مشاكل السِّياسة

إن مشاكل الدولة الجديدة لا تنتهي عند هذه المشاكل التي فصَّلناها في الفصل السابق، وهي المشاكل التي جاءت نتيحة مباشرة لتقسيم شبه القارة، وإنما هناك مشاكل أخرى خطيرة يتطلب الأمر حلها، وقد عالجتها باكستان منذ أول نشأتها ومع ذلك فقد بقيت دون حلٍّ حتى الآن.

وأولى هذه المشاكل هي المشكلة الدستورية في الدولة الجديدة، فعلى الرغم من أن الدورة الافتتاحية للجمعية التأسيسية في باكستان قد عقدت في أغسطس من عام ١٩٤٧، فإن هذه الجمعية التي كانت تقوم بمهمة مزدوجة هي مهمة وضع الدستور من جهة ومهمة الهيئة التشريعية للبلاد من جهة أخرى؛ لم تستطع، حتى العام الماضي، أن تؤدي واجبها للبلاد.

وقد تكون عملية وضع الدستور عملية شاقة معقدة، وقد كانت في حالة الباكستان بالذات أكثر تعقيدًا وأشد صعوبة، وذلك بسبب طبيعة البلاد وتكوُّنها من قسمين متباعدين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، واختلاف السكان من مكان إلى آخر. ومع ذلك فإن الجمعية التأسيسية التي كانت تضم عددًا كبيرًا من محترفي السياسة أثبتت أنها عاجزة عن إتمام هذه العملية، فهي في الواقع لم تقدر خطورة المهمة التي اضطلعت بها ولم تبذل محاول جدية لإخراج الدستور الذي ظلت تتطلع إليه البلاد منذ نشأتها.

وكان من بين الانتقادات التي وُجِّهت إليها أنها لا تجتمع في العام أكثر من أسبوعين أو ثلاثة ثم تنفضُّ دون نتيجة.

وهكذا أخفق السياسيون في إرساء قواعد الحكم الدستوري، وشعر سكان الباكستان جميعًا أن الديمقراطية في خطر.

وقد أثارت بعض أعمال الجمعية التأسيسية عاصفة من السخط في جميع أنحاء البلاد، حتى لقد دأب الناس على التساؤل عن مدى صلاحيتها للتعبير عن آرائهم، كما أصبحت قراراتها لا تصادف قبولًا عامًّا من الشعب، وهو شرط أساسي من شروط وضع دستور متين، كما أخفقت الجمعية في بث روح الثقة في البلاد وروح الاستقرار بين الشعب، بل إن بعض قراراتها قد أحدثت آثارًا عكسية، واتضح من جميع هذه الظروف أنها لم تعُدْ في وضع يسمح لها بأداء وظيفتها بصورة فعالة.

وقد أثَّر ذلك في الوضع السياسي في البلاد نتيجة للتدهور السريع الذي أصاب الجمعية التأسيسية في هيبتها وسلطانها.

وإذا كانت عملية وضع الدستور أمرًا بالغ الأهمية، إلا أن أمن البلاد واستقرارها أمر يفوق هذا في الأهمية بكثير. ولقد نشأت عن عملية وضع الدستور التي كانت تقوم بها الجمعية تطورات عرَّضت الوحدة القومية في باكستان للخطر، وذلك بما أثارته من شكوك وحزازات شخصية وطائفية وإقليمية، وقد اقتضت الضرورة وضع حدٍّ لهذه الأمور، لأن مصالح الدولة العليا يجب أن تُقدَّم على أي اعتبار آخر، وهذا هو ما حدا بالحاكم العام إلى اتخاذ قرار الحل.

وقد اصطدم قرار الحل بمعارضة البعض ورُفع الأمر إلى القضاء ولا زال الموقف غامضًا. وهناك إجماع على ضرورة إجراء انتخابات جديدة أو استدعاء جمعية تأسيسية جديدة لوضع مشروع الدستور المرتقب والانتهاء منه بسرعة.

وهناك كذلك اقتراح بدعوة جمعية وطنية أو تأسيسية تتكون من البرلمانات المحلية في المقاطعات التي تتكون منها باكستان لكي يعرض عليها مشروع دستور، فإذا أقرته هذه الجمعية الوطنية جرت الانتخابات في ظرف عامٍ أو عامين على أساس هذا الدستور، حتى تستقر الأوضاع الدستورية في البلاد.

وعلى أي حال فالآراء متفقة على ضرورة تصفية الموقف الدستوري والبرلماني في أقرب فرصة، إذ ليس في مصلحة البلاد أن يبقى معلَّقًا أكثر من ذلك.

•••

أما فيما يتعلق بالوضع السياسي العام لدولة الباكستان بين الدول الأخرى، فقد استقر الرأي على أن تصبح جمهورية مع استمرار وجودها في مجموعة الدول البريطانية المستقلة (الكومنولث)، وليس في هذا ما يتعارض مع مركز الباكستان كدولة مستقلة ذات سيادة.

ويعتقد المراقبون أن هذا القرار الذي اتخذته باكستان من شأنه أن يزيدها قوة، فإن اتحادًا يضم الشعوب المتساوية الحرة، مهما كانت الرابطة بينها، لهو أفضل دائمًا من اتحاد يقوم على أساس الإجبار بين شعب قويٍّ وشعب آخر أضعف منه.

وقد عُرض هذا القرار على آخر مؤتمر عقدته دول المجموعة البريطانية (الكومنولث) فوافقت عليه، ومن المنتظر بعد أن تستقر الأوضاع الدستورية في الدولة أن تتم الإجراءات الخاصة بتثبيت أحكام هذه القرارات وتنفيذها، حتى تستقيم الأمور وتسير في خطوطها المرسومة.

•••

وقد أثير لَغَط كثير حول اشتراك باكستان في الأحلاف العسكرية الخارجية، كما أنني أشرت في مكان آخر من هذا الكتاب إلى تلك الرغبة الملحة التي بدت من جانب الباكستان للاشتراك في حلف الشرق الأوسط (ميدو)، الذي عُرض على مصر قبل إتمام اتفاقية الجلاء فعارضته ورفضته بشدة كما عارضت فيما بعد اشتراك العراق بوصفها عضوًا في الجامعة العربية في حلف عسكري مع تركيا.

ولباكستان وجهة نظر خاصة في هذا الموضوع، إذ يرى المسئولون عن سياستها في الوقت الحاضر أن الوضع الجغرافي الذي تنفرد به في شبه القارة الهندية وإحاطتها بكثير من الدول التي تعتقد أنها ذات مطامع إقليمية؛ يجعل اشتراكها في التدابير الدفاعية الجماعية على جانبي حدودها أمرًا ضروريًّا، وأن من شأن مثل هذا التعاون أن ينشر التقدم والسلام في ربوع جنوب شرق آسيا، وأن توقيع الباكستان ميثاقها مع تركيا وتحالفها مع الولايات المتحدة واشتراكها في منظمة الدفاع عن جنوب شرق آسيا يحقق هذا الغرض، وأن جميع الالتزامات التي ارتبطت بها باكستان ترمي إلى غرض واحد هو ضمان حرية البلاد وسيادتها.

وباكستان تؤمن بعالم تستطيع فيه الدول، كبيرُها وصغيرُها، قويُّها وضعيفُها، أن تعيش في سلام ووئام متحررة من الخوف والعدوان والاستغلال الاقتصادي والسيطرة المذهبية، وهي تدين بمبدأ السعي لحل جميع المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وهذا هو ما جعلها تؤكد في مؤتمر بانكوك أهمية بناء وتدعيم الصرح الاقتصادي والأخلاقي لأقطار جنوب شرق آسيا إلى جانب بناء صرحها العسكري.

وقد اعترفت الأمم التي اشتركت في هذا المؤتمر بأهمية الاقتراح الباكستاني.

وتعتقد الباكستان أن في وسعها أن تلعب دورًا سياسيًّا إيجابيًّا وأن العزلة أو الحياد في الشئون الدولية أمر متعذِّر كما أن الضعف يشجع على العدوان، ولذا فهي تعمل دائمًا على تقوية نفسها بالتعاون مع الأقطار الحرة.

•••

ومسألة العلاقات مع الهند هي الأخرى من أكبر مشاكل السياسة في باكستان، فقد تطور النزاع على كشمير بين الهند وباكستان حتى أصبح اليوم رمزًا للخوف والارتياب، إذا لم نقل الكراهية، اللذين سيطرا على العلاقات بين الهند وباكستان غداة تقسيم شبه القارة.

حتى موضوعات النزاع التي ثارت بين الدولتين ولم يكن لها أدنى اتصال في بادئ الأمر بموضوع النزاع على كشمير، كمسألة المياه والأملاك ونصيب الباكستان من رصيد الدولة القديمة وغير ذلك … كل هذه الموضوعات اندمجت في موضوع النزاع على كشمير حتى أصبحت جزءًا منه.

وسعادة الباكستان، بل وسعادة الهند، بل إن الاستقرار في شبه القارة الهندية كله يتطلب التعاون التام لكي يمهد الفريقان السبيل لحياة هادئة واستقرار لشعبين كبيرين كانا في يوم من الأيام يعيشان في بيت واحد، وقد جمعت بينهما ذكريات الجهاد المشترك للخلاص من الاستعمار البريطاني الذي دام نحو قرنين من الزمان، إنهما شعبان كانا متحدَيْن في يوم من الأيام ثم قضت الضرورة أن ينفصلا، ولم يكن الهدف من الانفصال إلا السعي وراء حياة أفضل وأكثر سلامًا … ولا تزال الصلات الطبيعية التي ربطت بينهما في الماضي أقوى بكثير من هذه الحدود التي اصطنعتها المعاهدات والاتفاقيات.

ولذلك فمن الخير ألا تقوم العلاقة بين الهند وباكستان على أساس هدنة مسلحة في كشمير، ومن الخير أن تعتمد كل دولة منهما على الأخرى اعتماد الجار على جاره، والصديق على صديقه، ومن الخير أن تحاول الدولتان التقريب بين حياتيهما في مختلف الميادين الاقتصادية والثقافية، بل وفي ميدان السياسة أيضًا إذا أمكن ذلك …

ويوم تصبح العلاقة بين الهند وباكستان مثل العلاقة بين الأمريكيين من سكان الولايات المتحدة والكنديين، لهو اليوم الذي تستقر فيه الأوضاع في شبه القارة الهندية ويستتب فيه الأمن …

وقد أصبحت الباكستان حقيقة واقعة على خريطة العالم بعد أن كانت حلمًا، ولا يمكن أن تفكر الهند أو غير الهند في إزالتها عن هذه الخريطة كما توارد إلى خواطر البعض في أعوامها الأولى، إذ كلما مضى عليها عام ازدادت استقرارًا وثباتًا …

•••

وبرغم هذه المشاكل تشق الباكستان اليوم طريقها في الميدان الدولي وتسير فيه بعزم وثبات، ومواقفها في الأمم المتحدة مشهورة، فقد كانت تنتهز كل فرصة للدفاع عن حقوق الأمم الضعيفة مسلوبة الحرية التي أوقعها سوء طالعها تحت سيطرة دول أخرى.

ولهذا فقد انبرت في المحافل الدولية للدفاع عن قضايا فلسطين وليبيا وتونس ومراكش، وهي تعمل دائمًا على تعزيز كل ما من شأنه أن يوثِّق علاقتها بالعالم الإسلامي.

وقد عبر عن هذه السياسة رئيس وزراء الباكستان، إذ قال وهو يشير إلى الدول الإسلامية:

إننا نشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، ومصالحهم تماثل مصالحنا، وكل قوة أو نجاح يصلون إليه إنما هو قوة ونجاح لنا.

وما دمنا قد أشرنا إلى علاقة باكستان بالدول الإسلامية وتعلقها بها، فلا بد أن نذكر شيئًا عن الأقليات الدينية التي تعيش فيها فقد تساءل العالم الخارجي كله بعد قيام الباكستان عن مركز هؤلاء الذين بقوا داخل حدودها من غير المسلمين … وهل يجدون لهم مكانًا في هذه الدولة التي قامت على أساس الدين الواحد المشترك؟

وقد عرفت باكستان، وعلى رأسها القائد الأعظم محمد علي جناح، أن وحدة البلاد ونهضة الوطن الجديد يستلزمان تضافر جميع الأيدي وتعاون جميع المواطنين الذين أقسموا يمين الولاء لعلم باكستان حتى ولو لم يكونوا من المسلمين. عرفت باكستان أن الدين لله والوطن للجميع، وأن المسلمين الذين كانوا يشكُون من الاضطهاد الديني يجب أن يَمنحوا الأقليات التي اختارت باكستان وطنًا لها حريتها الدينية.

ولذلك فإن العالم لم يلبث أن أدرك بعد قيام باكستان أن الأقليات هناك تتمتع بحريتها التامة وأنها تمارس عقائدها دون أن يعترضها أحد بأي حال من الأحوال. وما لبث مسلمو الباكستان أن لمسوا تمامًا قيمة المعاونة التي يمكن أن يقدمها المواطنون، من غير المسلمين، في بناء الوطن الجديد، ومبلغ ما يسهمون به لمضاعفة ثروة الدولة في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وقد دل إحصاء عام ١٩٥١ على أن نسبة الأقليات في باكستان تبلغ ١٤٫١ في المائة، وهي تتكون بحسب عددها من الهندوس ثم المسيحيين ثم الفارسيين Parsis ثم البوذيين، ومعظم الهندوس يعيشون في شرق الباكستان وتبلغ نسبتهم هناك ٢٣٫٢ من النسبة العامة للسكان، ومما يستحق الذكر أن أكبر عدد من الهندوس الذين يعيشون خارج حدود الهند هم الهندوس الذين يعيشون في باكستان، مع أن الهندوس ينتشرون في بلاد أخرى كثيرة مثل بورما والملايو وجنوب أفريقيا وشرق أفريقيا وإندونيسيا.

والبوذيون عرفوا معنى الحرية في ظل العلم الباكستاني، فإنهم يترددون على معابدهم ويؤدون شعائرهم الدينية ويمارسون حقوقهم ويؤدون واجباتهم مثل سائر المواطنين.

والمسيحيون في باكستان يبذلون قصارى جهدهم للاندماج في الحياة العامة، وكلٌّ منهم يقوم بدور المواطن الصالح الذي يعرف حقوقه وواجباته. وهكذا تعيش هذه الأقلية، وغيرها من الأقليات، مستمتعة بحريتها الكاملة في أداء شعائرها الدينية والتعبير عن آرائها ومعتقداتها، ويمكن أن نقول إنه يوجد في باكستان كنائس تمثل جميع العقائد المسيحية، وإن كانت غالبية المسيحيين هناك تنتسب للكنيسة الكاثوليكية.

والواقع أن معاملة الأقليات الدينية في باكستان تنطوي على سماحة تستحق الإعجاب وفهم لحقيقة مبادئ الإسلام؛ ففي المجالس النيابية بمختلف مقاطعات الباكستان أعضاء يمثلون الأقليات. وتحتل هذه الأقليات مكانتها في الحياة العامة ويتمتع أفرادها من الوجهة السياسية بنفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، ولا يحول الدين، كما لا تحول العقيدة، دون تولي أي منصب من المناصب.

وتسترشد باكستان في هذه السياسة السمحاء بما قاله القائد الأعظم محمد علي جناح يوم وجَّه الحديث إلى الأقليات التي آثرت العيش في باكستان:

إنكم أحرار، إنكم أحرار في الذهاب إلى معابدكم، أحرار في الذهاب إلى مساجدكم، أحرار في الذهاب إلى أي مكان من أمكنة التعبد في دولة باكستان هذه، وقد ينتسب الواحد منكم إلى أي مذهب وقد يعتنق أي عقيدة من العقائد، فهذا لا شأن للدولة به إطلاقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤