الفصل الخامس

في حادثة الحدود سنة ١٩٠٦

المشهور أن الفرمان الذي أصدره السلطان محمود الثاني لمحمد علي باشا سنة ١٨٤١ يثبِّته فيه على مصر ويجعل الحكم وراثيًّا في أسرته كان معه خريطة عُيِّن فيها حد مصر الشرقي بخط يمتد من العريش إلى السويس، والباب العالي يستشهد بهذه الخريطة أحيانًا، على أن هذه الخريطة لم يُوقف لها على أثر في مصر أو الآستانة، وحكومة مصر لم تعترف بالحدِّ المشار إليه، بل جعلت حد مصر الشرقي خطًّا مستقيمًا ممتدًّا من رفح على نحو ٢٨ ميلًا من العريش إلى جنوب قلعة الوجه، فأدخلت به سيناء كلها وقلاع العقبة وضبا والمويلح والوجه، بدليل أنها كانت تدير سيناء وهذه القلاع وتحميها بعساكرها قبل فرمان سنة ١٨٤١، ثم لما سلَّمت القلاع الحجازية — من الوجه إلى العقبة — إلى الدولة سنة ٨٧–١٨٩٢ جعلت حدَّها الشرقي خطًّا مستقيمًا ممتدًّا من رفح إلى رأس خليج العقبة.

لذلك لما جاء فرمان عباس حلمي باشا من السلطان عبد الحميد، وقد أخرج منه جزيرة سيناء، قامت مصر تطالب بحقها، وعضدتها إنكلترا، فأوقفت قراءة الفرمان حتى ورد تلغراف جواد باشا الصدر الأعظم المؤرخ ٨ أبريل سنة ١٨٩٢ يولج مصر إدارة سيناء ويترك القديم على قدمه، فقبلت مصر الفرمان إذ ذاك وعدَّت التلغراف متممًا له.

fig114
شكل ٥-١: اللورد كرومر.
fig115
شكل ٥-٢: اللورد كتشنر.

ثم لأجل منع سوء التفاهم في المستقبل أرسل السر أفلن بارنج (اللورد كرومر) معتمد الدولة البريطانية في مصر بتاريخ ١٣ أبريل سنة ١٨٩٢ مذكِّرة إلى تيغران باشا ناظر الخارجية المصرية في ذلك الحين، مفادها «أنه لا يمكن تغيير شيء من الفرمانات المقررة للعلائق التي بين الباب العالي ومصر إلَّا برضا الدولة البريطانية، وأن شبه جزيرة سيناء — أي الأراضي المحدودة شرقًا بخط يمتدُّ جنوبًا بشرق من نقطة تبعد مسافة قصيرة عن شرق العريش إلى خليج العقبة — تستمر إدارتها بيد مصر، وأمَّا القلعة الواقعة شرقي الخط المذكور فتكون تابعة لولاية الحجاز.»

وقد أرسل اللورد كرومر مذكرته هذه رسميًّا إلى سفير إنكلترا في الآستانة، فأبلغها السفير إلى الباب العالي وأرسل أيضًا صورة منها مع صور جميع المكاتبات التي دارت بشأن فرمان التولية إلى الدول الأخرى فاعترفت بقبولها، وأمَّا الباب العالي فلم يجب عنها سلبًا ولا إيجابًا.

(١) حادثة المرشَّش

ونامت المسألة نومًا طبيعيًّا إلى أن سمي المستر براملي الإنكليزي مفتشًا للجزيرة سنة ١٩٠٥، وشرع في الإصلاح الإداري الذي تقدَّم لنا ذكره، من ذلك تنظيم البوليس الأهلي وقسمته إلى هجانة ومشاة وإقامة سد في بطن وادي العريش قرب نخل لإرواء الأراضي المجاورة لها، فأشاعت بعض الجرائد المحلية المعادية للاحتلال خبرًا مؤداه أن الإنكليز أرسلوا رجالهم إلى سيناء ليبنوا القلاع على حدودها وفي النفس شيء، فبعث والي سوريا برسالة برقية بهذا المعنى إلى السلطان، فطلب من مصر رجوع العساكر الإنكليزية عن الحدود، فأجابته مصر بكذب هذه الإشاعة.

ثم بلغ مصر أن السلطان أمر بإنشاء نقطة عسكرية عند عين القُصَيِّمة وأخرى عند مشاش الكنتلا في وادي الجرافي، وكلا المحلين داخل في حد سيناء، وكان السلطان قد أنشأ قائمقامية جديدة سنة ١٨٩٩ في بئر السبع، فأخذت مصر ترقب حركاته على الحدود بعين ساهرة.

وفي يناير سنة ١٩٠٦ أصدرت أمرها إلى المستر براملي مفتش جزيرة سيناء بوضع خفر من البوليس في نقب العقبة لمراقبة الحدود، فذهب المستر براملي ببعض رجال البوليس إلى رأس النقب، ولما لم يجد فيه الماء الكافي نزل إلى المرشَّش في سفح النقب على الجانب الغربي من رأس خليج العقبة، وكان في قلعة العقبة إذ ذاك اللواء رشدي باشا الذي حارب في اليمن، فأتى المرشَّش وطلب من المستر براملي بكل تلطُّف الرجوع عنها، فرجع وأبلغ الأمر إلى حكومة مصر، فطلبت من السلطان تعيين لجنة من الأتراك والمصريين لتحديد التخوم نهائيًّا بين سيناء وسوريا فأبى.

fig116
شكل ٥-٣: اللواء رشدي باشا قومندان العقبة سنة ١٩٠٦.

(٢) حادثة طابا

فاهتمت الحكومة المصرية لهذا الإباء وأرسلت «بلوكًا» من العساكر النظامية مع الأميرالاي سعد بك رفعت قومندان سيناء لاحتلال وادي طابا، وكان رشدي باشا قد سبق فأرسل إلى هذا الوادي حامية من العساكر. قال سعد بك: «فلما وصلت بنا الباخرة ميناء طابا رأيت العساكر التركية قد انتشرت على التلال التي تطل على طابا من الشرق، وقائدهم ضابط برتبة بكباشي واقفًا على الشاطئ، فأمرت العساكر بالاستعداد للنزول إلى البر وسبقتهم إليه، فاستقبلني القائد المذكور وقال: ما الخبر؟ قلت: قد جئت ببعض العساكر المصرية لاحتلال طابا. قال: إن طابا في حد «العقبة» وجزءٌ منها، فلا أسمح لأحدٍ أن ينزل فيها، قلت: بل طابا في حد الجزيرة وقد أقمت فيها بنفسي مع العساكر بعد إخلاء العقبة سنة ١٨٩٢ تسعة أشهر، وحفرتُ فيها هذه البئر، ودللته عليها، وفيما أنا أناقشه في ذلك حضر المستر براملي برًّا من نخل بوادي طُوَيبة، واشترك معنا في المناقشة، فأصرَّ القائد التركي على قوله إنه يقاومنا إذا أنزلنا العساكر إلى البر، وكانت عساكره قد انتشرت على التلال وصوَّبت نيرانها نحونا، فرأينا من الصواب اجتناب سفك الدماء فعدنا إلى الباخرة ونزلنا في جزيرة فرعون على نحو ميلين من طابا، ثم أرسلنا الخبر إلى حكومتنا ومكثنا ننتظر أوامرها.» ا.ﻫ.

fig117
شكل ٥-٤: الطراد ديانا الإنكليزي.

وفي ١٧ فبراير سنة ١٩٠٦ صدر الأمر إلى الكبتن «فبس هورنبي» قومندان الطراد «ديانا» في السويس بالسفر إلى جزيرة فرعون للمحافظة على العساكر النازلة فيها ومنع العساكر التركية من التوغل في سيناء، وقد صدر لي الأمر بمرافقة الطراد المذكور مندوبًا من قبل المخابرات فوصلنا جزيرة فرعون مساء ١٨ فبراير.

وفي صباح اليوم التالي قام بنا الطراد إلى العقبة، وكان قد حضر إلى جزيرة فرعون القائمقام باركر بك مساعد مدير المخابرات المصرية فرافقنا إلى العقبة، وعند مرورنا بطابا رأينا العساكر التركية لا تزال محتلة ذلك الوادي، وكنا نراقب العقبة بالنظارات، فلما اقتربنا منها رأينا العساكر التركية قد اصطفت وراء جدران الجنائن قرب الشاطئ، وبعضها في خنادق في منحدر الجبل فوق الجنائن، وكلهم في استعداد تام لإطلاق النار، وقد قدرنا عددهم بنحو ألفي رجل.

فوقف الكبتن هورنبي بالطراد بعيدًا عن الشاطئ وقال لي: «هل لك أن تنزل إلى البرِّ وتهدي سلامي إلى اللواء رشدي باشا، وتقوله له: إني جئت لأزوره في محله وأريد أن أحيي القلعة بإطلاق المدافع إذا كان يجيب التحية»، وأمر لي بقارب فذهبت به إلى البرِّ، فوجدت على الرصيف ضابطًا تركيًّا برتبة لواء، طويل القامة أشقر اللون أزرق العينين كبير الشاربين، ومعه ضابط هو ترجمانه وياوره، وكان اللواء ممتقع الوجه مرتجف اليدين مما دلَّ على شدة تأثره، فحيَّيته وقلت: «هل أنا أخاطب رشدي باشا قومندان هذا الموقع؟» فقال بصوت أجش: «نعم أنا رشدي باشا، ومن أنت، وما شأن هذا الطراد؟» قلت: إني من موظفي الحربية المصرية، وهذا الطراد إنكليزي، وقد جئت إليك من قومندانه برسالة، وأبلغته الرسالة، فقال: «أمَّا أنه يريد زيارتي فليتفضل، ولكن ألم ير أصغر من هذا الطراد لتأدية الزيارة؟ وأمَّا القلعة فليس فيها مدفع لردِّ التحية؛ لأنها قد تخربت منذ عهد بعيد ونحن نستعملها الآن مخزنًا للغلال والمؤن.»

فرجعت إلى الكبتن هورنبي بهذا الجواب، فركب رفاص الطراد وركب معه باركر بك وكاتب هذه السطور وأتينا لزيارة رشدي باشا، فاستقبلنا على الرصيف وآثار التأثر لا تزال بادية على وجهه، فأمر بالكراسي فجلسنا تحت ظل النخيل قرب الرصيف، ودار الحديث على أصل الخلاف، فعدَّ رشدي باشا نزول المستر براملي على المرشش تحرشًا بالدولة وقال: إن طابا والنقب يتحكَّمان بالعقبة؛ لذلك فهما منها ولا بدَّ من ضمهما إليها لأجل سلامتها، فقلنا له: المعلوم لدى حكومة مصر أن شرق الخليج تابع للعقبة وغربه تابع لسيناء، وقد سبق لعساكر مصر أن احتلت طابا عدة أشهر بعد إخلاء العقبة ولم تتركها إلَّا لبعدها ووعورة طرقها، فاحتلالكم لطابا والنقب قبل تحديد التخوم رسميًّا بين الدولة ومصر يعدُّ تحرشًا بمصر، وقال الكبتن هورنبي: «وأنا عائد الآن إلى جزيرة فرعون، وسأبقى فيها إلى أن تُرسل لجنة لتحديد التخوم»، ثم ودعناه وانصرفنا، وعند انصرافنا أبدى رشدي باشا رغبته في ردِّ الزيارة للكبتن هورنبي قبل تركه ميناء العقبة، فلما رجعنا إلى الطراد أرسل الكبتن هورنبي رفاصه وقاربه إلى رشدي فأتى بهما، فردَّ الزيارة وعاد إلى العقبة وقد ذهب عنه تأثره، وذهبنا نحن إلى جزيرة فرعون.

وفي اليوم التالي أتانا ياور رشدي بقارب شراعي، وكان القارب الوحيد في العقبة، وقال: إنه ورد خبر من الآستانة أن مختار باشا الغازي قادم إلى العقبة لتحديد التخوم.

ثم حضرت الباخرة نور البحر من السويس وفيها الخبر أن الحكومتين اتفقتا على إرسال مندوبين لتعيين الحدود، وأن مندوبي الدولة هم ضابط من العقبة وضابطان من الآستانة: أحمد مظفر بك ومحمد فهمي بك، وقد برحا الآستانة إلى مصر، وأمَّا مندوبو مصر فهم: الأميرالاي أوين بك مدير المخابرات واللواء إسماعيل باشا سرهنك وكيل الحربية والأميرالاي سعد بك رفعت قومندان سيناء، فسألني الكبتن هورنبي أن أذهب بالرفاص إلى رشدي باشا وأبلِّغه هذا الخبر، فذهبت إليه صباح ٢٦ فبراير فاستقبلني في خيمة فوق البحر فأبلغته ذلك.

ثم شرعنا نتحدث بشأن الحدود بصفة غير رسمية، وكان رشدي يتوهم أن الإنكليز يباشرون أعمالًا حربية عظيمة في سيناء، ويقصدون بالدولة شرًّا، وأن المستر براملي قد أُرسل إلى المرشَّش عمدًا لفتح باب الشر، فرأيت من الواجب إزالة هذا الوهم من ذهنه حبًّا بالسلام فقلت: «أنتَ تعلم أن بدو سيناء وسوريا دأبهم شن الغارة بعضهم على بعض، والسنة الماضية — سنة ١٩٠٥ — عمَّت الفوضى سيناء كلها، وقتل اثنان من غزة البدو أخوين من أهالي نخل على درب الحج، وفرَّا إلى سوريا، وكلما ارتكب بدوي جناية في سيناء فرَّ إلى سوريا أو الحجاز، وليس على الحدود من رادع أو مراقب، فاضطرت الحربية المصرية أن تعيد سعد بك رفعت قومندانًا على سيناء بعد أن أحيل على المعاش؛ نظرًا لمعرفته حال البلاد ومقدرته على سياسة البدو، وعيَّنت معه المستر براملي مفتشًا ومساعدًا قصد ترقية أحوال البلاد الاقتصادية والزراعية، ثم بيَّنت له الأعمال الإصلاحية التي باشرها المستر براملي في الجزيرة، وقلت: إن كل ما تريده حكومة مصر الآن هو أن يُعيَّن الخط الفاصل بين سيناء وسوريا لتتمكن من وضع خفر في نقط معينة على الحدود لمنع غزاة سوريا من الدخول إلى سيناء ومنع غزاة سيناء من الخروج إلى سوريا، والوقوف في وجه الجناة الفارين من البلادين، ورما كان قصدها البعيد أن يكون القنال بعيدًا من كل خطر»، ثم قلت: «وإني أرى القوم مصرِّين على طلب إخلاء طابا قبل الشروع في تعيين الحدود؛ لذلك يحسن جدًّا أن تنصحوا بإخلاء هذا الوادي قبل أن يقدَّم الطلب رسميًّا، فشكر لي صراحتي وإخلاصي، ثم ودعته وعدت إلى الطرَّاد.

ولما لم يعد لي شغل في جزيرة فرعون استأذنت الكبتن هورنبي وعدت إلى مصر، فوجدت المندوبَين التركيين قد حضرا ونزلا ضيفين على مختار باشا الغازي، ثم صدر لهما الأمر بعد أسبوع فذهبا إلى العقبة عن طريق بيروت والشام ومعان بدون أن يكلِّما أحدًا بشأن مهمتهما، فساء ذلك أصحاب الشأن من الإنكليز والمصريين، وانتقلت المفاوضات بشأن الحدود إلى لندن والآستانة.

فطلبت الدولة العلية ضم معظم بلاد التيه إلى سوريا، وذلك برسم خط من العريش إلى السويس، ومن هذه إلى نقب العقبة بحيث يكون شرق هذا الخط لها والباقي لمصر، ولما رفضت مصر النظر في هذا الطلب عادت فطلبت قسمة جزيرة سيناء قسمين بخط مستقيم من العريش إلى رأس محمد، وجعل القسم الغربي لمصر والشرقي للدولة، فأبت مصر النظر في هذا الطلب أيضًا وأصرَّت على الخط الذي يخوِّله فرمان عباس حلمي باشا من رفح إلى العقبة.»

(٣) حادثة رفح

هذا وكان الأتراك بعد احتلال طابا قد أرسلوا نفرًا من العساكر لاحتلال رفح، فأزالوا عمودَي الحدود من مكانهما تحت السدرة واقتلعوا عُمد التلغراف المصري بين بئر رفح وطريق بئر رفيح، وجعلوا مكانها عمدًا تركية، ونصبوا خيامهم في حد مصر بين السدرة وطريق رفيح، فلما بلغ الخبر حكومة مصر وقد بلغها أولًا عن أسعد أفندي عرفات مكاتب المقطم في العريش، أمرت الطراد منرفا الإنكليزي في بورسعيد بالسفر حالًا إلى رفح لتحقيق الخبر وأمرتني بمرافقته، وقد عيَّنت قومندانه الكبتن ويموث «معتمدًا للدولة البريطانية» وعينتني «معتمدًا للحكومة المصرية»، وأمرتنا بالتثبت من الخبر بأنفسنا، حتى إذا ما وجدناه صحيحًا نحتجُّ على العمل رسميًّا باسم الدولة البريطانية والحكومة المصرية معًا، فنسلم احتجاجنا إلى ضابط العساكر التركية في رفح ثم نعود إلى مصر، وقد حذَّرتنا في الوقت نفسه من تعدِّي حدود رفح شمالًا، فقام بنا الطراد منرفا من بورت سعيد عصر ٢٨ أبريل سنة ١٩٠٦ فوصلنا العريش صباح اليوم التالي، فقابلت محافظها محمد بك إسلام، وانتقيت أربعة من رجالها العارفين ميناء رفح ومكان عمودي رفح بالدقة، وهم: الشيخ سلَّام عرادة عمدة السواركة، والشيخ سليمان معيوف شيخ الرميلات، وحسين عبد الكريم الجعلي من أنشط بوليس العريش، وقطامش آغا عيد كبير هجانة العريش، فأرسلت اثنين منهم في الحال بطريق الشاطئ على أن يقفا عند ميناء رفح ويومئا إلينا لنقف عند الحد، وأخذت اثنين معي في الطرَّاد، وقام الطراد بنا قاصدًا ميناء رفح الساعة الأولى بعد الظهر، وكنت قد أعلمت القومندان بما أخبر به الدليلان اللذان معي عن موقع رفح، فرسا في مينائها وذلك في الساعة أربعة وربع بعد الظهر، وكان الدليلان المرسلان بالبرِّ قد قاما قبلنا من العريش بساعتين، فوصلا بعدنا بساعة وربع، ووقفا على الشاطئ تجاهنا وأومآ إلينا فنزلت إلى البرِّ وقابلتهما، فأكدا لي أننا على الحدِّ ولم نتعدَّه، وخرائب رفح على نحو ساعة منَّا تجبها التلال الرملية التي تحاذي الشاطئ من بلدة العريش، وكانت الشمس قد غابت فأوصيت شيخ الرميلات أن يعدَّ لنا بعض الركائب إلى الصباح وعدتُ إلى الطرَّاد، وفي صباح ٣٠ أبريل نزلت إلى البر وركبت ومعي الخبراء الأربعة قاصدًا رفح، أمَّا الكبتن ويموث فإنه بقي في الطراد ينتظر مني الخبر، وقد تركت له على الشاطئ جوادًا مع خبير.

وفي طريقي إلى رفح في التلال الرملية التقيت بعض فرسان الرميلات، فأكَّدوا لي أن عمودي الحدود قد أزيلا من مكانهما في ١٢ أبريل، وأن ١١ عمودًا من عمد التلغراف المصري من بئر رفح إلى طريق رفيح قد بدِّلت بعمد تركية في ٢٨ أبريل، وقالوا: إن في رفح نحو خمسين عسكريًّا عليهم ملازم يدعى «إسماعيل أفندي» ومعهم موظف ملكي مأمور الجفالك يدعى «مصطفى أفندي» وعلى الجميع يوزباشي أركان حرب «مفيد بك»، وهم يسكنون في ٥ خيام، وقد نصبوا خيامهم في حد مصر بين السدرة — حيث كان عمودا الحدود — وطريق رفيح، مع أن عادة العساكر التركية كانت إذا جاءت لتنشئ محجرًا على الحدود تجعل خيامها بين السدرة وبئر رفح، فلما خرجت من التلال الرملية وأشرفت على الخيام أرسلت مع البوليس حسين رقعة باسمي عليها هذه العبارة:

نعوم بك شقير، موظف بنظارة الحربية بمصر، حضر مندوبًا من قِبَل الحكومة المصرية لمقابلة حضرة قومندان العساكر الشاهانية المعسكرة الآن في رفح مقابلة خصوصية ودِّية.

ثم تقدمت إلى كوخ التلغراف، وهو عند ملتقى طريق رفيح بطريق العريش إلى رفح على علو نحو ٥٠٠ خطوة من الخيام و٦٠٠ خطوة من السدرة، ومكثت فيه بانتظار ردِّ العجالة، وقد رأيت السدرة ولم أرَ عمودي الحدود، ورأيت عُمد التلغراف من الكوخ جنوبًا تختلف عنها منه شمالًا، وقد وضع العساكر حارسًا على الطريق بينهم وبين الكوخ فأوقف الحارس الرسول، وبعد هنيهة عاد الرسول وقال: إن مفيد بك قومندان النقطة غائب في خان يونس، ولكن مصطفى أفندي مأمور الجفالك هنا وهو بانتظارك عند الحارس، فتقدمت إليه وبعد السلام قلت: أليس الأصلح أن نعود إلى الكوخ أو ندخل إحدى هذه الخيام فنتحدث بما هو لازم؟ فتردَّد في الجواب، فعلمت أنه مأمور بمقابلتي في ذلك المكان، فقلت: أين قائد هذه العساكر؟ قال: ذهب إلى خان يونس بمهمة وسيعود قبل الظهر، وقد بعثت إليه برقعتك مع رسول خاص، قلت: إذن انتظر قدومه في هذا الكوخ؛ لأني أريد مقابلته لغرض هام، وقد حضر الكبتن ويموث في الطراد منرفا معتمدًا من قبل الحكومة الإنكليزية، وهو أيضًا يريد أن يقابله للغرض عينه، قال: أليس لي أن أعلم هذا الغرض؟ قلت: بلى كان تحت هذه السدرة عمودان من الغرانيت جُعلا الحدَّ بين مصر وسوريا فأُزيلا في ١٢ الجاري، وفي ٢٨ منه بدلت عمد التلغراف المصري بين كوخ التلغراف هذا وبئر رفح بعمد تركية، فنريد مقابلة الضابط المسئول في هذه الجهة لنسأله عن ذلك ونبلغه أمرًا نحن مكلفون إبلاغه إياه رسميًّا، فقال: لقد مضى علينا هنا ٤٣ يومًا فلم نرَ أحدًا غيَّر عمد التلغراف ولا رأينا عمدًا للحدود تحت السدرة، ولكن هذا المكان مملوء بالعمد؛ لأنه قد قام عليه في القديم هيكل عظيم، وهذه العمد هي من آثاره، ثم إن الحدَّ الذي نعرفه بين محافظة العريش وقائمقامية غزة هو طريق رُفَيح الذي عليه كوخ التلغراف، وقد كانت أراضي رفح كلها بيد أُناس من خان يونس، ولكن لم يكن معهم حجج تثبت ملكيتهم، فانتزعتُها منهم وضممتها إلى إدارة الجفالك باسم الحضرة السلطانية، وبقي الواضعون أيديهم على الأرض يحرثونها كما من قبل ويدفعون العشور.

fig118
شكل ٥-٥: الكبتن فبس هورنبي قومندان الطراد ديانا.
fig119
شكل ٥-٦: الكبتن ويموث قومندان الطراد منرفا.
فعلمت من جوابه أن الترك ينوون إنكار وجود العمودين، وإذا اضطروا قالوا: إنهما بقايا هيكل قديم وليسا الحد بين مصر وسوريا، ولكن لما لم يكن هو الموظَّف المسئول عمَّا يقول قلت له: فهمت جوابك، فمتى حضر الضابط المسئول نرى قوله ونجيب عنه، ثم عدت إلى الكوخ وبعثت برسول إلى الكبتن ويموث أخبره بما كان، فحضر عند الظهر وانتظر القومندان برهة فلم يحضر، فأرسل إليه عجالة بهذا المعنى:

قومندان العساكر الشاهانية برفح. بعد السلام أكتب إليكم هذا لأخبركم أني جئت مندوبًا من قِبَل الحكومة البريطانية لمقابلتكم بشأن خط الحدود، ويمكنني الانتظار هنا ساعتين فقط، فإمَّا أن تأتوا إليَّ أو أن أذهب إليكم، ومعي نعوم بك شقير الذي حضر مندوبًا من حكومة مصر، وأرجوا أن تتكرموا بالرد حالًا مع رافعه، واعلموا أن مأموريتنا هذه هي مأمورية ودية سلمية ويمكن إنهاؤها بمقابلة قصيرة.

رفح في ٢٨ أبريل سنة ١٩٠٦
الكبتن أ. و. ويموث
قومندان الطراد منرفا
فما وصلت عجالته هذه مخيم العساكر حتى حضر إسماعيل أفندي، وقال: إن مفيد بك لا يزال في خان يونس، ولكن لا بدَّ من حضوره بعد نصف ساعة، وكانت الساعة إذ ذاك واحدة بعد الظهر، فانتظرناه إلى الساعة الثانية وربع فلم يحضر، مع أن خان يونس لا يبعد عنَّا غير ساعة، فعدنا إلى الوابور وأرسلنا إليه الاحتجاج الآتي:

ميناء رفح، في ٣٠ أبريل سنة ١٩٠٦، الساعة ٣ بعد الظهر
حضرة قومندان العساكر الشاهانية برفح

نعلم حضرتكم أننا انتظرنا خمس ساعات في بيت التلغراف تجاه معسكركم لأجل مقابلتكم، فلا حضرتم ولا حضر منكم جواب، فعدنا إلى الوابور، وقد لاحظنا أن عمودي الحدود اللذين كانا قائمين عن جانبي السدرة التي عسكرتم بقربها قد رفعا من مكانهما، ولاحظنا أيضًا أن عُمد التلغراف المصري من خط الحدود إلى طريق بئر رُفيح قد بُدِّلت بعمد أخرى، فبالنيابة عن الحكومة المصرية والحكومة البريطانية نحتج على فعلكم هذا احتجاجًا شديدًا ونطلب أن تعيدوا عمودي الحدود وعمد التلغراف إلى أماكنها وتحافظوا على الحدود المقرَّرة، وسنرسل نسخة من كتابنا هذا إلى رجال الحل والعقد من المصريين والإنكليز في مصر، وإذا أحببتم مخاطبتنا فالطراد لا يسافر من ميناء رفح قبل صباح الغد الثلاثاء الساعة ٩ إفرنجية.

أ. و. ويموث. قومندان الطراد منرفا
معتمد الحكومة البريطانية
نعوم شقير
معتمد الحكومة المصرية

وفي فجر الغد حضر ضابط من معسكر الترك إلى الشاطئ وأرسل خبرًا إلى الطراد أن مفيد بك آتٍ لمقابلتنا الساعة ٨ من الصباح، فلما كان الميعاد رأينا كوكبة من الفرسان آتية من جهة رفح فعلمنا أنها مفيد بك وحرسه، فذهبت في قارب يجرُّه رفاص الطراد لمقابلته، وكان قد قام في البحر إذ ذاك نوءٌ شديد فلم يكن من الممكن الوصول بالقارب إلى الشاطئ، وكان قطامش الهجان الذي رافقني من العريش يحسن السباحة، فأرسلته إلى مفيد بك فقال: «لو كنت أحسن السباحة لذهبت إليكم في الحال، على أن النزول من القارب الآن أيسر جدًّا من الصعود إليه، فحبذا لو استطعتم النزول إلى البر للمفاوضة معكم في ما أتيتم لأجله»، وكان البحر قد اشتد هياجه حتى تعالت أمواجه كالجبال، وأنا لا أحسن السباحة إلى حدٍّ أحتقر معه الأنواء، ولكني لم أطق أن أعود أدراجي إلى الطراد بدون مقابلة الضابط المسئول وسماع أقواله، لا سيما وقد لحظت من رسالته أنه يودُّ كثيرًا مقابلتي قبل السفر، فاعتمد على الله وامتطيت الأمواج وصحبني الهجان والبوليس وأربعة من البحارة الإنكليز، فوصلنا الشاطئ بعد جهاد عظيم، فوجدت مفيد بك ومصطفى أفندي وإسماعيل أفندي قد ترجلُّوا ووقفوا على الشاطئ ومعهم ١٥ فارسًا قد انتظموا صفًّا واحدًا على بضع خطوات منهم، فرحبوا بي وهنئوني بالسلامة، ثم خلع عليَّ مصطفى أفندي عباءته ورفع الهجَّان شمسيةً فوق رأسي وشرعنا في الحديث، فقال مفيد بك: «كنت أمس في خان يونس وغزَّة أحقِّق قضية قتيل، فلما وصلني كتابكم الأخير أسرعت لمقابلتكم، أمَّا أنت معتمد الحكومة المصرية فإني أفاوضك في الأمر، وأمَّا الكبتن ويموث معتمد الحكومة البريطانية فإني أستقبله كزائر، وكل ما أعلمه عن مركز الإنكليز في مصر أنهم يدبرون ماليتها وليس لهم حقُّ التدخل في مسألة الحدود، فالمفاوضة في الحدود إنما تكون بين مصر — وهي ولاية ممتازة من ولايات الدولة العليَّة — وبين متصرفية القدس الشريف»، ثم قال: «وهل تقصدون بكتابكم الكبير هذا بلاغًا نهائيًّا؟» قلت: لا إنما هو احتجاج رسمي على إزالة عمودي الحدود من مكانهما، فاتخذ مفيد بك خطة مصطفى أفندي من إنكار وجود العمودين بتاتًا، فاستغربت اتخاذهم هذه الخطة في مسألة هامة صريحة كمسألة العمودين، وأحببت أن أريه عبث هذه الخطة، وكان قد تجمَّع على الشاطئ بعض الرميلات وفيهم سليمان معيوف شيخ الرميلات، فقلت: «أيها الرميلات أصحاب هذه البلاد قولوا الحق، هل كان تحت السدرة في رفح عمودان يُعدَّان الحد بين مصر والشام؟» فأجابوا: «نعم، كان تحت السدرة عمودان من الغرانيت الأحمر، كنَّا نراهما هناك منذ نشأتنا ونعلم أنهما الحد بين مصر والشام، وقد ورثنا هذا العلم عن الآباء والأجداد، وفي سنة ١٨٩٨ زار خديوي مصر الحدود ونقش تاريخ زيارته على العمود الذي إلى جهة العريش، فلما جاءت عساكر الدولة مؤخرًا أزالت العمودين في ١٢ أبريل سنة ١٩٠٦»، فامتعض مفيد بك من صراحة الرميلات وجرأتهم، ولكنه كظم غيظه وقال: «إن العساكر لا تجسر أن تزيل العمد أو تبدلها إلَّا بأوامر عالية.» قلت: قد فهمت الحالة الآن وأريد الانصراف، ولكن قبل الانصراف أريد أن أقول كلمة نصح لعلها تفيد، ولست أقول هذه الكلمة كمندوب من قبل الحكومة المصرية، بل أقولها كلبناني الأصل ذي صبغة عثمانية يغار على كرامة دولته: إن مسألة الحدود الآن قد دخلت في دور حرِج جدًّا، وإن قولنا: لم يكن هناك عُمد تدل على الحدود لا يشرِّفنا ولا ينجينا من الحرج، وأرى «القوم» قد عقدوا النية على تنفيذ مطالبهم وترك القديم على قدمه بالرضا أو بالقوَّة، فإن كان رجال الدولة واثقين بقدرتهم على الثبات في هذا المضمار فليفعلوا ما شاءوا، وإلَّا فإني بإلحاح أنصحهم أن يجدوا لهذه المشكلة حلًّا يحفظ كرامة الدولة ولا يعرِّضها للفشل والخذلان، وأبسط حل لها في ما أرى أن تعود العساكر من طابا والعقبة إلى أماكنها، وتعين لجنة مختلطة من أتراك ومصريين تمرُّ على الحدود فتعين الخط الفاصل بصورة جديَّة وديَّة، وقد رأى مفيد بك ورفيقاه إني أكلمهم بإخلاص فشكروني على ذلك كثيرًا، ولكنهم لم يجسروا أن يصرحوا لي بغير ما لُقِّنوه، ثم ودَّعني مفيد بك وعاد بحرسه إلى رفح وترك معي مصطفى أفندي وإسماعيل أفندي للاعتناء بي إلى أن أعود إلى الطراد.

وكان القارب والرفاص لا يزالان في انتظارنا وراء الأمواج، فرمى لنا الرفاص حبلًا نستعين به على الرجوع، وكان النوء قد زاد اشتدادًا، فحاولنا الوصول إلى القارب مرارًا فلم نفلح، وقد أصبح القارب في خطر الغرق، وكان بين الإنكليز الذين على الشاطئ من يحسن المواصلة بالإشارة، فبعثت بإشارة إلى الكبتن ويموث أخبره أن المفاوضة مع مفيد بك لم تسفر عن شيء يستلزم حضوره أو بقاءه في المينا، وأنه يستحيل علينا بسبب الأنواء أن نصل القارب، فإذا كان يودُّ السفر إلى العريش حالًا فليرسل إلينا ثيابنا ونحن نسير في البر فنوافيه في العريش غدًا، فطلب إذ ذاك الرفاص والقارب وجعل ثيابنا في برميل ورماه في البحر، فقذفته الأمواج إلى الشاطئ، ثم أقلع بالطراد إلى العريش.

وذهب إسماعيل أفندي الضابط التركي مع الهجان وشيخ الرميلات ليحضروا لنا الركائب، وبقي معي مصطفى أفندي، فعاد إلى مسألة الحدود فقال: «كنا ظننا أن الطراد عازم على إنزال العساكر إلى البرِّ فصففنا عساكرنا على رءوس التلال الرملية المشرفة على الشاطئ لمنع عساكركم من النزول، بل نوينا مرَّة، إذ كنت أنت والكبتن ويموث في الكوخ، أن نلقي القبض عليكما، قال: ولكن لا تسألني عن السبب»، فقلت: لطف الله بهذه الدولة وقيَّض لها رجالًا أكفاء أمناء يعرفون كيف يديرون دفتها إلى ميناء الأمان.

وفي الساعة الثالثة بعد الظهر حضرت الركائب من الإبل والخيل، فسرنا ما بقي من النهار وقسمًا من الليل حتى وصلنا قلعة العريش الساعة الثالثة من صباح ٢ مايو، فبتنا في القلعة إلى طلوع الشمس ثم ذهبنا إلى الشاطئ، فأرسل لنا الطراد الرفَّاص ومعه قارب مسطح يمكن إدناؤه من الشاطئ في النو، وكان النور لا يزال شديدًا فوصلنا الرفاص بكل مشقة، وعاد بنا الطراد فوصلنا بورسعيد مساء ذلك اليوم ومصر مساء اليوم التالي.

(٤) لهج الجرائد

هذا وقد لهجت الجرائد المحلية بمسألة الحدود، وجاهرت المعادية منها للاحتلال باستيائها الشديد من مداخلة إنكلترا فيها وقالت: ليس لإنكلترا حق الدفاع عن استقلال مصر الإداري في وجه الدولة؛ لأنها لو تغلبت عليها في هذا المضمار فقدت الدولة معنى السيادة الحقيقي على مصر.

وقالت الجرائد الموالية للاحتلال: بل لإنكلترا كل الحق في هذا الدفاع وإلَّا فإنها تفقد معنى السيادة الاحتلالية، ويكون بعد ذلك للدولة الحق أن تنقص ما شاءت من استقلال مصر الإداري.

وأيَّدت بعض الجرائد المعتدلة هذا القول الأخير، وزادت عليه أن حق إنكلترا هذا يدوم حتى تقوم الدولة العلية وتكرهها على الجلاء عن مصر، وأمَّا في مسألة سيناء فالأمر ليس كذلك؛ لأن سيناء ليست جزءًا من مصر ولا امتيازًا لها، بل هي «وديعة» أعطيت لها مؤقتًا تسهيلًا للحج المصري، ففي احتلال الدولة لطابا تكون قد استردت جزءًا من سيناء لإيجاد دائرة حول العقبة لا يكون لأحد كلمة فيها غير الأتراك كما استردت من قبل الوجه والمويلح وضبا والعقبة.

فردَّ المنتصرون لمصر هذا القول بأن سيناء كانت في أكثر عصور التاريخ، بل بعد الإسلام كانت في كل العصور تابعة لمصر وجزءًا متممًا لها غير منفصل عنها، يشهد بذلك آثار مصر الباقية في سيناء من عهد الدولة الأولى المصرية إلى هذا العهد. هذه هي خلاصة ما دار في الجرائد المحلية في مسألة سيناء.

أمَّا الحكومة البريطانية فإنها صرَّحت بأنها لا تسمح بأقل تغيير يحصل في امتيازات مصر الممنوحة لها في الفرمانات إلَّا إذا ما صدَّقته وأقرَّته، وقالت: إننا دخلنا مصر وسيناء جزءٌ منها وتحت إدارتها، وسنرى أنها تبقى كذلك ما دمنا فيها.

وكانت الجرائد المحلية قد أحدثت بعض الشغب في البلاد خصوصًا وأن بعضها اتهم الإنكليز أنهم يسعون في إحباط مشروع سكة الحجاز الحديدية، فزادت الحكومة البريطانية حاميتها حتى بلغت نحو ٦٠٠٠ رجل.

(٥) بلاغ إنكلترا النهائي إلى تركيا

ورأت إنكلترا أن في قبول مطالب تركيا باتساعها الأخير خطرًا على حرية القنال ومصر والعائلة الخديوية، فأوعز ناظر خارجيتها السر إدوارد جراي إلى سفيرها في الآستانة السر نيقولاس أوكنور، فرفع إلى الباب العالي بلاغًا نهائيًّا بتاريخ ٣ مايو يدعوه إلى إجابة مطالب إنكلترا في أثناء عشرة أيام، وهذه المطالب هي: (١) إخلاء طابا. (٢) عود عساكر رفح إلى حدِّهم. (٣) إعادة عمودي الحدود في رفح إلى مكانهما، ودل البلاغ المذكور أنه إذا لم يقدِّم الباب العالي الترضية المطلوبة تضطر إنكلترا للالتجاء إلى القوة، وعضد سفيرا فرنسا وروسيا في الآستانة مطالب إنكلترا، وأخذت إنكلترا تستعد للطوارئ في مصر وسيناء والآستانة.

هذا وقد كان معلومًا للمطلعين على دخائل الأمور أن ألمانيا هي التي حرشت تركيا في الخفاء على إحداث مسألة الحدود، وحرَّضتها على المقاومة لغاية في النفس، والظاهر أن استعداد ألمانيا لم يكن قد تمَّ بعد، فنصح سفيرها في الآستانة السلطان بالتسليم إلى مطالب إنكلترا، قال: لأن دولته لا تستطيع أن تنصره عليها في الأحوال الحاضرة، فسلم السلطان بمطالب إنكلترا في آخر ساعة، وأمر فخرجت العساكر من طابا وعاد عساكر رفح إلى حدِّهم وكانوا قد كسَّروا عمودي الحدود، فصدر الأمر إلى قائمقام بئر السبع وقائمقام غزة بتلافي الأمر، فحضرا إلى رفح ونبشا عمودين من خرائب رفح عمودًا من الغرانيت الأسود طوله ٦ أقدام وآخر من الغرانيت الرمادي طوله ٤ أمتار، ونصباهما تحت السدرة بقرب مكان العمودين الأولين.

وفي ١٤ مايو سنة ١٩٠٦ بعث توفيق باشا الصدر الأعظم الرسالة الآتية إلى السر نيقولاس أوكونور سفير بريطانيا العظمى بالآستانة هذا نصها:

جناب السفير

تشرَّفت بالمذكرة التي تكرمتم بإرسالها لي في ١٢ الجاري بشأن احتلال طابا، فاسمحوا لي أن أخبركم أنه لم يخطر قط ببال الحكومة الشاهانية الخروج عن مضمون التلغراف المرسل من المرحوم جواد باشا إلى سمو الخديوي في ٨ أبريل سنة ١٨٩٢، ومع ذلك فإن الرسالة التي تشرفت بإرسالها إليكم في ١١ الجاري كانت واضحة كل الوضوح، فإن إخلاء طابا قد تقرر وصدرت الأوامر بذلك.

fig120
شكل ٥-٧: عمودا رفح الجديدان.

وقد قرَّ الرأي على أن الضباط أركان حرب الموجودين الآن في العقبة، والموظفين الذين ينتدبون من قبل سمو الخديوي، يمرون معًا على الأمكنة اللازمة ليجروا التحريات الفنية على مقتضى القواعد الطوبوغرافية، ويعيِّنوا على خريطة النقط الطبيعية التي يكون بها ضمان الحال الحاضرة وبقاء القديم على قدمه في شبه جزيرة سيناء على القاعدة التي وضعها جواد باشا في تلغرافه السالف الذكر، وأن يرسموا خطًّا للحدود يبتدئ من رفح بقرب العريش ويتجه جنوبًا بشرق على خط مستقيم تقريبًا إلى نقطة على خليج العقبة تبعد على الأقل ٣ أميال من العقبة، وبذلك تكون الرغائب التي أبديتموها سعادتكم في رسالتكم المشار إليها قد تحققت تمامًا.

fig121
شكل ٥-٨: أعضاء اللجنة المصرية في مخيم العقبة.

هذا وإنا نسأل سعادتكم أن تبلغوا ذلك إلى لندن، ونأمل أن حكومة جلالة الملك ترى بذلك برهانًا جديدًا على رغبتنا الشديدة في دوام حفظ العلائق بيننا على دعائم المودة التامة، وإن في إبداء حكومة جلالته تمام ارتياحها لذلك دليلًا على القيمة التي تعلقها على حفظ وتوطيد العلاقات الحسنة الكائنة لحسن الحظ بين الحكومتين أفندم.

الإمضاء
توفيق

(٦) لجنة تحديد التخوم

fig122
شكل ٥-٩: الفريق السير إبراهيم فتحي باشا، وزير الأوقاف الحالي.
fig123
شكل ٥-١٠: اللوا أوين باشا، مدير منقلة الحالي.
وبناءً على ذلك صدر أمر الباب العالي إلى المندوبين العثمانيين في العقبة أن يتحدا مع من تنتدبهم مصر لتعيين خط الحدود، وقد جرى تبديل في أعضاء اللجنة التي انتدبتها مصر أولًا لأسباب صحية، وتألفت من جديد من الأميرالاي أوين بك مدير المخابرات واللواء إبراهيم باشا فتحي من أرباب المعاشات إذ ذاك، وقد ندبت للذهاب معهما سكرتيرًا للجنة المصرية. وهذه صورة الأمر العالي الصادر بهذا الشأن:

سعادتلو إبراهيم باشا فتحي، وعزتلو الأميرالاي أوين بك

اقتضت إرادتنا بتعيينكما وتعيين حضرة نعوم بك شقير معكما بصفة سكرتير؛ لتسوية الحدود بين العقبة ورفح، وذلك بالاتحاد مع الضباط المندوبين من قبل الدولة العلية لهذا الغرض، وهم الآن في العقبة، وقد فوَّضناكم تفويضًا مطلقًا بإجراء ما ترونه موافقًا من التغييرات الطفيفة في خط الحدود بقصد تسهيل الإدارة على الطرفين، وذلك بالاتفاق مع مندوبي الدولة العلية المذكورين، وهذا الخط الفاصل يبدأ من رفح بقرب العريش ويتجه إلى الجنوب الشرقي حتى ينتهي في نقطة على خليج العقبة تبعد على الأقل ثلاثة أميال من العقبة، ويكون خطًّا متعرجًا يقرب من المستقيم، ولذا أصدرنا أمرنا هذا لكم للعمل بمقتضاه.

في ٢٢ مايو سنة ١٩٠٦
الختم
عباس حلمي

وقد صحب اللجنة المصرية: المستر كيلن والمستر ويد، وهما مهندسان إنكليزيان بارعان من قلم المساحة المصرية؛ لأجل رسم خريطة فنية للحدود من العقبة إلى رفح، والقائمقام براكنرج بك طبيب إنكليزي ماهر من المصلحة الطبية بالجيش المصري، والمستر أفنس كاتب إنكليزي نجيب من موظفي إدارة المخابرات بمصر، ويوسف أفندي سامح «والان بك» مترجم تركي موظف في نظارة الحربية بمصر، فسار أعضاء اللجنة المصرية من مصر الخميس في ٢٤ مايو سنة ١٩٠٦ قاصدين العقبة بطريق البحر، فوصلوا جزيرة فرعون مساء السبت في ٢٦ من الشهر المذكور.

وفي صباح اليوم التالي ذهبنا إلى العقبة فاستقبلنا على الرصيف: اللواء رشدي باشا، وياوره الجديد محمد أسعد بك صاغ أركان حرب، وهو ضابط عربي نجيب من أهل بيروت يتقن التركية والعربية وينظم الشعر وله إلمام بالعلوم الطبيعية والرياضية، والمندوبان العثمانيان وهما: الأميرالاي أركان حرب أحمد مظفر بك وهو تركي الأصل أشقر اللون معتدل القامة يناهز الخمسين من العمر، والبكباشي أركان حرب محمد فهمي بك كردي الأصل وُلد في السليمانية قرب الموصل وتربى في بغداد وهو قصير القامة أسمر اللون أسود العينين براقهما وسنه يناهز الأربعين.

وبعد أن تعارفنا وتبادلنا التحية شرع المهندسان المرافقان لجنتنا في رسم خريطة العقبة وضواحيها، وذهبنا نحن إلى خيمة على شاطئ البحر وشرعنا نتناقش في مبدأ الخط الفاصل، فصرَّح رشدي باشا ومندوبا اللجنة التركية أن الدولة العلية إنما أخلت طابا وتركته لمصر حفظًا لكرامة مصر والدولة البريطانية، وأملوا لقاء ذلك أن تسلم اللجنة المصرية بأن يبدأ الخط المستقيم — المشار إليه في كتاب الصدر الأعظم — من أنف الجبل الذي على شاطئ الخليج ويطل على وادي طابا من الشرق، ثم يتمشى على رءوس تلال النقب التي تطل على العقبة إلى المفرق، قالوا: لأن هذا الحد وحده يضمن سلامة العقبة من الوجهة الحربية، فأجلت اللجنة المصرية قرارها في ذلك إلى أن تتم خريطة الحدود.

fig124
شكل ٥-١١: مخيم اللجنة المصرية في العقبة.

وكانت الحكومة المصرية قد عهدت بتدبير طعامنا وشرابنا وخيامنا إلى شركة كوك بمصر، فأرسلت هذه إلى وكالتها في القدس فبعثت بترجمانها سليم أفندي أسعد بطريق البر، فوصل العقبة يوم وصولنا ومعه الخيام والمؤن والمهمات اللازمة، فنصب لنا الخيام على رأس الخليج بين قلعة العقبة والمرشش، فأقمنا هناك أيامًا في انتظار خريطة العقبة، وكنا في كل يوم أو يومين نجتمع برشدي واللجنة التركية ونبحث في خط الحدود حتى عرف كل منا رأي الآخر، ولكنا قررنا ألَّا نبتَّ في أمر حتى تتم الخريطة، فننظر في خط الحدود كله دفعة واحدة.

fig125
شكل ٥-١٢: سليم أفندي أسعد، ترجمان شركة كوك الذي رافق اللجنة المصرية على الحدود.
وفي ٤ يونيو سنة ١٩٠٦ فرغ المهندسان من رسم خريطة العقبة فبرحناها على أن نسير على الحدود إلى رفح، ولما كان اتفاق ١٤ مايو الأخير يقضي باتباع «خط يقرب من المستقيم يبدأ من رفح وينتهي بنقطة تبعد ٣ أميال على الأقل من العقبة»؛ كان لا بدَّ لنا قبل ترك العقبة من تعيين نقطة على خليج العقبة تكون مبدأ الخط الذي نسير عليه، فاتفقنا أن يكون مبدأه المرشش التي تبعد الميل من قلعة العقبة، وخمَّنَّا موقع رفح تخمينًا من الخرط التي بأيدينا، ورسمنا بين المكانين خطًّا تقريبيًّا اتخذناه دليلًا لنا لتعيين جهة السير على الحدود، فجعلنا أول محطة لنا المفرق عند رأس النقب، فوصلناه عصر ٤ يونيو، وكان في حملتنا نحو مائة جمل يخفرها اثنا عشر من هجانة خفر السواحل.
fig126
شكل ٥-١٣: أعضاء اللجنة المصرية على الهجن.

وفي اليوم التالي لحقنا إليه مندوبا اللجنة التركية يصحبهما أسعد بك المار ذكره سكرتيرًا ليكون عدد أعضاء اللجنتين متساويًا، وقد صحبهما أيضًا ضابط تركي برتبة ملازم وبعض العساكر للاهتمام بحملتهم.

وفي ٧ يونيو سنة ١٩٠٦ سار المهندسان أمامنا على الخط المستقيم التخميني يعينان مواقع الجبال والأمكنة البارزة على جانبي الخط بالأرصاد الفلكية، ويرسمان خريطة الطريق، وسرنا نحن في أثرهما على الخط أو عرجنا عنه يسيرًا طلبًا للماء.

fig127
شكل ٥-١٤: هجانة خفر السواحل المرافقة للجنة المصرية.
وما زلنا كذلك حتى أتينا رفح في ٢٨ يونيو سنة ١٩٠٦، ولم نكن نعلم موقعها الجغرافي بالدقة، فلما وصلناها وجدنا مكتب التلغراف من مصر قد سبقنا إليها، فاتصل المهندسان بالمرصد الفلكي في حلوان فعيَّنا موقع رفح الجغرافي فإذا هو في طول شرقي ٨ ٥٢ ٣٥° وعرض شمالي ١ ٣٦ ٢٩°، ولم يكن في رفح محل يصلح لرسم الخرط، فأخذ المهندسان أرصادهما ورسومهما وذهبا إلى قلعة العريش، وكان في انتظارهما هناك المستر هيس من موظفي قلم المساحة النجباء، فرسموا خريطة للحدود خطًّا مستقيمًا من رفح إلى المرشش والبلاد عن جانبيه على نحو خمسة أميال من كل جانب.

فاجتمع اللجنتان إذ ذاك للنظر في تعيين خط الحدود، فعرضت اللجنة المصرية خطًّا للحدود يقرب جدًّا من المستقيم وينطبق على طبيعة البلاد وتقسيم القبائل أكثر من كل خط سواه.

أمَّا اللجنة التركية فقد عرضت خطًّا — سمته الخط الإداري الفاصل — بدأ من رأس طابا على خليج العقبة، وامتد على رءوس التلال المطلة على العقبة إلى المفرق، ثم سار بطريق غزة المشهورة إلى أن وصل جبل الأحيقبة، فانحرف شمالًا بغرب إلى بئر عجرود فضمها إليه، ثم عاد إلى طريق غزة حتى وصل قرب عين القُصَيِّمة، فانحرف غربًا نحو ٥ كيلومترات عنها فضمها إليه، ومرَّ فوق جبل المويلح إلى الروافعة في وادي العريش، وتمشَّى في الوادي إلى المقضبة، ثم سار شمالًا بشرق إلى الحد بين السواركة والترابين فتمشى عليه إلى رفح، فمرَّ بعمودي الحدود إلى أن وصل البحر المتوسط عند تل خرائب عند ميناء رفح على البحر المتوسط، وقد أدخلت اللجنة التركية في هذا الخط كثيرًا من بلاد اللحيوات والتياها والعزازمة والترابين التابعين لسيناء، وحجتها أن قائمقامية بئر السبع بعد تأسيسها سنة ١٨٩٩ وقائمقامية غزَّة من قبلها ضربتا عليها الضرائب، وأن اتفاق ١٤ مايو يقضي علينا بترك القديم على قدمه.

fig128
شكل ٥-١٥: بعض مشايخ اللحيوات والتياها والترابين، وبين الوقوف من أتباع اللجنة المصرية «الذكي أحمد أفندي السيد، والمراسلة النشيط الأمين إبراهيم جابر وقطامش آغا عيد.»

ففندت اللجنة المصرية هذه الحجة تفنيدًا، وبيَّنت بالأدلة الناصعة والمحررات الرسمية وشهادة مشايخ الحدود أنفسهم الذين رافقونا من العقبة إلى رفح أن البلاد التي أخرجتها اللجنة التركية من خطنا الذي يقرب من المستقيم وأدخلتها في خطها المتعرِّج نحو الغرب؛ كانت منذ القديم تابعة لسيناء ولم يدفع أهلها قط ضرائب لتركيا، إلَّا القديرات التياها والصبحيُّون العزازمة الداخلين في خطنا أيضًا، فقد تبيَّن أن قائمقامية بئر السبع بعد تأسيسها سنة ١٨٩٩ ضربت عليهم بعض الضرائب ظلمًا واعتداءً، ولكن قائمقامية غزة من قبلها لم تضرب عليهم ضرائب.

وقد استغرقت هذه المناقشات عدة جلسات بين ٨ و٢٢ يوليو سنة ١٩٠٦، فأصرَّت اللجنة التركية على رأيها ولم تشأ تعديل خطها، فرفع كل فريق حججه وآراءه مفصلة إلى حكومته، ولا نتعب القارئ بسردها هنا، ومكثنا في رفح ننتظر الردَّ، وقد طال انتظارنا حتى سئمنا عيشة الخلاء والبداوة.

(٧) اتفاق الحدود

فلما كان يوم ١٣ سبتمبر سنة ١٩٠٦ جاء لكل فريق تلغراف من حكومته، يخبره بما تمَّ عليه القرار بين سفير الدولة البريطانية ومجلس الوكلاء في الآستانة، ومفاد الإرادة السلطانية بهذا الشأن وهو:
  • (١)

    أن الحكومة العثمانية أقرَّت على أن النقب من رأس طابا الشرقي إلى نقطة قرب المفرق يكون للعقبة، وأمَّا المفرق نفسه وآبار مايين وعيد قديس وعين القديرات وعين القُصَيِّمة تكون لجزيرة سيناء، ويكون خط الحدود من المفرق إلى رفح خطًّا يقرب من المستقيم كما اقترحته اللجنة المصرية.

  • (٢)

    أن تقام أعمدة على طول خط الحدود للدلالة عليه، وذلك بحضور مندوبي الفريقين.

  • (٣)

    أن القبائل القاطنة عن جانبي الخط يكون لها حق الانتفاع بالمياه كجاري العادة، وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل.

  • (٤)

    أن يبقى الأهالي والعربان على ما كانوا عليه قبلًا من حيث ملكية الأراضي والمياه كما هو متعارف بينهم.

فعقد أعضاء اللجنتين عدة جلسات، وعيَّنوا خط الحدود بموجب هذه القواعد الأربعة على الخريطة، فكان خطًّا يقرب جدًّا من المستقيم، ولكنه واقع كله غربي الخط المستقيم إلَّا نقطة واحدة فيه أي موضع عمودي رفح، فإنها وحدها على الخط المستقيم، فرفع كل فريق هذا الخط وصورة الاتفاق إلى حكومته.

fig129
شكل ٥-١٦: أعضاء لجنتي الحدود على تل رفح.

ولما كان صباح ١ أكتوبر سنة ١٩٠٦ جاء لكل فريق التصريح من حكومته بتوقيع الاتفاق والخريطة، فاجتمع الفريقان في خيمة «مس» المندوبين المصريين بعد ظهر ذلك اليوم، ورسموا الخط المتفق عليه منقطًا بالحبر الأسود الهندي على نسختين من خريطة الحدود، ثم بحثوا مليًّا في اللغة التي يكتب بها الاتفاق فاتفقوا أخيرًا على أن يكتب بالتركية؛ لأنها اللغة الرسمية بين تركيا ومصر، وأن يعمل منه نسختان ويوقع الفريقان نسختي الاتفاق والخريطة، وأن يترجم الاتفاق إلى الإنكليزية والعربية فيأخذ كل فريق نسخة من كل ترجمة ليضمها إلى الأصل الموقَّع.

ولما كانت الساعة ٨ من مساء اليوم المذكور وقَّع مندوبو الفريقين نسختين من الاتفاق المكتوب بالتركية ونسختين من الخريطة المرسوم عليها خط الحدود المتفق عليه، وأخذ كل فريق نسخة من الاتفاق ونسخة من الخريطة الموقع عليهما، وضم إليهما نسخة من الترجمة الإنكليزية وأخرى من الترجمة العربية، وهذه هي صورة الاتفاق كما تُرجم إلى العربية بالحرف الواحد:

هذه هي الاتفاقية التي وُقِّع عليها وتبودلت في رفح، ١٣ شعبان المعظم سنة ١٣٢٤، الموافق ١٨ أيلول سنة ١٣٢٢ — أول أكتوبر سنة ١٩٠٦، بين مندوبي الدولة العلية ومندوبي الخديوية الجليلة المصرية بشأن تعيين «خط فاصل إداري» بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء.

بما أنه قد عُهِد إلى كل من الأميرالاي أركان حرب أحمد مظفر بك والبكباشي أركان حرب محمد فهمي بك بصفتهما مندوبي الدولة العلية، وإلى كل من أمير اللواء إبراهيم فتحي باشا والأميرالاي روجر كرميكل روبرت أوين بك بصفتهما مندوبي الخديوية الجليلة المصرية بتعيين خط فاصل إداري بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء؛ قد اتفق الفريقان باسم الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية على ما يأتي:
  • المادة الأولى: يبدأ الخط الفاصل الإداري كما هو مبين بالخريطة المرفوقة بهذه الاتفاقية من نقطة رأس طابا الكائنة على الساحل الغربي لخليج العقبة، ويمتدُّ إلى قمة جبل فورت مارًّا على رءوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا، ثم من قمة جبل فورت يتجه الخط الفاصل بالاستقامات الآتية:
    من جبل فورت إلى نقطة لا تتجاوز مائتي متر إلى الشرق من قمة جبل فتحي باشا، ومنها إلى النقطة الحادثة من تلاقي امتداد هذا الخط بالعمود المقام من نقطة على مائتي متر من قمة جبل فتحي باشا على الخط الذي يربط مركز تلك القمة بنقطة المفرق (المفرق هو ملتقى طريق غزة إلى العقبة بطريق نخل إلى العقبة)، ومن نقطة التلاقي المذكورة إلى التلة التي إلى الشرق من مكان ماء يعرف بثميلة الردَّادي والمطلة على تلك الثميلة (بحيث تبقى الثميلة غربي الخط)، ومن هناك إلى قمة رأس الردَّادي المدلول عليها بالخريطة المذكورة أعلاه ﺑ A3، ومن هناك إلى رأس جبل الصفرا المدلول عليه ﺑ A4، ومن هناك إلى القمة الشرقية لجبل أم قُف المدلول عليها ﺑ A5، ومن هناك إلى نقطة مدلول عليها ﺑ A7 إلى الشمال من ثميلة سُوَيلمة، ومنها إلى نقطة مدلول عليها ﺑ A8 إلى غرب الشمال الغربي من جبل سماوي، ومن هناك إلى قمة التلة التي إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة (وهو بئر في الفرع الشمالي من وادي مايين، بحيث يكون البئر شرقي الخط الفاصل)، ومن هناك إلى A9، ومنها إلى A9 bis غربي جبل المقراة، ومن هناك إلى رأس العين المدلول عليه ﺑ A10 bis، ومن هناك إلى نقطة على جبل أم حواويط المدلول عليها ﺑ A11، ومن هناك إلى منتصف المسافة بين عمودين قائمين تحت شجرة على مسافة (٣٩٠) ثلاثمائة وتسعين مترًا إلى الجنوب الغربي من بئر رفح والمدلول عليه ﺑ A13، ومن هناك إلى نقطة على التلال الرملية في اتجاه (٢٨٠°) مائتين وثمانين درجة من الشمال المغناطيسي (أعني ٨٠° إلى الغرب)، وعلى مسافة أربعمائة وعشرين مترًا في خط مستقيم من العمودين المذكورين، ومن هذه النقطة يمتد الخط مستقيمًا باتجاه (٣٣٤°) ثلاثمائة وأربع وثلاثين درجة من الشمال المغناطيسي (أعني ٢٦° إلى الغرب) إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط مارًّا بتلة خرائب على ساحل البحر.
  • المادة الثانية: قد دُلَّ على الخط الفاصل المذكور بالمادة الأولى بخط أسود متقطع في نسختي الخريطة المرفوقة بهذه الاتفاقية، والتي يوقَّع عليها الفريقان ويتبادلانها بنفس الوقت الذي يوقعان فيه على الاتفاقية ويتبادلانها.
  • المادة الثالثة: تقام أعمدة على طول الخط الفاصل من النقطة التي على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى النقطة التي على ساحل خليج العقبة، بحيث إن كل عمود منها يمكن رؤيته من العمود الذي يليه، وذلك بحضور مندوبي الفريقين.
  • المادة الرابعة: يحافظ على أعمدة الخط الفاصل هذه كل من الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية.
  • المادة الخامسة: إذا اقتضى في المستقبل تجديد هذه الأعمدة أو الزيادة عليها، فكل من الطرفين يرسل مندوبًا لهذه الغاية وتطبَّق مواقع العمد التي تزاد على الخط المدلول عليه في الخريطة.
  • المادة السادسة: جميع القبائل القاطنة في كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عاداتها، أي إن القديم يبقى على قدمه فيما يتعلق بذلك، وتُعطى التأمينات اللازمة بهذا الشأن إلى العربان والعشائر، وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل.
  • المادة السابعة: لا يؤذن للعساكر الشاهانية والجندرمة بالمرور إلى غربي الخط الفاصل وهم مسلَّحون.
  • المادة الثامنة: تبقى أهالي وعربان الجهتين على ما كانت عليه قبلًا من حيث ملكية المياه والحقول والأراضي في الجهتين كما هو متعارف بينهم.
مندوبون من قبل الخديوية الجليلة المصرية
أمير اللواء «إبراهيم فتحي»
أميرالاي «أوين»
مندوبون من قبل الدولة العلية
أميرالاي أركان حرب «مظفر»
بكباشي أركان حرب «فهمي» ا.ﻫ.

وقد نظم فرج سليمان شاعر الرميلات برفح قصيدة في الحد قال:

فأول دهرنا ما لنا حد مظبوط
وأمَّا رفح في الذكر نسمع بطرياه
التمَّت الباشات بين المحاديد
واحنا صبرنا بينهم للمداعاه
واليوم صار حدادنا بطن بارود
والكل من حده يرجع لممشاه
نعوم بك والمدير المسمَّى
وفتحات باشا والعساكر بتبراه
جاهم مظفَّر وفهمي وأسعد
الكل منهم بيك يا نعم ملقاه
يوم الأحد مشيوا على خيرة الله
وغزُّوا علايم حدَّهم بالمواتاه
يا رب تحميهم وتنصر دولهم
ارتاحت العربان بعد المقاساه

(٨) أعمدة الحدود

وبعد توقيع الاتفاق أصبح من الضروري أن يعود أعضاء اللجنتين على طول الحد لتخطيطه عملًا بالمادة الثالثة، فقرَّ رأي اللجنتين أن تقام عمد على طول الخط، وتُثبَّت في الأرض بفلنكات من حديد كعمد التلغراف، وبعد ذلك تُبنى في مكان هذه العمد عمد ثابتة بالحجر والأسمنت بحضور مندوبي الفريقين، وعليه فقد أحضروا من مصر بطريق القنطرة عمدًا وفلنكات من حديد، وسار الفريقان على طول الخط ونصبوا العُمد بحيث كان كل عمود يُرى من مكان العمود الذي يليه كنص المادة المذكورة، فكان جملة ما نصبوه ٩١ عمودًا، وقد نصبوا أول عمود في ميناء رفح على تل الخرائب المارِّ ذكره بعد ظهر الخميس في ٤ أكتوبر، وآخر عمود على رأس طابا الأربعاء في ١٧ منه عند غروب الشمس.

وفي اليوم التالي عاد اللواء فتحي باشا وبعض ملحقات اللجنة المصرية بطريق البحر إلى مصر، أمَّا مدير المخابرات وكاتب هذه السطور فقد رجعنا بدرب الحج المصري فوصلنا السويس في ٢٤ أكتوبر سنة ١٩٠٦.

fig130
شكل ٥-١٧: لجنة بناء العمد المصرية.

وكان قد رافقنا من رفح: اليوزباشي إسماعيل أفندي المفتي من أنجب ضباط مصلحة الأشغال بالجيش المصري، والمستر ويد أحد مهندسي اللجنة المصرية ليساعدا في نصب الأعمدة، وفي ٤ ديسمبر سنة ١٩٠٦ عاد اليوزباشي إسماعيل أفندي المفتي إلى طابا مندوبًا من قِبَل اللجنة المصرية لبناء الأعمدة بالحجارة حسب اتفاق اللجنتين، ومعه الملازم الأول النشيط غالي أفندي زكي، والملازم الثاني علي أفندي حلمي من ضباط الجيش المصري، و٣٧ عسكريًّا من الأورطة الرابعة المشاة، و٥ عساكر بنائين من قسم الأشغال، وعسكري تمرجي من القسم الطبي، ساروا بطريق البحر فوصلوا طابا في ٧ ديسمبر، وكان القائمقام باركر بك قد سُمِّي مديرًا على جزيرة سيناء فوافاهم إلى طابا برًّا في اليوم المذكور، ومكثوا في انتظار المندوبين العثمانيين.

وفي ٣٠ من الشهر المذكور حضر مظفر باشا وفهمي بك مندوبا لجنة الحدود التركية، ومعهما اليوزباشي غالب أفندي ليرافقوا مندوبي لجنة الحدود المصرية لبناء العمد، فنظر الجميع في شكل العمد الثابتة التي يجب إقامتها، فاتفقوا بعد جدال طويل على أن يكون شكلها هرمًا مقطوعًا تكون قاعدته مترًا مربعًا وارتفاعه عن سطح الأرض من مترين إلى مترين ونصف متر ومسطح رأسه ٣٠ × ٣٠س، وأن تنزع الفلنكة الحديدية وعرق الخشب فيستغنى عن العرق وتغرز الفلنكة في رأس العمود.

وبعد الاتفاق على شكل العمد عاد باركر بك إلى نخل، وشرع إسماعيل أفندي ورجاله في بناء العمد، يصحبهم المندوبون الأتراك الثلاثة على طول الخط؛ حتى أتوا إلى آخرها، وقد اعترضهم في الطريق صعوبتان: الماء والحجارة في الصحاري المرملة؛ أمَّا الماء فإنهم بعد خروجهم من طابا أتوا به من بئر ملحان وبئر غضيان في وادي العربة حتى وصلوا آبار مايين فوجدوها جافة فاستقوا من بئر المغارة، وأتوا بالحجارة إلى صحراء الهاشة من جبل أم قف قرب جبال الصفرا، وإلى صحراء العجرة من خرائب العوجة وجبل خشم القرن وخربة الرطيل وشاطئ البحر.

وكان أول عمود بنوه على رأس طابا السبت في ٣١ ديسمبر سنة ١٩٠٦ أعطوه نمرة ٩١، وآخر عمود على تل الخرائب في ميناء رفح في ٩ فبراير سنة ١٩٠٧ أعطوه نمرة ١، وهذه السرعة التي أتمَّ فيها إسماعيل أفندي ورجاله بناء العمد على طول الخط دلَّت على نشاط عظيم وأوجبت لهم كل مدح وثناء.

وقد بلغت أُجور الجمال التي كانت تنقل المياه ومواد البناء لهذه العمد ٧١٧ جنيهًا و٤٠ مليمًا، وكان جملة ما أنفقته مصر على تحديد التخوم نحو عشرين ألف جنيه أو أكثر.

وبعد أن تم بناء العمد شرعت حكومة سيناء في إقامة نقط البوليس على الحدود، فجعلت نقطًا في بئر الثمد، ومشاش الكنتلا، والقُصَيِّمة، ورفح، ومدَّت إليها الأسلاك التليفونية، وما زالت مثابرة على الإصلاح على ما بيَّنا في باب الجغرافية حتى قامت الحرب الأوربية الكبرى في أغسطس سنة ١٩١٤، وزج الاتحاديون الدولة في هذه الحرب في جانب ألمانيا، وجرَّدوا حملة على مصر قصد فتحها، فرأت السلطة العسكرية في مصر إخلاء سيناء لتجعل الصحراء بينها وبين الجيش المهاجم، فسحبت عساكرها من نقط الحدود ثم أخلت العريش في ٢٤ أكتوبر ونخل في ٣٠ أكتوبر سنة ١٩١٤، فدخل الأتراك سيناء واحتلوا بلاد العريش والتيه، وأمَّا بلاد الطور فما زالت بيد مصر ولها حامية في محجر الطور، وسيجيء تفصيل ذلك في الفصل التالي، وهو الخاتمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤