعمائة/١٩ يونيو سنة ١٥٤٠م.

«شهد عليهم بذلك: محمد محمد الدميري، محمد دنين.» ا.ﻫ.

واطلعت في الدير على اتفاقية تُعرف «بالشورة» عُقدت بين الرهبان في عهد «الأسقف كير يواصف» وبين مشايخ الصوالحة وأولاد سعيد والعليقات «في منزل شيخ العرب منصور ابن المرحوم الشيخ صيام العائدي في البرقوقة (العباسية الآن) في يوم السبت ٢٤ شعبان سنة ١٠٥٣ﻫ/الموافق ٢١ أكتوبر سنة ٧١٥٢ لآدم» ٨ نوفمبر سنة ١٦٤٣ للمسيح.

وقد ذكر فيها أسماء المتعاقدين، وهم الأسقف و١٢ راهبًا و١٦ شيخًا، وأمضاها وتعهد بإنفاذها «منصور صيام» المذكور وحده، وهي تتفق معنًى ومبنًى مع الاتفاق السالف الذكر، لكنها مفصلة تفصيلًا تامًّا، حتى إنها لم تترك حالة كان من الممكن وقوعها في ذلك العهد بين العربان والرهبان إلَّا ذكرتها وعينت الجزاء عليها، ومما ذكر فيها من التفصيل ولم يذكر في الاتفاق السالف الذكر:

… وأشهد جماعة العربان على أنفسهم أن كل من دخل منهم بين الصبيان وبين الرهبان في خلاص حقوقهم يكون عليه جمل، وألَّا يعارضوا الصبيان ولا المتسببين إذا حضروا للبيع على الرهبان من فاران وغيره، وكل من عارضهم كان عليه جمل، ولا أحد يغصب الرهبان بأن يشتروا منه عنبًا أو غيره فكل من فعل ذلك كان عليه جمل لشيخ العرب، وكل من عارض بني واصل الذين يجلبون الحوت والسمك أو الملح ومنعهم من البيع والشراء على الرهبان كان عليه لشيخ العرب جمل، وليس لأحد من العربان أن يجيء الدير ويطلب طبيخًا أو شيئًا من الأكل أو أدامًا سوى نصف القدح والملح لا غير، ولا يطلب لأبيه ولا لابنه ولا لأخيه، وكل من يقول: أنا ما أخذت البارحة، أو يطلب لثاني يوم عيشه أو طلب غير نصف القدح المعلوم كان عليه جمل لشيخ العرب، ولا يطلب أحد من الرهبان دراهم قرضًا أو قمحًا أو نبيذًا أو فراشًا أو غطاءً، وكل من أغصبهم في شيء من هذا كان عليه جمل لشيخ العرب، ولا ينام أحد في الدير ولا في أنطوش الدير جملة كافية، وكل من كان في الدير ولا يرضى يخرج بل ينام فيه كان عليه جمل لشيخ العرب … ا.ﻫ.

وما زالت هذه الشروط تتغير وتتبدل وتزيد أو تنقص حسب الحال والزمان؛ حتى صارت إلى الصورة التي أثبتناها تفصيلًا في باب الجغرافية، وأصبحت وزارة الحربية المصرية نفسها ضامنة تنفيذها وإقرار الأمن والسلام في الجزيرة كلها كما مرَّ.

(٧) رؤساء رهبان طور سيناء ومطارنة الدير وفيران

  • (١)

    عن كتاب «التاريخ المقدس القديم والحديث من موسى النبي إلى السلطان سليم» باليونانية للمطران نكتاريوس سنة ١٦٥٨م، وقد أخذ أكثر معلوماته عن كتاب عربي قديم في الدير يدعى «تاريخ السنين في أخبار الرهبان والقديسين» مفقود الآن، وعن كتب أخرى عربية ويونانية في الدير.

  • (٢)

    عن «تاريخ دير طور سيناء المقدس» باليونانية، لكير بارا كليس غراغوريادس، أستاذ الفلسفة في كلية أثينا، سنة ١٨٧٥م.

  • (٣)

    عن مطران الدير الحالي ورهبانه ومكتبته.

(٧-١) مطارنة أبرشية فيران

تقدم أنه قام في سيناء قبل بناء الدير أبرشية عظيمة للنصارى، ولها مطران يقيم في فيران، وقد اشتهر من مطارنتها ثلاثة، وهم:
  • (١)

    المطران موسى سنة ٣٢٠–٣٦٠م، ويُظن أنه أول مطران قام على فيران، وأنه هو الذي حوَّل أهل فيران عن عبادة الأوثان وأدخلهم في النصرانية.

  • (٢)

    المطران نَيتره سنة ٤٦٥م، قالوا: إنه كان تلميذ سلفانوس رئيس رهبان طور سيناء الآتي ذكره.

  • (٣)

    المطران ثيودورس سنة ٦٤٩م، وهو آخر مطران لفيران، وكان من القائلين بأن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة، فحرمه مجمع الآستانة سنة ٦٤٩م، والظاهر أنه بعد هذا الحادث انتقل مركز الأبرشية رسميًّا إلى طور سيناء.

(٧-٢) رؤساء رهبان طور سيناء

كان للرهبان المقيمين في طور سيناء رئيس، وكانوا تابعين لأبرشية فيران إلى أن انتقل مركز الأبرشية إلى طور سيناء، واشتهر من رؤساء طور سيناء إلى ذلك العهد أربعة، وهم:
  • (١)

    الرئيس ذولاس سنة ٣٧٣م: وهو أول رئيس ذكره التاريخ لرهبان طور سيناء، وفي أيامه غزا البجاة رهبان راية عند مدينة الطور، وعرب الشرق رهبان طور سيناء كما مرَّ في خبر أمونيوس الراهب.

  • (٢)

    الرئيس سلفانوس سنة ٤٦٥م: قالوا: إنه أتى طور سيناء من القدس الشريف زائرًا، فاختاره الرهبان رئيسًا عليهم، وقد اشتهر بالحكمة وأصالة الرأي، ومما يروى عنه أنه قد أتى الدير زائر من مصر وهو يشتغل مع الرهبان في حقل لهم هناك، فقال الزائر: كنا نظن أنكم معاشر الرهبان طلبتم النسك للتفرغ لعبادة الخالق وترك مهام الجسد، فأراد الرئيس أن يعطيه درسًا نافعًا في أن الشغل ضروري حتى للرهبان، فأدخله غرفةً وأعطاه كتابًا وسأله أن يطالعه إلى أن ينتهي من الشغل فيتفرغ لمحادثته، فبقي الزائر يطالع في الكتاب ساعات حتى عضه الجوع بنابه، وكان الرهبان قد فرغوا من الشغل وأكلوا ولم يدعوه لتناول الطعام معهم، فلما استحكم به الجوع خرج من غرفته وصاح بالرهبان قائلًا: لقد خرت جوعًا، أفلا تأكلون أنتم معاشر الرهبان هنا؟ فقال الرئيس: عفوًا أيها الزائر الكريم، لقد حسبناك ملاكًا لا تحتاج إلى طعام أو شراب، أما وقد شعرت بالحاجة إلى القوت فنرجو أن تعذرنا بعد الآن إذا كنا نكرس بعض ساعات النهار للشغل لتحصيل قوتنا، فاعتذر الزائر إذا ذاك ثم قُدِّم له الطعام، فأكل وشكر الرئيس على الدرس النافع الذي ألقاه عليه.

  • (٣)

    الرئيس لونجينوس سنة ٥٣٠م: وفي أيامه أرسل الرهبان وفدًا منهم إلى الملك يوستنيانوس وبُني الدير، بدليل وجود صورته في قبة هيكل الكنيسة الكبرى كما مرَّ.

  • (٤)

    يوحنا المقلب أقليمقوس سنة ٥٨٠–٦٠٣م: قالوا: إن يوحنا هذا كان شماسًا للرئيس لونجينوس، فلما مات خلفه في الرئاسة، وقد كتب للرهبان كتابًا سماه الأقليمقوس فقلب به، ومعنى الأقليمقوس سلَّم فسمي بالعربية «سلَّم الفضائل» وفيه آداب الرهبنة وواجب الرهبان نحو أنفسهم وخالقهم والناس، وهو يُقرأ في أيام الصوم الكبير في دير سيناء وفي كثير من الأديرة النصرانية إلى هذا العهد.

هذا ورأيت في الدير في صدر عظة موضوعها تجلي المسيح لتلاميذه الأطهار بطرس الصفا ويعقوب ويوحنا في جبل طابور ما نصه: «هذا قول الأب القديس نسكاسيوس رئيس طور سيناء»، ولكني لم أقف على تاريخ قيام هذا الرئيس.

(٧-٣) مطارنة دير طور سيناء

قد يستدل من تاريخ الدير أن رهبان طور سيناء لم يسكنوا الحصن الذي بناه لهم الملك يوستنيانوس توًّا بعد بنائه، بل بقوا يسكنون المغاور والكهوف حول الحصن إلى أن انتقل مركز الأبرشية من فيران إلى طور سيناء بعد سنة ٦٤٩م، وكان الإسلام قد امتدَّ إلى الشام ومصر، واشتد الحال على الرهبان، فهجروا المغاور والكهوف وسكنوا الحصن، فجعلوه ديرًا ومركزًا لأبرشية سيناء، وأصبح رئيس الدير مطرانًا للأبرشية، ولقبه «مطران دير طور سيناء وفيران وراية» وما زال كذلك إلى اليوم، ودير طور سيناء هو الدير الوحيد الذي يلقب رئيسه مطرانًا وبالإفرنجية   archevêque, archbishop، وقد اتصل بنا خبر ٥٣ مطرانًا من مطارنة دير طور سيناء، وهم:
  • (١)

    المطران مرقس سنة ٨٦٩م: وهو أول مطران معروف للدير، ذُكِر في كتاب «تاريخ السنين» المار ذكره.

  • (٢)

    المطران قسطنطين، وقيل إنه هو أول مطران للدير ومرقس الثاني.

  • (٣)

    المطران سليمان: عن كتابة في هيكل كنيسة العليقة هذا نصها: «كان الفراغ من هذا العمل (الفسيفساء) في أيام المطران سليمان»، ويتبين من حالة الفسيفساء أنه من أقدم ما في الهيكل.

  • (٤)

    المطران غبريل أُربسارو: عن كتابة على مذبح كنيسة العليقة هذا نصها: «اذكر يا رب عبدك الفقير غبريل أربسارو يعني مطران طور سيناء»، ويظهر من الشغل أن المذبح بُني بعد الفسيفساء.

  • (٥)

    المطران أيوب الفلسفي: عن كتابة فوق باب الكنيسة الكبرى هذا نصها: «أيوب الفلسفي رُسم مطرانًا.»

  • (٦)

    المطران يوحنا سنة ١٠٩١م: وهو من أهل أثينا. قيل وهو الذي قتله عساكر مصر، ورواية الخبر المأثور في تاريخ نكتاريوس أنه في عهد هذا المطران اعتدى العربان على قافلة من الحجاج كانت ذاهبة إلى مكة، فأرسل صاحب مصر جندًا لتأديب العربان ودخل الجند الدير، فسألوا: أين الرئيس؟ فبرز الرئيس لهم، وقال: أنا هو، فقالوا: أين مال الدير؟ فقال: لا مال للدير؛ فقتلوه، والله أعلم بالصواب.

  • (٧)

    المطران زخريا سنة ١١٠٣م: قيل وهذا التاريخ مأخوذ عن فرمانه المفقود الآن، وهذا المطران تقع مدته في مدة الآمر بأحكام الله الفاطمي.

  • (٨)

    المطران جرجس سنة ١١٣٣م: قيل وهذا التاريخ أخذ عن فرمانه المفقود أيضًا، وهو يقع في مدة الحافظ لدين الله الفاطمي خلف الآمر بأحكام الله.

  • (٩)

    المطران غبريل الثاني سنة ١١٤٦م: عن فرمانه المفقود، وهو يقع في مدة الحافظ لدين الله. قالوا: وكان عالمًا بالعربية، وقد كتب فيها كتاب «تعليم مسيحي» موجود الآن في الدير.

  • (١٠)

    المطران يوحنا الثاني سنة ١١٦٤م: وله رسالة بالعربية إلى رهبان الطور.

  • (١١)

    المطران سمعان سنة ١٢٠٣م: جال مدة في أوروبا يجمع الإحسان للدير ثم استعفى.

  • (١٢)

    المطران أفتيموس سنة ١٢٢٣م.

  • (١٣)

    المطران مكاريوس سنة ١٢٢٤م.

  • (١٤)

    المطران جرمانوس الأول سنة ١٢٢٨م.

  • (١٥)

    المطران ثيودوسيوس سنة ١٢٢٩م.

  • (١٦)

    المطران سمعان سنة ١٢٥٨م: خدم مدة ثم استعفى.

  • (١٧)

    المطران يوحنا الثالث سنة ١٢٦٥م.

    وهذه المطارنة الثمانية الأخيرة ذكرت في كتاب «تاريخ السنين» المار ذكره.

  • (١٨)

    المطران أرسانيوس سنة ١٢٩٠م.

  • (١٩)

    المطران سمعان الثالث سنة ١٣٠٦م.

  • (٢٠)

    المطران دوروثيوس سنة ١٣٢٤م: عن فرمانه المفقود، وهو يقع في مدة السلطان الناصر محمد بن قلاوون من المماليك البحرية صاحب مصر والشام.

    جاء في كتاب «تاريخ السنين»:

    يوم الإثنين الواقع في ٣٠ أبريل سنة ١٣١٢م عند الغروب حصلت زلزلة، وفي نصف الليل زلزلة، وفي صباح الثلاثاء أول مارس حصلت زلزلة عظيمة حتى ظُنَّ أن القيامة قامت، وانهدم حائط سور الدير الشرقي والحائط الغربي والبرجان، وهدمت منازل الرهبان بعضها للأرض وبعضها هدمت سقوفها، فخاف الرهبان خوفًا شديدًا وخرجوا إلى الجنينة، ودامت الزلازل خمسة أيام، وفي اليوم السادس نظر الرهبان إلى سهل الراحة فإذا بخيالة وجمالة مقبلين نحوهم، فذهبوا لاستقبالهم فإذا هم بناءون ومعهم زاد كثير، فسألوهم عن قصدهم فقالوا: إن «غفريل» رئيس أساقفة بتراء علم أن الدير قد تهدم فأرسلنا إليكم لنعيد بناءه، فساعدهم الرهبان وأعادوا بناء ما تهدم من الدير، وعادوا إلى بلادهم. ا.ﻫ.

  • (٢١)

    المطران جرمانوس الثاني سنة ١٣٣٣م: وقد مرَّ بنا أنه كان في جملة من وقَّع الخبر بشأن إسلام الجبالية «الرئيس جرمانوس»، فإن كان جرمانوس الأول (سنة ١٢٢٩م) وأخرجنا من تاريخ ولايته ٩٠ سنة كان تاريخ الخبر وخلاص الجبالية من السخرة سنة ١١٣٨م، ثم إذا أخرجنا مائة سنة ونيفًا قل ١١٨ سنة المدة التي سخر بها الجبالية كان إسلامهم سنة ١٠٢٠م، وهو يقع في مدة الحاكم بأمر الله، وإن كان الرئيس الذي وقَّع الخبر جرمانوس الثاني هذا كان إسلام الجبالية في عهد الآمر بأحكام الله كما ظنَّ بعضهم، وفي أي الحالين يكون إسلامهم بموجب ذلك الخبر في عهد الفاطميين لا في عهد السلطان سليم العثماني كما في تقاليد الرهبان، والله أعلم.

  • (٢٢)

    المطران مرقص الثاني سنة ١٣٥٨م.

  • (٢٣)

    المطران إثناسيوس.

  • (٢٤)

    المطران سابا.

  • (٢٥)

    المطران إبراهيم.

  • (٢٦)

    المطران غفريل الثالث.

  • (٢٧)

    المطران ميخائيل.

  • (٢٨)

    المطران سلفانوس.

  • (٢٩)

    المطران كيرلُّس.

  • (٣٠)

    المطران لازاروس.

  • (٣١)

    المطران مرقص الثالث.

    ويستدل من بعض كتب في وكالة الدير بمصر أن مدة المطرانين الأخيرين امتدت من سنة ١٤٨٦–١٥١٠م، أمَّا مرقص الثالث فقد رقي بطريركًا على القدس الشريف سنة ١٥١٠م، وبقي الدير بعده بلا مطران مدة ٣٠ سنة، وفي أثنائها فتح السلطان سليم مصر وأصبحت ولاية عثمانية.

  • (٣٢)

    المطران سفرونيوس سنة ١٥٤٠م: وفي أيامه عقد الرهبان اتفاقًا مع الرهبان الخفراء وصدَّقه المولى بالمحروسة كما مرَّ.

  • (٣٣)

    المطران مكاريوس الثاني القبرصي سنة ١٥٤٥م: كان رجلًا سيئ السيرة مبذرًا، فرفع الرهبان أمره إلى البطاركة الثلاثة فحرموه سنة ١٥٤٧م، وبقي الدير بلا مطران مدة؛ لأن البطاركة قرروا عدم لزوم مطران كما ذكر في كتاب «تاريخ السنين»، ثم رأى الرهبان أن حالهم لا تصلح بلا مطران فرفعوا الأمر لأرميا الثاني بطريرك الآستانة سنة ١٥٦٧، فسمى عليهم:

  • (٣٤)

    المطران أفيانيوس سنة ١٥٦٧–١٥٨٣م، وخلفه:

  • (٣٥)

    المطران أنسطاسيوس سنة ١٥٨٣–١٥٩٢م.

    رأيت في بعض كتب الدير «أن القديس أنسطاسيوس رئيس جبل طور سيناء المقدس صار مطرانًا على البتراء».

  • (٣٦)

    المطران لفرنديوس سنة ١٥٩٢–١٦١٧م.

  • (٣٧)

    المطران غفريل الرابع سنة ١٦١٨: عن فرمانه المار ذكره.

  • (٣٨)

    المطران يواصف الرودسي سنة ١٦١٨–١٦٥٨م: وفي أيامه كتبت «الشورى» المار ذكرها بين خفراء الدير والرهبان سنة ١٦٤٣م.

  • (٣٩)

    المطران نكتاريوس سنة ١٦٥٨م: هو راهب سينائي، ذهب إلى القدس الشريف ليُرسَم مطرانًا على سيناء، ولم يكن في القدس بطركًا فرسموه بطركًا عليها، وهو صاحب «التاريخ المقدَّس» باليونانية المار ذكره.

  • (٤٠)

    المطران حنانيا البيزنطي سنة ١٦٥٨–١٦٦٨م: بقي مطرانًا للدير عشر سنوات ثم استعفى، وقد سعى أن يكون بطريركًا للآستانة فلم يفلح.

  • (٤١)

    المطران أيوانيكيوس سنة ١٦٦٨–١٧٠٣م: ترى على وُجهة مذبح كنيسة الدير الكبرى كتابة باليونانية، مؤداها أن هذا المذبح جُدِّد في عهد المطران أيوانيكيوس سنة ١٦٧٥، وفي أيامه سنة ١٦٩١ أهدي إلى الدير صندوق من الفضة عليه رسم القديسة كاترينا كما مرَّ.

  • (٤٢)

    المطران كوزماس من الآستانة سنة ١٧٠٤م: وقيل سُمِّي سنة ١٧٠٥م، وبعد سنة سُمِّي بطريركًا على الآستانة ثم على الإسكندرية.

  • (٤٣)

    المطران أثناسيوس فارباسيوس سنة ١٧٠٦ / ١٧١٨م: وفي عهده سنة ١٧١٥ جُدِّد بلاط كنيسة الدير الكبرى كما مرَّ.

  • (٤٤)

    المطران أيوانيكيوس الثاني من جزيرة مدلين سنة ١٧١٨–١٧٢٩م: كُتِب على نسخة من «سلم الفضائل»: «صارت زلزلة في شهر حزيران سنة ١٧٢٨م.»

  • (٤٥)

    المطران نيكوفورس مارثالس من كريت سنة ١٧٢٩–١٧٤٩م: أقام مطرانًا على الدير ٢٠ سنة ثم استعفى ومات في بلده، وقد رأيت في «كتاب الأم» المار ذكره كتابة بالرومية بخط هذا المطران، مفادها «أن قد تمَّ ببندر الطور اتفاق بين أقلوم الدير نيكفورس وكاتب الدي جرجس تلحمي من جهة وبين جمَّاع أبو هديب وموسى ولد علي وغيرهما من جهة أخرى بشأن إنارة الجامع وتنظيفه سنة ١١٥٧ﻫ/١٧٤٤م.»

  • (٤٦)

    المطران قسطنديوس من كريت سنة ١٧٤٩–١٧٥٩م: أقام مطرانًا على الدير عشر سنين ثم استعفى، وذهب إلى الآستانة فمات في الطريق.

  • (٤٧)

    المطران كيرلُّس الأول سنة ١٧٥٩–١٧٩٠م: أقام مطرانًا على الدير ٣٠ سنة و٣ أشهر، ومات في بلاد بلاخيته في ١٢ يناير سنة ١٧٩٠، وفي أيامه سنة ١٧٦٥ رُمِّمت كنيسة الدير، وجعل فوق بابها رخامى نقش عليها باليونانية تاريخ ترميمها واسم مرمِّمها، وفي سنة ١٧٨٧ أهدي إلى الكنيسة الكبرى منبر من الرخام جميل الصنع يصعد إليه بسلم يرى عن يسار الداخل.

  • (٤٨)

    المطران دورثيوس من الآستانة سنة ١٧٩٤–١٧٩٧م.

    رأيت على كتاب «معنى الحياة أو المركب الساير في مياه النجاة» هذه الحواشي: «نظر في هذا الكتاب المبارك العبد الحقير في المسيحيين فليوثاوس، من قرية شحرور قرب ثغر بيروت، وهو بالزيِّ راهب سنة ١٧٩٨م»، وبخطه: «في سنة ١٧٩٧ جاء جراد كثير وأكل الأشجار والأثمار، وما فضل خضرة في هذا البرِّ جميعه.»

    «وفي ١٨ كانون أول صار مطر ثقيل دام أربعًا وعشرين ساعة، ومنه انهدم حائط الدير الشمالي من الزاوية الشرقية إلى كنيسة القديس جاورجيوس.»

    «وفي شهر حزيران سنة ١٧٩٨ جاء الإفرنج وفي عشرة أيام أخذوا مصر.» قلت: وقد رمَّم حائط الدير المتهدم الجنرال كليبر الفرنساوي سنة ١٨٠١م كما مرَّ.

  • (٤٩)

    المطران قسطنديوس الثاني سنة ١٨٠٤–١٨٥٩م: كان بطرك الآستانة ومطران الدير، وقد اطلعت في بعض أوراق الدير على هذه العبارة: «وفي ٢٥ أغسطس سنة ١٨٤٤ حضر الراهب جناديوس من قبل رهبان دير طور سيناء المقيمين بالجوانية «بالقاهرة»؛ لجمع أثمار كرم النخيل بالطور، فرأى ثمر الكرم ضامرًا بسبب عدم تلقيحه، فألزم المواطرة بالخسارة.»

  • (٥٠)

    المطران كيرلُّس الثاني من ٢٥ نوفمبر سنة ١٨٥٩–١٨٦٧م: سيم مطرانًا على الدير في الآستانة، وفي أيامه بُنيت بوابة حوش الدير، وأسست المدرسة العبيدية سنة ١٨٦٠، وفي هذه السنة عينها أهدت الحكومة اليونانية تابوتًا من الفضة وعلى غطائه صور القديسة كاترينا، وقد رصعت بالحجارة الكريمة كما مرَّ.

  • (٥١)

    المطران كاليستراتس من أزمير سنة ١٨٦٧–١٨٨٥م: مات في مدينة الطور، وفي أيامه سنة ١٨٧٠ جعل للكنيسة قبَّة، وعلَّق فيها أجراسًا مختلفة كما مرَّ.

  • (٥٢)

    المطران بورفيريوس الأول من جانتا سنة ١٨٨٥م: مرض واستعفى سنة ١٩٠٤، وأقام في جزيرة صاقس إلى أن تُوفي فيها في ١٥ يوليو سنة ١٩٠٩م، ثم نقلت رفاته إلى معرض الجماجم في الدير، ولا تزال هناك مع رفات مطارنة آخرين كما مرَّ.

  • (٥٣)

    المطران بورفيريوس الثاني مطران دير طور سيناء الحالي. سيم مطرانًا على سيناء بعد استعفاء سلفه في ٢٣ أبريل سنة ١٩٠٤، وقد تقدم لنا ذكر لمع من سيرته المجيدة عند الكلام عن جغرافية الدير.

fig98
شكل ٥-١: الأرشمنتدريت ثيودسيوس، الوكيل العام الحالي لدير طور سيناء (انظر الباب الثاني: في جغرافية سيناء الأدارية – الفصل الثاني: في دير طور سيناء – في دخل الدير ونفقاته، وهو من أسلم رهبان الدير قلبًا وأسدهم رأيًا وأشدهم غيرةً).

وقد ذهبت إلى الدير في ٢٧ يناير سنة ١٩٠٥ مندوبًا من قبل سعادة السردار لعقد اتفاق بين رهبان الدير وعرب الطور بشأن تأجير جمال لنقل الرهبان وأمتعتهم من مدينة الطور والسويس إلى الدير وبالعكس، فقضيت في الدير أربعة أيام إلى أن تمَّ الاتفاق بين الفريقين، وقد ذكر برمته في باب الجغرافية، وكان في الدير وضواحيه إذ ذاك نحو عشرين راهبًا، وفي الجهات التابعة للدير خارج سيناء نحو ٤٠ راهبًا، وعليهم السيد الكريم بورفيريوس رئيسًا ومطرانًا، والأب بوليكربوس وهو شيخ جليل خزاندارًا، والأب أفيانيوس أقلومًا أي مديرًا عامًّا للدير وجميع الأديرة التابعة له في مصر والشام وأوروبا، والأب بنيامين، وهو من القدس ولكنه متربٍّ تربية يونانية، أقلومًا خاصًّا للدير.

ثم ذهبت بمأمورية خاصة إلى جبل الفيروز، فزرت الدير ثانية ومكثت فيه من ١٣–١٧ أبريل سنة ١٩٠٧ أطالع في مكتبته العربية، فاطلعت فيها على كثير من حقائق تاريخ الدير التي ضمها هذا الكتاب، وقد لقيت من الرهبان في زيارتي الأولى والثانية من العناية والحفاوة واللطف وخصوصًا من سيادة مطرانه بورفيريوس الثاني وأقلومه الأب بنيامين ما أودُّ أن أسجِّله هنا بمداد الشكر والثناء.

(٨) عود إلى المدرسة العبيدية

قدمنا في باب الجغرافية عند ذكر المدرسة العبيدية التي يرأس مجلسها مطران سيناء أن الأروام استأثروا بالمدرسة حتى لم يعد فيها تلميذ واحد من أبناء العرب، وأني وجهت نظر مطران سيناء الحالي إلى ذلك، فأكَّد لي أنه بعد إتمام البناء المزمع إقامته للمدرسة قريبًا في ضواحي القاهرة سينشئ قسمًا خاصًا ينطبق في كل الفروع على بروجرام وزارة المعارف المصرية؛ ليكون لأبناء العرب من المدرسة نصيب، وكان أبناء العرب من الروم الأرثوذكس قد تنبهوا إلى إجحاف مجلس المدرسة بحقوقهم وهبُّوا للمطالبة بها، فأعلمتهم بما وعد المطران فلم يكتفوا به، فعقدوا اجتماعًا عامًّا في نادي الاتحاد السوري بالقاهرة في ٣١ مايو سنة ١٩١٤ وعيَّنوا لجنة مؤلفة من ثمانية من الأعيان للدفاع عن حقوقهم المهضومة، فأرسلت اللجنة إلى مطران سيناء بصفته رئيسًا لمجلس المدرسة كتابًا بسطت فيه كيفية حرمان أبناء العرب من المدرسة بجعل اللغة اليونانية اللغة الأساسية للتدريس، وطلبت إليه تدريس العلوم بالعربية التي هي لغة البلاد أو بالفرنساوية التي هي لغة عامة حيَّة يستفيد منها الطلبة من جميع الأجناس على السواء، وطلبت إليه أيضًا تعيين عضو سوري ثالث في محل خال من مجلس المدرسة طبقًا للوقفية … فأجابها المطران بما معناه أن المادة الثانية من قانون الواقف لا تسمح لأحد بالتدخل في أعمال المجلس وإدارة المدرسة، وأن المدرسة لم تقفل أبوابها قط في وجه أبناء العرب.

فردت اللجنة عليه بما مفاده أن المادة الثانية التي تشيرون إليها تقضي بعدم تدخل أحد في إدارة المدرسة، والترتيب السنوي الذي يصير عليه المعوَّل من الوكلاء المحصور في أيديهم سياسة المدرسة، وأمَّا نحن فلم نتعرض لإدارة المدرسة والترتيب السنوي ولا هو المراد من كتابنا، وإنما مرادنا توجيه نظر المجلس لعدم مخالفة إرادة الواقف وروح الوقفية في تلك الإدارة وذلك الترتيب، وهذا حق لكل وطني وقفت المدرسة لفائدته، وأمَّا قولكم: إن المدرسة لم تقفل أبوابها في وجه الطلاب أبناء العرب فنجيب عنه بأن بروجرام المدرسة القاضي بجعل اللغة اليونانية اللغة الأساسية لتدريس العلوم فيها هو الذي أقفل المدرسة في وجه أبناء العرب؛ لأنه لا فائدة لأبناء البلاد من التضلع باللغة اليونانية، فلم يجب اللجنة على جوابها هذا.

وقد قدمنا في باب الجغرافية أن قنصلية روسيا بمصر جعلت المدرسة تحت حمايتها، ونزيد عليه هنا أنه لما أقرَّت الدولة الروسية على المحاكم المختلطة في مصر قد استثنت منها قضايا المدرسة العبيدية، واشترطت أن يبقى الفصل فيها لمحاكم القنصلية الروسية، وهذه هي صورة المادة القاضية بذلك من اتفاق المحاكم المختلطة المؤرخ في ٩ أكتوبر سنة ١٨٧٥م عن كتاب المرحوم جلَّاد بك الجزء الثالث:

المادة الرابعة: المدرسة المؤسسة في مصر من المرحوم روفائيل عُبَيد الروسي، الحائزة على الحماية الروسية، لا تحاكم أمام المحاكم الجديدة، وتستمر كما في الماضي تابعة للمحاكم القنصلية الروسية عدا عن الدعاوي المتعلقة بالعقارات ملكها، وأنه لمن المفهوم أن إخراج المدرسة المذكورة من دائرة اختصاص المحاكم الجديدة هو بصفتها طائفة (شخص أدبي)، وبناءً على ذلك الكاهن والأساتذة وكل من كان تابعًا للمدرسة المذكورة يبقون تابعين لجهة القضاء المقررة في مصر للجنسية التابعين لها. ا.ﻫ.

الإمضاء
ده لكس
وكيل قنصل جنرال الروسيا
رياض
ناظر الحقانية

فلما رأت اللجنة من المطران عدم التلبية لمطالبها التجأت إلى جناب الموسيو سميرنوف قنصل روسيا الجنرال في مصر، وطلبت إليه إنصافها بصفته حامي المدرسة والقاضي الفصل بمشاكلها، وكانت تطلعه على ما يجري بينها وبين المطران في حينه، ففاوض المطران في مطالب اللجنة فأنكر عليه التدخل في أمر المدرسة كما أنكره على اللجنة وأصرَّ على رأيه أو يُعفى من رئاسة المجلس، فأمر القنصل الجنرال بإعفائه مؤقتًا وسمى الوجيه ميشال بك لطف الله عضو السوريين في الجمعية التشريعية وأحد أعضاء لجنة الدفاع عضوًا في مجلس المدرسة، وسُمِّي الوكيل الميتر نقولا عبيد رئيسًا مؤقتًا للمجلس.

وفي ١٨ يونيو سنة ١٩١٥ بحث المجلس الجديد في مطالب اللجنة، فأصدر القرار الآتي: «تقرر تشكيل فصل سنة أولى مبتديان للقسم العربي.» قالوا: وفي النية أن يتدرج هذا القسم في الصفوف حتى يصبح مساويًا للقسم اليوناني، وهو يتبع في الوقت نفسه بروجرام المدارس الأميرية مع ما فيه من الصفوف الإنكليزية؛ ليتمكن الطالب به من نيل شهادة الكفاءة ثم شهادة البكلوريا، فاستحق المجلس على هذا القرار وهذه النية كل ثناء وشكران. نعم إن في قسمة صفوف المدرسة إلى قسمين عربي ويوناني زيادة في النفقات؛ لما تتطلبه هذه القسمة من زيادة الغرف والمعلمين؛ إلَّا أنه يمكن تلافي هذه الزيادة بتقليل عدد الطلبة أو بجعل الصفوف كلها قسمًا واحدًا تُدرَّس فيه العلوم بالفرنساوية مع تدريس العربية واليونانية اللغتين الأخريين المشروطتين في الوقفية في صفوف خاصة، وإلزام كل فريق إتقان لغته مع درس مبادئ لغة الفريق الآخر.

إلَّا أن في إنشاء القسم العربي على ما ينويه المجلس مزايا قد تربو فائدتها على جعل الصفوف كلها قسمًا واحدًا؛ لأن القسم العربي يوجب إتقان اللغة العربية التي هي لغة البلاد وإتقان اللغة الإنكليزية التي هي لغة حماة القطر والتي لا بدَّ من إتقانها لطلاب وظائف البلاد الأميرية والتجارية، وهو في الوقت نفسه لا يحرم طلابه تعلم اللغة الفرنساوية ومبادئ اللغة اليونانية المشروط تعلمها في الوقفية.

وقبل إقفال هذا الموضوع لا بدَّ لي من إبداء أشد الأسف من وقوع الأزمة الحاضرة وإعفاء مطران سيناء ولو مؤقتًا من رئاسة المجلس، فقد قضيت في صحبة هذا السيد الجليل عشر سنوات متوالية، وخبرته في كثير من الأعمال الرسمية والخصوصية؛ فلم أرَ منه إلَّا كل خلق كريم وقلب سليم مع عزَّة في النفس وشرف في المبدأ وزهد في الدنيا، ولربما كان معذورًا لتمسكه برأيه في ما يتعلق بنظام المدرسة؛ لأن أروع خلق فيه تناهيه في الغيرة على أبناء جنسه، وهذه الغيرة المتناهية مع سكوت أبناء العرب عن نصيبهم في المدرسة سنين طويلة حملاه على التدرج إلى النظام الحالي، فأصبح من الصعب جدًّا الرجوع عنه دفعة واحدة، والتنازل عن نصف منافع المدرسة للغير بعد أن كانت كلها لأبناء جنسه، وفي كل حال فإني أرجو أن يعود إلى رئاسة المجلس قريبًا ويأخذ أبناء العرب حقهم من المدرسة على يديه، وتتفق جميع الآراء على ما فيه مصلحة الطلبة والمدرسة والبلاد والسلام العام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤