حاضر الثقافة العربية

١

للفكر العربي — المعاصر منه وغير المعاصر على السواء — موقف يتكرَّر بصورة متشابهة، كلما التقى بثقافةٍ وفدت إليه من خارج حدوده، وهو موقف يتلخَّص في أنه، بعد أن يفتح نوافذه للثقافة الوافدة، حتى يتم لها انتشار ورسوخ في دوائر العلم والفلسفة والفن بدرجةٍ ملحوظة ومؤثرة، ينهض من هذه الدوائر نفسها، مَن يخشى على الهوية الإسلامية العربية أن تضيع، فيعلن معارضته للثقافة الوافدة، معارضةً لا بقيمها على مجرَّد الرفض الأبكم، بل بقيمها على مناقشةٍ لمقوِّماتها، ملتمسًا فيها مواضع ضعف وتناقض، أو مواضع تَعارُض مع الشريعة الإسلامية، أو مع المبادئ الأولية لوجهة النظر العربية إلى الكون وإلى الإنسان.

على أن هذه المعارضة نفسها، لا تلبث أن تستثير مَن يتصدَّى للدفاع عن الثقافة الوافدة، مؤسسًا دفاعه في أغلب الحالات، على أنه لا تَعارُض بين الأفكار الجديدة والشريعة الإسلامية، أو بينها وبين الوقفة العربية، وإنما هي أفكارٌ من شأنها أن توسِّع وأن تطوِّر وأن تغذِّي، دون أن تعمل على الهدم أو الإبادة، وقد يحدث أحيانًا أن يظهر بين الطرفين فريقٌ ثالث يختار لنفسه موقفًا وسطًا، يبتغي به إقامة كِيان ثقافي جديد، يجمع بين مقوِّمات الطرفين في صيغة ثالثة.

ومَن يُمعِن النظرَ في بنية الفكر العربي في عصره القديم، وبنيته في العصر الحديث، يلحظ بين الحالتين تشابهًا شديدًا؛ ففي كلتا الحالتين فتحت النوافذ بغير تحفُّظ أمام ثقافةٍ تجيء من خارج، والذي يهمنا في هذا المقام، هو ما جاء من «الغرب» في كلتا الحالتين: من التراث اليوناني في الحالة الأولى، ومن أوروبا وأمريكا بصفة عامة في الحالة الثانية، وفي كلتا الحالتين كان النقل على نطاق واسع، بل وبتدبير من الدولة؛ فالشَّبه قريب بين «دار الحكمة» التي أنشأها الخليفة المأمون في بغداد في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع الميلادي، لتقوم بترجمة الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني، وبين «مدرسة الألسن» التي أنشأها محمد علي في مصر في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، لترجمةِ ما أمكن نقله من الفكر الأوروبي الحديث، وجعل الإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي.

وفي كلتا الحالتين (العصر القديم والعصر الحديث) تغلغل الفكر المنقول في شرايين الحياة الثقافية، فبات أثرُه واضحًا فيما يُكتب وما يُقال، حتى إذا ما بلغ ذلك مداه، وخيف أن يتجاوز المدى إلى الحد الذي يهدِّد الطابع الأصيل للفكر العربي عامة، وللشريعة الإسلامية بصفة خاصة، نهض من الأعلام البارزين مَن يقاومه، ببيان ما انطوى عليه من تناقض، ولقد بلغت المقاومة في العصر القديم فنَّها في «الغزالي» بكتابه «تهافت الفلاسفة» الذي أراد به أن يُظهِر مواضعَ التناقض في الفلسفة اليونانية (وفلسفة أرسطو بصفة خاصة) كما أراد به في الوقت نفسه أن يشير إلى الخطر الذي يتهدِّد العقيدة الإسلامية بتأثير تلك الفلسفة، ويقابل ذلك في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، بكتابه «الرد على الدهريين» (أي الرد على أصحاب الفلسفة المادية)؛ إذ اضطلع الأفغاني — وبعده الشيخ محمد عبده — بالمهمة نفسها، وهي أن يناقش المذاهب المادية التي شاعت في أوروبا إبَّان النصف الثاني من القرن الماضي، ومنها نظرية التطور التي أخذ بها دارون، مناقشةً أراد بها إظهارَ مواضع الخطأ كما يراها، ثم أراد في الوقت نفسه أن يبيِّن خطورة تلك المذاهب على العقيدة الإسلامية.

وفي كلتا الحالتين — العصر القديم والعصر الحديث — لم تكن تلك المقاومة لتفلت دون أن يتصدَّى لها مؤيدون للثقافة الجديدة الوافدة، ولقد كانت المواجهة التي قامت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت»، لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر الإسلامي العربي في هذا الصدد؛ إذ لم يكن الأمر في تلك المواجهة مقصورًا على كتابٍ أصدره صاحبه ليفنِّد به كتابًا أصدره مؤلِّف آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة مليء بأمثال هذه المعارضات، التي يرُدُّ بها فيلسوفٌ على ما نشره فيلسوف آخر، بل إن المعارضة التي قامت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، كانت في حقيقتها تعارضًا بين وقفتين حضاريتين، ونظرتين ثقافيتين، فكأنما الاختلاف بين الرجلين كان اختلافًا حول الإجابة عن هذا السؤال: أنأخذ حضارةً معينة بعض أصولها الثقافية من حضارة أخرى؟ لا سيما إذا كانت الحضارتان من لونين مختلفين، أم إن في هذا الأخذ خطرًا على المتلقي أن تنمحي هويته في هويةِ مَن جاء منه العطاء؟ ومن أجل هذه النقطة ذاتها، كان المؤيد للنقل عن الآخرين، يستند دائمًا إلى الزعم بأن مثل هذا النقل لا يتعارض مع الملامح الرئيسية للثقافة الناقلة.

وكما تصدَّى ابن رشد قديمًا للغزالي في ثورته على فلسفة اليونان المنقولة إلى الثقافة العربية، كذلك تصدَّى كثيرون في عصرنا الحديث للذين أرادوا مقاومة الأخذ عن ثقافة الغرب؛ فإلى جانب الأفغاني في «الرد على الدهريين» كان هناك شبلي شميل الذي بذل جهده كله دفاعًا عن تلك المذاهب المادية التي هاجمها الأفغاني، ولو استعرضنا الفكر العربي خلال ما انقضى من القرن العشرين، لوجدناه سلسلةً من مواجهاتٍ جاءت على هذا النمط: فكرٌ يأتي من الغرب، فيسري في حياتنا الثقافية، فينهض مَن يقاومه لخطره على الطابع الأصيل، فلا يلبث أن يظهر من أنصار الجديد مَن يدافع عن الفكر الوافد، بحجَّة أنه مصدر قوة لنا لا مصدر ضعف.

والذي نلحظه في هذا التعاقُب بين النقل عن الآخرين، ثم معارضة المنقول، ثم معارضة المعارضة، هو أنه — في جميع الحالات تقريبًا — كان الأقدر على البقاء على طول المدى، هو الطابع الأصيل التقليدي الموروث، ولكنه يبقى بعد أن يكون قد امتلأت خلاياه بغذاء صحي مما استمده من الثقافات الأخرى، ولا غرابة — إذن — أن نجد اللقاء الحاد بين الغزالي من جهة وابن رشد من جهة أخرى، قد انتهى إلى رسوخ الغزالي في الوجدان العربي والإسلامي، على حين أن ابن رشد كادت تقتصر أهميته على الغرب، عن طريق شروحه للفلسفة الأرسطية، وكذلك ما حدث في اللقاء الفكري بين أنصار التقليد وأنصار التجديد في حياتنا المعاصرة؛ فالبقاء الأقوى هو لأنصار التقليد، ولكنه بقاء أُترِعت شرايينه بدماء الفكر الجديد.

٢

على أنه إذا كان هناك ذلك الشبه في خطوات التعاقب التي شهدها الفكر العربي قديمًا والفكر العربي حديثًا، فهنالك بينهما من اختلاف ما له في موضوعنا هذا أهمية كبرى، وذلك أن الأمر في الحالتين قد تغيَّرت صورتُه تغيُّرًا بعيد المدى، من حيث درجة التركيب، فبينما هو في الحالة الأولى لم يزِد على لقاء بين موضوعين، أحدهما — وهو الشريعة الإسلامية — قائم وأصيل، والآخر — وهو الفلسفة اليونانية — وافد ودخيل، نراه في الحالة الثانية قد كثرت عناصره وتعقَّدت، ولم يَعُد لقاء بين موضوعين، بل أصبح لقاءً بين أكثر من موضوع في الجانب الأصيل، وأكثر من موضوع في الجانب الوافد.

فها هنا شريعة إسلامية يُراد لها أن تُصان، كما كانت الحال في الموقف القديم، لكننا أضفنا إليها في موقفنا الحاضر لغة عربية وأدبًا عربيًّا وعددًا كبيرًا من نظم الحياة كما كانت قائمة، ثم وفد إلينا كذلك جملة عناصر متشابكة دفعة واحدة، فجاءت العلوم الحديثة على اختلافها، وجاءت معها أجهزتها والآلات الناجمة عنها، وجاءت إلينا فنون الغرب بشتى ألوانها، من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، كما جاءت معها صور جديدة للأدب لم تألفها من قبل، إذ جاءت المسرحية والقصة (بمعناها في الأدب الغربي)، ثم جاءت إلينا مع العلوم والفنون وصور الأدب، نظم لم تكن هي النظم السائدة عندنا، نظم في الحكم وفي الاقتصاد، وفي القضاء، وفي التعليم، وفي سائر جوانب الحياة، فكان محالًا — والحالة هي هذه — أن يقتصر الأمر على ما اقتصر عليه في الموقف القديم، بأن تنحصر المسألة في عملية التوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، بحيث أصبح الحل عندهم — أو أوشك أن يكون — قراءة للفلسفة بلغة الشريعة، أو قراءة للشريعة بلغة الفلسفة، فتزول بذلك أوجه التباين بين الجانبين، بل تعقد الأمر في موقفنا الحديث تعقدًا تعذر علينا معه أن نجد له حلًّا حاسمًا إلى يومنا هذا.

لقد بدأ اللقاء الثقافي الجديد منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وكانت نقطة البداية هي الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية، بعد بيات شتوي دام نحو ثلاثمائة عام، بالثقافة الأوروبية الحديثة، وعندئذٍ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتًا، كلٌّ منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابًا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا — بعد ما يزيد على قرن ونصف قرن — مشتتة الفكرة، متفرقة الرأي، تتباين — وهي متجاورة — تبايُنَ الألوان في طيف الشمس.

فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الغربية الحديثة أشد الجزع، ويَعدُّها ثقافة دخيلة تستهدف التسلُّط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن من التراث العربي الإسلامي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة، وكأن عشرة قرون لم تذهب من عمر الزمان، وأما الطرف المتطرف الآخر، فيفرح بالثقافة الغربية الجديدة فرحة الأطفال باللعب والهدايا، يقبلونها ولا يحللونها، ويلمسون أسطحها ولا يتعمقونها إلى ما وراءها؛ فهؤلاء يُفزِعهم أن تذكر لهم شيئًا عن تراث عربي، ينبغي له أن يخرج إلى الضوء ليحيا بنا ولنحيا به، وبين هذين الطرفين، تجد صنوفًا شتَّى من الأمزجة، التي تأخذ بطرَف من هنا وطرَف من هناك، بنسب متفاوتة.

فمنهم مَن يقبل الغرب كلَّه وتراثنا العربي كلَّه، ويحسب أن الجمع بينهما في تَجاوُر أمرٌ ممكن، كما صنع العقاد، ومنهم مَن يَقبل الغرب كله، وبعض التراث العربي دون بعض كما صنع طه حسين، ومنهم مَن يَقبل التراث كله وبعض الثقافة الغربية دون بعض، كما صنع محمد عبده في قبوله للعلوم الحديثة، ومنهم مَن يتحفَّظ في قبول التراث وفي قبول الغرب معًا، بمعنى أن يجري التعديل في كليهما، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم، ومنهم مَن يكاد يرفض الجانبين معًا، فلا هو قد تعلَّم شيئًا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية كما هي، خشيةَ أن يُقال عنه إنه متنكِّر لأصوله، وأمثال هؤلاء تراهم اليوم بكثرة، خصوصًا في ميادين الأدب من شعر وقصة ومسرحية؛ ومن هنا جاءت سطحيتهم، ولكن من هنا أيضًا جاء السر في إبداعهم الذي يحاولونه بدرجاتٍ متفاوتة من التوفيق، وذلك لأنهم حين أزاحوا عن عواتقهم القيودَ التقليدية أو المنقولة عن الغريب، انفسح أمامهم مجالُ الخلق الجديد.

ولكن هذا كله قد حدث حينما كان أمامنا قديم وجديد موضوعَين جنبًا إلى جنب، فكان علينا أن نختار بينهما، أو أن نمزجهما في مزيج واحد، وأما في الميادين التي لم يكن أمامنا فيها إلا بديل واحد: فإما هو قديم لم ينافسه جديد، وإما هو جديد لم ينافسه قديم، فلم يختلف فيه الرأي عندنا إلا قليلًا؛ فليس بيننا — مثلًا — مَن يتشكك في أن تكون لغتنا العربية هي الأداة الرئيسية في نقل الثقافة ونشرها، كما أنه ليس بيننا — من الجهة الأخرى — مَن يتشكك في تقبُّل العلوم الحديثة بأجهزتها وآلاتها.

خليط متباين الخطوط كما ترى، وهو خليط يدل على أننا لم نُفِق بعدُ من هول الصدمة التي اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الغربي الحديث، ولا عجب — إذن — أن يمضي على بدء نهضتنا الحديثة أكثرُ من قرن ونصف قرن، دون أن يكون بين أيدينا الصيغة الثقافية الجديدة التي نطمئن إليها.

ونتج عن غياب هذه الصيغة، أن أصبحت ردود أفعالنا لفروع الفكر الوافد إلينا من الغرب، ردودًا تختلف باختلاف الموضوع، ومع ذلك فنحن في كل موضوع على حدة لا نلتقي جميعًا على رأي واحد، وحتى أكثر هذه الموضوعات قبولًا، وهو العلم الحديث بميادينه المختلفة، فنحن إلى اليوم مختلفون تجاهه من عدة وجوه، مختلفون في أمرِ تعريبه، فمنا مَن يأخذ بالتعريب الكامل لكل الميادين، لكي نصبَّ ثقافة العصر في لغة عربية، فيجوز عندئذٍ — وعندئذٍ فقط — للعربي أن يقول إنه يعيش عصره حقًّا، ومنَّا مَن يريد أن يُقصِر التعريب على ميادين دون أخرى، فلا بأس عند هؤلاء أن تظل موضوعاتٌ كالطب وبعض العلوم الأخرى في لغة أوروبية — اللغة الإنجليزية بصفة خاصة — بحجة أن تلك العلوم سريعةُ التغيُّر، ويتعذر على التعريب أن يلاحقها.

على أن قبولنا العام للعلوم الحديثة، لا يشمل العلوم الإنسانية؛ إذ إننا في هذا المجال مختلفون اختلافاتٍ بعيدة، وعلة ذلك هي أننا حين نكون بصدد علومٍ تَمَسُّ الإنسان وحياته، فنحن بالتالي نكون أمام صنوفٍ من الرأي قد تمَسُّ القيم الموروثة التي نَعُدُّها جزءًا من كياننا، وقد يبلغ اختلاف وجهات النظر بيننا في العلوم الإنسانية الحديثة، حدًّا يجعل بعضنا يطالب بعلم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي، وعلم اقتصاد إسلامي وهكذا، على أن ما يَلفت النظر في هذا السياق هو أن الفكر السياسي — على خطورته البالغة في حياة الإنسان — قلما نسمع مَن يطالب جادًّا بفكر إسلامي في السياسة، وحتى إن وجِد مَن يطالب بهذا، فإن مطالبته عندئذٍ تكاد تخلو من دقة المعنى، ولذلك فنحن في هذا المجال الهام — من الناحية العملية — إذا انقسمنا فيما بيننا، فإنما يجيء انقسامنا داخل إطار الفكر السياسي الآتي إلينا من الغرب، من حيث صورة الدولة والمفاهيم الرئيسية التي يُقام عليها نظام الحكم.

وننتقل من دنيا العلوم إلى عالم الفنون والآداب، فترانا كذلك بغير صيغة موحَّدة من حيث قبول الفن الغربي أو رفضه، ومع ذلك فاختلافنا في هذا المجال تتفاوت درجاته في الفروع المختلفة؛ فالرفض هو الراجح بالنسبة إلى الموسيقى، وقليلون جدًّا هم الذين يناصرون الأخذ عن الموسيقى الغربية، ومع ذلك فالتيار جارف بسرعة متزايدة نحو تطعيم الموسيقى العربية بعناصر من الموسيقى الغربية، وأما في الفنون التشكيلية، التصوير والنحت، فالأمر على عكس ذلك تمامًا؛ لأن الأصل هنا هو مسايرة المدارس الفنية التي تنشأ في الغرب، فإذا سمعنا صيحة احتجاج من هنا أو من هناك، تطالب بأن نرتد إلى أصولنا الفنية، كان رجع الصدى عند رجال الفن هو أن يقحموا على أعمالهم بعض العناصر المحلية، ليضفوا على تلك الأعمال طابعًا يحمل خصوصية الإقليم، والذي يبرِّر لرجال الفن أن يركنوا إلى مسايرة الغرب، هو أن تراثنا في الفن التشكيلي يرتد إلى الماضي السحيق — كالفن الفرعوني بالنسبة للفنان المصري — فلا يكون ملزمًا لبُعد المسافة التاريخية، ومع ذلك فلا يخلو الأمر من مثل هذا الارتداد الذي يستلهم الفنان فيه ذلك الفن القديم، كما نرى — مثلًا — في نابغة النحت المصري الحديث محمود مختار.

وفي ميدان الأدب مفارقة تستوقف النظر، وهي أنه على الرغم من أن موروثنا في الأدب أغزر من موروثنا في أي ميدان آخر، فذخيرتنا في الشعر بصفة خاصة، وفي الفن الأدبي بصفة عامة، تُعَد ركيزةً أساسية في بنية الثقافة العربية، وموضع اعتزاز عند المثقف العربي، حتى لقد رفض القائمون على حركة الترجمة التي نشطت في القرن التاسع الميلادي في نقل الثقافة اليونانية القديمة، أن ينقلوا شيئًا من أدب اليونان، واكتفَوا بنقل الفلسفة والعلم، وكان السبب في موقفهم ذاك — ربما ضِمن أسباب أخرى — أنهم لم يشعروا أمام إنتاجهم الأدبي الخاص، بحاجةٍ تدعوهم إلى اللجوء إلى أدب الآخرين، أقول إنها مفارقة في موقفنا الآن من أدب الغرب، إنه برغم غزارة تراثنا الأدبي وارتفاع مستواه، كان تأثُّرنا بأدب الغرب أقوى ما يمكن أن يكون التأثُّر، حتى لقد تحوَّل مركز الاهتمام من الشعر (والشعر هو من أبرز ملامحنا التقليدية) إلى القصة والمسرحية، وهما صورتان من الأدب منقولتان عن الغرب؛ إذ لم يكن للأدب العربي قبل ذلك عهدٌ بأيٍّ منهما، فلا القصة بمعناها في الغرب الحديث، ولا المسرحية، كان لها وجود عندنا، وحتى الشعر، الذي قال عنه الجاحظ قديمًا إنه أميزُ ما يميز العبقرية العربية، قد تأثَّر في عصرنا هذا بالاتجاهات الجديدة في شعر الغرب، إلى الحد الذي تنكَّر فيه كثيرٌ من شعرائنا المحدثين لتراثنا الشعري في كثرته الغالبة.

وتبقى كلمةٌ نقولها في مجال الفكر الفلسفي عندنا اليوم؛ فها هنا لا يصعب على الرائي أن يلحظ تيارَين يسيران جنبًا إلى جنب، لا يكاد الواحد منهما أن يؤثِّر أو أن يتأثر بالآخر، أحدهما يُعيد إلى الضوء أعمالَ الفلاسفة المسلمين الأقدمين، إما عن طريق إعادة نشر تلك الأعمال نشرًا علميًّا محققًا، وإما عن طريق التأليف الجديد الذي يَعرض ما تضمنته تلك الأعمال، وفي كلتا الحالتين يندُر جدًّا أن يجيء العرْض الجديد على صورة نقدية؛ إذ الأغلب أن تُحاط المادة المعروضة بهالة من التمجيد، وأما التيار الآخر فهو أصداء للمدارس الفلسفية في أوروبا وأمريكا، وكان من حسن الحظ أن وجدت كلُّ مدرسة من تلك المدارس أنصارًا بيننا، لا يكتفون بمجرد النقل، بل هم يطبعون ما ينقلونه بلمسات من ذواتهم، توشك معها المادة المنقولة أن تصبح وكأنها إنتاج عربي معاصر.

ولا بد لنا في سياق هذا الحديث عن الفكر الفلسفي أن نذكر حركةً قوية لها مغزاها، وأعني بها تلك الجهود التي تُبذل من بعض المختصين في سبيل إقامة الأدلة على أن الفلسفة الإسلامية كما ورثناها عن أسلافنا، ليست مجرد انعكاسٍ لفلسفة اليونان الأقدمين كما هو الظن عند كثير من مؤرخي الفلسفة الغربيين، بل إن فيها من الأصالة ما يجعل لها كيانًا مستقلًّا قائمًا بذاته، وكان مصطفى عبد الرازق في أربعينيات هذا القرن هو الرائد في هذا الاتجاه، ثم تبعه آخرون من الباحثين القادرين.

خلاصة القول هي أننا في التقائنا بثقافة الغرب في عصرنا، لم نكن على موقفٍ واحد في شتَّى مجالات الفكر والفن والأدب، بل تنوَّعت ردود الفعل بتنوُّع الميادين، وتفاوتت شدة وضعفًا؛ فقد ننقل نقلًا كاملًا في مجالٍ كمجال العلوم، وقد نتحفظ في النقل كثيرًا أو قليلًا في مجالاتٍ أخرى؛ فلم تكن حالنا في هذا العصر شبيهةً كلَّ الشَّبه من حيث درجة التعقيد والتركيب بحالة أسلافنا في القرن التاسع عشر عندما وقفوا من أوروبا وغيرها، مثل وقفتنا اليوم، وربما عزونا ذلك — من بعض الوجوه — إلى فارقٍ هامٍّ بيننا وبينهم؛ فبينما هم كانوا ينقلون عن سواهم حين كانوا هم في موضع القوة والريادة، ترانا اليوم حين ننقل عن الغرب، فإنما نفعل ذلك في وقتٍ يمسك الغرب خلاله بزمام القيادة والريادة.

٣

على أنه إذا كانت ردود فعلنا على ثقافة الغرب الحديث قد تفاوتت فيما بينها، قبولًا ورفضًا وشدة وضعفًا في المجالات المختلفة، فلا يصعب علينا برغم هذا التفاوت أن نرى وراء هذا التنوُّع شيئًا من التجانس في الخطوط الرئيسية، هو الذي يحدِّد ملامح الفكر العربي الحديث، ويمكن النظر إلى هذا التجانس على درجتين:
  • الأولى: هي أن ننظر إلى الفكر العربي المعاصر إبَّان سنوات القرن العشرين على مرحلتين، ولنأخذْ عشرينيات القرن نموذجًا للمرحلة الأولى، والسبعينيات نموذجًا للمرحلة الثانية، فعندئذٍ تسهُل علينا رؤية الوجوه المتجانسة في كل مرحلة على حدة (وسنرى بعد قليل أن كلتا المرحلتين تعودان فتلتقيان في أسسٍ واحدة).

    أما في العشرينيات، التي كانت قد بدأت بثورةٍ سياسية تطالب بالحرية السياسية من المستعمر الأوروبي، فقد تفجَّرت عدة ثورات فرعية تلتمس الحرية في كل ميدان من ميادين الحياة الثقافية: الموسيقى، والشعر، والنقد الأدبي، والفنون التشكيلية، والدراسات الأكاديمية، ولم تَقُم تلك الثورات الفرعية على نزواتٍ سرعان ما تختفي، بل قامت على نهج مستقيم ثابت، كان قوامه ذا شطرين: إحياء التراث بالطرق العلمية، وعرض الفكر الأوروبي عرضًا محايدًا، وكان الأمل أن يلتقي ذاك الشطران فيتولَّد عنهما وليدٌ جديد يكون هو الفكر العربي المعاصر، المطبوع بطابع العربية من جهة وبطابع العصر من جهة أخرى، وكان الأغلب أن تجتمع تلك الأضلع الثلاثة في الرجل الواحد من الأعلام الرائدين؛ فطه حسين — مثلًا — أحيا التراث وعرض ثقافة أوروبا وأنتج الفكر الأصيل المبتكَر المستند إلى ذينك المصدرين، في وقتٍ واحد، وكذلك فعل العقاد، وفعل توفيق الحكيم، وفعل الدكتور هيكل، وغيرهم من رجال العشرينيات.

    كانت تلك النظرة غير المتحيزة هي وجه التجانس إبَّان العشرينيات، التي نَعُدها بحق ذروة عصر التنوير في تاريخنا الفكري المعاصر، وأما السبعينيات فقد سادها تجانس من نوعٍ آخرَ مضاد، هو العودة إلى أحكام الشريعة الإسلامية في شتَّى الميادين، وهي عودة تشيع فيها روح الرفض لثقافة الغرب إلى حدٍّ كبير.

  • والثانية: هي أنه برغم التناقض الظاهر بين المرحلتين، فليس من العسير أن نكشف لهما معًا عن جذورٍ مشتركة، هي التي نراها ممثَّلة للفكر العربي المعاصر في صميمه، وتتلخَّص تلك الجذور في مطلبين نسعى جميعًا إلى تحقيقهما، وإن تفرَّقت بيننا سبل الوصول، وهما: تثبيت الهوية العربية من جهة، وسد الفجوة بيننا وبين علوم العصر العقلية من جهة أخرى، أما تثبيت الهوية العربية فهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمطلب الحرية، فليس بخافٍ أن المستعمر للشرق العربي فترة من الزمن، كان أوروبيًّا ومسيحيًّا في آنٍ واحد، فكيف السبيل إلى التخلُّص من ذلك المستعمر إلا أنْ ألوذ بحياةٍ إسلاميةٍ خالصة، وأن أقف موقف الحذر من ثقافة أوروبا التي منها جاء ذلك المستعمر؟ ونتج عن هذه الوقفة نفسها أن أحاول نشر التراث العربي والإسلامي، مع الاجتهاد في شرحه شرحًا يبيِّن أنه في صميمه لا يتعارض مع متطلبات العلم الحديث منهجًا ومضمونًا.

    فلو استثنينا عددًا قليلًا من رجال الفكر في الوطن العربي منذ ما يزيد على مائة عام، وهم أولئك الذين لا يجدون بأسًا في أن ننقل الثقافة الغربية الحديثة بحذافيرها وبغير تحفُّظ أو حذر، أقول إننا لو استثنينا ذلك العدد القليل من المتطرفين نحو الغرب، وجدنا الكثرة الغالبة من رجال الفكر حريصةً كلَّ الحرص على تثبيت الهوية القومية بكل الوسائل الممكنة، من إحياء التراث القديم ونشره على أوسع نطاق ممكن، والعودة بكل إخلاص إلى الشريعة الإسلامية كما كانت في أصفى عصورها الأولى، إلى الرغبة الشديدة في بعث الفنون الشعبية والأدب الشعبي (فولكلور)، والزهو بارتداء الثياب الدالة على الانتماء إلى الوطن، واختصارًا فإن الكثرة الغالبة من المفكرين منذ ما يزيد على قرنٍ من الزمان، لا تألو جهدًا في إبراز الخصائص الذاتية بكل وسيلة ممكنة.

    لكنها وهي تسعى نحو هذه الغاية لرد اعتبارها بعد فترة طويلة من تحكُّم المستعمر الغربي، لم يَفُتها أن تتقبَّل التحدي الكبير الذي يلقيه العصر، ألا وهو العلم الحديث بكل فروعه الطبيعية والرياضية والاجتماعية، وما صحب تلك العلوم من تكنولوجيا، فكان جواب الفكر العربي المعاصر على هذا التحدي، هو الإصرار على أن الإسلام يقبل بل ويحض على انتهاج مناهج العلم كائنة ما كانت على اختلاف عصورها؛ لأن تلك المناهج قائمة على منطق العقل، ومنطق العقل هو ما يتميَّز به الإسلام في دعوته الصريحة المتكررة للتفكير المستند إلى إقامة الدليل، ونظرة سريعة إلى ما تُخرِجه المطابع العربية خلال ربع القرن الأخير، كافية لإدراك النسبة الكبيرة التي ظفرت بها المؤلَّفات التي أُريد بها بيان الاتساق الكامل بين ما جاء به الوحي، وما انتهت إليه علوم العصر.

    ولسنا نذكر هذه الحقيقة هنا لنؤيدها أو لندحضها، بل لنقرِّر بها الأمر الواقع فيما يختص بالصفات الرئيسية المميزة للفكر العربي المعاصر؛ فمنذ الشيخ محمد عبده ومحاولاته الناجحة في معظم الحالات، بأن يفسِّر مبادئ العقيدة الإسلامية وأحكام شريعتها، تفسيرًا يبيِّن به أن تلك المبادئ ليس فيها ما يتعارض مع علوم عصرنا، أقول إنه منذ نهج محمد عبده هذا المنهج، بات هو المنهج الذي يرسم خطوات السير لرجال الفكر جميعًا (باستثناء القلة التي ذكرناها) إلى يومنا هذا، مع اختلافاتٍ فرعية داخل هذا الإطار، خصوصًا فيما يتصل بالعلوم الاجتماعية إذا ما مست شيئًا من قيم الحياة الأساسية.

    على أن هذا الموقف السلبي الذي يلوذ بحصنه التاريخي، ويكتفي من علوم عصره بأن يتلقاها راضيًا، على أساس أن ثقافته التقليدية لا تتعارض معها، وإن يكن هو الموقف الذي يصطنعه جمهور المتعلمين بصفة عامة، إلا أنه ليس هو موقف الرواد في مجال الفكر؛ فهؤلاء الرواد لا يرضيهم أن تظل حياتنا الثقافية على هذه الصورة السكونية السلبية التي قصارى جهدها هو أن تبيِّن أن لا تعارض بينها وبين ما يعج به الغرب من علوم وفنون، بل يريدون أن يقيموا من عناصر الثقافة التقليدية الموروثة نفسها نمطًا جديدًا، بمعنى أن يستلهموا الماضي في استخراج صيغةٍ عربية جديدة تتلاءم مع روح العصر؛ فليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء هو — مثلًا — ما دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي من أن البنيان الثقافي إما أن يقوم على أسسٍ أخلاقية وإما أن يقوم على أسسٍ جمالية، وأن ثمة برزخًا بين النمطين، فإذا زعمنا أن الثقافة العربية الأصيلة من الطراز الأول، وأن ثقافة الغرب من الطراز الثاني، لم يكن ثمة أمل في أن تستقي إحداهما من الأخرى، وكذلك ليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء الرواد، هو ما يحاوله المفكر العراقي محمد باقر الصدر من محاولة إيجاد صورة إسلامية للعلوم الإنسانية كالفلسفة والاقتصاد والمنطق؛ لأن مثل هذه المحاولة في حقيقتها بمثابة إقامة السدود التي تَحول دون أن تمتزج الثقافتان في تيار واحد، بل إن النموذج الأمثل المنشود هو قريب جدًّا مما حاول صنعه طه حسين، ومؤداه أن نجدل الثقافتين في جديلة واحدة، يكون طابعنا الأصيل الموروث أحدَ مقوماتها، ومناهج العصر وحصيلة علمه وفنه مقومها الآخر، وقد يتحقق ذلك بأحد اتجاهين: فإما أن نستعير من الغرب الإطار لنملأه بمضمونٍ من عندنا، كما حدث في أدب القصة والمسرح وفي النقد الأدبي على يديه، وإما أن نستعير المضمون الفكري من الغرب لنضعه في إطارٍ من عندنا، كما يحدث فيما ننقله إلى العربية من علوم، وفيما نطوِّره من مدارس الفن الغربي لنُخرِج فنًّا يلائم ذوقنا، وواضح أننا في كلتا الحالتين نحقِّق شيئًا جديدًا ذا طابع خاص، فلا هو بالضبط ما يصنعه الغرب، ولا هو بالضبط ما صنعه العرب الأقدمون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤