طريق العقل في التراث الإسلامي

١

القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، أُوحي به إلى النبي محمد عليه السلام، وقد ورد في الكتاب أن محمدًا هو «خاتم النبيين»، وبهذا كانت رسالة الإسلام هي آخر رسالة سماوية إلى الإنسان؛ وتعليل ذلك هو أن الإنسان — بناء على العقيدة الإسلامية نفسها — قد أُحيل إلى أحكام «عقله» كلما جدَّت له في حياته مشكلات يريد لها حلًّا، بعد أن كانت تلك المشكلات، كلما تراكمت، هبطت الهداية من السماء، رسالة إلى نبيٍّ ليهدي بها قومه إلى سواء السبيل.

إنه لو كانت مسائل الحياة العملية كلها، محلولة بنصوصٍ مباشرة وصريحة، في شريعة كتاب مُنزَّل على نبي — منذ نزول الرسالة وإلى الأبد — لما احتاج الإنسان في مواجهة حياته، لا إلى رسالة إلهية أخرى تهديه، ولا إلى عقله ليحتكم إليه كلما أشكل عليه أمرٌ من أموره، إلا بمقدار ما يستطيع به أن يستخرج للموقف الطارئ حكمَه المناسب من كتاب الله، لكن حقيقة الأمر، هي أن الإنسان — على طول المدى — قمينٌ أن يواجه أحداثًا طارئة غير مسبوقةٍ بأشباهٍ لها، ولا منصوص عليها في الكتاب الموحى به من السماء؛ فها هنا يريد الإسلام من المسلم أن يحتكم إلى منطق العقل، وكانت تلك هي المرة الأولى في الرسالات الإلهية، أن يُحال الإنسان — بحكم الرسالة نفسها — إلى عقله، كلما جدَّت مشكلةٌ لم يَرِد لحلها نصٌّ في كتابها.

وماذا يُقصد بالعقل ومنطقه في هذا السياق؟ المقصود به أمور ثلاثة على وجه التخصيص، إن لم يكن كذلك على وجه الحصر والتحديد:
  • أولها: استخدام منهج الاستدلال، الذي يتيح للباحث أن يستخرج من النص القائم محتواه، وذلك حين يكون ذلك المحتوى مضمرًا في الألفاظ وتركيبها، بحيث يحتاج ظهوره إلى تحليل، والتحليل عملية عقلية.
  • وثانيها: هو قراءة الشواهد الحسية، قراءة تؤدي إلى فهْمها وتعليلها، على نحوٍ يكون من شأنه حلُّ المشكلة الطارئة.
  • وثالثها: النظر إلى القيم — والقيم الأخلاقية بصفة خاصة — نظرة موضوعية مطلقة، بمعنًى لا يجعلها أمورًا ذاتية تتغيَّر مع الأهواء، كما لا يجعلها مرهونة بظروف الزمان والمكان؛ وما دام أمرها كذلك، فإنه يصبح في وُسع الفقيه الموهوب أن يحكم على ما يَعرض له من مواقفَ طارئةٍ جديدة، غير منصوص عليها نصًّا مباشرًا صريحًا، حكمًا يميز فيه بين ما هو حق وما هو باطل.

٢

ركون المسلم إلى عقله، فيما يُشكِل عليه، مما لم تَرِد في شأنه نصوص، هو الدعامة الأولى في الوقفة العقلية عند الإسلام، تلك الوقفة التي أقام عليها حضارته وثقافته على امتداد تاريخه، خلال القرون التي شهدت قوَّته وقدرته على الإبداع.

وكان الناس قبل ظهور الإسلام، قد ألِفوا ضربَين من الحضارة ومن الثقافة، اختلفا فيما بينهما إلى حدِّ التنافر، بل إلى حدِّ المقاتلة في حروبٍ مستعرة يعرفها المؤرخون؛ وهاتان الحضارتان والثقافتان، المتنافرتان إلى حد القتال، هما حضارة الفرس وثقافتهم من جهة، وحضارة الروم (اليونان) وثقافتهم من جهةٍ أخرى، المحور في الحالة الأولى هو الإملاء يفرض على الإنسان طريقة فكره ونمط سلوكه، والمحور في الحالة الثانية هو عقل الإنسان، يقيم له الحجة على الباطل فيرفضه، ويسوق له البرهان على الحق فيرتضيه.

كان الظن هو ألا سبيل إلى لقاء بين «شرق» متمثلًا في فارس، و«غرب» متمثلًا في اليونان، فلما اكتسح الإسكندر الأكبر بجيوشه هذه الرقعة من الأرض التي امتدت بين اليونان والهند، بما في ذلك بلاد الفرس، قيل إن أهم أهدافه هو أن يحطِّم الحاجز الحضاري الثقافي الذي أشرنا إليه، حتى يصبح العالم المعمور عندئذٍ متجانسًا كله، فلا يكون بعد ذلك «شرق» هنا و«غرب» هناك، ولكن كل ما تمنَّى الإسكندر الأكبر لنفسه وللعالم قد أدركه أو حققه؛ إذ لم يَكَد يطوي الزمان صفحته، حتى أوشك الأمر أن يعود إلى ما قد كان عليه قبل الإسكندر وحروبه.

ثم جاء الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، ومع فتوحه، انهدمت الفواصل بين فُرسٍ وروم، وظهرت بوادرُ قوية تشير إلى ظهور وحدة الإنسان؛ فتلك الوحدة هي في الصميم من الإيمان الجديد، كأنما كانت تلك الخطوة هي الأولى على طريق المواطن العالمي، الذي لا هو من شرق، ولا هو من غرب، وإنما هو «إنسان»، وكان ذلك الدمج الباهر بين ثقافتين كانتا متنافرتين متناحرتين إلى درجة القتال، هو الذي أخرج إلى العالم تلك الصيغة الحضارية الثقافية الإسلامية الجديدة، وهي الصيغة التي ربما تمنَّاها الإسكندر الأكبر من قبل، ولم يحقِّق منها إلا قليلًا.

وكان السر الذي مكَّن المسلمين من الاضطلاع بهذا الدور الحضاري العظيم، هو إعداد المسلم بديانة، في مبادئها ما يهيئه الاستخدام المنطق العقلي في شئون فكره ومعاشه، كما في مبادئها كذلك ما يُعدُّه للاتصال بالحق صلة مباشرة، وحيًا أو شهودًا، مما لا يحتاج فيه إلى تدليلات المنطق العقلي ذات الخطوات المتتابعة فيما بين نقطة البدء ونتيجة الختام.

ومن دمج هاتين النظرتين في إنسان واحد — هو المسلم — نشأت الصيغة الثالثة، التي ألفت في مركَّب واحد، صوفية الفرس وعقلانية الروم؛ وباتت تلك الصيغة الجديدة هي ما يُعرف باسم الثقافة الإسلامية من حيث هيكل بنائها، فإذا كانت الصفة الأساسية التي تميِّز ما كان يُعَد «شرقًا»، هي إدراكه للحق عن طريق حدْس صوفي مباشر، بحيث تنعدم الفواصل بين الإنسان العارف والحقيقة التي يعرفها، ثم إذا كانت الصفة الأساسية التي تميِّز ما كان يُعَد «غربًا» هي أنه في إدراكه للحق يلجأ إلى طريقٍ غير مباشر (هو طريق العقل في الإدراك) بمعنى أنه ينتقل من مقدمةٍ إلى نتيجتها، ثم من النتيجة إلى نتيجتها، وهلمَّ جرًّا، حتى يبلغ خطوة النهاية التي يكون فيها البرهان المطلوب على الحقيقة المراد إقامة البرهان عليها؛ فإن الصيغة الثالثة الجديدة، قد جمعت بين إدراك الحدْس الصوفي، وإدراك العقل الاستدلالي، بحيث احتملت الحياة الثقافية في الجماعة الإسلامية، أن يظهر فيها أعظم المتصوفة وأعظم مناطقة العقل في آنٍ معًا.

والذي يفيدنا في سياق حديثنا هذا، من تلك الصيغة الثقافية الإسلامية، هو جانب «العقل» منها؛ إذ بغير هذا الجانب العقلي من ثقافة المسلمين، ما كانوا ليستطيعوا أن ينقلوا — في عصر المأمون بصفة خاصة — ما نقلوه من فلسفة اليونان وعلومهم؛ وإلا فلماذا نقلت تلك الفلسفة والعلوم إلى العربية، ولم ينقلها أهل الهند أو أهل الصين إلى لغاتهم؟ إن العلة لم تكن في أن لغة تستطيع ولغة أخرى لا تستطيع، بل العلة هي أن ثقافةً تتقبل منطق العقل، وثقافة أخرى لا تتقبَّله.

٣

كان القرآن الكريم هو محور العلوم الإسلامية وأساسها؛ فلم يَكَد القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) ينقضي، حتى أخذ العلماء يتجهون بكل جهودهم نحو دراسة الكتاب؛ فكان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها، لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح، فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقفَ المتذوق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوها دراسة علمية بأدق ما يكون المنهج العلمي؛ إن قواعد اللغة لم تكن قد استُخلصت وجُمعت إلى ذلك الحين، فانصرفوا إلى استخلاصها وجمْعها، وهنا انشعب الباحثون إلى شعبتين، كان لكلٍّ منهما منهج في البحث، على أن المنهجَين كليهما مما يجيزه منطق التفكير العلمي.

أما الشعبة الأولى فكان مقرها مدينة البصرة، وأما الثانية فكان مقرها الكوفة، وإذا جاز لنا أن نستخدم لغة الفلسفة الحديثة في التمييز بين الشعبتين، قلنا إن فريق البصرة، وعلى رأسه العملاقان العظيمان: الخليل بن أحمد، وتلميذه سيبويه، قد اختار لنفسه أسلوب المنهج «القَبْلي»، على حين اختار فريق الكوفة أسلوب المنهج «البَعْدي»، بمعنى أن فريق البصرة قد وضع الأسس العقلية للبناء اللغوي «قبل» أن يتقيد بأوضاع اللغة كما حدثت بالفعل في استعمال الأولين، وأما فريق الكوفة — وعلى رأسه الكسائي — فقد أراد أن يكون السَّند في القبول والرفض، هو ما استعمله الأولون من اللغة وما لم يستعملوه، فلو عَرض للباحث اللغوي لفظٌ معيَّن أراد أن يحكم فيه بالصحة أو بالخطأ، كانت طريقة علماء البصرة أن يحتكموا فيه إلى القياس العقلي، فإذا وجدوه جاريًا مع ذلك القياس، لم يأبهوا بعد ذلك إذا كان القدماء قد استعملوه على هذه الصورة أو لم يستعملوه، أما الطريقة عند علماء الكوفة فكانت أن يراجعوا ذلك اللفظ على ما استعمله الأولون، فإذا وجدوه كان صحيحًا، وإلا فهو غير جائز الاستعمال.

كان منهج جماعة البصرة أقربَ إلى منهج العلوم الرياضية، بمعنى أن يُقام البناء الرياضي على الاستدلال المنطقي المُحْكم، ولا عبرة بعد ذلك لانطباقه على الواقع الطبيعي أو عدم انطباقه، على حين كان منهج جماعة الكوفة أقربَ إلى منهج العلوم الطبيعية، الذي يستمد معطياته من الواقع الفعلي، فتجيء النتائج كلها مطابقة كذلك لما قد حدث بالفعل.

ليست مدارس البحث اللغوي في ذاتها هي موضوعنا هنا، لكننا نذكرها بيانًا للوقفة العلمية العقلية التي ميَّزت علماء المسلمين، كائنًا ما كان ميدان البحث؛ فقد كان فهْمهم للقرآن فهمًا صحيحًا هو الهدف؛ ومن أجل ذلك هموا بدراسة اللغة بوجه عام دراسة علمية، قبل أن يزعموا لأنفسهم مثل ذلك الفهم الصحيح.

ثم جاءت بعد دراسة اللغة، الخطوة الثانية في طريق الدراسة العلمية، وكان فهم القرآن الكريم هو الهدف، وأعني بتلك الخطوة جهود الفقهاء في استخراج أحكام الشرع، استدلالًا صحيحًا من النص القرآني، فرأيناهم جميعًا، وعلى اختلاف مذاهبهم، وكأنهم أمام عمل تطبيقي لمنطق الاستنباط؛ فمن مقدماتٍ مسلَّم بصوابها، أخذوا يستنبطون النتائج التي يلزم عنها، فتكون هي بين ما تحكم به الشريعة.

وكان للفقهاء منهجان للنظر كذلك، فانتهج بعضهم منهج ما أسمَوه بالقياس، وأرادوا به ما يُسمَّى في كتب المنطق بالتمثيل؛ بمعنى أن ما لم يَرِد في أمره نصٌّ يُحْكم على أساسه، يلجأ فيه الفقيه إلى شيء يشبهه أو يوازيه، مما وردت في أمره نصوص؛ على حين انتهج بعضهم الآخر إلى ما أسموه ﺑ «الرأي»، وقصدوا به رؤية الصواب (أو الانحراف عنه) بنظرة مباشرة ناقدة إلى الموقف المعروض للحكم، تأسيسًا على كون القيم أشياءَ موضوعية، يراها العقل كما يرى سائر الأشياء، ومثل هذه الرؤية تغني عن وجودِ مثيلٍ للموقف المعروض، بين ما وردت في شأنه نصوص.

ومرة أخرى نقول إنه ليس من شأننا في هذا الحديث، أن نتعرَّض لتفصيلات الفقه الإسلامي، لكننا نريد بيانًا للوقفة العقلية عند المسلمين، في كل مجال من مجالات النظر.

٤

كان من الطبيعي أن يختلف الرأي اختلافات بعيدة المدى بين المسلمين، عندما اصطدموا بأول مشكلة سياسية عسيرة، نشأت لهم نتيجة للقتال بين علي ومعاوية حول الخلافة، وذلك أن سؤالًا طرح نفسه أمام العقل، وهو: لقد سفكت دماء للمسلمين في ذلك القتال، فعلى مَن تقع تَبِعتُه؟ وما الحكم فيمن يثبت أنه هو المخطئ من الفريقين المتحاربين؟ إن إحدى الجماعتين المتحاربتين — على الأقل — كانت على خطأ في إثارة الحرب وما استتبعته الحرب من سفك الدماء؛ ودون أن نُعَين أي الجانبين هو المخطئ، يسأل السائل عن حكم الإسلام فيه.

ألقي بهذا السؤال، فكان كأنه الفأس الفائرة، ضُربت بها الأرض، فتفجرت ينابيعها؛ إذ انقدحت أذهان المفكرين، وجاءت الإجابات من هنا ومن هناك، وهي إجابات نستطيع أن نردها إلى شُعَب ثلاث، اختلفت كما تختلف المدارس الفكرية في كل العصور، فإذا استخدمنا طريقة عصرنا في التقسيم، قلنا إنه قد كانت هناك اتجاهات، فيها اليمين المتطرف، وفيها اليسار المتطرف، وفيها الوسط المعتدل.

أما اليمين المحافظ فقد آثر ألا يُنْسب الخطأ إلى أي من الجانبين، وكيف يفعل وفي كلٍّ من الجانبين المتقاتلين صفوة ممتازة من خيار المسلمين؟ وأما اليسار المتطرف في ثورته، فهم الخوارج، الذين أصروا على أن يكون الجانب المخطئ في هذه الحرب خارجًا على الإسلام، وبين أولئك وهؤلاء فريقٌ وسط، هو الذي يهمنا بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الفريق الذي يمثِّل موقف العقل في القضايا العامة، ولبث كذلك لفترة طويلة، وأعني به فريق المعتزلة.

فقد طُرح السؤال على الحلقة الدراسية التي كانت تلتف حول الحسن البصري فما هو إلا أن خرج واصل بن عطاء — بين الحاضرين — برأي استوقف الأسماع، وتحرَّكت له الأذهان، وهو أن مَن تقع عليه التَّبِعة في القتال، وفي غير القتال مما يُعَد من الذنوب الكبيرة، لا يخرجه فعْله هذا من إسلامه، بل يظل مسلمًا، وإن يكن مسلمًا عاصيًا؛ أي إنه يقع في منزلةٍ وسطى بين منزلتي الإيمان والكفر، قال عنها إنها المنزلة بين المنزلتين، ولعل رأيه هذا لم يصادف قبولًا عند شيخه الحسن البصري، فانتقل واصل ابن عطاء من مكانه في الحلقة، واتخذ لنفسه مكانًا آخر، ولحِقَ به نفرٌ من المؤيدين لوجهة نظره، فقال الحسن البصري عندئذٍ: لقد اعتزل عنَّا واصل؛ ومن هنا سُمِّي هذا الفريق على امتداد تاريخه بعد ذلك بالمعتزلة.

وكان أهم طابع يميِّز المعتزلة هو النظرة العقلية في البحث عن حلول المشكلات المعروضة للنظر، أو في طريقة فهمهم للأفكار التي يُراد فهمها على نحوٍ صحيح؛ ونكتفي من أعلام المعتزلة بذكر رجلين، كان كلاهما في البصرة؛ وهما «العلاف» الذي يُوصَف بأنه شيخ المعتزلة، وتلميذه «النَّظَّام» الذي قال عنه الجاحظ إن مثله لا يظهر إلا مرة واحدة في ألف عام.

ولقد ذكر الشهرستاني في «الملل والنحل» عشر مسائل دار حولها فكرُ العلَّاف، وثلاث عشرة مسألة للنَّظَّام، وكان من أهم الموضوعات التي تناولها العلاف بالبحث، موضوع الذات الإلهية وصفاتها، باحثًا عن تصوُّر تُفْهم به الصلة بين الذات والصفات، فهمًا يؤدي إلى توحيد حقيقي، ولا يؤدي إلى تعدُّد بأي معنًى من معانيه؛ وكذلك تناول موضوع الإرادة الإلهية، البادية في قول الله تعالى إذا أراد شيئًا: كُنْ فيكون؛ ثم انتقل العلَّاف إلى الإرادة الإنسانية، ليرى فيها ضرورة أن تكون حرة الاختيار، ليكون صاحبها مسئولًا عما يفعل، وبغير ذلك لا يتحقَّق العدل، وكان مما بحثه العلَّاف أيضًا، وجوب أن تُقام معرفة الإنسان لربه على براهين العقل.

وأما «النَّظَّام» فكان يشارك العلَّاف في مسائلَ عُرفت بها المعتزلة جميعًا، كالقول بحرية إرادة الإنسان في اختياره لأفعاله، ليكون للتَّبِعة الخلقية معناها الصحيح، لكنه تميَّز بسعة الأفق وعمق الغور، حتى ليذهلنا في كثير من المواضع، باقترابه في الرأي من فلاسفة عصرنا هذا اقترابًا شديدًا، مثال ذلك موقفه من موضوعٍ أُثير حوْله جدل كثير، وهو عن علاقة الله تعالى بفعل الشر: أهو غير قادر على فعل الشر؟ أم هو قادر على فعله ولكنه لا يفعله؟ فكان الرأي في ذلك عند النَّظَّام، هو نفسه الرأي الذي كنا لنسمعه من أصحاب المذهب الإجرائي في المعاني، من فلاسفة عصرنا؛ أي أن معنى عبارة معينة، إنْ هو إلا مجموعة الإجراءات العملية التي تترتَّب عليه؛ فإذا اختلفت عبارتان في ألفاظهما، لكنهما يولِّدان مجموعة من الإجراءات لا تختلف بين إحداهما والأخرى، كان معناهما واحدًا برغم اختلافهما في الألفاظ. وهكذا كان موقف النَّظَّام من العبارتين السالفتين؛ إذ قال إنه لا فرق بينهما؛ إذ إن الله تعالى لا يفعل الشر على كلا القولين.

ومسألة أخرى يروعنا فيها النَّظَّام برأيه الذي سبق به عصرنا بعدة قرون؛ وهو أن الإنسان يُعرف بنفسه لا بجسمه، شريطة أن تُفهم النفسُ على أنها وظائف، لا على أنها كيان قائم بذاته في باطن الإنسان، فكأنما أراد النَّظَّام أن يقول عن النفس إنها أنماط سلوكية، يراها بعينيه مَن شاء أن يرى.

ومسألة أخرى تضع النَّظَّام في قلب الفلسفة في عصرنا، وهي رأيه عن شيءٍ ما — أي شيء كان — بأنه مساوٍ لمجموعة ظواهره التي تدركها منه الحواس؛ أي أن المعوَّل على معرفة الشيء ليس هو «الجوهر» المزعوم كمونه وراء الظواهر، بحيث إذا ما تغيَّرت الظواهر، كان له هو الثبات والدوام، فتثبُت بالتالي هوية الشيء وتدوم.

بهذا القول عن حقائق الأشياء، يمكن المشابهة بينه وبين «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية التجريبية الحديثة، لكن النَّظَّام لا يلبث أن ينتقل إلى مسألة أخرى، فإذا هو يشبه في «عقلانيته» ليبنتز شبهًا شديدًا، بل أدهشنا أن يلجأ في التوضيح إلى مَثَل، كان هو نفسه المَثَل الذي ساقه ليبنتز في توضيحه لوجهة نظره؛ وذلك أن النَّظَّام في رؤيته للعلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض، قال إنها «تتولَّد» بعضها من بعض؛ أي أن الشيء يكمن مضمونه في جوفه، إلى أن يظهر ذلك المضمون علانية في وقته المناسب، مثال ذلك (وهنا يشترك معه ليبنتز في المثال) كان آدم يحمل في طبيعته كلَّ مَن ظهر، ومَن سوف يظهر من البشر؛ وهكذا قلَّ في كل شيء، فأفعال فرد من الناس — مثلًا — تظهر متتالية على تعاقب لحظات الزمن، لكنها جميعًا كانت كامنة في طبيعة صاحبها منذ اللحظة الأولى، كأن الكائن من الكائنات يشبه شريط السينما، في أن تكون القصة كلها مطوية فيه، ثم تأخذ الحوادث في الظهور شيئًا فشيئًا إذا انبسط ما انطوى.

٥

ونمضي مع المسلمين الأولين في تاريخهم الفكري، خلال القرنين التاسع والعاشر بعد الميلاد (الثالث والرابع من تاريخ الهجرة) فإذا نحن أمام حركة عقلية نشيطة دائبة، تنقل «العقل» اليوناني بكلِّ ما قد أنتجه من فلسفة وعلم؛ فإذا كان اليونان عند الغرب هم معجزته الكبرى، لما أبدوه من قدرة على «التنظير» بعد أن لم يكن يعرف الشرق القديم إلا الممارسة العملية؛ فقد كان للمسلمين القدرة على تقبُّل ذلك الفكر النظري وهضمه، والإضافة إليه؛ وماذا نقول في قومٍ خلقوا علمَ الجبر في الرياضة من عدم، وهو ما يزال يحمل اسمه العربي في لغات الغرب، وأضافوا إلى الأعداد «العربية» — كما تُسمَّى في الغرب، برغم افتراضهم بأن العرب نقلوها عن الهند — أضافوا إليها «الصفر» الذي أحدث ثورة حقيقية في علم الحساب، وكان أحد علمائهم في الرياضة — وهو الخوارزمي — هو الذي ابتدع اللوغارتم، وقد سُمِّي كذلك على اسم صاحبه.

وتطول بنا القصة لو مضينا في رواية ما اضطلع به المسلمون في دنيا العلوم بشتَّى صنوفها، من منطق ورياضة وفلك وطب وكيمياء وغيرها، ذلك أن هدفنا هنا — كما أشرنا من قبل — هو بيان — الاتجاه الفكري العام على طريق المنطق العقلي، دون الوقوف طويلًا عند تفصيلاتٍ تمتلئ بها الكتب.

وما نقوله عن العلم بشتَّى فروعه عند المسلمين، نقول أكثر منه عن ميادين الفكر الفلسفي، ويكفينا أن نذكر من لوامع الأسماء في هذا الصدد: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وهم قمم في الفكر الفلسفي بأي معيار نقيس به ذلك الفكر، ولقد كانت الطبقة الفلسفية تلوِّن المناخ الثقافي كله عندهم خلال القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) بصفة خاصة؛ ففيه ظهرت جماعة إخوان الصفا أصحاب الرسائل المشهورة والمعروفة بهذا الاسم، وهي في مجموعها بمثابة موسوعة شملت أهم ما كان يعرفه العالم حتى ذلك الحين، من فلسفة وعلم وعقيدة، ونستطيع أن نقارنها في مهمتها، وأن نقارن جماعة إخوان الصفا، بفلاسفة عصر التنوير في فرنسا إبَّان القرن الثامن عشر، وما أخرجوه للناس من موسوعاتٍ وما يجري مجراها.

ولو استطرد بنا حديث العقل وطريقه عند المسلمين، لروينا طائفةً من ألمع المفكرين في مختلف الميادين، كابن طفيل في رائعته «حي بن يقظان» التي بيَّن في بناء قصصي عميق، كيف أن العقل إذا تُرك على سجيته، ينظر ويعلِّل، لانتهى إلى ما جاء به الوحي في الدين، وابن باجه في «تدبير المتوحد» التي يبيِّن فيه ماذا يمكن للطبيعة الإنسانية أن تصل إليه، حتى لو انفرد الإنسان في عزلة عن الآخرين.

بل إننا لنسلك في طريق العقل شعراء بلغوا ذروة الحكمة الفلسفية في شعرهم، كأبي العلاء المعري، ومتصوفة لم يمنعهم طريق التصوف من أن يسلكوا طريق العقل إلى آخر مداه في عرضِ ما أرادوا عرضه، كأبي حامد الغزالي؛ ودعْ عنك نقَّاد الأدب، الذين بلغوا في تحليل النتاج الأدبي من شعر ونثر، تحليلًا بلغ أقصى غاياته، ونكتفي منهم بمَثَل واحد، هو عبد القاهر الجرجاني؛ ثم ماذا تكون عملية التجميع والتصنيف التي شُغل بها علماء المسلمين خلال قرون ثلاثة — الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من التاريخ الميلادي — في القاهرة ودمشق، من قواميس اللغة إلى مجموعاتٍ تمثِّل التراث الأدبي العربي؛ أقول ماذا يكون هذا العمل إذا لم يكن عقليًّا علميًّا أكاديميًّا من طراز رفيع؟

ووصلت مسيرة الفكر العلمي المنهجي إلى أعلى ذراها في آخرِ خُطاها، ألا وهو فيلسوف التاريخ ابن خلدون؛ أكان هو تغريدة طائر التَّم، التي تنمُّ عن موته الوشيك؟ لكن طائر التَّم هذه المرة لم يَمُت بعد تغريده، بل رقد في بياتٍ دام معه نحو أربعة قرون مظلمة، ثم أسلمته إلى القرن التاسع عشر حيث استيقظ ليعود سيرته الأولى من ازدهار وعطاء وهو على طريق العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤