الفصل الخامس

توفيق الحكيم «حياته النفسية من كتبه — تأثيره»

بقلم الدكتور إبراهيم ناجي

١

توفيق الحكيم اليوم شخصية يدور حولها الجدل، وتتناقض الأقوال، ولعله ينظر إلى هذا الجدل الذي يدور حوله، والتناقض الذي يسمعه من أفواه الناس أو يتردد في الصحف.

ويقول مع المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم!

غير أن توفيق الحكيم لا ينام عن شواردها ملء جفونه فحسب بل ينام ملء جفونه وملء قلبه وملء كل شيء! وقد أصاب «أنطون بك الجميل» حين قال إن «توفيق الحكيم» ملك، لأنه منصرف عن هذه الحياة تمامًا.

إن هذا القول بليغ غاية البلاغة، ومصيب غاية الإصابة، ومعبر أدق التعبير، وما أعلم أن استطاع أحد قبل ذلك أن يلخص توفيق الحكيم هذا التلخيص العجيب في لمحة خاطفة.

هو ذلك الانصراف عن الحياة، هو ذلك الاستغراق في الذهول، ذلك «الأبد» الذي ينغمس فيه توفيق الحكيم، هو سره وهو النواة التي تدور حولها حياة توفيق الحكيم.

وقد حاضرت عنه ذات ليلة محاضرة طويلة فلم أزل بهذه «النواة» حتى حُلّت مشكلة الدائرة، غير أني كنت إلى ذلك التاريخ، تاريخ المحاضرة، قد وقفت عند مرحلة خاصة من حياته، وأتفق أن المرحوم إسماعيل أدهم أصدر كتابه عن «توفيق الحكيم» في ذلك الوقت، فوقف عند المرحلة التي وقفت عندها، وقد كان بيني وبين المرحوم أدهم اختلافات كبيرة في وجهات النظر، وذلك ناشئ من اعتماد أدهم على طريقة استقرائية بحتة. ومن أنه اعتبر الأشخاص والحوادث الممثلة في كتب توفيق الحكيم حقائق واقعية، وفاته أن توفيق يعيش بعقله الباطن، ومن خصائص العقل الباطن الرمز والإيحاء والإخفاء والتعمية!

على أنه مهما يكن اختلافي مع المرحوم أدهم فقد اتفقنا في أشياء كثيرة.

اتفقنا على أن توفيق الحكيم لا يكره المرأة، وادعاؤه كرهها باطل! وسر علاقته بالمرأة يتضح من التحليل السيكولوجي الآتي:

إذا أردت أن تفهم شخصًا ما على حقيقته، فلن يمكنك ذلك حتى ترى كيف يواجه «موقفًا» ما، أو بالأصح عندما تعترضه «أزمة» عليه أن يتصرف إزاءها. فمن الناس من يتحايل ويسعى حتى يمكنه أن يكون ندًّا للموقف أو يعلو عليه، فهذا ما نسميه في العرف الشائع بالنجاح. ومنهم من يحاول أن يحل الموقف بهدم الموقف ذاته، أو بالخلاص من الذي أحداث الموقف أو بالخلاص من البيئة التي نشأ فيها محدث الموقف، أو بالخلاص من نفسه لأنها السبب المباشر في كل ما حدث. ومن ثم نفهم فيها محدث الموقف، وندرك معنى الانتحار، وهكذا … وأخيرًا من الناس من يهرب من الموقف، أو يؤجله إلى حين، والتأجيل ضرب من الهرب فتوفيق الحكيم يمثل الهارب بصورتين:

لقد لقي في حياته امرأة أحبها فأخفق فصدم فلم يحاول قتلها أو قتل أهلها، ولم يحاول أن ينقلب عربيدًا لينتقم من البيئة ولم يحاول قتل نفسه …

لم يحاول شيئًا من ذلك ولكنه ولى هاربًا وكان هروبه الأول ضربًا من الانطواء الباطني الذي يتميز به أكثر العصبيين والفنانين.

لم يكن هربًا بحق، وإنما «ابتلاعًا» سكولوجيًّا لحادثة لم يستطع إخفاءها عن عينه فأخفاها في باطنه.

وكان هروبه الثاني محاولة للنسيان بطريقة فنية، وذلك بأن يحاول نسيان الإخفاق بالكتابة عن الإخفاق، أو بضد ذلك وهو تخيل النجاح في المضمار الذي أخفق فيه، أجل يتخيل ماذا كان يمكن أن يقع لو أنه نجح، وماذا كان يمكن أن يحدث لو أنه أحب فأفلح … وفي الحالة الأخيرة قد يرفعه فنه إلى آفاق تجعل الخيال قريبًا جدًّا من الواقع.

ويذكرني ذلك بوصف رائع لأرنولد بنيت عن المشنقة، جعل أحد المعجبين به يكتب إليه مثنيًا عليه، وقائلًا له: «لا بد أنك رأيت بعينيك أو عاينت شيئًا من هذا.» فأجاب بينت: «كلا يا سيدي، إني لم أر مشنقة في حياتي!»

وما كتاب توفيق الحكيم: «الرباط المقدس» غير هرب فني على الطراز الذي ذكرته.

هرب فني جليل، يبلغ توفيق الذروة، حتى يختلط على الإنسان الواقع والخيال، وحتى يظن القارئ أنه عانى كل ذلك كما عانى أرنولد بنيت المشنقة!

قلت إني وقفت والمرحوم أدهم مع توفيق الحكيم عند مرحلة واحدة.

هذه المرحلة هي في رأيي المرحلة الأولى في حياته، وهي المرحلة التي يقطعها الفنانون جميعًا، وهي مرحلة النظر الباطني introvert أو إدمان التأمل في داخل النفس، فإما يموتون عندها أو يمد الله في أجلهم فيدركون المرحلة الثانية وهي مرحلة النظر الخارجي Extravert ومما يذكر عن فاليري على سبيل الدعابة أنه في المرحلة الأولى تقاربت حدقتا عينيه من أنفه لإدمانه التأمل في ذات نفسه، فلما بلغ المرحلة الثانية — أي أخذ يفكر جديًّا في العالم الخارجي — تباعدت حدقتاه كأنما أصيب بالحول!

لن أتكلم اليوم عن المرحلة الأولى، فقد وكل إلي في هذا البحث أن أتولى الكلام عن الثانية، ولديّ الآن كتب توفيق الأخيرة، وهي التي تُعنى بمشاكل العالم، وتدرس أحواله ونظمه، سأتكلم عن توفيق الحكيم من ناحيتها، مع العلم بأنه لم يخلص بتاتًا من عالمه الخاص، لم يتجرد من النظرة الباطنة التي هي دأبه في كل ما كتب.

قبل أن أتحدث عن آراء توفيق الجديدة أجد أنه لا بد لي من العودة إلى تلخيص ما كتبته عنه سابقًا. لعلمي أن كثيرًا من الناس لم يحيطوا بذلك، ولأهمية ذلك البحث فيما نحن بصدده الآن:

يقول «بران وولف» في كتابه «الحياة الناجحة» SuccessfyI jiving إن طريقته في تحليل النفسيات هي طريقة طبيعية عملية؛ فما عليك إلا أن ترسم أربع دوائر متراكبة للشخص المقصود تحليله:
  • الأولى: طفولته
  • والثانية: مراهقته
  • والثالثة: رجولته
  • والرابعة: حياته الاجتماعية والفنية
متذكرًا خصائص كل عهد سكولوجيًّا، ثم مبينًا فيما يختص بعمله وفراغه وزواجه ودينه ومذهبه السياسي: لأي مدى هو ناضج في كل منها. فمن خصائص الطفولة اللعب والخيال وعدم المسئولية، ومن خصائص المراهقة الأنانية والعنف والتظاهر والميل إلى الهدم والاستهتار، ومن خصائص الرجولة العادية الموازنة واستقرار كفتي الميزان، ومن خصائص الرجولة الممتازة، الخروج عن الأنانية إلى الغيرية، أي العمل للمجتمع، ثم الابتكار الفني.

فلنأخذ على سبيل المثال كاتبنا توفيق الحكيم. لا بد لنا أولًا من استعراض طفولته لما لها من الأثر البالغ في تكوينه فيما بعد.

يقول أدولف الرز في كتابه سيكولوجية الخلق: إن الطفل ينشأ من يومه على الصراع بين إرادتين إرادة القوة وإرادة المجتمع، وعلى مقدار الموازنة بينهما وتغلب إحدى القوتين على الأخرى، يكون خلق الطفل، ثم المراهق ثم الرجل فيما بعد، على صورة من الصور.

ولقد نشأ توفيق الحكيم من أم تركية وأب مصري فلاح، وظلا يتجاذبانه كل منهما بدوره للخروج إلى دائرته والسير على طبيعته، فلا الأم أفلحت، ولا الأب، أي لم يفلح أحد الأبوين في جذبه إلى الخارج على وجه من الوجوه، ولا إلى طريق من الطرق، وأخذ هو بنفسه ينكمش حتى خلق لنفسه دائرة خاصة به، هي الدائرة التي تتجلى فيها له كطفل، إرادة القوة، وتلك الدائرة هي دائرة خيالاته وأحلامه وصوره التي يبتكرها ابتكارًا؛ تلك دنياه الخاصة التي تعوضه عما فقده من عدم اتصاله بالمجتمع.

فمن الثابت إذن في حياة توفيق الحكيم أن إرادة القوة اتخذت عنده مظهر التخيل وأحلام اليقظة والابتكار، وقد كان ذلك المظهر على حساب إرادة المجتمع التي أصابها الشلل إلى حد ما. ومن هذا يتضح معنى الغيبوبة، معنى الذهول الذي يستغرق فيهما توفيق الحكيم، ومن يراه جالسًا على المقهى أو سائرًا على الكورنيش في الإسكندرية ساعات برمتها لا ينطق ولا يتحرك، يؤمن معي أن ذلك العالم، عالم الخيال، عالم الهواجس الباطنة، ما يزال مسيطرًا على توفيق الحكيم الرجل، كما كان مسيطرًا عليه طفلًا.

هذه طفولة توفيق الحكيم، فكيف كانت مراهقته؟

لقد انبثقت في عهد مراهقته حواسه الفنية وتفتحت على أكملها، ولم تشذ عن ذلك حاسة الجنس، ولم تكن مراهقة بالمعنى السيكيولوجي، وإنما كانت امتدادًا لطفولته، كانت مجلى لخيالات طفولته وثمرة لذلك المجد الوهمي الذي نشأ باطنه.

لم يكن في مراهقته عنف ولا استهتار ولا غرور، لم يخرج توفيق الحكيم إلى الحياة كما يخرج المراهق، مزاحمًا، ضاربًا بمنكبيه، كاشفًا رأسه، كلا بل انسربت أحلام طفولته إلى شبابه في هدوء وصمت. وتغذت من المراهقة قوة وأشربت ثقة، يتمير بهما المراهق على العموم كما تتميز الشجرة الجميلة الناضرة المتفرعة وقد تطلعت نحو الشمس، وأقبلت على الحياة مستبشرة.

ولا شك أن ذلك العهد هو من أروع عهود توفيق الحكيم، وأجدرها بالدراسة، فلقد كان يعرف الموسيقى، وينظم الشعر، ومن يدري لعله كان يغني كذلك!

على كل حال لقد أخذت شجرة شبابه تنمو وتعلو وتزدهر، ويمد فروعها للشمس والهواء والسماء. أخذت إرادة القوة تحاول أن تتجلى في شكل تلك الأنواع الممتدة كأذرع مرحبة، أخذت تحاول أن تتصل بالعالم والطبيعة، فتعطي صورة ما لإرادة المجتمع، ولكنها في هذا الوقت، وقت التفتح والازدهار بينما الحاسة الجنسية تسقى من معين غدد ناشطة، وجدت رمز الأمل ومجتمع الأماني في شكل فتاة رائعة السحر، تمثل للشاب المتطلع المتقد الإحساس، كل كنوز العالم على ثغر امرأة …

ولا نطيل على القارئ وصف القصة، فالخلاصة أن كاتبنا العزيز صدم في أعز أمانيه، وطارت منه تلك اليمامة الجميلة ووجد عصا القدر الضخمة تضرب بقسوة أفرع الشجرة المورقة، أي أنامل اليد التي امتدت لتصافح العالم وتتصل بالناس! وانكمشت تلك اليد، انكمشت إرادة المجتمع، دخل توفيق الحكيم إلى «الكهف» الذي خرج منه ليعيد ذكراه إلينا في قصته «أهل الكهف».

فإلى الآن نعرف أن شيئين ميزاه إلى ذلك التاريخ، طفولة مغرقة في الخيال، وصدمة جعلت المراهق ينكمش بعد تفتحه وينطوي بعد انبساطه، ليعود إلى العالم السحري، الذي منه خرج ومن ظلماته برز إلى النور.

فلما مر بدور الرجولة لم يكن مستطاعًا أن يحدث منه توازن في قوى غرائزه، فقد كانت على غير استواء من أول الأمر.

ولنعد أيضًا إلى كيفية تكوين الحاسة الفنية في المراهقة إثباتًا لرأينا هذا، يقول أندريه روسو في كتابه عن الأدب الفرنسي الحديث، وخاصة ما جاء به عن «فرلين» إن الطفل إلى دور الطفولة مقيد بالصور التي حفلت بها الطفولة، وخاصة أمه وأخوته ورفاق صباه والأرض التي نشأ فيها بملاعبها ومراتعها، وما اكتسب به من روعة وجمال، تظل هاته الصور عالقة بخيال الصبي البلوغ، فإذا استطاع الخلاص منها بحيث تنمحي أو لا يبقى منها غير أثر بسيط، فهو رجل عادي أو امرأة عادية، فإذا ظلت لاصقة به لا تبارحه فهو الفنان، ومن ذلك نعرف كيف تتكون الحاسة الفنية، غير أن انصراف الإنسان عن هاته الصور متعلق بطبيعته أولًا، وبمقدار أثر تلك الصور في نفسه، ولقد كان أثر الأمر فيما يختص بفرلين عنيفًا، ولقد يكون تأثير «المرأة» في شكل أم هو الواقع الصحيح، ومن هنا نعرف سبب «الأنوثة» والميل إلى البكاء عند كثير من الشعراء، فهل نستطيع أن نطبق شيئًا من ذلك على توفيق الحكيم؟

قد يكون لمركب الأم عنده بعض التأثير ولكني غير واثق من ذلك، على أن الذي أثق به أن الأثر كان لملاعب صباه، وللذكريات التي ظلت ملازمة لتلك الملاعب، ولقد قلنا إنه كان منصرفًا إلى التأمل في الأشياء أكثر من تأمله في الأشخاص.

أقصد «بالأشياء» اللعبة التي يلهو بها، والكرسي الذي يجلس عليه، كما أقصد الحقل الذي يخرج إليه، والزهرة التي تنبت فيه، كما أقصد القمر أو النجوم التي يراها في الليل، أو الشمس التي يحدق فيها بالنهار.

هذه هي الأشياء التي بقيت لاصقة بمخيلته، ومنها تكونت حاسته الفنية.

ومن هذا يتضح كيف وثب إلى حياة الفنان متخطيًا دور الرجولة العادية.

ولكن حياة الفنان عنده كانت خلقًا وابتكارًا فقط، ولم يتحقق عنصرها الأصيل عنده، وهو الناحية الاجتماعية إلا متأخرًا جدًّا، وقد حاول أن يحققه عمليًّا والصواب أن عليه أن يحققه عمليًّا، إما بالعمل الحقيقي للمجتمع، أو بإعطاء صورة يحتذى بها، وأبسط هذه الصور الزواج، ونسيت عنصرًا ثالثًا وهو الغيرية، فإن استغراقه في الذهول أي انغماسه في ذاته لم يدع للغيرية مجالًا إلا في الاستفاقات النادرة عنده.

نعود إلى تطبيق تحليل بران وولف، إذا طبقنا التحليل عليه في عمله وجدناه حيثما كان مثمرًا.

وإذا طبقناه في كيفية لهوه وفراغه وجدناه ناضجًا لأنه يلهو بالعمل المثمر النافع.

وإذا طبقناه في كيفية حبه وجدناه لم يخرج من دور الطفولة.

وإذا طبقناه في كيفية إيمانه، فأنا أضيفه إلى المتصوفين الذين لا يعبرون عن إيمانهم بالكلام، بل بالصمت المطلق، وهو من أرفع درجات العبادة.

وإذا طبقناه على مذهبه السياسي فهو بين الطفولة والمراهقة، لأنه يكتفي بالإشراف بدون أن يعتنق مذهبًا، وأرجع فأؤيد رأي بران وولف في هذا، هو أنه لا بد للرجل من اعتناق مذهب ما، والتحيز له والدفاع عنه، وليس هذا فحسب، بل يجب لكي يكون نضجه تامًّا أن يفيد المجتمع بهذا المبدأ، ويحاول نشره والدعاية له ما دام بصوابه.

يسألني سائل الآن: وما رأيك في الحاسة الجنسية عند توفيق الحكيم؟

أقول إن الغريزة الجنسية إما بدائية، وإما متحضرة، فالبدائية لا تتجاوز إشباع رغبة، أعني أنها عمل فسيولوجي محض، وأمكن إثبات ذلك عمليًّا، بواسطة إمرار تيار كهربائي على السلسلة الفقرية للفأر فإنه يحدث إذ ذاك ما يحدث تمامًا في العملية الجنسية أي أن المسألة في أصلها فعل انعكاسي.

وفي رأي ألفرد الرز في كتابه سيكولوجية الخلق أن الفرق بين الغريزة في أصلها والعمل الانعكاسي بسيط جدًّا، لا يكاد يذكر.

فماذا حدث إذن حتى تحضرت الحاسة الجنسية؟ يقول فرويد إننا بنينا لها دورًا أعلى وأوجدنا لها أفقًا لم يكن موجودًا من قبل، نحن الذين خلقنا حولها «الخيال» وكسوناها من نسج أفكارنا الحنان والرقة، نحن الذين ابتدعنا ما سميناه الحب والعشق والغرام، وما ذلك غير الغريزة الأصلية مكسوة بثوب من حرير، وقد تزينت كالمرأة العصرية حين تتكحل وتضع الأحمر في شفتيها، وتصفف شعرها على آخر زي.

إن «الخيال» الذي هو طفولة توفيق الحكيم وشبابه قد كسا غريزته الجنسية من رأسها لقدمها، ولكنه لم يمحها ولن يستطيع، حقيقة قد غمرها الثوب غمرًا ولكن التكوين البدائي ما يزال هناك، يحاول أن يستعيد سلطته أحيانًا، أو يسمعنا صوته أحيانًا، فيتكلم في «شهر زاد» وفي «الرباط المقدس» ولكنه همس خافت في عالم يموج بالرؤى ويصطبغ بالأحلام.

هل هو يكره المرأة حقًّا؟

أككر كلا، ولكن الإنسان إذا صدم من شيء يحبه انصرف عنه ولم يكرهه، وإذا لم يستطع أن يحدثه هو، حدث الناس عنه.

•••

هذا كان رأيي من قديم حتى قرأت «راقصة المعبد» و«بيجماليون» فانكشفت لي أمور أخرى لم أكن أفطن إليها لولا قراءة هذين الكتابين.

لقد كنت أفسر حياة توفيق الحكيم كلها على أنها «هرب فني»، فإذا الغريزة الجنسية عنده تمثل هذا الهرب الفني أصدق تمثيل وأروعه، فلنتأمل قصته «راقصة المعبد» فهي قصة شبيهة بالاعترافات، يحدثنا فيها توفيق عن رأيه في الجمال ورأيه في المرأة ورأيه في الحب، وأحسبه يفصل هذه الآراء دفاعًا عن نفسه كعدو للمرأة. خلاصة هذه القصة الممتعة أن توفيقًا تعرف بالراقصة الجميلة «ناتالي» في القطار. وكان جمالها من النوع «المخيف» وعرفت هي بدروها أنه عدوها أنه عدوه للمرأة، فأحبت أن تشفيه من تلك العداوة، فبدأت بأن سلمت قيادها له، وتركته يمضي بها إلى وكره الذي فيه يطمئن وعلى وساده يجد الثقة والأمان، وانطلقت معه كأحسن ما يتحلى به الرفيق اللين الظريف المطواع، وعادت معه على أحسن ما تطيب به العودة ويحلو المآب. صعد بها إلى غرفتها، ولزم هو مضجعه في البهو يعد ليلته أنفاسه وأنفاسها، حتى إذا أقبل الفجر انطلق هاربًا …

فلما رجع وجدها هي أيضًا قد هربت، فرجع هو يبحث عنها ولكن هيهات!

فرت الظبية إلى الأبد. وأبصرها توفيق في أفخر الثياب وأزهاها، وحولها شبان في أفخم مظاهر الشباب وأزهاها …

هذا هو اعتراف توفيق بما فعله حين سلم الجمال «المخيف» قياده إليه، واستقى بين أحضانه على غير توقع! فالآن نتكلم عن التفسير السيكولوجي لهذا العمل العجيب. وسنرى أن هذا التفسير سيوضح لنا كثيرًا مما خفي علينا في حياة توفيق الجنسية أولًا وأخيرًا. مع العلم بأن «بيجماليون» تفسر لنا ما يتخيله توفيق لو تم الجانب الآخر للمسألة وتمتع توفيق الحكيم بالجمال «المخيف» كما تمتع بيجماليون بجلاتيا عندما صبت الآلهة في عروقها الحياة، وأسلموها إليه زوجة محبة مطيعة.

ذكرنا سابقًا عند الكلام عن سيكولوجية الغريزة الجنسية أن الإنسان المتحضر خلق جوًّا شعريًّا فنيًّا للغريزة البدائية الجنسية المجردة، ولكن هذا «الجو» يجب أن يكون متمًّا للأصل ولاصقًا به، فإن انفصلا بعد اتصالهما حصلت كارثة تعصف برجولة الرجل تمامًا.

وشبيه بالحاسة الفنية، حاسة الإجلال والاحترام والتقديس، فكم من شاب لا ينقصه من فتوة الشباب شيء أخفق مع الزوجة التي يحبها، أو الحبيبة التي يقدسها، والإخفاق عادة يتلوه الإخفاق بلا نهاية، وينتهي تكرار الإخفاق إلى الهرب. وبين الإخفاق والهرب يقف «الخوف» كجسر مخيف يعبره المخفق وهو هارب.

وهناك عدة عوامل أخرى تشترك مع ما ذكرنا لتزيد في الإخفاق، ويجسم الخوف من هاته العوامل؛ أثر الأم في الطفولة، وبخاصة إذا كان الطفل يحبها، وهو كذلك يخافها ويخشاها ويحترمها. إن مركب الأم هذا لا يمحي مطلقًا من ذاكرة الطفل ويلازمه شابًّا ورجلًا، ومن هاته العوامل أيضًا وجود «الخوف» في نفسية الطفل على أية صورة، فإن الخوف ينتقل ويتشكل ويأخذ ألف زي، ولقد يأخذ شكل نقيضه وهو الشجاعة؛ فإذا رأيت الرجل المكدود يتصبب العرق من جبينه فقلت «ما أشجعه» فأنت واهم، فإن هذا الرجل يمثل صورة «الخوف» من الغد بأجلى بيان. وقد يعتاد الإنسان الخوف من الظلام، فحينما يكبر يخشى كل ما يشبه الظلام في معناه.

فهل كان عاملا المرأة المحترمة المحبوبة والخوف موجودين في حياة توفيق الأولى؟ أحسب ذلك؛ فإن والدته تركية، والتركيات مشهورات بالصرامة والمهابة، وهن على جانب عظيم من الحنان الذي يخفينه تحت ستار القوة والبأس.

فوق أن توفيقًا بطبيعته الفنية موهف الحس، سريع التأثر؛ فلا تجد «الإشارات» المخية عقبات هامة في سبيلها إلى المجموع العصبي، ومن بين هاته الإشارات ما يسمى في علم النفس الموانع inhibitions وأكثر هاته الموانع غير واعية subconseious؛ وهي تعمل عملها في الخفاء؛ فعندما يتم كل شيء، ولا يحول حائل دون امتلاك الأمنية والتمتع بها تهبط «لا» من أعلى ويتبعها تعليلها وهو «كيف تقسو على التي تحبها!» فيحدث ما يسمى نيوروز التوقع Ex pectancy Neurosis وقد ذكرت أنه في المسألة الجنسية، الخيبة تورث الخيبة، وحتى الذكرى تقف وتعترض وتحول دون أي نجاح يرجى فيما بعد. وهذه الخيبة تلقي بدورها ظلًّا كئيبًا على كل ما له صلة بها. تلقي ظلًّا كئيبًا على المرأة، وعلى المسألة الجنسية، وأخيرًا تلون الحياة كلها بلون الإخفاق والحرمان.

ننتهي من هذا إلى أن عامل «الخوف» من المرأة هو الذي يسيطر على نفس توفيق الحكيم لا الكره! وما وصفه ناتالي «بالجمال المخيف» إلا حقيقة صدرت من عقله الباطن ودلت على صدق ما ذكرنا.

وأي كره تلمحه في كتب توفيق الحكيم للمرأة؟

ليس هناك غير اللفظة يصيح بها للتعمية، إن وصفه الجمال قطعة قطعة. إحساسه بالعين الساحرة والخصلة الفاتنة والعطر الأخاذ، بل استغراقه في الوصف كلما وجد سبيلًا لذلك، كل ذلك يدلنا على شغفه بذلك الجمال، وخوفه من طغيان ذلك الشغف، ثم يحاول أن يضحك منا، فيريد أن يقول إن الجمال شيء، والمرأة شيء آخر. الجمال هو جلاتيا في التمثال الجامد المنحوت، والمرأة هي جلاتيا بالمكنسة.

يحاول أن يفصلهما ليريح أعصابه، وليطابق انفصالها بُعْد ما بين الفن والآدمية عنده، يحاول أن يزدري المرأة حين يراها تطبخ وتكنس ويريدها أبدًا ذلك التمثال الذي لم يلوثه الغبار! أو باختصار يريد الفن سماويًّا مجنحًا نظيفًا شفافًا. وأين له ذلك؟

أيستطيع أن يخلق من ذات نفسه فنًّا غير متصل بآدمية ما؟

أحسبه قد نجح إلى حد ما، ولكنه عوقب على هذا النجاح، فهو يكتب ورأسه معلق في السماء ورجلاه تترنحان في الهواء. ومن يراه على هذا الوصف يفسر كل شيء في حياته؛ تحليقه الرائع، وأحلامه المستحيلة، ويفسر خوفه المستتر وراء أمانيه، فلا الملائكة أخذت بيديه، ولا العالم الأرضي الذي يرفسه برجليه محاولًا الارتفاع عنه بتاركه يفعل إن بينه وبينه قيودًا من الأرض والدم والجنس …

لعلنا الآن فرغنا من تفسير علاقة توفيق الحكيم بالمرأة، ووضعناها الوضع الصحيح، ولكن قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى أريد أن أذكر أنه يخيل لي أن قصة ناتالي، هي استعادة لقصة عودة الروح، وإنما بشكل آخر، فإننا نفهم من عودة الروح أن الظبية اختطفت اختطافًا، سباها غاصب جبار، ولكني الآن بعد أن قرأت كتب توفيق الحكيم كلها، أكاد أجزم أن في المسألة «هربًا» — في اللحظة الأخيرة من توفيق — جعل المسكينة تنصرف إلى أي رجل آخر تجد منه إقبالًا لا هروبًا وإجفالًا.

إذا كانت الأمنية معتصمة بحصن منيع، فمدت إليه يدها بمفتاح الحصن؛ فضل أن يترك المفتاح للأقدار ويولي الإدبار.

كذلك فعل في عودة الروح.

وكذلك فعل في راقصة المعبد.

وإذا كان الحصن آدميًّا طيعًا سهلًا لم يستعصم ولم يمتنع، لعن آدميته وذم نبض الحياة فيه، وولى الأدبار باكيًا على الفن.

كذلك فعل مع ساشا.

وكذلك فعل بيجماليون مع جلاتيا بعد أن نفضتها له الآلهة امرأة حية مطواعة.

ما زلنا نتكلم الآن عن المرحلة الأولى في حياة توفيق الحكيم وقد وعدنا القارئ بعدم التعرض لها، ولكننا وجدنا أنه يستحيل أن نفهم المرحلة الثانية بدون الأولى. ثم إن المرحلة الأولى تستغرق كل حياته تقريبًا، والثانية حديثة العهد، ولكنه يهتم بها اهتمامًا بالغًا، لماذا يهتم كل هذا الاهتمام؟ السر هو أنه الطور الأخير الذي يستكمل به توفيق الحكيم ما نقصه في حياته، والأصح أنه المجهود الذي يغطي به ما ضاع عليه.

ما هو الذي ضاع عليه أو منه؟ إنه رجل بلغ قمة الشهرة والمجد، إنه رجل ترجمت كتبه لعدة لغات. إنه رجل حر. إنه رجل يعيش في دائرته الخاصة كملك. إن توفيق الحكيم رجل مثالي. رجل يدعو إلى الرحمة والجمال والخير كما تشهد بذلك قصصه القصيرة في «سلطان الظلام»، إنه رجل ينشد «السبرمان» وها هو قد قضى زهرة الحياة يغترف من معين السماء، ويقتبس من النجوم، يريد أن يرفع أهل الأرض إلى تلك العوالم المضيئة المتألقة العالية، وصيحاته الأخيرة وعويله الدائم يدلان على أنه لم يفلح، فماذا يفعل هذا الذي يحمل رسالة ويتقدم بمشعل. يفعل كما فعل «نيتشه»؛ يجرب إصلاح أهل الأرض ما دام من المستحيل نقلهم إلى السماء. يعالج مشكلة «الطين» بعد أن عجز عن تطهيره بأشعة روحانية تنقي ذلك الطين أو تغسله من أدرانه. يحبذ انصراف أهل هذه الدنيا لتنظيمها وتعميرها وتطهيرها واستغلال خيراتها.

هذا هو السبرمان الذي دعا إليه زرادشت.

أيشعر توفيق الحكيم أن الفن قد أضاعه؟

أيشعر توفيق الحكيم أن الفن حبسه بين الكواكب؟ وعمق محجريه بين الفراقد والشموس، وفكره بالقمم الشواهق وصرفه عن الحقيقة الكبرى. وهي أن الفنان لا يستطيع أن ينفطم من الأرض التي منها نبت وعليها ترعرع. كذلك قال الحكيم رسكن.

الآن يعود توفيق الحكيم برجليه إلى الأرض ليسمع ضجيج المطامع وصليل الوقائع.

ولكن هذه الرجعة مشوبة بخيالات المتصوفين وعشاق ما وراء الطبيعة، مشوبة بخرافات الإغريق والنرويج، فها هو في «سلطان الظلام» يذكر «المطرقة الفضية» ويختم مشهدًا من مشاهد قصصه تملاك في يده تفاحة، يذيقه أهل الأرض الهوان فيصعد لاعنًا ساخطًا …

إن المرحلة الجديدة في (التطور الاجتماعي) لتوفيق الحكيم لا تعدو صيحات — على حد تعبيره — يرسلها رجل يحمل مشعلًا، فيجد الظلام أقوى من المشعل، والطبل المدوي بالمنافع والأطماع أعلى من صيحات إصلاحه ونداءاته في سبيل الخير والحب والجمال.

•••

وليست شخصية (الحمار) التي ابتدعها الكاتب العبقري، غير صورة المتكلم يئس فأصابه الإعياء فسكت، وصورة العالم الذي رأى العالم يعج بالغباء، فتغابى فصار حمارًا.

وليست قصة (الرباط المقدس) غير التفاتة إلى المنغمسين في الطين من أهل مصر وتنويح على ضعتهم ونفاقهم وخياناتهم، وبكاء على بهيميتهم، وغبائهم.

لننظر الآن في هذه «الرجعة» …

لننظر في مقدمة سلطان الظلام.

لقد قلت إن هاته المقدمة «صيحات».

ولكنها والحق يقال صيحات صادقة، وفيها فكر ثاقب ونظرات تخترق حجب الغيب عندما يتكلم توفيق الحكيم عن معاطب الإنسانية وجراحها. ولكنه عندما يتقدم قليلًا فيتكلم في النظم والمبادئ يبدو لنا خطؤه السياسي:

مثال ذلك أنه يبتدع تعبير (الديمقراطية الاشتراكية) كنظام مرادف (للوطنية الاشتراكية). عرفت من اقتراحه هذا أنه بعيد كل البعد عن فهم تطور النظم، بقدر فهمه وعرفانه لتطور النفس الإنسانية! واطلاعه على خفاياها وزواياها.

فإن التعريف الصادق للاشتراكية، هي أنها (ديمقراطية اقتصادية). فإنه عندما أخذ الفرد يتحرر ويؤمن بذاته نادى (بالديمقراطية) فكانت هنالك ديمقراطية في الفنون وديمقراطية في السياسة، وديمقراطية في الأحوال الاقتصادية وهي الاشتراكية فلا معنى إذن لهذا الشيء الجديد (الديمقراطية الاشتراكية).

وهناك شيء آخر يدلني على أخطاء توفيق الحكيم السياسة.

فقد ذكر ضمن (الوصفات) التي قدمها لعلاج الإنسانية المتألمة، تهذيب العقل، وتعهده بالصقل والعناية يعتقد بذلك أن العناية بالفكر الإنساني تقرب الإنسان من الإنسان والأمة من الأخرى.

ولقد ثبت للباحثين في مشاكل العصر الحديث أن نكبة الحرب الحاضرة نكبة سيكولوية، لا اقتصادية كما يعتبرها. ومنشؤها الإشادة بعظمة الفكر الألماني؛ فلقد ظل الفكر الألماني يعلو ويصقل ويتطور، وظل الفرد الألماني يؤمن بتفوقه، حتى صارت حالة ألمانيا تشابه عملاقًا يسكن رأس جبل؛ بعيدًا عن العالم يعتقد بتفرده وتفوقه، ولذلك يأبى أن يمد يده لسواه ممن يعتقد أنهم أقل منه، ذلك سر العزلة الألمانية القاسية، سر الشجن الألماني العالم، سر الموسيقى الألمانية الدامية العاصفة، سر النكبة التاريخية الكبرى!

وما دام توفيق الحكيم قد ذكر كتاب (روبنسون) فأرجو أن نقلبه من جديد لنعلم أنه قدم علاجًا لم يلتفت إليه، ذلك العلاج هو في عرفان سر التأخر، وإنه لا إهمال الفكر ولا مشكلة الاقتصاد، ولكن بقاء الخلق تابعًا للتقاليد، للتقاليد القديمة التي جرى بها العرف ولم يجئ أحد كديكارت يلقي الشك على صلاحيتها، لم يجئ أحد يحدث ثورة في مبادئ الخلق كما حدثت الثورة في العلم. الثورة التي هزت عروشًا كان العلماء يظنونها ثابتة الأركان. الثورة التي وثبت بالعلم إلى مرتبته الحالية. ولكن مع الأسف جعلته يكسو بدرع من الفولاذ ويسلح رجلًا ما زالت غرائزه غرائز أهل الكهوف والمغاور …

•••

إن هذا الفنان الكبير يفسد علي تفكيري كلما حاولت أن أضع خطة رياضية لوصفه، أو نظامًا ثابتًا في تحليله، فإنه يضطرني للتنقل مسرع الخطى وراءه كساحر لا يفتأ يريني في كل كتاب لونًا جديدًا من دنياه العجيبة. وكلما أحسبني انتهيت من فهمه أجدني لا أزال في حاجة إلى دراسته من جديد.

فالآن أعود إلى مقدمة «سلطان الظلام» لبعض التفصيل، ثم أعود إلى «الرباط المقدس» ثم أختتم بكتابه الرائع «زهرة العمر» الذي أعتقد أنه أعمق ما كتب. إنه ليذكرني بكتاب لكونان دويل اسمه الباب السحري The magic door

يدخل فيه من رأي لرأي ومن فن لفن ومن كتاب لكاتب حتى يملك عليك حواسك كما صنع توفيق في كتابه زهرة العمر …

لفت نظري في المقدمة المذكورة، قول كيسرلنج إن كل شيء اليوم خاضع للشطر «غير الروحي» للكائن البشري …

هذه الحضارة ما كانت تستطيع أن تنتهي إلا إلى هذه النهاية «غير الإنسانية» ما دامت تؤدي على هذه الصورة المخيفة إلى سيادة الآلة على الحياة…. إلخ.

ما هو هذا «الشطر» الذي يذكره كيسرلنج؟

إن الذي أعجب توفيق الحكيم في هذا القول هو أن كيسرلنج يعبر به عن السر في الاضطراب الحالي في العالم. قرأت حديثًا كتابًا اسمه مستقبل الإنسان لفرانك مورتون، تناول فيه تناولًا جديدًا أحوال العالم الحاضرة، وتناول مسألة الخلق، ومسألة الدين، ومسألة حرية الإرادة، تناول كل ذلك تناولًا بارعًا، فهو يبدأ بحثه بإثبات أن العالم «الواعي» العاقل الذي نعيش فيه بحواسنا، ونهتدي فيه بالواقع، ليس غير عالم صغير جدًّا بالنسبة للعالم الآخر الذي نحسه، ولا نستطيع إنكاره، وفي الوقت ذاته لا نستطيع إثباته، ولذلك لا نعطيه أهمية كبرى لأنه ليس في متناول حواسنا ولا مشاهداتنا، إن الذي نعيش فيه هو ذلك العالم الضئيل المبني على المشاهدة والتجربة، ومن يدري لعله انعكاس صغير للعالم الخفي الذي يجري في داخل نفوسنا، الذي نؤمن بوجوده ولكننا لا نستطيع التحكم فيه إلى الآن!

فعندما يتعرض مورتون لمسألة الخلق يقول إن الخلق حسب ما عرفنا إلى الآن هو علاقة الإنسان بذلك العالم الصغير، والإرادة ليست حرة ما دامت هي ذلك الشيء المكبل بالقيود المصطلح عليها في ذلك العالم الصغير، والدين من حيث هو داع إلى الخير أو رادع للناس أو منظم لعلاقاتهم بعضهم ببعض، هو عند الأكثرين متعلق كذلك بعالمنا الصغير، من أجل ذلك صرنا عبيدًا للمادة، عبيدًا للآلة، عبيدًا للأوضاع.

ولكن الخلق الحق نابع من أعماق العالم الخفي الكبير، والإرادة حرة في ذلك العالم الطليق، والذي على أكمله مستقر في أعماق تلك الأبدية المنسابة على مهل في صميم الوجود. وما دام هذا المنبع الخفي هو الذي يغذي المنبع الصغير الذي نسميه حياتنا، ألا سبيل للالتفات إليه؟ ألا سبيل لدراسته؟ إننا لو فعلنا لشفينا كثيرًا من الأدواء التي لم نجد لها علاجًا. إن الأزمات الروحية التي قامت في نفوس العظماء الذين غيروا وجه التاريخ لم تنبع من ذلك العقل الواعي المحدود، بل نبعت من ذلك المعين الدفين المجهول وثارت كما تثور عاصفة في عباب بحر مائج قد يحجبه الظلام عن عين الملاح. ولكن هذا الأخير لا يستطيع أن ينكره.

لا يجب أن نكتفي كما يقول توفيق الحكيم بإطلاق القوى الروحية، فهي منطلقة حتمًا بالرغم من كل شيء ولكنها قوى لم تستغل بعد. ولم تنظم بعد. لأنها لم تدرس بعد. هذه القوى الروحية هي قوى كهربائية لا بد لها من فهم ودراسة شاملة.

•••

إن في «الرباط المقدس» ندمًا ظاهرًا على ما أضاعه في حياته من تسخير الجسد للفكر. وثورة جامحة على أنه لم يذق لذّات الجسد على حقيقتها.

ما أروع تعبيره في ذلك! إن ما كتبه لتحفة فنية وقطعة خالدة في الأدب العربي. لقد قرأت «لورنس» وهو يبدع في وصف تذوقه للجسد. قرأته شعرًا ونثرًا. فلم أجد أجمل مما كتب في «الرباط المقدس» فليسمح لي أن أقتطع منه لأشرك القراء في الاستمتاع به.

«إن رءوسنا بما تفرز من معان تغلف بها المادة، لتقصينا بدون أن نشعر عن لمس حقائق الأشياء. إنها المبارزة الدائمة بين المعنى والمبنى. والفكر والجسد والروح والمادة. كل منهما يريد أن يحجب الآخر. فلا نبصر منه غير ظلال شاحبة. فالفكر إذا طغى يفسر لنا الجسد بمعانيه. والمادة إذا طغت تفسر لنا الروح بوسائلها … لا … لا شيء يفسر المادة غير المادة. أو الروح غير الروح. لا بد أن يلتحم صدر بصدر. وتلتصق شفة بشفة حتى يخرج من ذلك الاحتكاك قبس من شعور خاص هو وحده الذي يرينا ما لا يستطيع الفكر المجرد أن يتخيل …» إلخ.

لقد رأى العراف كفه فقال له إنه «روحاني» فكيف وهو مصوغ من الروحانية يستطيع أن يتذوق المادة؟

لقد ذبح المرأة ذبحًا، في هذا الكتاب، ولكن سكينه كانت تذبح طيرًا جميلًا كان يتمنى أن يرى أسنانه فيه قبل السكين.

الآن نختم هذا البحث القصير بشيء عن «زهرة العمر»، ذلك الكتاب الساحر الذي لا يمل …

إن فيه اعترافات صادقة لكل ما يجول بنفس توفيق الحكيم وإن كان تحليلي السابق صادقًا، فإني ليسرني أن أنقل بعض هذه الاعترافات، لا كتدليل على صدق تحليلي بل استعادة لأدب شهي يريد الإنسان أن يجلس إلى مائدته المرة بعد المرة …

فلنستمع إلى خطابه لأندريه في صفحة ١٧:

صدقت فراستك. الخيال قد أضاعني يا أندريه. أنا شخص ضائع مهزوم في كل شيء وقد كان الحب آخر ميدان دحرت فيه وإذا كنت تسمع من فمي أحيانًا أناشيد القوة والبطولة. فاعلم أني أصنع ذلك تشجيعًا لنفسي، كمن يغني في الظلام طردًا للفزع …

حقيقة إن الخيال قد أضاعه، وحقيقة أنه يشعر أن «إرادة» القوة مفقودة في حياته من أولها فهو يحاول بمختلف الطرق أن يعوض ما فقده منها.

ثم لنستمع إلى جزء من خطاب آخر (صفحة ٥٢):

طبيعتي التي تميل إلى عدم الأخذ بما يأخذ به الناس جميعًا أحب المودرتزم لأنه أقرب الفنون إلى الخروج على المألوف.

… أريد أن يكون هنالك منطق خاص يحوي فروضًا خاصة لا تخضع للمألوف من الآراء والمشاعر.» وما هو ذلك المنطق الخاص!

«تلك هي الرياضة: فرض وعقل ومنطق!» يذكرني ذلك بالكاتب الفرنسي تين حين أعجبه لحن موسيقي فصاح: هذا جميل كالنظرية المنطقية  Syuogisme ويذكرني ذلك ببرنارد شو الذي يعتقد أن أصل الفن مهما اختلفت مظاهره: التناسق الرياضي.

وأنا شخصيًّا أؤمن بأن الدليل على وجود الفنان الأعظم هو شعورنا الرياضي الذي نولد به، فإنه لا يعلمنا أحد أن ١، ١ يساوي ٢!

ولنستمع إلى آراء عدو المرأة في الحب:

إني أحب الحب، وإنك لتعرف أن للحب مقامًا كبيرًا عندي في الحياة … آه لو كان القدر أعطاني هذه المنحة لحظة واحدة وجعلني أجد أحدًا يحبني حقيقة مرة واحدة!

ولنستمع إلى قطعة من الأدب الراثي الساخر تذكرنا توًّا بأناتول فرانس:

جبريل يقول خاشعًا مخاطبًا الله: «يا إله السموات والأرض.

إن المدعو توفيق الحكيم ولد وشب ونما وكاد يدنو من الثلاثين وهو لم يزل يدب على الأرض ويعيش فيها بالمصادفة. وكلما جئت إليك بلوحه لأجل التعيين.» فيسمع كان الصوت العلوي يصيح به: «قلت لك اذهب عني الآن ولا تشغلني بهذا الخلوق!»

ولنستمع إليه يقول في أسلوب الكاتب:

… الحساب ووضع الكلام بمقدار والاعتماد على الخطوط الكبرى التي تحدث التأثير … من ذلك الطراز الذي يشيد معبدًا عاريًا! … ما أشد حاجتي إلى حياة قائمة على أعمدة راسخة.

ولنستمع إليه يصف ألمه الداخلي:

إني أتألم ألمًا لا يراه أحد. هنالك دودة دائمة الوخز، حياتي كلها ليست سوى قارب ثمل، لهذا يخيل إلي أني صديق رامبو الإنسان قبل الشاعر!

إني أذكر لرامبو جملة قرأتها تلخص توفيق الحكيم ورامبو وأمثالهما: مكتوب على لوح حياتي: موت بلا دموع، وحب خائب وبضع جرائم صغيرة تنتحب في الطريق!

ثم نمضي في الكتاب فنرى كيف قضى توفيق أيامه يستكمل فنه وثقافته، والله إنها الحياة جديرة بالتأمل، لا أعرف ماذا أذكر منها وماذا أدع.

حسبي هذا البحث القصير فإن المجلدات الضخمة قليلة في جنب هذا المجلد الضخم!

٢

أثر توفيق الحكيم في الأدب المعاصر:

  • (١)
    أثره في المسرح:

    لا شك أن توفيق الحكيم مجدد في المسرح العربي، ومنشئ جيل، وزعيم مدرسة، ويؤسفني أنه لضيق المجال لم أتعرض لمسرحياته في التحليل السابق، والواقع أنها تحتاج إلى دراسة خاصة، فإن مسرحيات توفيق الحكيم عالم خاص قائم بذاته، وإن كان ينتهي إلى نفس ما انتهينا إليه من أن «الفكرة» هي النواة التي يدور عليها عالم توفيق الحكيم، يساعدها الخيال، ويمتد ذلك الخيال أحيانًا حتى يصير غرامًا بالأساطير «الميتولوجيا». وتوفيق الحكيم هو الذي أدخل (الحوار) فنًّا من فنون الأدب العربي، له مكانه اليوم إلى جانب فن (المقالة)، وجعل المسرحية لونًا من ألوان الأدب تقرأ لذاتها لا للتمثيل. وحيث إن المسرح المصري لا يزال قائمًا على المفاجآت والحبكة المسرحية، فإن مسرح توفيق الحكيم لم يجد مجاله بعد. ولذلك لم ينجح النجاح المرجو له على خشبة المسرح نجاحه في المطالعة. ولنفس السبب فشلت مسرحيات «إبسن» العظيمة. وذلك لأنها تدور حول (الفكرة). مضافًا إلى ذلك استغراقها في الرمزية. وقد تبين لي أن توفيق الحكيم منصرف إلى هاته الناحية في مسرحياته الأخيرة، ليزداد فشلًا على فشل! أقصد من ناحية الجمهور! وإن كنت أؤمن أن هذه المسرحيات العظيمة سيقدرها الجيل القادم.

  • (٢)
    أثره في القصة:
    ذلك أثره في المسرحية، فلننظر إلى أثره في القصة: إني إن قلت إن توفيق الحيكم هو الذي أنضج عنصر القصة الطويلة في الأدب العربي الحديث١، فهو قد أنضج تمامًا القصة القصيرة.

    وأعتقد أنه لم يحاول ذلك، لأن طبيعته الفنية تميل إلى تقصي التفاصيل، وريشته تجد مجالها في التصوير الذي يستدعي دقة الملاحظة والإلمام الشامل. وهو في نظري أقرب الروائيين إلى (دكنز) و(ثاكري). وفي «عودة الروح» شبه كبير من (دافيد كوربرفيلد) ويتضح من رواياته أنه كذلك يميل إلى أن يتخذ لنفسه دور البطل أو بعبارة أخرى (أنا) ما دام الفن هو (أنا) والعلم هو (نحن) أو (هم)! ومن هذا ابتكاره (لليوميات)، فإنه في نظري أول من جعل لهذا الضرب من الأدب أهمية ملحوظة في العربية.

  • (٣)
    أثره في المجتمع:

    أما أثره في المجتمع، فإنه فيما يختص بالمرأة، قد صرح مرارًا أنه يكره أن يراها تزاحم الرجل في ميادينه الخاصة. وهو في هذا (رجعي) من الطراز الأول.

    على أن شيئًا واحدًا أحب أن أعترف له به، وهو أنه ضرب مثلًا رائعًا في حرية الرأي، وفيما يجب أن يكون عليه الأديب الفنان من قبول التضحية بالمنصب والمادة حينما يوجد داع لذلك.

    وقد صرح برأي جليل فيما يجب أن تكون عليه الوزارات المصرية، وكيف تؤلف، وقد شرح بالعقل صفة الوزراء الذين يجب أن تؤلف منهم وزارة قوية، وزاد على ذلك أن قسم الوزارات المختلفة تقسيمًا جديدًا، فكان من الرائع أنه أول من فكر في إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية٢. وأول من فكر في جعل الأوقات والصحة وزارة واحدة.
    ولقد جوزي على صراحته وجرأته٣. ودارت الأيام فإذا بعض آرائه تشبه آراء هـ. ج. ولز حين حققت الأيام نبوءاته فيها.
١  راجع في عدد مجلة الهلال «مارس — أبريل ١٩٤٣» خلاصة محاضرة ألقاها الكاتب الإنجليزي ت. ج. كولين بالي في المعهد البريطاني بالقاهرة عن القصة الطويلة في الأدب العربي الحديث! جاء فيها: «… وأول ما أذكر في هذا الصدد قصة «زينب» للدكتور هيكل باشا؛ لأنها أسبق القصص المصرية في تاريخ ظهروها، ولا شك أن ليس من العدل توجيه نقد قاس إلى أول تجربة في هذا الفن الجديد، ولكن في وسع المرء أن يقول إن نقطة الضعف في الكتابة هي الموضوع الذي يتناوله وليست القصة التي يرويها، ومع أنه يوجه عنايته إلى مناظر القصة، إلا أن القارئ يشعر أنه يصف الريف المصري فحسب، دون أن يجهد في تفسيره وتعليله، هذا إلى أن القصة ينقصها البحث السيكولوجي العميق، وقد استطاع المازني أن يكون أكثر تمكنًا من شخصيات قصصه، ولكن قصة «إبراهيم الكاتب» قصة غربية في جوها، رغم أن المازني يقول إن القصة المصرية يجب أن تكون مصرية في روحها وتكوينها، ولهذا فإن قصته هذه رغم براعتها وجودتها وفكاهتها، يجب أن يقال إنها قد فشلت كقصة مصرية، والدكتور طه حسين بك شخصية كبيرة في كثير من ميادين الكتابة ولكني أظن أنه لم يكن موفقًا في فن الرواية. ومن الغريب أنه كاد ينشئ رواية ناجحة كاملة بكتابه «الأيام» مع أنه ليس قصة بل ترجمة لشطر من حياته، وقد كان أسلوبه السلس الواضح ملائمًا كل الملائمة لموضوع الكتاب. أما أعماله القصصية الأخرى فيبدو لي أنها أخفقت، وذلك لما يوليه من العناية الفائقة للغة في ذاتها، أما قصته «الحب الضائع» فتبدو فيها آثار قوية للثقافة الفرنسية. ولهذا يصح أن ينطبق عليها ما قلته عن «إبراهيم الكاتب» من أنها لبست رواية مصرية، ويمكن أن يقال إن عمله الأساسي في هذا الميدان الأدبي هو قصته المصرية «دعاء الكروان»، ولكن في هذه القصة تقوم مشكلة الأسلوب. ويتبدى هذا «الروح القوطي» الذي أشرت إليه؛ مما يؤدي به إلى شيء من الزخرف الذي كان في وسعه أن يتجنبه ويتفاداه … وأخيرًا أصل إلى «توفيق الحكيم» الذي أراه الكاتب الوحيد الذي بلغ الدرجة المرضية كل الرضى في فن القصة في مصر. وإن كان قد أخفق في قصته الحديثة «حمار الحكيم» التي لا تزيد عن أن تكون سلسلة من الفصول والصور الممتعة لا يربط بعضها ببعض سوى وحدة «الروي» فيه، أما قصته «يوميات نائب في الأرياف» فهي صورة دقيقة للحياة الريفية وما فيها من نماذج شخصية! وهي إلى ذلك مطعمة بالفكاهة الرقيقة ولكن تنقصها مع هذا صفة «المركزية» مما ينقص من قيمتها كرواية حقيقية. ولكن هذه الانتقادات لا يمكن أن توجه إلى أحسن آثاره، وأعني قصته «عودة الروح» التي أزعم أنها أحسن رواية كتبت في مصر. وموضوعها، وهو النزاع بين الصبي «محسن» والبيئة التي نشأ فيها؛ مشكلة خطيرة حقًّا في هذا البلد، وقد أبرزها المؤلف بما أضاف إليها من ملاحظات سيكولوجية دقيقة. وإن الرواية في جملتها؛ من حيث موضوعها الحيوي، ومن حيث جوه الصوفي الغامض، ومن حيث تعمقها في تناول الأشخاص، كفيلة بأن تحملنا على أن نقول إن الرواية المصرية الصحيحة قد نضجت فعلًا. وقد أمكن لهذه القصة أن تجيب عن هذه المسألة الكبرى، وهي كيف يمكن أن تكتب قصص الحب في ظل المجتمع المصري القائم؟ وكانت إجابة القصة هي أن مسائل الحب ليست كما يزعم الناس بذات أهمية كبرى في فن الرواية. والواقع أن جوهر الرواية الجيدة هو «الصراع». وقد استطاع الكتاب «الشعبيون» في إنجلترا أن يثبتوا أن الجنس والحب ليسا هما الصورة الوحيدة من صور «الصراع» التي تتخذ مادة للقصة، بل ثمة في المجتمع من عوامل الصراع ودواعيه ما يمكن الكاتب من إنشاء قصته، (ص ٢١١–٢١٢ الهلال الجزء الثاني — السنة ٥١).
٢  راجع مجلة «آخر ساعة» العدد ٢٢٩ بتاريخ ٢٠ نوفمبر سنة ١٩٣٨.
٣  راجع في العدد ٢٣١ من مجلة «آخر ساعة» بتاريخ ٤ ديسمبر سنة ١٩٣٨ مقالًا عنوانه «غضب الديمقراطية» بقلم حنفي محمود بك — أحد الوزراء — وشقيق رئيس الحكومة في ذلك الوقت، جاء فيه:

فالديمقراطية اليوم حانقة على كل شيء أزعجها توفيق الحكيم عندما كتب مقالًا بمجلة آخر ساعة؛ داعب الديمقراطية في أشخاص نوابها المحترمين، أو نواب الأمة كما يحبون أن يسميهم الناس … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤