نحو شخصية عربية جديدة

أم المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر؛ فمن تراث الماضي تتكوَّن الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمةٌ من سائر الأمم، ومن ثقافة الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الدول؛ فالأمة العربية عربيةٌ بما قد ورثته عن الأسلاف من عواملَ أهمها العقيدة واللغة ومواضعات العرف والتقاليد، وكذلك نقول إن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر العنيفة الخارقة، بمقدارِ ما استطاعت أن تساير حضارة هذا العصر في أفكاره ووسائله، فإذا هي اقتصرت — من جهة — على فكر الماضي وطرائق عيشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره؛ لأن له من الوسائل المادية ما لا قِبَل لها بدفعه، وإذا هي اقتصرت — من جهةٍ أخرى — من الحاضر على علمه وفنِّه وصناعته وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يَعُد لها وجود إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجودٌ متميزٌ خاص، فهل من سبيلٍ إلى التقاء الطرفين في مركَّب واحد، يزيل ما بينهما من تباين وتضاد، ويؤلِّف بينهما في نسيجٍ ثقافي متسق منسجم، يكون هو عندئذٍ ما نطلق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي أُلقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، والذي كانت محاولة الإجابة عنه إجابة مقنعة هي ميدان الصراع الفكري.

إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر — أو قُل بين تراث الماضي وثقافة الغرب في حاضرها وماضيها على السواء — أقول إن محاولة التوفيق بين هذين الطرفَين مشكلةٌ بالنسبة إلى كل مجتمع متطور؛ فقد شهدناها عند العرب الأقدمين في محاولتهم التوفيقَ بين العقل والنقل — والعقل عندئذٍ هو رمز لفلسفة اليونان، والنقل رمز لأحكام الشرع — وشهدناها عند مفكري الغرب إبَّان العصور الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين، وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامُها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم والتراث الكلاسي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر، بين الثقافة السلافية الخالصة وثقافة غربي أوروبا. لكن محاولة التوفيق هذه إنما تكون أشدَّ إشكالًا وتعقيدًا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية التي ظفرت بحريَّتها حديثًا من براثن المستعمر — بما في ذلك الأمة العربية — وذلك لأن المشكلة قد أُضيف إليها من العناصر ما زادها عسرًا، ومن هذه العناصر المضافة إلى ثقافة العصر، التي يُراد التوفيقُ بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمِر. وإنه لعسير على النفس أن تُقبِل على ثقافةٍ ارتبطت عندها بمن استغلَّها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها، فإذا كان المستعمر كريهًا ممقوتًا، فكذلك كانت — عند معظم الناس — ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثانية، ولهذا سرعان ما ارتبطت الحركة القومية في جانبها السياسي الذي حاول الفِكاك من قيود المستعمر، ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية بالجانب الثقافي الذي حاول أصحابه تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت على الضياع، فرأينا حركة إحياء شامل لما كان قد اندثر — أو أوشك — من مقوِّمات الحياة الماضية إبَّان قوَّتها، وفي مقدمة هذه المقومات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي — إن لم تكن أهمها جميعًا — فحسب، بل لأنه قد تصادف كذلك أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والإفريقية مخالفة لعقيدة الشعب في هذه الأمة أو تلك، فكان من الطبيعي — إذن — أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة الدينية وتنقيتها، مما قد علِق بها من شوائب الخرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور الفكري.

لكن هذه المقاومة التي تجعل إحياء الدِّين — وغيره من مقوِّمات التراث — محورَها الوحيد، هي — في رأينا — مقاومةٌ سلبية، قد تصلح كل الصلاحية في المرحلة الأولى من مراحل النهوض. وأما في المراحل التالية، فلا بد أن يُضاف إليها مقاومة إيجابية كذلك: قوامُها الأخذُ عن القوي مصادرَ قوَّته. ومصادرُ القوة عند القوي في عصرنا هي العلم والصناعة قبل سواهما.

هذه واحدة، والأخرى أن المقاومة التي تجعل إحياء الدِّين — وغيره من مقوِّمات التراث — محورها الوحيد، حتى في مرحلة صلاحيتها من مراحل النهوض، قد تجيء مقاومة صحيحة، أو مقاومة زائفة، بحسب القدرة التي يمتاز بها صاحب المقاومة، والأساس الفكري الذي يصدر عنه، والهدف الذي يرمي إليه، والوسائل التي يصطنعها لبلوغ ذلك الهدف؛ فقد شهدنا في حياتنا الفكرية الحديثة مَن أصحاب هذه المقاومة مَن يعلو بها إلى أوجٍ ومَن يهبط بها إلى حضيض.

على أنها بأوجها وحضيضها لم تَعُد الآن هي الروح السائدة في البلاد المتحررة من قبضة المستعمر؛ إذ الروح السائدة الآن في هذه البلاد، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نَردُّ لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي — في الوقت نفسه — على كفاءتنا في ميدان التنافس مع مَن كانت لهم السيادة علينا ظلمًا وعدوانًا؟ وهي سيادة كانت ترتكز — أولًا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة، وإذن فلا بد لنا من هذه الركيزة بكل ملحقاتها لنستطيع الصمود في ميدان التنافس، وها هنا يعود سؤالنا الأول من جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي نحن في أشد الحاجة إليها؛ ركيزة العلم والصناعة؟ وإذا لم يكن هناك تعارضٌ بين الجانبين، فما سبيلنا إلى دمجهما في وحدة عضوية واحدة؟

هنا كثُر بيننا الخلاف وتشعَّب الرأي، على مدى القرن الممتد من منتصف القرن الماضي إلى منتصف هذا القرن، لاسيما في العشرات الأخيرة من أعوامه، فكان منَّا فريقٌ يُعلي من شأن الطابع القومي الأصيل حتى لينسى ما نحن في حاجةٍ إليه من سلاح العلم الحديث والصناعة الحديثة، وفريق آخر كان همُّه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، بكلِّ ما فيها من علم وصناعة وغيرهما من ضروب الفكر وألوان الحياة؛ لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما كان يُعْوِزنا من العلم والصناعة، وهيهات أن نفلح في صدِّه أمدًا طويلًا بغير هذين العاملَين، مهما تجمَّع في أيدينا من مقوِّمات التراث، ولا شك أن الصواب كل الصواب لا هو مع الفريق الأول، ولا مع الفريق الثاني، بل هو مع فريقٍ ثالثٍ ينشد الجمْع بين الطرفين في مركَّب واحد، بقدرِ ما يستطيع إلى ذلك من سبيل، وفي تكوين هذا الفريق الثالث يجب أن تنصرف الجهود.

ونسوق ها هنا أمثلة ثلاثة من فكرنا الإسلامي الحديث، نشهد خلالها كيف يجيء فكرًا قويًّا حينًا، وفكرًا ضعيفًا حينًا آخر، وفكرًا اختلطت فيه القوة والضَّعف حينًا ثالثًا. ونبدأ بهذا النوع الثالث الذي يمثِّله جمال الدين الأفغاني.

فقد نشبت معركةٌ فكرية حول نظرية التطور في علم البيولوجيا والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في البيولوجيا دون أن تلتزم بالمذهب المادي الذي يَرُدُّ كلَّ شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضًا؛ فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور البيولوجي) أقول إن معركةً فكرية قد دارت رحاها بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من جهة، وبين المناصرين لإحياء العقيدة الدينية من جهة أخرى، على ظنٍّ من هؤلاء أن ثمَّة تناقضًا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطور وما جاء به المذهب المادي.

وليس يهمنا الآن أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي في الفلسفة، أو تلك النظرية التطورية في علم البيولوجيا — فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره — لكن الذي يهمنا هو كيف قُوبلت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا، لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهةٍ أخرى، وأن هذا الموقف بطرفيه، ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» لجمال الدين الأفغاني.

والدهريون الذين يَرُدُّ عليهم الأفغاني برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت تتناثر أنباؤها حينئذٍ، وقد كتب الأفغاني ردَّه باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينًا في ذلك بأديبٍ أفغاني، وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤالٍ جاءه من رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس: «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر نيشر» (= طبيعة). ولا تخلو بلدةٌ من جماعةٍ يلقَّبون بلقب «نيشري». ولقد سألت أكثر مَن لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقةُ النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين؟ وهل طريقهم تنافي الدِّين المطلق؟ ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شافٍ كافٍ؛ ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيلٍ ينفع الغلة ويشفي العلة والسلام.»

ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالة «الرد على الدهريين» هي الجواب، وقد قسَّمها قسمين: أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني «في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان»، وهذا التقسيم كافٍ وحدَه للدلالة على أن الخطر المخوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثِّر به في ديانة المسلمين؛ لأن الحرص على نقاء هذه الديانة، هو — فوق كونه من واجبات المؤمن — ضروريٌّ لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية بيولوجية بعينها، دفاعًا عن الإسلام وبرهانًا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.

وليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودًا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام لا أخذ الدارس المتخصص، وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردًّا على خطاب السائل الفارسي؛ إذ يقول: «… أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجَّه الحديث في رسالته إلى فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» — ومنهم صاحب الخطاب — والأخرى أصحاب العقول الصافية»، ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يُراد ﺑ «العقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نسميه اليوم ﺑ «الإدراك المشترك» Common Sense الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلُّم متخصص بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام، وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده ﺑ «العقول الصافية» سوى أن نرجِّح أنه يعني بها عقولًا صفت من «الغريزة» لتصبح «منطقًا» صرفًا، لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين مَن خاطبهم الأفغاني برسالته أحدٌ هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرَّض للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «ذلك الإدراك المشترك نفسه».

وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول «العالم»، ثم نُصِرُّ مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت رسالة الرد على الدهريين لحظةً أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودعْ عنك أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه — وهي نفسها قوانين الاحتمال — قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية — فضلًا عن العلوم الإنسانية — جميعًا، وشرح ذلك يطول، وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء، وهو تسلسل غير متناهٍ، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدارٍ متناهٍ، من المجالات الأولية» — هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقةٍ يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدارٍ متناهٍ»، وشرح ذلك أيضًا يطول، وهل ترى رجلًا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونًا صارت الكلابُ تُولَد بلا أذناب، كأنه يقول حيث لم تَعُد للذَّنَب حاجةٌ كفَّت الطبيعةُ عن هبته.»

لا، لا ينبغي — بل لا يجوز — أن يُؤخذ رد الأفغاني كما تُؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض؛ لأنه ردٌّ صادر عن موقفٍ وجداني رافض، ليخاطب به جمهورًا هو بدوره يقف موقفًا وجدانيًّا رافضًا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث. فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقف وطني قومي ينشد التميز من الغرب المهاجم بعلمه وبقوَّته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه ردٌّ علمي على نظرية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر المعركة، وترك النصر لخصومه.

وأما المعركة الفكرية الثانية فقد انقلب فيها الوضع، بحيث كان النصر خالصًا للفكر العربي على زميله الأوروبي؛ وذلك لأن ميدانها كان دينيًّا على الأغلب؛ إذ أخذ المهاجم يوازن بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطُرَّ المدافع أن يردَّ على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحُجَّة القوية في جانب الدفاع، والمهاجم هنا هو هانوتو، والمدافع هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتُّهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده، والثاني أنه كلما صحَّت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروفٍ أفقدتهم لبَّ عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدةٌ استطاع المؤمنون بها أن يَعلوا إلى ذروة العلم والعمل معًا، هذا فضلًا عن أن ما اتُّهم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.

كان هانوتو في مقاله قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنَّها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين الآريين والساميين، ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بالتفنيد القوي الحجة، مستندًا إلى أن شعوبًا آرية معينة تهدر الكرامة الإنسانية في بعض طوائفها، وإلى أن أوروبا قد وصلتها عوامل المدنية من أممٍ ساميةٍ لا من أصولٍ آرية، على أن النظرة المنصفة تدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها، وساميها من آريها، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك:

«فلا زالت الأمم يأخذ بعضُها عن بعض في المدنية لا فرق عندهم بين آري وسامي، متى مسَّت الحاجة إلى تناول عمل أو مادة أو ضرب من ضروب العرفان … وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل.»

ثم ينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدِّين؛ فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه، قائلًا إن الأولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة، بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضَّعف والحيوانية، ثم أقحم مسألة القدَر في هذه القسمة، فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدَر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأن لا دخل لنوع العقيدة — مشبهة كانت أو منزهة — بالكلام في القدَر، بل إن الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أم من أصحاب التنزيه.

لم يقتصر لقاء التعارض بين هانوتو ومحمد عبده على فعلٍ وردِّه، بحيث ينتهي الأمر إلى صفر، كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبَّهت أذهاننا — ابتداء من الأستاذ الإمام نفسه — إلى وجوب إعادة النظر في تراثنا الفكري، وفي السائد بيننا من عُرفٍ وتقليد، لنسلط عليه أشعةً من فكر العصر الحديث — الذي صميمه هو العلم — لنرى على أي وجهٍ نوائم بين أنفسنا وبين روح عصرنا، بحيث تتكوَّن من هذه المواءمة شخصيةٌ جديدة لا تفرِّط في ملامحها الأساسية الأصيلة، ولا تُغمِض العين عن ضرورات العصر الراهن، وفي هذا تكمن أقوى قوة للأستاذ الإمام في تاريخنا الثقافي الحديث.

لو سار بناة الشخصية العربية الجديدة على هذا المستوى القوي الرفيع الذي سلكه الشيخ محمد عبده، والذي قوامه ردُّ الاعتداء عن المقومات الأساسية في تراثنا، ثم الإفادة من مصادر القوة العلمية في عصرنا، حتى لا نستنيم لسحر الماضي وحدَه، لاجتنبوا كثيرًا من مواضع الزلل، لكن ظهر من بيننا رجالٌ اشرأبت أعناقُهم نحو أن يسيروا على الدرب وراء الإمام، دون أن تسعفهم من طبائعهم قوةٌ تعينهم على ذلك السير، فتعثرت خطاهم في مجاهلَ وأوهام، من هؤلاء مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، فهو في طموحه لأن يصبح بدوره «إمامًا»، أو ما يشبه الإمام، راح يذود عن العقيدة الدينية في عشوائيةٍ عجيبة، ضد مَن؟ ضد نفر من مواطنيه؛ فالمتهم هنا ليس هو داروين كما كان عند الأفغاني، ولا هو هانوتو كما كان عند محمد عبده، بل المتهمون هم مؤلِّفو كتب «الإسلام وأصول الحكم» و«مستقبل الثقافة في مصر» و«خرافة الميتافيزيقا»، ذكرهم بأسماء كتبهم، ولم يذكر أسماءهم، كأنما يشرِّفه أن يستخف بأمثال الدكتور طه حسين وعلي عبد الرازق وأن يجعلهم أدواتٍ في أيدي المستعمرين.

ولما كنتُ صاحبَ هذا الكتاب الأخير، وهو كتابٌ خصَّص للرد عليه مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» فصلًا كاملًا تحت عنوان «الدين خرافة» فقد عنيت بقراءته، لأجد كلامًا هو أبعد ما يكون عن الرد العلمي لما أراد أن يَردَّ عليه، ولعله في ذلك معذور؛ لأن مثل هذا الرد كان يتطلب درجةً من دقة التحليل لا أظنه قد دُرِّب على مثلها، نعم، قرأت ذلك الفصل لأجد فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها — وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك — أراد بها أن يثير نفوس قرائه ضد صاحب الكتاب — لا أن يقنع عقولهم — لأن العقول تحتاج إلى منطقٍ صرف، والخُطَب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق … نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه، بادئًا حملةَ الإثارة منذ عنوان كتابه؛ إذ يجعل جزءًا من هذا العنوان عبارة تقول عن مواطنيه الذين تصدَّى لمهاجمتهم في دعاواهم الفكرية إنهم ذوو صلة بالاستعمار الغربي، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور، فيجعل عنوان الفصل الذي خصَّصه لمهاجمة كتابه «خرافة الميتافيزيقا»: «الدين خرافة»، وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الذي عاون الاستعمارَ بكتابه، قد خرج كذلك على دينه، ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة!

وحتى إذا سلَّمنا مع صاحب هذا الهجوم أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان الأصلي مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثلِ ما تثيرها كلمة «الدين»؟

ولقد كانت هذه البداية المغرضة كافية لصدِّنا عن متابعةِ ما أورده من حديث؛ لأنها بداية مَن لا يعتزم الدخول في جدالٍ فلسفي نزيه، لكننا تابعناه لنرى كيف خدم القضية التي تصدَّى لخِدمتِها فوجدناه ينثر الأسماء الإفرنجية يمينًا ويسارًا، بالأحرف العربية تارة، وبالأحرف الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفةٍ ومذاهبَ، ذكرها، لا لأنها تصلح أن تكون ردًّا على ما أراد الرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته عن شخصه على غلاف الكتاب، من أنه «دكتور من جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، وأنه دكتور من هناك في الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية»، ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالةٍ للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني، لولا أنه دلني على أن الرجل لم يخصِّص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه على تتبُّع تحليلات الفلاسفة، حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية، التي تُستخدم في إثارة الوجدان، ولا يهمها أن تتَّجه بالمنطق البارد نحو العقول، وحسْبنا من ضَعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي يُنسب إلى «أوجست كونت»، حتى لقد طَفِق يشرح للناس هذا المذهب (مذهب أوجست كونت) ويكيل له الضربات، وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه!

إن في هذا الخلط وحدَه لفصلُ الخطاب، إن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيوراث، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرًا واحدًا لواحدٍ منهم، أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب، هو الذي يأخذ على مؤلِّف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يردِّد فكر الغربيين باسم التجديد، وأنه يردِّده «مشوَّهًا أو محرَّفًا».

ثم انظر إلى طريقة مؤلِّف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارةً وردت في خرافة الميتافيزيقا، تقول: «نشأت الميتافيزيقا من غلطةٍ أساسية … وهي الظنُّ بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنًى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانًا بأنها يستحيل أن تكون مجرَّد ترقيم أو مجرَّد صوتٍ بغير دلالة، لكن التحليل يبيِّن لك أن مئات الألفاظ المتداوَلة والمسجَّلة في القواميس هي ألفاظٌ زائفة … وما أشبه الأمر هنا بظرفٍ يتداوله الناس في الأسواق مدةً طويلة، على أنه يحتوي على ورقةٍ من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمةَ الجنيه في المعاملات، وبعدئذٍ يجيء متشكِّك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطُل البيع به والشراء، لو تنبَّه الناس إلى زيفه من أول الأمر.»

يذكر المؤلِّف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه — وا عجباه — أن الكلمة المشار إليها والتي يتداولها الناس في كثرة، ماذا تكون إلا اسم الجلالة؟ أي والله وا عجبي من نتيجةٍ كهذه تجيء من نصٍّ كذاك! فهل كان الحديث في النص عن كلمة واحدة معيَّنة؟ ألم يَرِد في النص ما يشير إلى مئات الألفاظ؟ أم إنك تضرب بالنص الذي ذكرته أنت بنفسك، عُرض الحائط لتستدل منه ما يتفق مع هواك، ومع ما عساه أن يثير وجدان الكراهية عند قارئك؟! وأعجب العجب أنك تصرِّح لهذا القارئ أنك إنما تفهم هذه النتيجة من خلال النص المذكور، وإن لم يصرِّح بها مؤلِّف خرافة الميتافيزيقا، كأنما تريد أن تقول لقارئك: دع عنك ما ورد في النص المختار من عبارة «مئات الألفاظ المتداولة» وتعالَ معي نَقصِر الأمر على لفظة واحدة؛ لأننا نحن — أولاد البلد — يفهم بعضنا بعضًا، ونفهمها من وراء السطور وهي طائرة، ومحال أن يضحك على أذقاننا كاتب مادي كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا»، إنه يقول شيئًا لكننا سنفهمه على وجهٍ آخر؛ لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرِّح به.

وبالله لا تضحك أيها القارئ، إذا ما أنبأتك أن مؤلِّف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث» الذي يستنتج من نصٍّ كهذا نتيجةً كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه «لا يدل فحسْب على قلةِ إدراك اللغة العلمية، بل يدل أيضًا على أن البتر في النقل عن الغيرِ يكاد يكون صفةً من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المردِّدين.» ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة؛ فقد تولَّى الحديثَ عنكم أستاذٌ أجاد «اللغة العلمية» إجادة تامة، وتنزَّه عن «البَتر» الذي يقترفه «المردِّدون» لما ليس يفقهون.

لا، إن الشخصية العربية الجديدة لا تُبنى بمثل هذا الهجوم الحاقد، ينهش به بعضنا بعضًا، بل تُبنى على دعامتين: صيانة التراث صيانة بصيرة عاقلة، ثم اكتساب القوة من مصادرها في العصر الذي نحياه، ومحاولة استخراج الوحدة العضوية التي تضم الدعامتين معًا في بناء واحد، وهو طريقٌ بدأه منذ أول هذا القرن الأستاذ الإمام محمد عبده، وما يزال يهتدي به — من حيث المبدأ — ولكن على صورٍ شتَّى، رجالُ الفكر المخلصون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤