مقدمة

المرأة الجديدة: هي ثمرة من ثمرات التمدن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على إثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والظنون والخرافات، وسلمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها. ذلك حيث أخذ العلم يبحث في كل شيء، وينتقد كل رأي، ولا يسلم إلا إذا قام الدليل على ما فيه من المنفعة العامة. وانتهى به السعي إلى أن أبطل سلطة رجال الكنيسة، وألغى امتيازات الأشراف، ووضع دستورًا للملوك والحكام، وأعتق الجنس الأسود من الرق، ثم أكمل عمله بأن نسخ معظم ما كان الرجال يرونه من مزاياهم التي يفضلون بها النساء، ولا يسمحون لهن بأن يساوينهم في كل شيء.

كان الأوربيون يرون رأينا اليوم في النساء، وأن أمرهم مقصور على النقص في الدين والعقل، وأنهن لسن إلا عوامل الفتنة وحبائل الشيطان، وكانوا يقولون: إن ذات الشعر الطويل والفكر القصير لم تخلق إلا لخدمة الرجل، وكان علماؤهم وفلاسفتهم وشعراؤهم وقساوستهم يرون من العبث تعليمها وتربيتها، ويسْخرون من المرأة التي تترك صناعة الطعام وتشتغل بمطالعة كتب العلم، ويرمونها بالتطفل على ما كانوا يسمونه: خصائص الرجال.

فلما انكشفت عنهم غشاوة الجهل، ودخل حال المرأة تحت انتقاد الباحثين، اكتشفوا أنهم — هم أنفسهم — منشأ انحطاطها وسبب فسادها، وعرفوا أن طبيعتها العقلية والأدبية للترقي كطبيعة الرجل، وشعروا أنها إنسان مثلهم، لها الحق في أن تتمتع بحريتها، وتستخدم قواها وملكاتها، وأن من الخطأ حرمانها من الوسائل التي تمكنهم من الانتفاع منها.

ومن ذلك الحين، دخلت المرأة الغربية في طور جديد، وأخذت في تثقيف عقلها وتهذيب أخلاقها شيئا فشيئا، ونالت حقوقها واحدًا بعد الآخر. واشتركت مع الرجال في شئون الحياة البشرية، وشاركتهم في طلب العلم في المدرسة، وسماع الوعظ في الكنيسة. وجالستهم في منتديات الأدب، وحضرت في الجمعيات العلمية، وساحت في البلاد، ولم يمض على ذلك زمن طويل حتى اختفت من عالم الوجود تلك — الأنثى — تلك الذات البهيمية التي كانت مغمورة بالزينة، متسربلة بالأزياء، منغمسة في اللهو، وظهر مكانها امرأة جديدة، هي المرأة شقيقة الرجل، وشريكة الزوج، ومربية الأولاد، ومهذبة النوع.

هذا التحول هو كل ما نقصد.

غاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى هذا المقام الرفيع، وأن تخطو هذه الخطوة على سلم الكمال اللائق بصفته، فتمنح نصيبها من الرقي في العقل والأدب، ومن سعادة الحال في المعيشة، وتحسن استعمال مالها من النفوذ في البيت.

إذا تم ذلك، فنحن على يقين لا يزعزعه أدنى شك من أن هذه الحركة الصغيرة تكون أكبر حادثة في تاريخ مصر.

إذا كان هذا هو اعتقادنا، فهل يصح أن يصدنا عن المثابرة في السعي إلى تحقيق آمالنا أن الجمهور من العامة لم يلتفت إليه، أو أن بعض الكُتاب أظهروا السخط عليه، ما بين منتقد لم يتفق رأيه مع رأينا، وساخر يقضي عمره في السفاسف، ومغتر ينكر علينا حسن نيتنا.

نحن لا نكتب طمعا في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس الذين إذا سمعوا كلام الله، وهو الفصيح لفظه، الجلي معناه، لا يفهمه إلا إذا جاء محرفا عن وضعه، منصرفا عن قصده، برأي شيخ هو أجهل الناس بدينه! ولا يحبون الوطن إلا إذا تمثل لأعينهم في صورة قبيحة، وأخلاق رثة، وعادات سخيفة! وإنما نكتب لأجل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التي هي مستودع أمانينا في المستقبل، فهي التي — بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة — يمكنها أن تحتل مسألة المرأة المكان الذي تستحقه من العناية والبحث.

لم نر هذه الدفعة حاجة إلى التكلم على الحجاب من الجهة الدينية؛ فإن ما أوردناه في كتاب (تحرير المرأة) من النصوص القرآنية، صريح في إباحة كشف الوجه واليدين، ومعاملة النساء للرجال، وقد وافقنا على ذلك كثيرٌ من علماء المسلمين الذين نقلنا آراءهم. أما أن فريقا آخر من الفقهاء استحسن التشديد في الحجاب، فهذا رأي لا يلزمنا الدين باتباعه.

وإذا كان في هذه المسألة قولان، فمن الصواب أن يرجح القول الموافق للحرية الإنسانية وللمصلحة العامة.

وقد كتب صاحب مجلة (المنار) كلمة في الحجاب نوردها هنا تأييدا لرأينا. قال:

وأما الأمر الثالث، وهو حكم الشرع في هذه المكالمة، فالمعروف أن الشرع إنما حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأخبار الصدر الأول مستفيضة بمكالمة النساء للرجال، وحديثهم معهم في الملأ دون الخلوة، وكفاك أن نساء النبي — وهن اللاتي أُمرن بالمبالغة في الحجاب — كن يحدثن الرجال، حتى إن السيدة عائشة كانت قائدة عسكر، ومديرة له في وقعة الجمل المعروفة، وما إخال أن مكابرًا يقول إنها لم تكن تكلّم أحدًا منهم إلا ذا محرم.

هذا هو رأي رجل عرف الناسُ جميعهم مكانه من الدين، ولو كان أهل الأزهر يشتغلون بفهم مقاصد دينهم بدلا من اشتغالهم بالألفاظ والتراكيب النحوية واللغوية، لما اختلفوا معنا في شيء مما قلناه.

ومن العيب أن الجرائد وأصحاب الأفكار يرمون — كل يوم — علماء الدين الإسلامي بأنهم السبب في انحطاط وتأخر الأمم الإسلامية عن سواها في المدنية، ويصفونهم بالتساهل في فهم الدين، وعدم مراعاة أحكامه، ثم إذا تحركت غيرة لعرض رأي يظن أن فيه خيرًا للأمة، تحولت أنظارهم إلى هؤلاء العلماء، واستفتوهم عن رأيهم فيه. وغاب عنهم أن الذين يحاربون الإصلاح ولا يفرضون لتعلمهم العلوم العصرية فائدة تعود عليهم في تهذيب عقل أو استكمال أدب، أو تقويم عمل، ولم يقبلوا تدريس علمَي الجغرافيا والتاريخ، إلا رغم أنفهم ليس لهم مقام — لا من العلم ولا من الدين — يسمح لهم بإبداء رأي في شأن من شئون الأمة، فضلا عن مسألة من أهم مسائل الاجتماع البشري.

والمطّلع على الشريعة الإسلامية يعلم أن تحرير المرأة هو من أنفس الأصول التي يحق لها أن تفخر بها على سواها؛ لأنها منحت المرأة من اثنى عشر قرنا مضت — الحقوقَ التي لم تنلها المرأة الغربية إلا في هذا القرن وبعض القرن الذي سبق؛ حتى إنها لا تزال محرومة من بعض الحقوق، وهي الآن مشتغلة بالمطالبة بها.

فإذا كانت شريعتنا قررت للمرأة كفاءة ذاتية في تدبير ثروتها والتصرف فيها، وحثت على تعليمها وتهذيبها، ولم تحجر عليها الاحتراف بأيّة صنعة، أوالاشتغال بأي عمل، وبالغت في المساواة بينها وبين الرجل إلى حد أن أباحت لها أن تكون وصية على الرجل، وأن تتولى وظيفة الإفتاء والقضاء، أي: وظيفة الحكم بين الناس بالعدل، وقد ولى عمر — رضى الله عنه — على أسواق المدينة نساء، مع وجود الرجال من الصحابة وغيرهم، مع أن القوانين الفرنسية لم تمنح النساء حق الاحتراف بصنعة المحاماة، إلا في العام الماضي.

إذا كانت شريعتنا تحامي عن المرأة إلى هذا الحد، وتمنحها هذه الدرجة من الحرية، فهل يجدر بنا — في هذا العصر — أن نغفل مقاصد شرعنا، ونهمل الوسائل التي تؤهل المرأة إلى استعمال هذه الحقوق النفسية، ونضيع وقتنا في مناقشات نظرية لا تنتج إلا تعويقنا عن التقدم في طريق إصلاح أحوالنا؟

لا أظن أن ذلك يليق بنا، وأرجو أن كثيرًا من القراء يرون مثل رأينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤