الواجب على المرأة لنفسها

أول ما يستوقف نظر الشرقي الذي يحل في مدينة من مدن أوربا هو المركز المهم الذي تشغله المرأة فيها، ويظهر له من أول وهله أن التقسيم المصطلح عليه في بلادنا بين العيشة الداخلية والعيشة الخارجية. هذا التقسيم الذي يحول بين اشتراك الصنفين في جميع أطوار الحياة ومظاهرها، ليس من القواعد المعترف بصحتها في تلك البلاد.

فإذا ترك أوربا وجال في أرض أمريكا، شخص بصره مندهشًا من المنظر العجيب الذي يراه، واستولى الاستغراب على عقله إلى درجة الاضطراب، فيجد أن تقسيمه الغريب قد اضمحل حتى كاد يكون معدومًا، ويرى النساء يشتغلن بأشغال الرجال، والرجال يعملن أعمال النساء بلا فرق، ويسمع أهل أمريكا يتهمون سكان أوربا بأنهم سكان ظالمون نساءَهم، مجحفون حقوقهم، كما يرمي الأوربيون رجال الشرق باستعمال الاستبداد مع نسائهم!

هذا المنظر يراه الشرقي ويستغربه في أول الأمر ثم ينساه، ولا يفكر فيه بعد ذلك، فيعيش بجانب الغربيين وهو لا يعرف شيئا من أحوالهم، وإن أتى ذكرها عفوا في بعض الجرائد أو الكتب، فلا يحرك ذلك في نفسه أدنى شوق للوقوف على معرفة حقيقتها واستطلاع ما خفي منها.

ذلك لأنه وقر في نفسه أن عاداته هي أحسن العادات، وأن كل ما خلاها ليس جديرًا بالتفاته واهتمامه.

لكن طالب الحقيقة الذي تعود على طريقة الانتقاد العلمي لا يحكم في الحوادث الاجتماعية على هذا الضرب من التساهل.

فإن رأى يومًا في إحدى الجرائد أن (الست غوردون) ترافعت أمام محكمة فرانسسكو الجنائية ودافعت عن رجل متهم بالقتل، ثم رأى يوما آخر في مجلة أن الست (كاري رينار) إحدى قسيسات الولايات المتحدة، خطبت في الكنيسة في مدينة لوروا على ملأ عظيم من الرجال والنساء. ثم رأى مرة أخرى أن الست (ستون) تدرس الاقتصاد السياسي في كلية شيكاغو لطلبة العلم ذكورًا وإناثا. ثم علم أن لتلك المحامية زميلات يشتغلن أمام جميع المحاكم، ولتلك القسيسة زميلات في كثير من الكنائس، ولتلك الأستاذة زميلات في أغلب المدارس، وأن تلك النسوة قائمات بأعمالهن على طريقة لا تزيد ولا تنقص في الإتقان عما يقوم به الرجال في أعمالهم فماذا يعتقد حينئذ؟ يعتقد أن قول الشاعر:

كتب الحرب والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

هو قول لا ينطبق على الحقيقة في شيء، فلا يصح الاستناد عليه في الرد علينا، ونحن نعذر الشاعر الذي لم يفعل سوى حكاية حال النساء التي وجدهن عليها في عصره، ولكن هل يمكن أن نعذر أنفسنا في اعتقادنا أن النساء لا يصلحن إلا لجر الذيول، مع أن نظرة واحدة في الأعمال النفيسة التي يأتي بها النساء في الغرب تكفي في العلم بأن حياة المرأة تصلح أن تكون مملوءة بشيء أفضل من اللهو واللعب وجر الذيول؟!

هذه الصورة التي شخص بها الشاعر صورة المرأة ليست صورة المرأة الحقيقية؛ لأنها ليست صورة إنسان، بل ولا حيوان! إذا ليس في الوجود حيٌّ إلا وله وظيفة يؤديها وعمل يشتغل به، ولا يوجد بين أنواع الحيوانات، من أفضلها إلى أدناها فرد إلا وهو خاضع لقانون التزاحم في الحياة.

إذا أردنا أن نرتب أعمال الإنسان بحسب أهميتها نجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

أولها: الأعمال التي يحفظ المرء بها حياته.
وثانيها: الأعمال التي تفيد عائلته.
وثالثها: الأعمال التي تفيد الوجود الاجتماعي.

ومن البدهيّ أن كل تربية صحيحة يجب أن تمكن الإنسان من القيام بهذه الأعمال، وأن تراعي هذا الترتيب الطبيعي. فالمعارف التي تضمن سلامة الحياة والقيام بالضروريات والحاجات اللازمة لها هي أهم من غيرها، فيلزم أن تفضل على المعارف التي تختص بالواجبات العائلية؛ لأنه لا يمكن القيام بأيّ واجب عائلي إلا بعد قضاء الواجبات الأولى. كذلك المعارف التي ترشد الإنسان إلى معرفة واجباته العائلية هي مقدمة على المعارف التي تختص بالواجبات الاجتماعية؛ لأن قوة الهيئة الاجتماعية متوقفة على حسن نظام البيوت.

إذن تقرر ذلك نقول: إن التربية التي تشمل هذه الأنواع الثلاثة على الترتيب الذي وضعناه، هي لازمة للرجال والنساء على حد سواء.

ولكن، دعنا الآن من المزايا والحقوق السياسية، فإني ما طلبت المساواة بين الرجل والمرأة في شيء منها؛ لا لأني أعتقد أن الحجر على المرأة أن تتناول الأشغال العمومية حجرا عامًا مؤبدًا — هو مبدأ لازم للنظام الاجتماعي، بل لأني أرى أننا لا نزال الآن في احتياج كبير لرجال يحسنون القيام بالأعمال العمومية. وأن المرأة المصرية ليست مستعدة اليوم لشيء مطلقا، ويلزمها أن تقضي أعوامًا في تربية عقلها بالعلم والتجارب؛ حتى تتهيأ إلى مسابقة الرجال في ميدان الحياة العمومية.

لهذا نترك الكلام على الأعمال والمعارف التي تتعلق بالنوع الثالث، ونقتصر في الكلام هنا على الأعمال والمعارف التي تختص بالنوعين الأولين.

مهما اختلف الناس في فهم طبيعة المرأة لا يجوز أن يدعي أحد أنها يمكنها أن تستغني عن الأعمال التي تحافظ بها على قواها الحيوية وتعدها للقيام بحاجات وضرورات الحياة الإنسانية.

كذلك مهما اختلفنا في تحديد وظيفة المرأة في العالم، لا بد أن نعترف أنها لا يمكنها أن تتخلى عن الأعمال والمعارف التي تتعلق بواجباتها العائلية.

إذن فكل تعليم يتعلق بهذين النوعين من الأعمال يكون نافعًا، وكل تربية تؤهل المرأة إلى المدافعة عن نفسها وتحسين حال بيتها هو أيضا نافع.

يظن الكثير منا أن المرأة في غنى عن أن تتعلم وتعمل، ويزعمون أن رقة مزاج النساء ونعومة بشرتهن، وضعف بنيتهن يصعب معه أن يتحملن متاعب الكد وشقاء العمل.

ولكن هذا الكلام هو في الحقيقة تدليس على النساء، وإن كان ظاهره الرأفة عليهن.

والناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية يرى من الوقائع المحزنة ما يجعله على بينة من ذلك. يرى أن الرجل والمرأة هما خصمان لا يتفقان إلا للحظات قليلة، وأنهما يتحاربان آناء الليل وأطراف النهار، يريد الرجل أن ينتهز ضعف المرأة وجهلها؛ ليجردها عن كل ما تملكه، ويستأثر وحده بالمنافع، وتجتهد المرأة على قدر إمكانها في الدفاع عن نفسها، ولا تجد إلى ذلك سبيلا.

ولو جمعت الوقائع القضائية بين الصنفين في كتاب لكانت أحسن ما يمكن أن يكتب للدفاع عن حقوق المرأة.

لا أظن أني مبالغ إن قلت: إنه متى اختلطت مصلحة الرجل بمصلحة المرأة، لأى سبب من الأسباب، سواء كان لزواج وقع بينهما أو لاشتراك في ملك آل إليهما أو لتعهد ارتبطا به، فأول ما يسبق إليه فكر الرجل هو أن يسلب من المرأة ما يستطيع من حقها، والمسكينة غافلة عن الأخطار التي تحدق بها، وان اكتشفتها فلا يكون في الغالب إلا بعد خرابها.

وعلى أية حال، متى وقعت في الشرك لم يبق لها من حيلة إلا البكاء والعويل؛ لأنها ترى نفسها في حيرة وارتباك، لا تدري معهما ماذا تصنع للخلاص.

وكل المصريين يعلمون أن النساء في الوجه القبلي بعامة كن محرومات من حقوقهن في التركات التي يرثن فيها بمقتضى أحكام الشريعة، وأن هذه الحال بقيت مستمرة إلى أن دخل نظام المحاكم الأهلية في الصعيد، حتى إن بعض المديرين الذين أخذ رأيهم في تشكيل المحاكم الجديدة في الوجه القبلي كانوا يعدون من موانع تشكيلها أنها لو شكلت يكون من أحكامها أن يعطى النساء حقوقهن في التركات، وأن في هذا تغييرًا كبيرًا للعادات المتبعة في تلك البلاد!

وليس في هضم حقوق النساء شيءٌ من الغرابة، ولا هو مما يوجب الدهشة لأحد.

نحن نفهم أن رجلا يعيش في عالم الخيال يكتب في مكتبه على ورقة أن ليس على النساء إلا أن يقرن في بيوتهن خاليات البال، تحت كفالة وحماية الرجال، نفهم ذلك؛ لأن الورق يتحمل كل شيء!

وليس من الصعب وضع نظريات خيالية على هذه الطريقة؛ إذ يكفي في ذلك تركيب بعض جمل مسبوكة في قالب لطيف؛ ليقيم الكاتب نفسه مشروعًا حكيمًا، ويحكم على القوانين والعادات والأخلاق.

وإنما يجد الصعوبة رجلٌ اعتاد على أن يحل النظريات ويختبرها بقياسها إلى الواقع. فإنه إذا أراد مثلا أن يحصل لنفسه رأيًا في ماهية حقوق النساء التي نحن بصددها.

يجب عليه أولًا أن يسوق نظره إلى الوقائع التي تمر أمامه، أعني أن يطبق نظريته على الواقع ويتصورها في ذهنه منفذة ومعمولا بها في قرية، ثم في مدينة، ثم في إقليم، وتتمثل أمامه النساء في جميع أعمارهن وأحوالهن وطبقاتهن، فيراهن بنات ومتزوجات ومطلقات وأرامل، ويراهن في المدرسة وفي البيت، وفي الغيط وفي الدكان، وفي الأماكن الصناعية ويقف على سلوكهن مع أزواجهن وأولادهن وأقاربهن والأجانب، ثم يعرف البلاد التي للنساء فيها شأن غير ما لنسائنا في بلادنا، وكيف أنهن يستعملن حقوقهن والنتائج التي ترتبت على هذا الاستعمال، ويقف على حالة المرأة في الأزمان الخالية والتقلبات التي طرأت عليها.

ذلك عمل ليس بالسهل؛ لأنه يحتاج إلى معلومات جمة ومشاهدات كثيرة.

فإذا توفر له ذلك كله، لم يتيسر له أن يحكم في المسألة حكما قاطعا؛ لأنه يعلم أن رأيه قائم على مقدمات ظنية، فلا تكون نتائجها إلا تقريبية؛ لذلك تراه دائما على طريق البحث لا يركن إلى ما وصل إليه جهده، إلا ليضعه قاعدة لعمل مؤقت، ولا يأنف من تعديل رأيه بحسب ما يقتضيه الحال ويظهره العمل.

والأمر بالعكس عند صاحب النظرية الخيالية، فهو يعتقد أن قضيته تشبه قضية حسابية فهي لا تخطئ أبدا، مع أنها مؤلفة مع معان عامة مهمة لا يستقر الذهن فيها على شيء محدود — مثل ضعف المرأة، وقوة الرجل، وتقسيم المعيشة إلى داخلية وخارجية وهكذا — هذه المعاني تملأ عقله؛ ولكونها مجردة عن الوقائع والمشاهدات فهي في الحقيقة ألفاظ يكون عنها قاعدة عامة صالحة لكل زمان ومكان.

فهو لا ينظر إلى الأشخاص الحقيقيين، ولا يرى نفسه محتاجًا إلى أن ينظر إليهم، ولا أن يبحث في أحوالهم، ولا يخطر بباله أن للمادة الإنسانية صورة غير الشكل الخيالي الذي ملك عقله؛ لذلك لا يهتم بأن يرى تلك المادة في صورة امرأة راعية أو زراعية أو صانعة أو تاجرة ولا يبحث أن كانت غنية أو فقيرة، عائشة وحدها أو في عائلة، ساكنة في المدن أو القرى أو البادية.

هذه الصورة العديدة المختلفة لا تنفذ إلى مداركه، ولا تقر فيها؛ لأن جميع نوافذها قد سُدت بحسم النظرية التي احتلت عقله من أوله إلى آخره، حتى لم يبق فيه مكان لشيء آخر.

فهو أن كتب أو تكلم لا يكتب ولا يتكلم عن امرأة حية ذات لحم ودم وإحساس ووجدان، وإنما يكتب ويتكلم عن المرأة التي في ذهنه.

وهي امرأة شابة سنها بين العشرين والثلاثين، جميلة المنظر رقيقة الطبع، شهوية المزاج، تكفي إشارة منها لكي تنال ما تشتهيه نفسها؛ لأنها ذات ثروة عظيمة، أو لأن لها بعلًا وافر الثروة ولا يبخل عليها بشيء، أما أخلاقها فانحطاط النفس، والميل إلى الكذب، والاحتيال والتطلع إلى أعمال السوء، لا يحول بينها وبين ذلك إلا الحكم عليها بملازمة البيت والاحتجاب عن الرجال.

ولا نرى في تمثيل المرأة في أذهاننا بهذا إلا توارثنا آراء العرب فيها؛ ذلك أن حياة العرب كانت حياة حرب وقتال، وأرزاقهم كانت من الغنائم، وغنيٌّ عن البيان أن أمة معاشها متوقف على القتال لا يمكن أن يكون فيها للمرأة شأن كبير؛ إذ المرأة في هذه المعيشة لا تستطيع أن تجاري الرجل؛ ولذلك نزلت درجتها عندهم وسقطت منزلتها بينهم، حتى حسبت من المتاع وأدوات الزينة، وتناولها السلب وعُدَّت من الغنائم كما عد غيرها من الأموال.

ومن هذا نتج التسري وتعدد الزوجات.

وكما أن المرأة لم يكن لها عمل عند الأمة العربية؛ لانحصار المعيشة كلها في الغزو والدفاع عن القبيلة كذلك لم يكن لها عمل في العائلة؛ لأن التربية عندهم كانت قاصرة على تغذية جسم الطفل بالرضاعة والأكل؛ حتى ينشأ رجلا مقاتلا، لا عالما فاضلًا.

فلا عجب إذا رأينا في كلام العرب وشعرهم وقصصهم، بل وفي مؤلفات فقهائهم وعلمائهم وفلاسفتهم، ما يدل على احتقارهم للمرأة.

هذا هو منشأ تولد صورة المرأة في عقول المسلمين، وهي صورة حقيقية إذا نظر إلى الماضي، ولكنها مزورة إذا نظر إلى الحال والمستقبل؛ ذلك لأن المرأة المصرية اليوم لا تشابه المرأة العربية التي كانت تعيش من آلاف السنين، لا في الظاهر ولا في الباطن، وتختلف عنها في الملبس والمأكل والمسكن وفي العادات والأخلاق والحاجات والضرورات؛ لأن الحاجة الاجتماعية والاقتصادية التي هي موجودة فيها الآن تغيرت تغيرًا كليا عما كانت عليه في الماضي، وتبع هذا التغيير لوازم وحاجات كانت مجهولة عند نساء العرب.

فالمرأة العربية كانت تكتفي من طعامها بخبز من شعير، ومن ملبسها بقميص من قطن، ومن مسكنها ببيت من شعر، وتحصيل ذلك وتدبيره لا يحتاج إلى علم واسع وحذق كبير. والمرأة العربية عاشت جاهلة بالشئون المعيشية، والمرأة العربية كانت مستعبدة؛ لأنها كانت في الحقيقة متاعا يدخل في حوزة الرجل بالسلب، أو بعقد هو أقرب للبيع منه إلى الزواج.

أما الآن فنحن في عصر أمن الناس فيه بعضهم بعضا، واستقر النظام فيهم، لم تبق الحرب شغلا شاغلا لجميعهم؛ ليدفع بعضهم غائلة بعض، وأصبح الناس غير محتاجين إلى الغزو في كسب أرزاقهم، فبعد أن كانت قيم الرجال تغلو وترخص، وتعلو وتنحط، على حسب غنائمهم في القتال، وحسن بلائهم فيه، وبعد أن كان الفائق في الشجاعة وقوة البأس هو صاحب السلطان الأعلى، والضعفاء كلهم تحت كنفه، انقلب الحال، ولم يبق للقتال حاجة إلا في أحوال مخصصة يتولاه فيها أناس معروفون، وأقبل أفراد الأمة رجالا ونساء، بعضهم على بعض، يتنافسون في أمور أخرى، فمنهم المتنافسون في المجد بالعلم، ومنهم المتسابقون إليه بالثورة، وفيهم المجدون في طلبه بالصناعة والتجارة والزراعة، واتسع الميدان لتجادل العقول، والمرأة إنسان مثل الرجل زينتها الفطرة بموهبة العقل، فحق لها أن تسمو اليوم إلى ما يقرب من درجته، إن لم تستطع أن تساويه فيها، ثم تبع هذه الحالة كثرة الحاجات، وأصبح المقصر في سعيه، الساقط في عزمه، القاعد في كسله وجهله مهددا بالموت، محفوفًا بخطر العُدم، وفتح على الناس بذلك باب جهاد جديد، فأهل البلد الواحد يتزاحمون في طرق الكسب ويتدافعون في سبله بوسائل العمل وحيل العقل، وجميعهم يزاحم الأجنبي الذي سهل عليه مخالطتهم بسهولة المواصلة، وتوافر أسباب الأمن، وما هذا الجهاد بالهين السهل، بل هو ما يحتاج إلى أعمال القوى العقلية والبدنية أكثر مما يحتاج إليه القراع بالسيوف والمراماة بالسهام.

ولقد استدار الزمان على المرأة ورجع بها إلى قانون الفطرة، فعرض لها من الحاجات ما لا يمكن معه أن تعيش مقصورة في بيتها، فهي مضطرة — رغمًا عنها — أن تدخل ما دخل الرجال فيه وأن تعمل لتكسب وتعيش، وتغلو وتعلو، فهي بحكم هذه الضرورة في أشد الحاجات إلى تعلم ما يمكنها من بعض الغلبة في هذه المزاحمة العظيمة.

وما نسمعه الآن من صياح النساء وعويلهن وشكواهن من الرجال لعدم القيام بالإنفاق عليهن، أو اغتيال حقوقهن ومن أحاديث تطوح الكثير منهن في مهاوي الرذيلة لسد بعض الحاجات — يؤيّد ما قلنا، ويظهر لكل نظر صواب ما بينا.

وإنا نسأل مجادلينا فيما نحن بصدده: هل يمكنهم أن يقولوا: إنه لا حاجة للمرأة تدعوها إلى معرفة وجوه الكسب وارتفاع المكانة؟ أو يقولوا: إنها في حاجة إلى ذلك، ولكن — واأسفاه، ليس في فطرتها ولا فيما وهب الله لها من القوى ما يهيئها لأخذ أُهبتها في هذا الجهاد.

هذه المسألة لا تحل ببعض كلمات مثل: كون المرأة ضعيفة أو قاصرة العقل؛ لأن الضعيف والقوى وصاحب العقل الكبير، وذا العقل الصغير، والجاهل والعالم كلهم يستوون أمام ضرورات الحياة، وإنما الذي يفيد في فهم حقيقة هذه المسألة وحلها، هو أن يعرف أولا هل يوجد نساء ليس لهن عائل يقوم بحاجاتهن، أو يوجد لهن عائل لكن كسبه لا يكفي لقضاء ما يحتجن إليه؟ ثم إذا كان يوجد نساء من هذا الصنف فما عددهن، وهل هو كثير أم قليل؟

والذي يمكننا الرجوع إليه في ذلك هو تعادل أهالي القطر المصري الذي حصل في سنة ١٨٩٧، وهو آخر إحصاء جرى، جاء في هذا الإحصاء أن جملة النساء المصريات اللاتي يشتغلن بصنعة أو حرفة هو ٦٣.٧٣١ أي: أنه يوجد الآن في مجمع المصريات اثنتان في كل مائة امرأة يشتغلن بالزراعة، ولا النساء الأجنبيات اللاتى بلغ عدد المحترفات منهن بصنعة عشرين في المائة.

وغنيٌّ عن البيان أن هاته المحترفات هن نساء لا عائل لهن لما نعهده من أن الرجال لا يسمحون لزوجاتهم ولا لبناتهم أن يحترفن بصناعة ما لم يكونوا أنفسهم عاجزين عن كل كسب:

وإذا رجعنا إلى مشاهداتنا نجد أن النساء اللاتي لا عائل لهن يزدن عن هذا المقدار أضعافه؛ لأن الأغلب منهن يعيش عالة على أقاربهن، ومنهن من يستعمل لكسب العيش وسائل لا يعرف بها، وأضيف على هذا الصنف أولئك الزوجات اللاتي لا يكفي كسب أزواجهن لضرورات معيشتهن ومعيشة أولادهن، فهن مع أزواجهن دائمًا في نزاع وشقاق، ثم تزدحم أقدامهن في ساحات المحاكم الشرعية للمطالبة بالنفقة، فإذا قدر القاضي للزوجة قرشين في اليوم صاح الزوج: هذا كثير، وعدد هؤلاء النسوة لا ينقص عن مجموع من سبقهن.

إذا سلمنا أن عدد النساء المصريات اللاتي ليس لهن عائل لا يزيد عن اثنين في المائة من مجموع النساء المصريات، أفلا ينبغي لهؤلاء — النسوة اللاتي قضت عليهن ضرورات الحياة بمزاحمة الرجال الأقوياء لكسب عيشهن أن يتهيأن إلى النجاح قبل الدخول في معترك الحياة بالوسائل التي يستعد بها الرجال أنفسهم؟ وهل يكون من الحق والعدل أن يحرمن من التربية التي تؤهلهن للدفاع عن أنفسهن؟ وهل من مصلحة للرجال أو لعموم الهيئة الاجتماعية أن يعيش هؤلاء النساء ضعيفات جاهلات فقيرات؟

نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة إلى الاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية الأولاد، وأنها معرضة لعوارض طبيعية كالحمل والولادة والرضاع لا تسمح لها بمباشرة الأعمال التي تقوى عليها الرجال، بل نصرح هنا أن أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تتزوج وتلد وتربي أولادها، هذه قضية بدهية لا تحتاج في تقريرها إلى بحث طويل، وإنما الخطأ في أن نبني على ذلك أن المرأة لا يلزمها أن تستعد بالتعليم والتربية للقيام بمعاشها وما يلزم معيشة أولادها إن كان لها أولاد صغار عند الحاجة.

وذلك لأنه يوجد في كل بلد عدد من النساء لم يتزوجن وعدد آخر تزوج وانفصل بالطلاق أو بموت الزوج، ومن النساء من يكون لها زوج، ولكنها مضطرة إلى كسب عيشها بسبب شدة فقره أو عجزه أو كسله عن العمل. ومن النساء عدد غير قليل متزوجات وليس لهن أولاد، كل هؤلاء النسوة لا يصح الحجر عليهن عن تناول الأشغال الخارجية عن المنزل بحجة أن لهن رجالا قائمين بمعاشهن، أو لأن عليهن واجبات عائلية، أو لوجود عوارض طبيعية تحول بينهن وبين العمل.

نحن لا نقول للمرأة: اهجري الزواج ولا تبغي النسل، أو اتركي زوجك وأولادك في البيت، واقضي أوقاتك في الطرق وعيشي ما يعيش الرجال. فأنا نكرر القول بأننا نود أن تكون كل امرأة زوجة، وأن تكون كل زوجة أُمّا، ولكن هذا لا ينسينا أن الواقع هو غير ما نتمنى؛ إذ الواقع أن عددا عظيمًا من النساء ليس لهن عائل ولا واجبات عائلية.

هذا القسم من النساء هو قليل عندنا اليوم بالنسبة للبلاد الغربية، فإننا لو أخذنا آخر إحصائية في فرنسا، لوجدنا أنه يوجد ٣٦٢٢١٧٠ من النساء غير متزوجات، و٢٠٠٦٠٧٧٨ أرامل و٩٢٤٢٨٦ متزوجات، وليس لهن أولاد، أي: يوجد في فرنسا زيادة عن خمسة ملايين من النساء صالحات للعمل، مضطرات إليه، بدون أن يكون في أعمالهن ضرر يلحق بعائلاتهن.

ولكن مع مرور الزمن وتقدم المدنية في بلادنا، سيزداد عدد النساء الخاليات عن الزواج، وبدل أن يوجد اليوم اثنان في المائة من النساء المصريات يتعيشن بصنعة أو حرفة سيوجد عن قريب أضعاف هذا العدد؛ ذلك لأن الحوادث الاجتماعية خاضعة لقوانين طبيعية يسهل معها العلم بما سيكون من أمرها في المستقبل.

لهذا يمكننا أن نؤكد أن عدد النساء المحترفات لا بد أن يزداد في كل سنة عن الأخرى؛ لأننا سائرون في الطريق الذي سارت فيه أوربا قبلنا.

ولا خلاف في أن عدد الزواج في أوربا هو أقل منه في الشرق، وسبب ذلك أن الواحد منهم لا يتزوج بالسهولة التي يتزوج بها الواحد منا، فان الأوربي يطلب من الزوجة قرينًا يرافقه طوال حياته، وصاحبًا يشاركه في جميع أعماله وأفكاره وعواطفه، فهو يطلب لها جميع الصفات التي يبحث عنها الواحد منا إذا أراد أن يتخذ له صديقًا، فالعثور عليه يكون صعبًا، وأضيف على ذلك سببًا آخرَ، وهو أن الحالة الاقتصادية في البلاد المتمدنة لا تسمح للفرد أن يكون قادرًا على كسب عيشه قبل بلوغه سن الثلاثين إلا في النادر؛ لأنه يصادف في طريقه مزاحمات عظيمة، وعليه أن يخرق الصفوف التي أمامه، هذا أن ساعده الحظ وحسن الاستعداد على نيل مركز في التجارة أو الصناعة أو الحرف الأدبية، والكثير منهم يقضي حياته في البحث ولا يجد شيئًا.

ومن الاحتياط عندهم ألا يتزوج الشخص قبل أن يكون على ثقة من وسيلة للرزق يحصل بها على ما يكفي لمعاشه ومعاش أولاده؛ لأنهم يشعرون بما يجب عليهم لعائلاتهم، ولا يرضون أن يكونوا سببا في شقاء أزواجهم وأولادهم، فإنما الجاهل هو الذي يحمله الطيش في التعجيل بالزواج، ويستهين بما تفرضه عليه تلك الزيجة، ولا يعرف لأهله حقا عليه.

فنحن مساقون في هذا الطريق بقوة لا يستطيع أحد مقاومتها، ويظهر لي أن الزواج عندنا قد بدأ في التناقص، فإني أعرف كثيرا من الذكور والإناث تجاوزوا السن الذي يحصل فيه الزواج عادة، ولزمتهم العزوبة مختارين أو مختارين، ولكن لا أدري هل ذلك عام أو خاص ببعض المواضع، وإنما يمكنني أن أحقق أن متوسط السن الذي يحصل فيه الزواج زاد عما كان عليه في الماضي، فهو الآن ما بين العشرين والثلاثين في الغالب، وكان فيما مضى سن البلوغ، وكثيرا ما كان يحصل الزواج قلبه.

وليس يفيد شيئا أن يصبح أرباب الأقلام عندنا ناقمين على ما وصلت إليه حالنا اليوم وما ستصل إليه على مر الأيام وأن يستشهدوا بما وقعت فيه أوربا من نقصان عدد الزواج فيها، واحتراف النساء بأشغال الرجال، ذلك لا يفيد؛ لأنه لا يمكن أن يترتب على هذه الشكوى أثر ما في مجرى الحوادث في العالم، ولو كانت الشكوى تكفي لتغيير الحال لكان الأمر سهلا!

والحقيقة أن أهم عامل له أثر في حال الأمة هي حالتها الاقتصادية، ومع الأسف هذه الحالة الاقتصادية ليس في إمكان أحد من الناس أن يحكم عليها ويدبرها كيف يشاء.

نعم يوجد والكد والاشتغال بأعمال الرجال، أيّ: مسترجلات إذا شئت، وهن النساء اللاتي زهد فيهن الرجال فلم يرغب أحد في زواجهن، والأرامل اللاتي توفي أزواجهن، والمطلقات اللاتي تركهن أزواجهن، هؤلاء النسوة لم يقترفن ذنبا على الهيئة الاجتماعية، فما من واحدة منهن إلا وكانت تتمنى أن تجد رفيقا صالحا يحبها وتحبه، ويساعدها وتساعده، ما من واحدة منهن إلا وتبكي في وحدتها سوء حظها، وتأسف على ضياع الأماني التي قضت حياتها في انتظارها.

ولكن ما الحيلة إذا كان نظام الوجود يقضي بأن كثيرًا من النساء يعشن في الوحدة والانفراد، ويسعين ويعملن لكسب قوتهن وقوت أولادهن وبعض أقاربهن من القواعد والعاجزين عن الكسب.

يقول المعترضون: إنهم لا يمنعون النساء الفقيرات من مباشرة أعمال الرجال، والاختلاط بهم، كما أنهم لا يمنعون المرأة من التعليم إذا كان لازمًا لكسب عيشها؛ لأن الضرورات تبيح التعليم إذا كان لازما لكسب عيشها؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. وقد اتفق جميعهم على هذا الرأي، حتى حضرة العالم العلامة — (هكذا هو لقب نفسه على ظهر كتابه) — الذي انتدب عن فقهاء الأزهر للرد على (تحرير المرأة). فكلهم يرون أن منع المرأة من كشف وجهها، ومن الخروج من بيتها، ومزاولة أعمال الرجال، والاختلاط بهم، ومن التعليم الذي يؤهلها إلى هذه الأعمال هو خاص بغير الفقيرات من النساء اللاتي تلجئهن الضرورة إلى السعي لتحصيل أرزاقهن.

ويتبين من هذا أنهم متفقون معنا في حالة الضرورة ولكنهم يخالفوننا في غيرها، فهم يرون أن الإباحة يلزم أن تكون خاصة لهذه الحالة فقط، وبهؤلاء النسوة، ونحن نرى أنها يلزم أن تكون عامة شاملة لجميع النساء والأحوال.

ولو شاءوا أن يفهموا ما يقولون، وأن يقفوا على ما يفضي إليه رأيهم هذا، لوافقونا في رأينا وحكموا حكمنا؛ لأنهم يقولون: إن المرأة تفارق الحجاب وتتناول من الأعمال ما يتناوله الرجال إذا مست الحاجة إلى ذلك. ولا يخفى أن كل نفس حية معرضة لانتياب الحاجات ونزول الضرورات. والعمل الذي تدفع إليه الضرورة وتحمل عليه الحاجة لا يكفي في القيام به على الوجه اللازم أن تتوجه المرأة إليه وتدخل فيه، بل يلزم قبل الدخول فيه أن تكون نفسها مستعدة تمام الاستعداد لمباشرته والإتيان به على وجه يوصل إلى المرغوب، وهذا الاستعداد لا يكون إلا بالتربية والعلم، والتمرين والممارسة، واختبار الناس. فلو حرمت المرأة من التأهب لملاقاة الضرورات حتى وقعت فيها لم تستطع للخلاص منها سبيلا. وكان حرمانها من هذا التأهب عبارة عن تسليمها للهلاك.

ويا عجبا! كيف نتوقع الخيبة للرجل منا إذا كان ناقص التربية، قليل المعرفة، عديم الاختيار، ولا نتوقع تلك الخيبة للمرأة إذا اشتركت معه في هذه النقائص؟!

وحوادث الفقر، والطلاق، وموت الزوج، والعزوبة كلها حوادث جارية، وتقع في كل آن، ولما كان الاطلاع على الغيب أمرًا غير ميسور للإنسان وجب أن تستعد كل امرأة لهذه الحوادث قبل أن تقع فيها.

لهذا نرى أن من أهم ما يجب على الآباء أن يعدوا بناتهم لاستقبال هذه الحوادث بما يدفع شرها ويقي من ضررها، ويمهد لهن سبيل الوصول إلى حظ من السعادة في هذه الحياة.

نعم، نرى أنه يجب على كل أب أن يعلم ابنته بقدر ما يستطيع ونهاية ما يمكن، وأن يعتني بتربيتها كما يعتني بتربية أولاده الذكور، فإذا تزوجت بعد ذلك فلا يضرها عملها بل تستفيد منه كثيرا، وتفيد عائلتها، وإن تتزوج أو تزوجت ثم انفصلت عن زوجها لسبب من الأسباب الكثيرة الوقوع، أمكنها أن تستخدم معارفها في تحصيل معاشها بطريقة ترضيها، وتكفل راحتها واستقلالها وكرامتها.

وسواء نظرنا إلى الفوائد المادية التي ينالها صاحب العلم من علمه، أو نظرنا إلى اللذة المعنوية التي يذوقها فالتعليم على كل حال مطلوب.

بين يدي الآن كتاب ألفه أحد الكتاب الفرنساويين وهو (بول دروزيه) وسماء (الحياة الأمريكية) قال فيه عند الكلام عن تربية البنات ما يأتى:

«رأيت في أمريكا الصبيان والبنات يذهبون إلى مدرسة واحدة، ويجلسون على مكتبة واحدة بعضهم بجانب بعض، ويسمعون دروسًا واحدة ويرتاضون معا، فإذا أتموا دروسهم استمر هذا الاختلاط حيث ترى البنات في المعامل والمصانع يشتعلن ويستخدمن في (اللوكاندات) الكبيرة لمسك الدفاتر ويربين الأطفال في المدارس الابتدائية، ويطلبن العلم في مدارس الطب، وترى منهن قسيسان يخطبن في الطرق وأعضاء في الجمعيات الخيرية، ورئيسات في المجالس البلدية، وما أشبه ذلك، إذا أردت أن تعرف ما هو سبب هذه العادات العربية، وما هو المقصود من تربية النساء على هذه الطريقة، وما هي الواجبات التي يتأهبن لأدائها بهذه التربية فعليك أن تتأمل في هذه المسألة لكي تقف على سرها.

إذا فكرت فيها تعلم أنه يوجد تياران متعاكسان يقابلهما حالتان للمرأة مختلفتان، وبيان ذلك أن بقيت عزبة تضطر إلى أن تجاهد في سبيل الحياة كالرجل الذي يناضلها، فأحسن تربية توافقها هي تربية كتربية الرجال، أما إذا تزوجت فحمل المعاش يكون على زوجها، وهي تشتغل بإدارة منزلها وتربية أولادها، ولكن من ذا الذي يعلم مستقبل البنت، وهي في السنة العاشرة من عمرها؟ وما الذي يعلمه الآباء أمام هذا المستقبل المجهول؟ رأى الأمريكان أن من الفطنة أن يعملوا كأن بناتهم لا يتزوجن، وأن يربوهن كالذكور من جهة التعليم والاستقلال في السير، فالأب الأمريكي يربي ابنته على أن تعتمد على نفسها؛ لأنه يجعله مستقبلها، فإن صادفت زوجا يريد أن يضع يده في يدها ويقطع معها طريق الحياة كانت هذه التربية أحسن ما يؤهلها للقيام بواجباتها العائلية، وإن لم يوجد أحد يرغب الاقتران بها فقد خلص الأب من اللائمة؛ حيث إنه تبصر في المستقبل وعمل ما يمكن أن يعمل ليعدها للغلبة على ما تلاقيه أمامها من الصعاب ومرارة الحياة».

ويوجد حرفتان أود أن تتوجه نحوهما تربية البنات عندنا:
الأولى: صناعة تربية الأطفال وتعليمهم. هذه الصنعة هي أحسن ما يمكن أن تتخذها امرأة تريد أن تكسب عيشها؛ لأنها محترمة شريفة، والمرأة أشد استعدادا لها من الرجال وأدرى منه بطرق استمالتهم، واكتساب محبتهم، وبلادنا أشد البلاد حاجة إلى نساء يعرفن هذه الصناعة، فإنه لا يكاد يوجد عندنا امرأة يوثق بها في تربية الأولاد، والعائلات المصرية في احتياج إلى عدد من مربيات الأطفال؛ حتى تستغنى بهن عن المربيات الأجنبيات، كذلك لا يوجد في مصر مدارس للبنات تتولى إدارتها والتعليم فيها مصريات، وهذا نقص كبير في بلادنا حيث أننا جميعا مضطرون إلى تربية بناتنا في المدارس الأجنبية.
والحرفة الثانية: هي صناعة الطب، كل رجل يعرف مقدار الصعوبة التي يكابدها عندما تكون إحدى النساء من أقاربه مريضة ويلح عليها أن تعرض نفسها على طبيب من الرجال خصوصا إذا كان المرض من الأمراض الخاصة بالنساء. فإذا وجد عدد من النساء يعرفن صناعة الطب فلا شك أن صناعتهن تروح رواجا عظيما بما يجدنه من الحاجة إليهن في البيوت المصرية. وهنا نقول أيضا: إن فن الطب هو مهن الفنون التي تلائم استعداد النساء الطبيعي, وما نشاهده الآن في المستشفيات العمومية وفي العائلات من الخدمات الجليلة التي تقوم بها النساء هي أعظم برهان على أن المرأة بما جبلت عليه من الرأفة والجلد والاعتناء الشديد صالحة لمثل ما يصلح له الرجال من معالجة الأمراض، إن لم تكن أشد صلاحية لذلك منهم.

كذلك يمكن للمرأة أن تشتغل بجميع الأعمال التي قوامها الترتيب والتنظيم ولا تحتاج إلى قوة العضلات والأعصاب كالتجارة فكم من بيوت تجارية ارتفعت بأيدي النساء بعد أن كانت سقطت من أيدي الرجال، وكذلك يمكن للنساء مزاولة جميع الحرف الأدبية.

أن المرأة المصرية إذا احتاجت اليوم إلى كسب معاشها بنفسها لا تجد عملا تتناول منه ما تقتات به إلا بعض الأعمال الشاقة السافلة كالخدمة في بعض البيوت، أو الجولان في الطرق لبيع السلع الزهيدة القيمة، فمنع النساء عن الاشتغال بما يشتغل به الرجال كأنه في الحقيقة تخصيص لهن بمثل هذه الأعمال الدنيئة التي لا ينال بها إلا القليل التافه، وحرمان لهن من الأعمال الشريفة التي تعود على أربابها بالمكاسب الوافرة.

هذه المنزلة المنحطة هي التي نريد استبدالها بأرفع منها.

يجب أن تربى المرأة على أن تكون لنفسها — أولا — لا لأن تكون متاعًا لرجل ربما يتفق لها أن تقترن به مدة حياتها.

يجب أن تربى المرأة على أن تدخل في المجتمع الإنساني وهي ذات كاملة لا مادة يشكلها الرجل كيفما شاء.

يجب أن تربى المرأة على أن تجد أسباب سعادتها وشقائها في نفسها لا في غيرها.

بماذا نقابل رجلا ينصحنا بقوله: ربوا أبناءكم ليكونوا أزواجا فقط، ولا تعدوهم إلا للزواج؟ لا ريب أنا نقابله بالسخرية والاحتقار؛ لأننا نعلم أن الرجل لا بد له — أولا — أن يكون إنسانا مستعدًا لأن يلاقي من المشاق والمصاعب ما يلاقيه الإنسان، وأن ينال من السعادة ما يليق بالإنسان أن يناله، فمتى تعلم وصار قادرا على كسب عيشه، وكان متجملا بحسن الأخلاق، كان بالطبع زوجا صالحا، فكيف نقبل نصيحة من يقول لنا: أعدوا بناتكم لأن يكن فراشا فقط، ولا تعدوهن لغير ذلك من مقاصد الحياة وغاياتها؟!

نتج من كل ما تقدم أن للمرأة حقًا في أن تشتغل بالأعمال التي تراها لازمة للقيام بمعاشها، وأن هذا الحق يستدعي الاعتراف لها بحق آخر وهو أن توجه تربيتها إلى الطرق التي تؤهلها إلى الانتقال بجميع قواها وملكاتها. وليس معنى ذلك لزام كل امرأة بالاشتغال بأعمال الرجال وإنما معناه أنه يجب أن تهيأ كل امرأة للعمل عند مساس الحاجة إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤