حقيقة الجمال ما هي؟

١

ما أيسر على الإنسان أن يقف أمام الشيء فيقول: الله، ما أجمله! يقول ذلك عن السماء لمعت أنجمُها في الليلة الظلماء، ويقوله عن البحر اصطخب فيه الماء أو سكن، وعن الشمس مشرقة وغاربة، وعن الجبل والزهر. ثم يقوله عن فاتنات النساء، وعن روائع الأدب وبدائع الفن، وعن ألوف الألوف من مخلوقات الله، وعن مصنوعات الإنسان، نعم ما أيسر على الإنسان أن يقول عن هذه الأشياء كلها إنها «جميلة»، تروعه بفتنتها!

حتى إذا ما عنَّ له — كما يعن للفلاسفة عادة — أن يسأل نفسه ماذا يكون في الشيء عندما يكون الشيء جميلًا؟ فعندئذٍ تراه في حيرةٍ لا يدري من حقيقة الأمر شيئًا، إلا أن يطيل الوقوف ويطيل التحليل. فما هو باليسير عليه ولا على الفلاسفة أنفسهم، أن يقع أو يقعوا على الصفة التي لا بد من توافرها في هذه الألوف من مختلف الأشياء التي يُقال إنها «جميلة»، إذًا ما دمنا نُطلِق هذه الكلمة الواحدة لتصف هذه الأشياء كلها بالجمال، فلا بد أن يقابِل تلك الكلمة الواحدة جانبٌ واحد مشترك يدخل في طبيعة كل ما هو جميل: السماء، والبحر، والشمس، والجبل، والزهر، والغادة الفاتنة، ولوحة المصور، وقصيدة الشاعر! فماذا عسى أن يكون هذا الجانب الواحد المشترك بين أمثال هذه المختلِفات؟

لعل أفلاطون أن يكون في مقدمة الفلاسفة الذين طرحوا هذا السؤال على أنفسهم ليحاولوا عنه الجواب المحكم الدقيق. طرحه أفلاطون في مواضعَ كثيرةٍ من محاوراته، لكنه اختص به محاورةً بأكملها، هي محاورة «هبياس الكبير»: بدأ سائلًا بقوله إن الأشياء الجميلة إنما تُوصف بالجمال لشيء فيها، فما هو؟ ثم مضى الحوار على الطريقة الأفلاطونية المعروفة، فيجيب مجيبٌ عن السؤال المطروح، لكن إجابته سرعان ما يتبين فيها شيء من عدم الدقة، ويظل المتحاورون يُدخِلون على العبارة تعديلًا في أثر تعديل حتى يستقيم الأمر ويتضح.

وكان أوَّل ما لفت أنظار المتحاورين في هذه الحالة، هو ضرورة أن تكون هنالك حقيقةٌ «واحدة» هي التي نراها متمثلةً في هذه الأمثلة الكثيرة من الأشياء «الجميلة». فمهما تعدَّدت هذه الأشياء، فهي جميعًا تشارك في فكرة واحدة، أو في صفة واحدة. كأفراد الأسرة ينتمون جميعًا — على اختلاف أفرادهم — إلى أمٍّ واحدة؛ فالفَرس الجميلة، والقيثارة الجميلة، والإنسان الجميل (وهذه هي الأمثلة نفسها التي ساقها أفلاطون في محاورته المذكورة) كلُّها — على بُعْدِ ما بينها من اختلاف — تنتمي إلى أسرة واحدة هي أسرة «الجمال»، فهل يكون ذلك إلا أن تكون هذه الأشياء كلها مجسدة لفكرةٍ واحدة وإن اختلفت المادة المجسدة في كل حالة؟

ولكن هل يكون معنى ذلك أن هذه الأشياء الجميلة كلها على درجةٍ سواء من الجمال ما دامت كلها تجسِّد فكرةً بعينها؟ كلَّا؛ فنظرةٌ سريعة تكفي للدلالة على أن الجمال فيها درجاتٌ تتفاوت بتفاوتها في قسطِها من الحقيقة التي تجسدها. فما من شك في أن الفتاة الجميلة والفَرس الجميلة لا تُقاس إليهما القيثارة والإناء في جمالها. وها هنا يستشهد سُقْراط (في المحاورة) برأيٍ يُنْسب إلى هرقليطس، وهو أن أجمل القردة قبيحٌ إذا قُورن بالإنسان. فيستطرد هبياس قائلًا: وكذلك أجمل الأواني قبيح إذا قُورن بفتاةٍ جميلة. ثم هكذا يُقال في أجمل الفتيات إذا قُورنت بالإلهات.

تُرى ما هو ذلك الشيء الذي تسهم فيه الأشياء الجميلة بأنصبةٍ متفاوتة؟

أيكون مردُّ الأمر إلى نفاسة المادة التي هي قَوام الشيء الجميل، وعندئذٍ يكون ما صُنِع من ذهبٍ «أجملَ» مما صُنِع من نُحاس أو من خشب أو من حجر؟ كلَّا؛ فنظرة سريعة أخرى تبيِّن أن حجر التمثال قد يكون أجملَ من أي شيء آخر صُنِع من الذهب، وها هو ذا فدياس يصنع تمثالًا رائعًا لأثيني، فيَقُدَّ العينين من الحجر، وكان في مستطاعه أن يصوغهما عاجًا، فهل يُقال: إنه لو صاغهما من العاج لكانتا أجملَ منهما وهما من الحجر؟

لا، إن نفاسة المادة لا شأن لها بجمال الشيء المصنوع منها، وإذن ننتقل إلى فرضٍ آخر، أفيكون مرجع الجمال إلى ملاءمة المادة لما أُريد منها أن تؤديه، وبهذا تكون كل مادة جميلة إذا ما وُضعت في موضعها الصحيح؛ فالذهب جميلٌ في موضعه الملائم، كما أن الحجر جميل في موضعه الملائم، وهكذا؟ إنه لو كان الأمر كذلك وكفى، لكان جمالُ الشيء ليس نابعًا من طبيعته، بل كان جماله مرهونًا بما ليس منه، كما نكسو الرجل الدميم بثيابٍ جميلة، ثم نقول ها هو ذا قد أصبح رجلًا جميلًا، ما دام محوطًا بمحيطٍ جميل! إن إجابتنا عن حقيقة الجمال لا تَكمُل إلا إذا كان الجميل جميلًا مَخبَرًا ومظهرًا في آنٍ معًا.

لكننا نعود إلى فكرة ملاءمة الشيء للعمل الذي أُريد له أن يؤديه، فنقف وقفةً قصيرة حيالها، لنسأل: أيكون جمال الشيء كائنًا في نفعه، وعندئذٍ يكون الجميل هو النافع والنافع هو الجميل؟ ألا إنها لفكرةٌ تستحق النظر؛ لأن الأمثلة على صوابها كثيرة؛ فالعين الجميلة لا تكون عمياء؛ أي إنه إذا ما عجزت العينُ عن أداءِ ما جاءت لتؤديه استحال عليها في الوقت نفسه أن تُوصَف بالجمال. وكذلك قُل إن الجسم الجميل هو الجسم الخفيف الحركة القوي القادر. وكذلك قُل أيضًا في عالم الحيوان: إذ ماذا يكون الحصان الجميل إلا أن يكون هو الحصان الذي توافرت فيه الصفات المطلوبة من سرعة وقوة. وقُل هذا نفسه في الأشياء بعد أن قلناه عن الإنسان والحيوان؛ فالعربات والسفن وآلات العزف وغيرها لا تُوصف بالجمال إلا لحسن أدائها لوظائفها، بل قُل هذا نفسه عن النُّظم وطرائق العيش، كالنُّظم السياسية ونُظُم التعليم وأوضاع الحياة العملية من تجارة وصناعة وزراعة وغيرها، تجدْ كل شيء «جميلًا» إذا هو أدَّى إلى الغاية منه خيرَ أداء، ولو صحَّ هذا كله لصح أن نقول إن جمال الشيء هو نفعه وملاءمته لوظيفته؛ فالقدرة جمال والعجز قبح، والمعرفة جمال والجهل قبح، والقوة جمال والضَّعف قبح، والصحة جمال والمرض قبح.

لكنَّ المتحاورين في محاورات أفلاطون سرعان ما يتنبهون إلى أن الأداء مجرَّد الأداء لا يكفي؛ إذ قد يؤدي الشيء سوءًا وشرًّا، أفنقول عندئذٍ إنه جميل؟ كلَّا، فلا بد أن يُضاف شرطٌ هام، وهو أن يكون الشيء قادرًا على أداء ما هو خير لكي يستحق أن يُوصف بالجمال. غير أننا ها هنا بإزاء طرفَين، هما: الشيء الذي هو أداة، ثم الفعل الذي يؤدي؛ أي إننا بإزاء علة ومعلول، فهل نطلق كلمة الجمال على الطرفين معًا وفي وقت واحد؟ إننا لو فعلنا أُوقِعنا في خلط فكري يدمج جانبَين مختلفَين في شيء واحد، وإذن فلا بد أن نبقي من الطرفين على أحدهما دون الآخر، ولا مندوحةَ لنا أن نبقي على الغاية لا على وسيلتها، والغاية هي — كما قلنا — الخير المرتجى لبلوغه عن طريق تلك الوسيلة، وإذن فالخير في ذاته هو نفسه الجمال.

على أن هذه النتيجة قد بدت للمتحاورين كأنما هي تتجاهل عنصرًا هامًّا في الأشياء «الجميلة»، وهو المتعة الحسية التي يستمتع بها مَن يرى الجميل أو يسمعه أو يلمسه أو يتصل به بأية حاسة أخرى غير البصر والسمع واللمس؛ فما من شكٍّ في أن الْتِذاذَ حاسةٍ معينةٍ في كل حالةٍ من حالات الجمال هو جانب من الموقف لا يجوز تجاهله وإهماله عندما نبحث عن طبيعة الجمال، وإلا فهل يجوز أن أتجاهل استمتاع الأذن ﺑ «الصوت» في الموسيقى، والعين ﺑ «اللون» في التصوير؟ هل يجوز أن أغضَّ النظر عن متعة «الحواس» بالتمثال الجميل وبالشعر المنظوم وبالقَصص يُروى فيُفتِن؟ أقول إن المتحاورين في حقيقة الجمال كان لا بد لهم أن يتنبهوا إلى هذه المتعة الحسية فيفسروها على ضوء النتيجة التي انتهَوا إليها، وهي أن الجمال هو نفسه الخير.

فكان لا بد لهم بادئ ذي بدء أن يفرِّقوا بين لذاذات الحواس المختلفة؛ لأن لذة الطعام والشراب والجنس لا تجعل من هذه الأشياء أشياء «جميلة»؛ ولأن الحاستين الوحيدتين اللتين لا تتعارض اللذة فيهما مع الجمال، هما حاستا البصر والسمع؛ فبالبصر نشهد المناظر الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء، وبالسمع نسمع الأصوات الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء كذلك.

ولكن هل يكون المرئي جميلًا لأنه مرئي بالعين، والمسموع جميلًا لأنه مسموع بالأذن؟ إننا لو أجبنا بالإيجاب لكنا بمثابةِ مَن غضَّ النظر عن أهم مشكلة في الموضوع كله ألا وهي: ما هو الجانب «المشترك» بين المرئي والمسموع، الذي جعلهما معًا يندرجان في مجموعة واحدة يُطلق عليها اسم واحد، هو اسم «الجمال»؟ إنه لا مفرَّ من الاعتراف بأن مصدر الجمال «المشترك» بين البصر والسمع، لا بد أن يكون شيئًا غير البصر والسمع؛ شيئًا وراءهما يَتَّخِذ من البصر وسيلةً كما يتخذ من السمع وسيلة، وذلك الشيء لا يكون إلا «الخير»، أو إن شئت كلمةً أدنى إلى أفهامنا اليوم فقل هو «النفع» أو «الصلاحية» أو الزيادة من لياقة الإنسان للقيام بوظائفه الحيوية بحيث يصبح إنسانًا أكمل.

وبهذا يتحدَّد معنى الجمال بالمزاوجة بين المتعة والفائدة، فلا الذي يُمتِع بغير فائدة ذو جمال، ولا الذي يفيد بغير متعة بذي جمال، بل لا بد من اجتماع الجانبين معًا، على أن يُفهم من «الفائدة» معنى «الخير» بكلِّ ما تدل عليه هذه الكلمة من سموٍّ وكمال.

هذا هو رأي شيخ الفلاسفة — أفلاطون — في حقيقة الجمال، كما ورد في محاورته «هبياس الكبير»، وإني لأُوثِر ألا أقف بك عند حد الفكرة وسرْدها، فذلك إن أفاد من الناحية العقلية الصرف، فجدواه قليلة من ناحية الذوق الفني وغرسه وتدريبه، فكيف تستخدم هذه الفكرة الأفلاطونية في تقويمك لمظاهر الجمال على اختلافها؟

إنك — فيما أرى — لَتُحسِن صنعًا، وأنت بإزاء شيء جميل — في الطبيعة أو في الفنون — إذا أنت ارتفعت في موقفك عندئذٍ درجةً في إثر درجة، فتبدأ أول الأمر بإمتاع الحاسة المعنية بالجانب الحسي الظاهر من ذلك الشيء الجميل، فإن كان منظرًا — في الطبيعة أو في الفن — فاملأ بصرك بادئ ذي بدء بأطياف اللون كما تقع على حاسة البصر، ولا تتعجل هذه الخطوة لأنها أساسية وهامة، حاول أن تُمعِن النظر في شتَّى درجات اللون، وستجدها تُعدُّ في المنظر الواحد بالمئات، ولا أقول بالعشرات أو بالآحاد، ثم حاول أن تدرك ما بين تلك الدرجات اللونية من تشابك وامتزاج، حتى إذا ما أمتعت حاسة البصر بما أنت حياله من بناء لوني، أخذت بعد ذلك تنظر — بعين العقل هذه المرة لا بعين الجسد — تنظر إلى ما قد يؤدي إليه هذا المنظر الذي أمامك من فكرة وراءه؛ فأنت عندئذٍ لم تَعُد تنظر إلى الجزئية الواحدة التي أمامك على أنها غاية في ذاتها، تقف عندها ولا تنفذ خلالها، بل تنظر إليها على أنها أحد الأمثلة الكثيرة التي جاءت لتجسِّد فكرةً بعينها؛ فليست هي بذات قيمة جمالية إلا إذا أوصلتني بواسطة التأمُّل العقلي إلى مستوًى أعلى من مستواها؛ أي إلى المستوى المعقول الذي هو أعلى درجة من مستواها المحسوس، ولو استطعت هذا الصعود في مدارج الإدراك عن طريقها، ازددت لها تقديرًا بقدْرِ ما تمكنني من أن أجاوزها ولا أقف عندها مكتفيًا بها.

وإلى هنا تكون قد نظرت إلى المنظر على بُعْدين: البُعد الحسي، والبُعد العقلي.

ثم ماذا؟

ثم تحاول بعد ذلك أن تنظر إلى الفكرة العقلية التي وصلت إليها، لا على أنها نهاية الطريق، بل على أنها بدورها مرحلة وسطى، أتخطاها إلى ما هو أعم منها في مدارج الأفكار، ثم إلى ما هو أعم، وهكذا دواليك حتى تبلغ القمةَ العليا في الصعود، وما تلك القمة العليا — عند أفلاطون — إلا الخير؛ لأنه إذا كان العالَم كله مستهدِفًا في سيره هدفًا، فإنه إنما يستهدف ما فيه كماله بعد نقص، وهذا الكمال المنشود هو الخير في لغة أفلاطون. وتستطيع أن تقول عنه إنه هو الله إذا أردت لغةً أخرى أقرب إلى الفهم. فتأمل الجمال الذي يبدأ — كما رأيت — من مشهدٍ مرئي بالعين، ينتهي بالمتأمل إلى حالةٍ من الشهود الصوفي، الذي شأنه أن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال.

وأضرب لك مثلًا تطبيقيًّا آخرَ بشيء «مسموع» بعد أن ضربت لك مثلًا بشيء «مرئي». فافرض أن الشيء الجميل الذي أنت بإزائه هو قصيدة من الشعر — ولتكن قصيدة أبي العلاء:

غَيْرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنُّمُ شادِ

… إلخ — كيف أتذوَّقُها مستعينًا بالرأي الأفلاطوني الذي بسطته لك عن حقيقة الجمال؟

تبدأ بالمركَّب الصوتي الذي تتلقاه الأذن من تلاوة القصيدة بصوتٍ مسموع، ومرة أخرى أوصيك ألا تتعجل هذه المرحلة من مراحل الطريق؛ لأنها أساسية وهامة. فانصت إلى كل نبرة صوتية تأتيك من كل حرف منطوق، حتى تملأ سمعك بالبناء الصوتي كله كيف تتشابك نبراته على تأليف مركَّب موسيقي واحد. حتى إذا ما فرغت من هذه المرحلة الحسية، كنت بمثابة مَن جاوز عتبة الدار، لا ليقف عندها، بل ليوغل صاعدًا في طبقاتها العليا. فها هنا تصعد من مستوى «المحسوس» إلى مستوى «المعقول»؛ أعني أن تحاول إدراك الفكرة التي جاءت هذه القصيدة لتجسدها، فكأنما هذه القصيدة أداة من أدواتٍ كثيرة غيرها، مهمتها أن توصلنا إلى إدراك فكرة بعينها.

وأحسَب أن الفكرة التي نصل إليها وراء السطح الصوتي في هذه القصيدة، هي حيادية الحقيقة الكونية الكبرى حيال عواطف الإنسان على اختلافها؛ فبكاء الباكي وترنيم الشادي كلاهما عند الحقيقة الكونية — وإن شئت فقُل عند العلم الطبيعي — موجاتٌ من الصوت تُقاس أطوالها وتُرسم مساراتها وتُحسب سرعاتها وهكذا، وأما أن يكون بعضها مبطنًا بحزنٍ وبعضها الآخر مبطنًا بسرور؛ فذلك شيء يرد في حياة الإنسان الخاصة، ولا يرد في الحقيقة الكونية الموضوعية الخارجية التي في خضمها تنطمس معالم الأفراد، وأن القصيدة لتؤكد هذه الفكرة في صورٍ متلاحقة؛ فصوت النعي وصوت البشير كلاهما «صوت» لا أكثر ولا أقل، وهديل الحمامة على غصنها «صوت» كذلك، ربما سمعته أنت فخلعت عليه من عندك بطانة عاطفية فتقول إنه بكاء أو إنه غناء، وأما عند الحقيقة الكونية فلا هو هذا ولا ذاك، ولكنه «صوت» وكفى، والصوت من ظواهر الطبيعة التي يضبط العلم قوانينها.

وصلنا إذن إلى مستوًى «فكري» بعد المستوى «الحسي» في قراءتنا لقصيدة أبي العلاء.

ثم ماذا؟

ثم نمضي في الطريق نفسها، فلا نترك الفكرة التي بلغناها متوحدة معزولة كأنما هي صخرة في فلاة، بل ننظر في صلاتها بغيرها من الأفكار، صاعدين من تخصيصٍ إلى تعميم، حتى نبلغ آخر الشوط، وهو دائمًا — عند أفلاطون — حالة الكمال التي يسعى إليها الكون بكلِّ ما فيه من متناقضات ظاهرة ومن جزئيات ماضية عابرة.

إننا بهذا الصعود من المستوى الحسي أولًا، إلى المستوى العقلي ثانيًا، ثم إلى المستوى الخلقي ثالثًا، نكون قد اعتصرنا كلَّ ما نستطيع أن نعتصره من جمالٍ في الشيء الجليل الذي ننظر إليه نظرة متذوقة عميقة، نهتدي فيها بالفكرة الأفلاطونية عن حقيقة الجمال.

وإني لأعلم أنني بمحاولة التطبيق ربما أكون قد بعُدت قليلًا أو كثيرًا عن الفلسفة الأفلاطونية بمعناها الذي يعرفه الدارسون في قاعات الجامعات، لكن شفيعي في ذلك هو أن أزيد من القدرة على «تذوُّق» الجمال عند القارئ، إلى جانب الزيادة من حصيلته «العلمية» المجردة.

٢

لئن كان أفلاطون قد ردَّ الجمال إلى الخير، بمعنى أن الجميل هو النافع، والنفع ينبغي أن يكون نفعًا في سبيل الخير، أقول إن كان أفلاطون قد ربط بين جمال الشيء ونفعه بهذا المعنى، فها هو ذا شامخٌ آخرُ من شوامخ الفلسفة — عمانوئيل كنط (١٧٢٤–١٨٠٤م) — يقف من أمر الجمال موقفًا مضادًّا، بحيث يجعله منزَّهًا عن كل رغبةٍ في نفع كائنًا ما كان هذا النفع. وخلاصة الرأي عنده هي أن الجميل جميلٌ في ذاته وبذاته، لا يستند في جماله إلا إلى طريقة تكوينه. لكن خلاصة الرأي شيء، والسبيل إليها شيء آخر، لا سيما عند فيلسوفٍ عُرف بعمق التحليل وصعوبته إلا على المختصين الذين ألِفُوا أن يقرءوه ويفهموه.

والكتاب الذي يبسط فيه «كنط» فلسفته الجمالية، هو كتاب «نقد الحكم» وفيه يقول: إن الحكم الذوقي حاسي لا منطقي؛ أي إنه ليس جزءًا من المعرفة العقلية التي تُساق عليها الحجج والبراهين، بحيث تتسلسل النتائج من مقدماتها؛ ذلك أن المعرفة العقلية قوامُها تصوُّرات تتصل بما هو واقعٌ بالفعل في الحقيقة الخارجية من كائناتٍ وأشياء، وأما إذا كانت أفكارنا لا صلةَ لها إلا بمشاعرنا نحن من لذة أو ألم، فعندئذٍ لا يكون ثَمَّ تقابُلٌ بين مضمون الفكرة من جهة، وحقيقة الشيء الخارجي من جهة أخرى.

وإذا ما كان ثمَّة رابط يربط ما بين الفكرة التي في رءوسنا وبين الشيء المقابل لها في العالم الواقعي، فعندئذٍ يكون للإنسان في تلك الفكرة صالح يقضيه إذا أراد، كالذي بيده المفتاح يفتح به الخزانة إذا شاء. أما حين نتأمَّل بالفكر شيئًا جميلًا، حين نتأمل بالفكر قطعة موسيقية أو صورة فنية، أو قصيدة من الشعر، أو منظرًا من مناظر الطبيعة الحية أو الجامدة، فإننا عندئذٍ — لكي يجيء حكمنا حكمًا ذوقيًّا خالصًا — نغض النظر غضًّا تامًّا عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها فكرةً يُستفاد بها على أي وجه من الوجوه، بل إننا لنغض النظر عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها ذات مقابل خارجي على الإطلاق؛ إذ إننا بعد أن نستخلص من الشيء الجميل فكرةً عن تكوينه نضعها موضعَ التأمل، لا نعود بعد ذلك نهتم لوجود ذلك الشيء أو لعدم وجوده، ويصبح الأمرُ أمرَ كيان وتكوين، ننظر فيه لذاته، كي نرى كيف تشابكت فيه العناصر الكثيرة تشابكًا جعل منه كائنًا واحدًا.

وليس جمال الشيء كائنًا في إشاعته السرور في أنفسنا، ولا هو كائن في تحقيقه لما ينفعنا في حياتنا العملية؛ لأن السرور والنفع مشوبان بالرغبة والمَيل، على حين أن الجميل جميل لطريقة بنائه وتكوينه، سواء أفدْنا منه أم لم نُفِد، بل ليس جمال الشيء كائنًا في خيريته؛ لأننا حين نحكم على شيءٍ ما بأنه «خير» فإن ذلك يقتضي أن يكون لديَّ معيار للمَثل الأعلى كيف ينبغي أن يكون، ثم أقيس الشيء الماثل أمامي إلى ذلك المعيار المثالي لأرى مدى التطابُق بينهما، على حين أن حُكمَنا على الشيء المعيَّن بأنه جميل، لا يقتضينا أن نعلم شيئًا خارجًا عن ذاته، بل لا يقتضينا أن نعلم من أي مادةٍ صُنع، ولا أن نعلم ماذا تكون ماهيته وطبيعته؛ إذ يكفينا أن ندركَ فيه إطار تكوينه الذي على ركائزه أُقيم، والذي ربط الروابط بين أطرافه ربْطًا خلق من كثرته وحدةً واحدة، وإن شئت فانظر إلى زهرة «جميلة»، أو إلى زخرف عربي «جميل» في سجادة، أو على سقف أو جدار، فهل تراك تستند في الحكم عليه بالجمال إلى فكرة عقلية أو إلى مبدأ نظري؟ هل ترى الزهرة أو الزخرف «يعني» شيئًا سوى نفسه؟ وهكذا يكون الموقف الذوقي دائمًا.

لكن وجه المفارقة هنا هو أننا على الرغم من إقامتنا أحكامَ الذوق على النظرة الذاتية الخاصة التي لا يُقام على صدقها برهان منطقي عقلي علمي، إلا أننا إذا ما حكمْنا على شيء بأنه جميل، توقَّعنا من كل إنسان في الدنيا أن يحكم عليه كذلك بالجمال، وتوقَّعنا أن يكون كل إنسان — مثلنا — منزَّهًا في حكمه ذاك عن مصلحته الخاصة، كأنما جمال الشيء صفة موضوعية كائنة في الجانب الذاتي في الأحكام الذوقية، وفي الوقت نفسه نجعل تلك الأحكام الذوقية، ممكنةَ النقل من إنسانٍ إلى إنسانٍ، وموضعَ اتفاق بين الناس أجمعين.

ألا وهو أن نفرض بأن إدراكنا للجمال مرهون بإدراكنا للعلاقة المتبادلة بين قدراتنا الفكرية وبين الأفكار التي نكونها بوساطة تلك القدرات، ولكن دون أن يكون هناك أفكارٌ بعينها. أعني أن إدراكنا للجمال هو إدراكٌ لنوع الفاعلية الفكرية التي تنشط بها أثناء اكتسابنا للمعرفة، دون أن نربط تلك الفاعلية بمعرفة معينة؛ لأننا لو ربطناها بمعرفة شيء معيَّن، كان ذلك أدخلَ في باب العلم والمنطق والعقل، منه في باب الذوق والفن والجمال. فكأننا نحن في إدراكنا للجمال ندرك فاعليةً خالصةً بغير فعل، ندرك علاقاتٍ بغير متعلقات، ندرك إطارًا بغير مضمون، ندرك قالبًا بغير ملء أو فحوى، أو قُل إننا ندرك نشاطًا عرفانيًّا بغير شيء معروف معيَّن.

فما علينا — إذا أردنا أن نحدِّد نوع هذه الفاعلية التي ندركها عندما نتأمل الجمال في الشيء الجميل — ما علينا إلا أن نسأل أنفسنا: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه من أشياء العالم المحيط به؟ كيف أعرف أن أمامي «كتابًا» وأن في يدي «قلمًا»؟ الجواب عند كنط هو — في إيجاز شديد — أن الحواس تتلقى خلية متزاحمة مضطربة مهوشة من معطيات تبعث بها الأشياء الخارجية إلى الحواس، كل حاسة في دائرة اختصاصها؛ فأضواءٌ تَطرْق العين وأصوات تخبِط الأذن، ولمسات تمس سطح الجلد، وطعوم على اللسان، وروائح في الأنف، يأتي هذا الزحام المتدفق إلى أعضاء الحس. ولكن ما كل طارق للأبواب يُسمح له بالدخول؛ فها هنا يقف الحراس من داخل، لينتقوا ما يُراد ويرفضوا ما لا يُراد.

ثم ماذا؟

ثم هنالك نشاط ذهني يتولَّى الإحساسات التي سمح لها بالقبول، يتولاها ليصبَّها في قالب واحد فيوحِّدها شيئًا واحدًا، وإلا فسيظل خليط الإحساسات خلية مهوشة في الداخل كما جاءت مضطربة مهوشة من الخارج.

فهذا القلم الذي في يدي، إنما يجيء إليَّ منه لمعات من الضوء — هي ما فيه من ألوان — كما يجيء إليَّ منه لمسات من الصلابة بين أصابعي. ولمعات الضوء قد جاءتني عن طريقٍ غير الطريق التي قد سلكتها لمسات الصلابة؛ فهل يا تُرى تظل هذه اللمسات وتلك اللمعات مستقلة إحداها عن الأخرى داخل رأسي كما قد وردت إليَّ مستقلة إحداها عن الأخرى؟ كلَّا؛ لأنها لو فعلت ذلك لما نشأ عندي تصوُّر للقلم على أنه كائن واحد موحد العناصر، فلا بد للفاعلية الذهنية من القيام بهذا التوحيد.

حاوِلْ بعد ذلك أن تُسقط «القلم» من حسابك في هذا الوصف الذي أسلفنا، وحاولْ أن ترى الفاعلية الموحدة الرابطة بغير الشيء المعيَّن الذي ينصبُّ عليه الربط والتوحيد، يكن لك صورة مجرَّدة، هي نفسها الصورة المجرَّدة التي ألتمسها عند إدراكي للشيء الجميل، فإن وجدتها، جاز لي أن أحكم على الشيء بالجمال، وإن لم أجدها كان الشيء خلوًا من الجمال.

ولما كانت هذه الفاعلية الإدراكية مشتركة بين الناس جميعًا، كان من حقي أن أتوقَّع لكل الناس أن يروا ما أراه من جمالٍ في الشيء الجميل، إذا هم تأمَّلوه بمثل ما أتأمله. إنني إذ أتأمَّل قوام الشيء فإنما أتأمل فاعلية «الخيال» وهو يصب العناصر الكثيرة في كيان واحد، كما أتأمل كذلك فاعلية «الفهم» وهو يُدرِج ذلك الكيان الواحد تحت مقولات الذهن. والخيال والفهم هما الفاعليتان اللتان بهما «نعرف» ما نعرفه، وهما مشتركان بين الناس جميعًا. فإذا ما جرَّدناهما ونظرنا إليهما وكأنهما في خلاء بعيدَين عن ميدان النشاط المعرفي، كان لنا بذلك الجانب الذي نصبُّ عليه أحكامنا الذوقية، التي هي ذاتية وعامة في آنٍ معًا.

إنني أنظر — مثلًا — إلى لوحةٍ معلَّقة على جدار غرفتي، فأحس سرورًا لرؤيتها. ولكن إلى هنا لا جمالَ؛ لأنه لم يَصدُر بعدُ حكم ذوقي عليها. ثم أتعقَّب النشاط الذهني الذي يتلو هذا النظر، وأتأمَّل فاعليتي، فأُدرِك فيها توحيدًا وخلقًا وصياغة، فتأخذني النشوة الجمالية بمعناها الصحيح، ويحق لي عندئذٍ أن أُصدِر حكمًا ذوقيًّا على اللوحة فأقول إنها لوحة جميلة، متوقِّعًا من سائر الناس أن يلتقوا معي في حكمٍ واحد عليها.

ومؤدَّى هذه الفلسفة الجمالية هو أن نبحث في الجميل عن بنيةِ التكوين إذا كان متحيزًا في مكان، كالصورة أو التمثال أو العمارة، وعن إطار التفاعلات إذا كان مما يمتد على فترةٍ من زمان، كالتمثيل والرقص والموسيقى والشعر، والمهم في كلتا الحالين أن نجد خطَّة موحَّدة الأجزاء متآلفة العناصر، فيكون ذلك التوحُّد وهذا التآلف هو في نهاية المطاف موضوع الحكم الذوقي.

فمحور الأحكام الذوقية في دنيا الجمال، هو الشكل لا الموضوع، والبناء لا المعنى، وانسجام المقامات الكثيرة في وحدةٍ متماسكةٍ بغضِ النظر عن أي معيار خلقي يقرِّر ما ينبغي أن يكون؛ لأن الجميل لا يستهدف شيئًا سوى أن يكون ذا تكوين خاص فيه الوحدة والبناء اللذان أشرنا إليهما.

على أن هناك نوعَين من الجمال يَجدُر بنا أن نفرِّق بينهما، وهما الجمال الحر والجمال المقيَّد بغرضٍ خاص.

أما الجمال الحر فهو الذي ننظر فيه إلى التكوين الخالص دون أن يَرِد إلى أذهاننا ما قد أُريد لهذا التكوين أن يؤديه من وظائف. كما تنظر مثلًا إلى زخرف هندسي في الفن العربي، فأنت عندئذٍ لا يعنيك ألا تناسب أجزاء الزخرف، ولا تسأل ماذا يعني هذا الزخرف.

وأما الجمال المقيد بغرض كجمال الجسم البشري وجمال الحصان وجمال البناء، فها هنا قد نقيس جمال الجسم إلى ما قد جاء ليؤديه، وعندئذٍ قد يعوقنا التفكير في صلاحية الشيء لأداء وظيفته دون الإدراك الجمالي الخالص، الذي لا يتأتَّى إلا إذا نظرت إلى الجسم البشري من حيث هو تكوين خالص، وإلى جسم الحصان من حيث هو تكوين خالص كذلك، وهكذا.

على أن هذه التفرقة على كل حال تفيدنا في حسم الخلاف بين جماعتين من النقاد: جماعة تجعل معيارها الشكل المحض، وجماعة أخرى تجعل معيارها النجاح في الوصول إلى الهدف المقصود.

وكعادتي أحب أن أزداد فهمًا — لنفسي وللقراء — بأن أطبِّق هذا الذي أقوله على أمثلةٍ بعينها من موضوعات الجمال، اختارها من الطبيعة أو من الفنون، لأرى كيف أتذوَّق جمالها لو أني أخذت بوجهة النظر التي بسطتها.

لنضربْ مثلنا من الأدب، وليكن حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ فهذه الحكايات معترَف لها من نقَّاد العالم أجمع بما فيها من فن أدبي؛ فألاحظ أنني بمجرد دخولي في دنيا الحكاية أجدني بإزاء عالمٍ ذي قوانين خاصة به، لا شأن لها بقوانين هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه؛ فتَراني لا أتعجَّب لوقوع أحداث في ذلك العالم الغريب ما دامت تلك الأحداث متمشية مع جو ذلك العالم وقوانينه، ولا أقف لحظةً لأسأل إن كانت تلك الأحداث مما يجوز وقوعه في عالمنا أو لم تكن. فلا بأس — مثلًا — في أن أجد الناس هناك ينتقلون انتقالاتٍ سحرية من مكانٍ إلى مكان، على بساط الريح أو على بُراق أو غير ذلك، ولا بأس في أن يحك حامل الخاتم خاتمه فإذا الدنيا كلها مِلْك يمينه يسيِّرها كيف شاء له هواه. المهم عندي وأنا أعيش الحياة التي ترسمها الحكاية المقروءة هو أن أجد اتساقًا وانسجامًا وترابطًا بحيث لا تصبح العناصر متناثرة مفكَّكة لا شأن لأحدها ببقيتها. فإن أحسست بمثل هذه الوحدة تشمل الأطراف جميعًا، أحسست بالفاعلية نفسها التي ينشط بها ذهني وهو يدرك عناصر أي شيء مدرَك في الحياة الواقعة، وهي الفاعلية التي حدثتك عنها حين حدثتك عن هذا القلم بين أصابعي كيف يستوي في عالم الذهن قلمًا واحدًا مع أنه ذو عناصرَ حسيةٍ متفرقة. وما دمت قد أحسست في الحكاية المقروءة بمثل هذه الفاعلية الضامة، كان العالم المحكي عنه عالمًا سويَّ التكوين متَّسقَ البنية، وبمقدار ما ألمس في ذلك العالم من أوجه النقص في طريقة بنائه، يجيء حكمي عليه بالبُعد عن الجمال الفني.

إن لذة الحياة داخل الحكاية إنما تتوقَّف على ضربٍ من النشاط الذهني أنشِّطه أثناء انتقالي من هنا إلى هناك في أرجاء ذلك العالم، وأثناء لقائي بمن ألتقي بهم من أشخاص الناس في الحكاية أحاسبهم بما أحاسب به أشخاص الناس في الحياة المألوفة الجارية، بل أحاسبهم بقوانين عالمهم الخاص؛ ولذلك فليس من مصادر جمال الحكاية نوعُ المادة التي بُني منها البناء، أمِنْ طينٍ هو، أم من حجر مصقول، بل مصادر جمالها كله هي شبكة العلاقات التي تتفاعل بها الأجزاء بعضها مع بعض؛ فقد تقرأ المقامة من مقامات الهمذاني أو الحريري فتجد صقلًا وعناية بمواد البناء، لكنك — في ظني — لا تشرب من رحيق الفن مقدار ما تشربه وأنت في عالم ألف ليلة وليلة.

وخذْ مثلًا آخرَ قصيدة من الشعر، ولتكن إحدى قصائد ذي الرُّمة التي يرسم بها لوحاتٍ حيةً من حياة الصحراء ووحشها. فها هنا أيضًا تراك وقد دخلت عالمًا فنيًّا لا تسأل فيه إن كان ما فيه يجري في العالم الواقع أو لا يجري، بل تراك تُتَابع مجرى الحياة كما ينساب في القصيدة. ولو حلَّلت سرَّ النشوة الجمالية عندئذٍ، لوجدته هو الفاعلية الذهنية الضامة الموحَّدة الرابطة التي تجعل من الحياة في القصيدة كائنًا واحدًا وإن تعدَّدت أطرافه. فافتح ديوان ذي الرمة، واقرأ أول قصيدة فيه، تجد مشهدًا بديعًا هو مشهد حمار الوحش وقد عضته وحوشٌ من غير أسرته؛ فهو يجري في الصحراء ظالِعًا وأمامه أُتُنٌ رماديةُ اللون، وهو يصيح عليها في يومٍ حار، وما يزال يجري في أثرها حتى تدنو الشمس من غروبها، وعندئذٍ يقترب من الماء الذي يطلبه منذ أول النهار. لكن هذا وهمٌ من حواسه؛ فالماء ما يزال بعيدًا، وما يزال هو يركض ركضًا سريعًا ينشد عينَ الماء، حتى ظهرت أنوار الصباح، وعندئذٍ يبلغ عينًا تصطخب فيها الضفادع، فيبحث لنفسه وللأُتُنِ عن مكانٍ مطمئنٍ ليهدأ فيرتوي، لكنه لا يكاد يفعل حتى يسمع صوتًا خفيفًا يقشعر لسمْعه؛ لأنه هو الصوت الذي يخشاه؛ صوت الصائد يتعقَّبه ويتربص له … إلخ إلخ. ألم تشعر وأنت تقرأ هذه الخلاصة المقتضبة لجزء واحد من القصيدة، أنك كنت كالذي يحيا في حلمٍ ثم أيقظناه؟ لقد كنتَ في عالَم قائم بذاته له روابطه التي تربط أرجاءه معًا في كون واحد فتجعل منه كيانًا واحدًا.

وتلك هي بعينها الفاعلية التي تحسها إذا ما قرأت أعظم الآثار الأدبية في شتَّى اللغات: في مهابهاراتا ورامايانا في الأدب الهندي، في الإلياذة والأوذيسة في الأدب اليوناني، في الكوميديا الإلهية لدانتي والفردوس المفقود لملتون، في رحلات جلفر لأولفر سويفت، في روبنصن كروسو لدانيال دي فو، وهي هي بعينها كذلك الفاعلية التي تحسها وأنت تتأمل لوحات التصوير الفني والعمائر بكل أشكالها الفنية من مساجد وكاتدرائيات وقصور وبيوت يتمثل فيها جمال الفن المعماري.

أساس الجمال في كل شيء جميل هو نفسه الأساس الذي ينبني عليه كل كائن حي، ألا وهو أن يسري بين الأجزاء رباطٌ يضمها في وحدة، وهو عند فيلسوفنا كنط الأساس الذي تقوم عليه التصورات العقلية عن الأشياء التي تصادفنا وندركها، ثم هو عنده الأساس الذي تقوم عليه الأحكام الذوقية في عالم الجمال.

٣

قد تلتقي أنظارُ الناس جميعًا على الشيء الجميل فتتفق على جماله، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدءون في التفسير والتعليل؛ فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلًا؟ أهو — في نهاية التحليل — ما به مما ينفع الناس في حياتهم الكاملة؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه بغض النظر عما ينفع وما لا ينفع؟ أم هو شيء غير هذا وذاك؟

إن لكل فيلسوف عن هذا السؤال جوابَه الذي يتفق وفلسفته العامة، وسنختار لك هذه المرة أفلوطين، وهو فيلسوف وُلد بصعيد مصر سنة ٢٠٥ ميلادية.

إننا نستطيع أن نلخِّص رأيه عن الجمال في كلمة واحدة، هي «الروح»؛ فالشيء جميل بمقدار ما يعبِّر بمادته عن روح الإله الخالق الواحد. كان أفلوطين يكتب أو يملي على عجل، ثم يدع لتلميذه فورفوريوس مراجعة الأوراق، فلما تُوفي أفلوطين، جمع فورفوريوس رسائله وقدَّم لها بترجمته لحياة أستاذه، وقد قسَّم تلك الرسائل ستة أقسام، جعل في كل قسمٍ منها تسع رسائل (مجموع الرسائل أربع وخمسون رسالة)؛ ولذلك سُمِّيت بالتاسوعات، وفي إحدى هذه الرسائل ترى رأيه في الجمال مبسوطًا في سلاسةٍ ووضوح نادرَين. فماذا يقول؟

الحاستان اللتان تتأثران بالجمال هما حاستا البصر والسمع، على أن الأشياء الجميلة قد تكون جميلة في ذاتها كما هي الحال في الأفعال الفاضلة، وقد تكون جميلة بمشاركتها في مبدأ أسمى، هو المبدأ الذي يخلع عليها جمالها بمقدار مشاركتها فيه. وأن الرواقيين ليزعمون أن هذا المبدأ الذي يُكسِب الجميلَ جمالَه هو تَناسُب الأجزاء وتَناسُق الألوان، ولو صحَّ ما يزعمون لما وصفنا بالجمال إلا الأشياء المركَّبة من جملة عناصر؛ لأن التناسب والتناسق لا يكونان — بالبداهة — إلا بين أكثر من شيء واحد. وأما إذا نظرنا إلى عنصر واحد بسيط، أو إلى لون واحد بسيط، لما رأينا فيه جمالًا، فعندئذٍ لا نستطيع أن نقول — مثلًا — إن لون الذهب جميل، أو إن النغمة الواحدة جميلة. ودَعْ عنك الجمال الذي نراه في مجالات الفكر والأخلاق والروح؛ لأن هذه كلَّها مجالاتٌ قد لا تكون كائناتها مركَّبة حتى يجوز لنا أن نقول إن في عناصرها تناسبًا وتناسقًا؛ وذلك لأن التناسب والتناسق صفتان كميتان يتناولان المقادير العددية في مقاييس الأشياء، وإذنْ فهما لا ينطبقان على الحقائق الروحية ما دامت هذه الحقائق لا عددَ فيها ولا قياس.

كلا، فما الجمال في الأشياء الجميلة إلا صفة ندركها فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شبهًا من حيث الجوهر. وعلى عكس ذلك الشيء الذي نَصِفُه بالقبح، إنما هو شيء يحمل صفةً تتنافر مع حقيقة أرواحنا؛ فالأشياء الجميلة تذكِّر الروحَ فينا بطبيعتها الروحانية؛ وذلك لأن هذه الأشياء كلها تشترك في «الصورة» المستمدَّة من عالم الروح. وإذا ما خلا شيء من تلك «الصورة» كان قبيحًا، وإذا شئت لغةً أقرب إلى الأفهام، فقُل عن هذه «الصورة» إنها هي قوة دلالة الشيء على المصدر الإلهي، أليست «الصورة» تعمل على تنسيق الأجزاء وتوحيدها في كيان واحد؟ ثم أليس معنى ذلك هو أن «الوحدة» التي تجمع الكثرة برباط يوحِّدها هي سرُّ جمال الشيء؟ وماذا تكون الوحدة في أعلى مراتبها إلا «الواحد» الذي انبثقت منه شتَّى الكائنات؟ وإذن فإدراك الوحدة في الشيء هو ضربٌ من الصعود إلى الحقيقة الإلهية الأولى.

وأترك مستوى المرئي والمسموع إلى المستوى الذي لا يتوقَّف فيه جمال الشيء على بصر أو على سمع، وهناك تدرك الروح منَّا جمالَ الشيء بغير استخدامها للحواس؛ إذ يكفيها أن تجد شبيهًا بينها وبين ما ترى، ولكن متى يكون هذا الشبه قائمًا؟ إنه يكون قائمًا حين يخلو الشيء من كل إضافةٍ لا تجانس ماهيته وطبيعته، وعندئذٍ تواجه الروح الخالصة ماهية «خالصة»، على أن روح الإنسان الرائي قد لا تكون خالصة، وعندئذٍ لا تكون روحًا جميلة، وبالتالي لا يُتاح لها أن ترى جمالًا، وذلك حين تشوبها العواطف الجموح، فتكون كأنها الجسم قد تلطَّخ بالطين، فلا مندوحة لصاحبها — إذا أراد تخليصها وتنقيتها — عن أن يزيل عنها أوشابها، ووسيلة هذا التطهُّر الروحي هي — كما قال أفلاطون في محاورة فيدون — انتهاج السلوك الفاضل؛ فالسلوك الفاضل هو بمثابة تطهير الروح من أدرانها، وحينئذٍ تصبح صورة خالصة، أو تصبح معنًى خالصًا، قوامه روحاني خالص ولا أثر للجسد المادي فيه، وحينئذٍ أيضًا تصبح الروح الصافية الخالصة شبيهةً بالله، وفي هذه المشابهة جمالها الحق، وبالروح الجميلة في صفائها ندرك الجمال في الأشياء الجميلة.

ليس الجمال صفةً حسابيةً تُقاس أبعادُها لتكشف لنا ما في الشيء من تَناسُب بين أجزائه، إنما هو في مقدار دلالة الأشياء على روحِ خالقها أو قُل هو في قوَّة التعبير الذي عبَّر به العقل الكبير عن نفسه تعبيرًا محسوسًا تراه العين أو تسمعه الأذن؛ فصور الجمال المختلفة ضروب مختلفة اختارها الروح الكلي حين أراد أن يطبع ماهيته على المادة فيصنع منها هذا الشيء الجميل أو ذاك؛ فصاحب الروح الصافية والنفس الحساسة إذا ما شهد شيئًا وتأمله فوجد في طيه «معنًى» يربط له الصلة بينه وبين الله، أو قُل بينه وبين سائر الكون، فهو عندئذٍ إنما يشهد جمالًا؛ لأنه يشهد شبهًا بين الشيء المحسوس من جهةٍ والأفكار العقلية من جهةٍ أخرى.

إن الأشياء الجميلة في هذه الدنيا، ما كانت لتكون كذلك عند المُشاهد المتأمِّل لولا أن كل شيء منها يندرج تحت نموذج في عالم الروح؛ فكائنات الأرض «نسخات» من كائنات السماء، وإدراك الجمال فيها معناه إدراكُ ما قد اندسَّ في ثناياها من هذه الكائنات السماوية؛ فبرغم أن العين هي التي ترى الشيء الجميل، إلا أنها تراه لكي تترك العقل بعدئذٍ يجاوز السطح المرئي إلى ما وراءه من معنًى كامن، وبهذا يكون الجمال مردُّه إلى الروح لا إلى المادة، إلى العقل لا إلى الحواس، إلى التأمُّل لا إلى المُشاهدة بالبصر؛ ولهذا لم يكن الجمال أمرًا مرهونًا بمزاج الفرد الواحد المُشاهد، بحيث يجوز أن يختلف الأفراد في تمييز الجميل من القبيح، بل هو أمر عامٌّ يدركه كلُّ ذي بصيرةٍ على حدٍّ سواء. نعم إن الفرد الواحد يقدِّر الشيء حين يراه «قريبًا» إلى نفسه — أي شبيهًا بها — ولكنه لم يكن هو الذي خلع عليه الجمال بميوله الشخصية ونزواته، بل الذي خلع عليه جماله هو الذي خلقه وصاغه ليكون أداةً تعبِّر عن حقيقته، وما على الإنسان الفرد إلا أن «يدرك» ما هناك، لا أن يوجده من عدم، فكأنما الإنسان الفرد المُشاهد للشيء الجميل يجد من ذلك الشيء حلقةً تربطه بينه وبين الله، وذلك حين يرى صورة الله مطبوعةً على الشيء، ثم يرى الشبه بينها وبين صورة نفسه؛ لأن أنْفُسَ الناس إنما انبثقت من النفس الكلية، وعلى غرارها جاءت.

وننتقل من هذه المبادئ الفلسفية العامة المجردة، إلى الفنان الذي يُنتِج لنا اللوحة الجميلة أو القصيدة من الشعر أو غيرهما من ألوان الفنون، فبأي مقياسٍ نقيس قيمة فنه؟ إننا نقيس ذلك بمقدار ما قد وفِّق في تجسيد «الحق» في عمله الفني، إن الفنان العظيم لا يحاكي الطبيعة أبدًا، بل يخلق بخياله خلقًا جديدًا يبث فيه «الحق»، فلئن كانت المحاكاة تنقل ما قد صادفه الفنان في حياته، فالخيال يخلق للفنان ما لم يره في حياته قط. إن الفنان العظيم لينظر بعين بصيرته إلى النماذج العقلية التي كان الله قد طبع صورتها على الأشياء المحسوسة، ينظر إليها ليستلهمها مخلوقًا جديدًا يخلقه هو في فنِّه بأن يطبع صور تلك النماذج العقلية على مادته، حتى لا يكون فرقٌ جوهري بين خلق الله وخلق الفنان من حيث طبْع المادة بصورةٍ معينة، فتتمخض عن كائن جميل. إن الفن خلْقٌ بأدقِّ معنًى لهذه الكلمة، بل بأسمى معنًى لها وأدومها بقاءً على الزمن؛ فهنالك من القيم الروحية ما ليس ينكشف سرُّه وجوهره إلا عن طريق الفن؛ وذلك لأن الفنان يتمتَّع في خلقه بحريةٍ لا تتوافر لسواه من أفراد الناس حين ينشطون في مناشط حياتهم اليومية أو حياتهم المهنية، لما يضبط هذه الحياة أو تلك من قيودٍ وحدودٍ لا يتقيد بها الفنان وهو يقيم بناءه الفني.

خلاصة الرأي عند أفلوطين — نسوقها لتتضح في ذهن القارئ قبل أن ننتقل إلى مرحلة التطبيق — هي أن الشيء الجميل جميل! يكون فيه من روح ومعنًى يجعلانه وسيطًا يَصِل الإنسانَ المتأمل بالله؛ لأن الجانب الروحاني المعنوي في الشيء الجميل شبيهٌ بالروح الإلهي من جهة وبالروح الإنساني من جهةٍ أخرى؛ ولذلك كانت النشوة عند الاستغراق في الشيء الجميل قريبةً من نشوة الحب التي تدمج نفس المحب في نفس حبيبته، فهل رأيت محبًّا صادقًا يلتمس في حبيبته جانبًا ظاهرًا كالشكل واللون والقوام، أما تراه دائمًا يلتمس فيها روحًا خافيًا عن الأعين، روحًا لا لون له ولا شكل ولا قوام؟ وحتى إن أعجب العاشق بما في معشوقته من خصائصَ بدنيةٍ كتناسق أجزاء جسدها، فهو في الحقيقة يعجب بهذه الخصائص لما هو مستتر وراءها من «صورة» تُدرَك بالعقل ولا تُدرَك بالحواس.

ما الفرق بين قطعة الحجر قبل أن يمسَّها إزميل الفنان وبعد أن يمسَّها؟ بديهي أن الحجر لا يستمد جماله بعد نحته من كونه حجرًا، وإلا لتساوى التمثال المنحوت في قيمته الجمالية مع أي حجرٍ آخر في مثل حجمه ووزنه، بل يستمدها من الصفة التي أضافها الفنان إليه، وهي صفةٌ لم تكن في قطعة الحجر بادئَ ذي بدء، بل كانت في نفس الفنان — لا من حيث هو كائن ذو عينين ويدين — بل من حيث هو كائن ذو خيال؛ ففي خيال الفنان كانت تكمن الصورة الفنية التي سينقلها بإزميله إلى قطعة الحجر، وإذن فقطعة الحجر بعد نحتها تمثالًا إنما استُحدِث جمالُها من الروح — أي من الخيال — لا من أية ظاهرة مادية في الحجر أو في غيره من أشياء.

إن الجمال — في الفن وفي الطبيعة على السواء — ليستقي قيمته كلها من كونه وسيلةً تُبرِز الروح الإلهي في جوهرها وصميمها، فترى هذا الروح مشعًّا خلال القطعة الفنية أو خلال المنظر الطبيعي، مشعًّا من التمثال أو من الصورة أو من مقطوعة الشعر أو الموسيقى، ولو كان الأمرُ أمرَ تناسُبٍ في الأجزاء الظاهرة من الجسد أو من المادة المستخدمة في البناء الفني، لكان الوجه الجميل جميلًا وهو حي كما هو جميل وهو ميت على السواء، لكن لا، إن العِبرة كلها هي بما وراء السطح الظاهر من روحٍ ومعنًى.

وننتقل الآن إلى أمثلةٍ تطبيقية لهذه الفلسفة الجمالية التي عرضناها، وأول مَثَل أسوقه هو تمثالٌ أجمعَ رجالُ الفن على تقديره، ألا وهو تمثال نفرتيتي المعروف، فأين سرُّ جماله؟ أهو في كونه كتلةً من الحجر الجيري؟ أم هو في المعاني الكامنة وراء ملامحه؟ ألا ترى سرَّ جماله هو في طائفة كبيرة من المعاني والقيم تتزاحم عليك وأنت تتأمَّله، منها هذه الأَنَفَة التي تترفَّع عن ظواهر الخلاعة والاستهتار الرخيص، ولكنها أَنَفَة تجيء في هدوء، صادرة عن نفسٍ مرسَلة على سجيتها، فلا تكلُّف فيها ولا تصنُّع، إن في الوجه قوةَ روحٍ ومَضَاءِ عزيمةٍ وإرادة، لعلهما نابعان من وضوح ملامحه ومن بروز عظام الخدَّين والذقن، ولكنه وضوح تنبسط فيه الأسارير ولا تتجهَّم؛ فالجبهة مشرقة، والفم رقيق باسم في هدوء وفي وداعة، والعنق طويل يوحي إليك بالرشاقة المصاحِبة لجلال العظمة الآمرة المسيطرة، فهل في وُسعك أن تنظر إلى رأس نفرتيتي نظرةً فيها ابتذال أو سخرية؟ هل في وُسعك أن تنظر إلى هذا الرأس ولا يرتسم في خيالك الوجودُ الذكي اليَقِظ الواعي المرهف الحسَّاس؟ هل في وُسعك أن تنظر إليه ثم تشعر بالعبث والتفاهة والفوضى؟ لا أظن ذلك، وكلُّ ما سيطوف بذهنك وأنت تنظر إليه متأملًا هو صفاتٌ مما ننسبه للكائن الإلهي في سموه وسمائه، وما يتشوق الإنسان إلى محاكاته فيها، وذلك هو الجمال الحق بالمعنى الذي أراده أفلوطين كما فهمناه وشرحناه.

ونسوق مثلًا آخرَ من روائع الأدب العالمي: الكوميديا الإلهية لدانتي، فأي شيء ندرك حين ندرك فيها جمالًا؟ أهو مجرد الارتحال في أرجاء الجحيم وفي الأعراف ثم الفردوس؟ أم هو النفاد خلال تفصيلات الرحلة إلى ما يكمن وراءها من روحٍ ومعنًى؟ إن رحلة دانتي في قصيدته الكبرى هذه تبدأ بأن يجد نفسه ضالًا في غابةٍ مظلمة لا يهتدي فيها إلى مسلكٍ يُخرِجه منها إلى حيث الفضاء والنور، إلا إشعاعًا ضئيلًا يتسلل إليه خلال ثغرة فيها، فيسرع على هداه لعله ينجو قبل أن يَغرُب، لكنه لا يلبث أن يجد وحوشًا ثلاثةً تسُدُّ عليه الطريق: ذئبة وأسدًا وفهدًا، فيرتد إلى الظلام يتخبط فيه من جديد، إلى أن يصادف فرجيلَ فيطلب منه الأخذ بيده إلى طريق النجاة، لكن فرجيل يبيِّن له أن طريق الخلاص طويلٌ تكتنفه الصعاب، فلا بد له أولًا من اجتياز درجات الجحيم كلِّها قبل أن يصعد إلى الأعراف حيث يتطهَّر، وعندئذٍ فقط يستطيع الصعود إلى الله. لكن هداية فرجيل تنتهي عند الأعراف، وسيتولى هدايته بعدئذٍ إلى الشهود الإلهي روحُ حبيبته بياترتش.

ذلك هو المخطَّط العام للرحلة، لكن المتأمِّل في تفصيلات القصيدة وفي طريقة بنائها، سرعان ما يجد نفسه قد سما إلى منزلةٍ روحانية لعلها هي المنزلة التي أرادها الشاعر لنفسه وللناس، وفي هذا السمو إلى مرتبةِ الروح سرُّ جمال الكوميديا الإلهية، فما الغابة المظلمة التي وجد نفسه فيها إلا حياة الخطيئة والرذيلة والشر التي عاشها الشاعر وهو بعدُ بين الأحياء على وجه الأرض، وما الضوء الذي تسلَّل إليه وأغراه بمحاولة الخلاص إلا قبس من الله، لكن أين المفر والوحوش الثلاثة تسُدُّ عليه الطريق؟ وهي رموز مأخوذة من سِفْر أرميا لترمز إلى الرذايل الأساسية الثلاث كما أوردها أرسطو، وهي رذيلة الجشع حين تنحرف الغريزة، وهذه هي الذئبة، ورذيلة الضراوة والافتراس حين تنحرف شجاعة القلب عن حدِّها المعقول، وهذا هو الأسد، ثم رذيلة الغش والخداع حين ينحرف الذكاء عن طريق الخير إلى حيث المكيدة والغدر، وهذا هو الفهد. فلما أن التقى فرجيل به ليهديه، كان رمزًا لما ينبغي للخَلَف أن يتمسَّك به من تراث السلف؛ فعلى هداية أسلافنا نستطيع أن نشق طريقنا إلى مستقبلٍ مرجوٍّ مزدهر. كما يرمز كذلك فرجيل إلى حكمة العقل؛ ولذلك فلن يهديه هذا الحكيم العاقل إلا إلى حدٍّ محدود، وهو الخروج من الجحيم إلى حيث الأعراف. وأما الطريق من الأعراف إلى الله فتلزم لها هدايةٌ من نوعٍ آخرَ غير حكمة العقل؛ يلزم لها الحب، ويلزم لها القلب، ويلزم لها الإيمان؛ ولذلك فالهداية عندئذٍ متروكةٌ لمن ترمز عند دانتي إلى الحب والقلب والإيمان؛ إذ هي متروكة لبياترتش بعد أن فرغ «العقل» (أي فرجيل) من مهمته إلى آخرِ حدودها المستطاعة.

وماذا أقول لك في مرامي هذه القصيدة الكبرى، إلا أن تقرأها مشروحةً لترى بنفسك كيف يكمن سرُّ جمالها في الصعود بك وراء تفصيلاتها الظاهرة إلى حيث الوجود الإلهي الخالص وذلك هو مكمن الجمال في كل شيء جميل، على مذهب أفلوطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤