الرأي وصاحبه

الحمد لله الذي إذا شقيتُ في الصحو أسعدني في الحُلم، فإن ضِقتُ صدرًا لأمرٍ أشكل عليَّ في ساعات النهار، جاءت أحلام الليل بما يشرح لي صدري من صورٍ تزيل عن نفسي كروبها، وإني لأذكر في هذا السياق قصةً قرأتها عن الحكيم الترمذي منذ زمن طويل، فمسَّت من نفسي عند قراءتها وترًا، وما زلت منذ تلك اللحظة أذكرها كلما نشأت ظروفٌ مشابهة لظروفها، والقصة تقول:

كان الشيخ الترمذي قد عقد النية في أول أمره على الرحلة لطلب العلم في رفقة اثنين من إخوانه، وفي أثناء ذلك مرضت أمه، فقالت له: يا بني إني امرأة ضعيفة، لا عائل لي، ولا مُعين يعينني، إنك أنت المتولي لأمري، فإلى مَن تكلني وتذهب؟ فنالت هذه الكلمات منه، وعدَل عن الرحلة ومضى زميلاه في سبيلهما.

ثم مضى في ذلك بعض الوقت، فبينما كان في إحدى المقابر يبكي بكاءً شديدًا ويقول: ها أنا ذا قد بقيت جاهلًا مهملًا، وسيرجع أصحابي وقد حصلوا على العلم! إذا به يرى أمامه — فجأة — شيخًا مشرق الوجه، فسأله الشيخ عن سرِّ بكائه فأفضى عليه الفتى بحاله، فقال له الشيخ: ألا أعلِّمك في كل يوم شيئًا من العلم، فلا يمر عليك كثير وقت، حتى تسبق إخوانك؟ فأجابه الفتى إلى ذلك. واستمر الشيخ على تعليمه كل يوم، ومضت على ذلك أعوام، ثم عرف الترمذي بعد ذلك أنه إنما حصل على هذا ببركة دعاء أمه.

فإذا أخذنا قصَّة كهذه بمفهومها الرمزي، رأيناها تصويرًا مؤثِّرًا لما يحدث لنا عندما تتأزم حياتنا بشيء من العسر، فيعقبه يُسرٌ في الحُلم أو الخيال، وهكذا حدث لي منذ قريبٍ عندما سرحت بخواطري، خاطر يذهب وخاطر يجيء، حتى وقعت خلال ذلك على فكرةٍ أمسكت بها فلا تختفي، والفكرة هي أنني تصوَّرت في حياة الشعوب على امتداد تاريخها، لحظاتٍ بعينها يُتاح فيها للناس رجل أو موقف يكون من شأنه أن يغيِّر وجهة السير، فإذا الناس في مرحلةٍ جديدة من تاريخهم الفكري أو الحضاري، وقد تكون اللحظة من تلك اللحظات ذروةً لموجاتٍ من الحوادث سبقتها ومهَّدت لها طريق الظهور، لكن ذلك لا يغيِّر من صورة الأمر شيئًا.

فقلت لنفسي: أبحث عن مَثَلٍ يوضِّح ما تريد، فلا أدري لماذا قفز إلى ذهني «بطرس أبيلار» من فلاسفة العصور الوسطى في أوروبا، وكنت أعلم عنه أنه وقف من تيار الفكر في عصره وقفة جديدة، مما يصح أن يُقال عنها إنها البذرة الأولى — أو إحدى البذور الأولى — التي أخذت تنمو وتتفرع وتورق وتثمر، إلى أن غيَّر الفكر الأوروبي مجراه، وخلاصة تلك الوقفة التي وقفها أبيلار، هي أنه بعد أن رأى القوم من حوله يؤمنون أولًا ثم يفكِّرون بعد ذلك فيما آمنوا به ليفهموه، أراد هو أن يفكِّر أولًا ليفهم من المسائل المعروضة حقائقها بمقاييس العقل، حتى إذا ما صح منها شيء آمن به.

كنت أعلم ذلك عن بطرس أبيلار عندما قفز اسمه إلى ذهني ليكون مثلًا للفكرة التي أردت لها ما يوضحها، ثم ما أنا إلا أن وجدت نفسي قائلًا لنفسي: أأنتِ على وعي بأن أبيلار هذا حين وقف وقفته تلك في فرنسا، كان إمامنا الغزالي يقف وقفةً شبيهة بها في بغداد، في وقتٍ واحد تقريبًا ولم أكد ألحظ هذه العلاقة المثيرة حتى اشتدت بي الرغبة في أن أرجع — في مكتبتي المتواضعة — إلى ما يمكن الرجوع إليه عن أبيلار، وعن الغزالي فيما يختص بهذه النقطة المحددة، وهي: كيف يكون الترتيب الصحيح؟ أهو إيمان فتفكير، أم هو تفكير فإيمان؟ وربما اتخذ هذا السؤال صورةً أكثرَ دلالة على أهميته، إذا نحن تذكَّرنا أن الإيمان — سابقًا للفكر أو لاحقًا له — قد يكون إيمانًا برجلٍ معيَّن، فيصبح سؤالنا في هذه الحالة هو هذا: أنؤمن بصدقِ هذا الرجل قبل أن نُخضِع أقواله للتمحيص؟ أم نبدأ بتمحيص أقواله تمحيصًا عقليًّا موضوعيًّا، حتى إذا ما تبين لنا صوابه آمنَّا به؟

قمت مسرعًا أبحث في المكتبة عن أبيلار لأتثبَّت مما قاله، وها هنا أخذ مني الضِّيق مأخذه؛ فلقد كنت نسيت أنني ما زلت غير قادر على قراءةِ ما هو مكتوب على كعوب الكتب وهي فوق رفوفها، ولم أجد في كومة المناظير التي تكدَّست عندي أخيرًا، منظارًا يَصلُح لمثل هذه الحالة؛ فعندي منظار للطريق، ومنظار للقراءة القريبة ومنظار للكتابة ومنظار مكبِّر ومنظار مقرِّب، لكن ليس في هذه كلها واحد يَصلُح لرؤية المكتوب على ظهر الكتاب وهو قائم على سنِّه مضغوط بين جيرانه، وبالطبع لم أفكِّر في أن أُنزِل الكتب كلها من فوقِ رفوفها لأتمكَّن من رؤية أغلفتها، فيئست من أن أتمَّ ما همَمتُ به، وآويت إلى فراشي محزونَ النفس فأسرعَ إليَّ النعاس.

ألم أقل لك في أول الحديث، إني أحمد الله الذي إذا شقيتُ بأمرٍ في صحوي، أسعدني في الحُلم بما يعوِّض عليَّ ذلك الشقاء؟ وهذا ما كان، فأحسبني من أسعد الناس حظًّا في أحلامه؛ إذ قلما تجيئني تلك الأحلام أضغاثًا، بل هي في أكثر الحالات صورٌ محكمة التركيب، لا ينقصها إلا فنان يرسمها أو شاعر يصوغها لفظًا، فإذا هي لوحة أو قصيدة، ومن المصورين ومن الشعراء مَن جاء فنُّهم مستمدًّا من أحلامهم.

وكانت الصورة العجيبة التي رأيتها تلك الليلة، أهرامات الجيزة الثلاثة وقد جلس في مقدمة أكبرها الشيخ أبو حامد الغزالي، وفي مقدمة أوسطها بطرس أبيلار، وعند أصغرها فرنسيس بيكون، وكان الليل مقمرًا، فاكتسى المنظر كله بضوئه مما خلع عليه جوًّا حالمًا، لم أسأل في حُلمي عن المفارقات التي انطوى عليها الموقف كما رأيته؛ فلم أسأل: لماذا اختار هؤلاء الرجال أهرامات الجيزة مكانًا يلتقون فيه، وكيف اجتمع الرجال الثلاثة على ما يباعد بينهم مكانًا أو زمانًا؟ لم أسأل عن شيء من هذا كأنه من طبائع الأمور التي لا تستوجب سؤالًا.

ودنوتُ من أبي حامد الغزالي متردِّد الخطى خاشعًا لهيبة طلعته ووقار جِلسته، وحييتُ بصوتٍ خافت، وبدل أن أبدأ بالسؤال: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ بادرني هو بالسؤال، فقلت إنه أرَقُ الليل دفعني إلى هذه الأهرامات أنْعَم عندها بالسكون والسكينة، ثم أخذ يستفسر عن مصدر الأرق، وهل كانت في رأسي عند النوم فكرةٌ ملِحَّة منعت عني النعاس؟ فقلت: نعم، كانت، وخلاصتها هي حيرتي بأيهما أبدأ: أنبدأ بالرأي لنعرف نصيبه من الحق، ثم ننتقل منه إلى وضعِ صاحبه في المكانة التي يستحقها؟ أم نبدأ بالإيمان بصاحبه وأمانته وقدْرته، ثم ننتقل من ذلك إلى قبول رأيه؟

قال الشيخ: لو قرأت مؤلفاتي التي تركتها لكم ميراثًا، لوجدتني قد ألححت في مواضعَ كثيرة جدًّا منها، على أن البدء إنما يكون بالرأي المعروض نحلِّله ونردُّه إلى مقدماته التي تولَّد عنها، حتى نطمئن إلى صوابه، وبعدئذٍ نحكم لصاحب الرأي أو نحكم عليه، وحسبك قولي في «المنقذ من الضلال» عن أولئك الذين يَقبلون الرأي أو يرفضونه، لقبولهم لصاحب الرأي أو لرفضهم إياه؛ إذ قلت:

«فمهما نسبت الكلام، وأسندته إلى قائلٍ حسُن فيه اعتقادهم، قَبِلوه وإن كان باطلًا، وإذا أسندته إلى مَن ساء فيه اعتقادهم ردُّوه وإن كان حقًّا، فأبدًا يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال …»

وكأنما أحسست بأن الشيخ لم تَعُد به رغبةٌ في مواصلةِ حديثه معي، فذهبت إلى الهرم الأوسط؛ حيث جلس أبيلار، عرفته من صورةٍ له عندي، وبعد أن عرف مني فيم كنت أتحدَّث مع أبي حامد — وقد وجدت للشيخ عند أبيلار تقديرًا وإعجابًا — استطرد، كمن أراد أن يبدأ من حيث انتهى حديثنا الأول، وطفِق يفيض القول في موضوع الرأي وصاحب الرأي، ولقد تذكرت حتى وأنا في الحُلم أنني كنت أبحث عن أقواله في مكتبتي فلم تسعفني العين ولا أسعفتني المناظير الكثيرة التي تكدَّست عندي، وحمدت الله أن ساق إليَّ ما كنت أبحث عنه، وعلى لسان قائله، وكان ما قاله لي أبيلار، لا يخرج في جوهره عن الخلاصة التي أسلفتُها عنه، وهي أن بداية الطريق يجب أن تكون للعقل وتفكيره، ثم يأتي بعد ذلك إيمانٌ بالرأي وبصاحب الرأي، نتيجةً مترتبةً على ما كشفه العقل في الخطوة الأولى.

ولم يبقَ من الرجال الثلاثة إلا فرنسيس بيكون، الذي رضي لنفسه بأصغر الأهرامات موضعًا؛ لأنه يَصغُر الغزالي وأبيلار بثلاثة قرون ونيِّف من الزمان، والحق أني لم أتوقَّع عنده جديدًا؛ لأن قوله معروف مدروس حتى لتلاميذ المدارس الثانوية عندنا، لكنني وجدت أدب المعاملة يقتضي أن أحييه، وأن أسعده بقولي إن تلاميذنا الصغار يدرسون كلامه عن «أوثان» الحياة الفكرية، وكيف أن وثنًا منها متمثل في قبول الناس للفكرة بسبب ضخامة قائلها وقوَّته وهيله وهيلمانه، غير أن بيكون لم يتركني قبل أن يسخر مني بقوله: إذا كان ذلك ما يدرسه عندكم صغار التلاميذ، فكيف فات كبارَ الرجال، وحرتُ جوابًا فانصرفتُ بمعنى أني استيقظت.

وجاءت اليقظة — كما هي العادة معي — باستعادة تفصيلات الحُلم قبل أن تطير؛ لأن الذاكرة سريعة النسيان للأحلام، إلا أن تثبتها في لحظة اليقظة، والحق أني وقفت مع نفسي طويلًا، لا عند مادة الأحاديث التي سمعتها، بل عند المكان الذي اختاروه لجلوسهم، فلماذا أهرامات مصر مع أن أحدًا منهم لم تكن له علاقة بمصر، أيكون ذلك رمزًا للهيراركية المخيفة المتمثلة على أبشع صورها في حياة الأقدمين؛ حيث الناس تتوالى أقدارهم في تنازلٍ يجعل لكل درجة من درجات السُّلَّم مقدارها، فإذا كان نصيب الرجل مكانًا أعلى، تحوَّل علو المكان إلى علو المكانة في كل شيء، فإذا تكلم سمِع مَن هو أدنى، وإذا رأى رأيًا رآه معه كلُّ مَن هم دونه، وإذا ضحك ضحكوا، وإذا بكى بكَوا، وهكذا دواليك نزولًا من الرأس إلى القدمين.

استطردت خواطري، ودرت مع تلك الخواطر دورة كدورة الفلك، حتى عُدت إلى ما بدأت به، وهو أن في تواريخ الشعوب لحظاتٍ فريدةً يحدث عندها التحوُّل الفكري، وبغير هذا التحوُّل لا يكون تطوُّر ولا يكون تقدُّم، بل يظل السير سيرًا على مستوًى أفقي واحد مطرد لا فرق بين آخره وأوله، ورأيت عندئذٍ أن اللحظة التي نرقبها نحن لنتحول، إنما هي لحظة يلهمنا الله فيها أن نفرِّق بين الرأي وصاحبه، فلا نعلو بالرأي إذا علا صاحبه ونهبط به إذا هبط، فليكن لصاحبه مكانة الدنيا والآخرة جميعًا، أما رأيه فلا يستند — أو يجب ألا يستند — إلا لمنطق العقل وحدَه، الذي يحمل مقاييس التفرقة بين الصواب والخطأ.

إن «الرأي» بحكم تعريف هذه الكلمة، هو فكرة تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، ولو كان الرأي المعيَّن مضمون الصواب لما كان «رأيًا»، وإنما يكون عندئذٍ فكرة علمية مقطوعًا بصدقها، إنك لا تقول: إن رأيي هو أن اثنين مضافة إلى ثلاثة تساوي خمسة، أو إن رأيي هو أن الخشب يطفو على الماء؛ لأن هذه وأمثالها أحكام يستطيع العلم إثباتَها، علم الرياضة في الحالة الأولى، وعلم الطبيعة في الحالة الثانية، لكنك تقول — مثلًا — إن رأيي هو أن يبدأ حق التصويت للشاب إذا بلغ الثامنة عشرة، أو إن رأيي هو أن يقتصر التعليم الجامعي على مَن حصلوا على خمسة وسبعين في المائة من مجموع درجات الثانوية العامة.

فهذه وأمثالها «آراءٌ»؛ لأن رفْضَها أو تعديلها ممكن بحسبِ ما تقتضيه الظروف؛ فما هو صواب منها هنا والآن، قد لا يكون صوابًا هناك وبعد حين.

إلا أن الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية، هي أن نميز بين الرأي وصاحبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤