القائد الأعظم!

كانت أول زيارة قمنا بها في كراتشي هي زيارة قبر «محمد علي جناح» أو القائد الأعظم كما يطلق عليه سكان باكستان.

ولا شك أن محمد علي جناح هو القائد الأعظم بالنسبة لملايين المسلمين الذين أسسوا دولة باكستان، فحقق لهم حلمًا جميلًا ظل يداعبهم قرنًا من الزمان.

وتاريخ محمد علي جناح يعتبر درسًا للشباب ولهؤلاء الذين يظنون أحيانًا أن الأمانة والصدق في السياسة مما يعوق عن الوصول.

ولد جناح في ٢٥ ديسمبر من عام ١٨٧٦، واعتادت باكستان، حكومة وشعبًا، أن تحتفل دائمًا بذكرى هذا اليوم تخليدًا لاسم الرجل الذي قاد مسلمي شبه القارة الهندية في جهادهم وحقق لهم حريتهم.

وعندما تحتفل باكستان بذكرى مولد محمد علي جناح فإنها في الواقع تحتفل بالتراث المجيد الذي خلفه لها الرجل، ممثلًا في تلك الدولة القوية الفتية التي أصبحت أكبر الدول الإسلامية في العالم، وفي ذلك الشعار الذي رسمه لِبَني وطنه ولخَّصه لهم في ثلاث كلمات هي: الاتحاد والإيمان والنظام.

وقد نشأ جناح في أسرة يحترف عائلها التجارة، وكان من المنتظر أن يشتغل بالتجارة مثل أبيه، ولكنه ما لبث أن تحول إلى دراسة القانون وسافر إلى بريطانيا ليتم دراسته القانونية هناك، وكان عمره إذ ذاك ١٦ عامًا.

وقضى جناح في البيئة الإنجليزية أربع سنوات اتصل فيها بالحياة العامة في بريطانيا وتأثر بأساليب السياسة الإنجليزية، وهي سياسة عملية في صميمها لأن حياة الشعب البريطاني تتوقف على التجارة وهو مضطر أن يبحث دائمًا عن أسواق خارجية لتصريف المصنوعات التي ينتجها في بلاده.

فلما عاد القائد الأعظم إلى الهند واشتغل بشئون القانون ومنها المحاماة وسلك سبيل الحياة التشريعية بعد أن انتُخب في المجلس التشريعي الهندي، زاده ذلك كله اتجاهًا للحياة العامة التي أخذ يعالجها بروح عملية لا تنسى المثل العليا ولكنه لا يقف جامدًا أمامها.

وكان في أول أمره متصلًا بحزب المؤتمر في الهند وأغلبيته من الهندوس، وكان يحسب أنه يستطيع أن يجد الوسيلة العملية التي تمهد للهند كلها سبيل الحكم الذاتي، وتمهد للمسلمين الوسيلة لحريتهم وإقامة شعائرهم والعيش حسب عقائدهم، فلما نشأ حزب الرابطة الإسلامية جعل القائد الأعظم همه أن يوفق بين هذا الحزب وحزب المؤتمر.

ولكنه رأى في آخر الأمر أن هذا التوفيق غير يسير، وأن قسمة شبه القارة الهندية إلى دولتين هما الهندوستان والباكستان هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الفكرة الأولى في سبيل الغاية التي يسعى إليها، كما أنه الوسيلة لإقامة دولة إسلامية كبرى يكون لها في الحياة الدولية مقام له اعتباره وتقديره.

والعجيب في حياة القائد الأعظم أنه رغم زعامته لأكبر أمة إسلامية وتأسيسه لدولة قامت على الدين، فإنه لم يكن يتظاهر أبدًا بالنسك والتصوف أو الإغراق في التقوى والصلاح، ومع ذلك فلم يؤخذ عليه أبدًا أنه ظهر بصورة تخالف ما يجب أن يظهر به الزعيم المسلم، وكان إذا اشترك في اجتماع وحان وقت الصلاة أمَّ الحاضرين.

وكان مثالًا للسماحة التي يتصف بها كل من يفهم الإسلام على حقيقته، وكان يزوره في منزله المسلمون وغير المسلمين من أبناء الطوائف الأخرى، كما كان هو نفسه يزور أصدقاءه من المسلمين وغيرهم.

figure
القائد الأعظم: محمد علي جناح.

روى لنا السردار نشتر، وقد كان ممن اشتركوا مع محمد علي جناح في جهاده لتأسيس باكستان، أنه كان يزور يومًا بصحبة القائد الأعظم إقليم الولايات الشمالية عند الحدود، فلما اقتربت السيارة من إحدى المدن هدَّأت من سيرها فخرجت جموع غفيرة لاستقبال القائد الأعظم والترحيب به، وكان على رأس هذه الجموع العلماء وكبار المشايخ بعمائمهم الكبيرة ولحاهم وملابسهم التقليدية التي تدل على مركزهم الديني.

وكان هؤلاء العلماء الذين يطلقون عليهم اسم «الملَّا» يعدُون وراء سيارة القائد الأعظم دون حساب لمركزهم الديني، ودُهش القائد الأعظم لهذا المنظر فالتفت إلى السردار نشتر وقال له: لماذا يجري هؤلاء العلماء والمشايخ وراءنا بهذا الشكل؟! إنني رجل أرتدي الزي الإفرنجي وأطلق لحيتي وشاربي وليس في مظهري ما يدل على التقديس … فلماذا يعدون ورائي هكذا … لماذا؟!

وأخذ يكرر كلمة «لماذا» …

وسكت السردار نشتر من فرط تأثره بالموقف، وما لبث أن سمع القائد الأعظم يتحدث من جديد وكأنه يرد على السؤال الذي ألقاه على نفسه، وسمعه يقول: نعم، إن السبب هو الثقة! … إنهم يثقون بقائدهم ويعلمون أنه يعمل لخيرهم ولصالح أمتهم!

وقد أقعد الجهاد في سبيل تأسيس الوطن محمد علي جناح عن الزواج حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم حدث في عام ١٩١٦ في أحد الاجتماعات العامة التي عقدت في بومباي أن كان أحد أثرياء الفرس واسمه «دنشابتيت» يشهد الاجتماع ومعه ابنته الحسناء «رتن»، وكان الثرى الإيراني وابنته من أتباع زرادشت.

وفي ذلك الاجتماع الحافل أُعجبت الإيرانية الحسناء بمحمد علي جناح وهو يصول ويجول ويخطب ويقارع الحجة بالحجة وينتصر في المعارك الخطابية التي يدخلها، فما انتهى الاجتماع إلا وأبدت له الفتاة إعجابها وتقربت منه وصارحته بأنها تتمنى لو تزوجت برجل مثله.

وفوجئ جناح بهذا الطلب، فنبه الفتاة إلى فوارق متعددة تفصل بينه وبينها؛ أولها فارق الدين فهو مسلم وهي من أتباع زرادشت، وهي في العشرين من عمرها وهو في الأربعين، وهي إيرانية وهو هنديٌّ مسلم … وأخيرًا، وليس آخرًا، أنها تنتسب لأسرة عريضة الثراء وهو رجل فقير …

إلا أن الفتاة لم تهتم لهذه الفوارق وأخذت تهدمها واحدًا بعد الآخر، فقالت إنها فيما يتعلق بالدين تريد أن تعتنق الإسلام وتترك مذهب زرادشت، وأما فيما يتعلق بالسن فإنها لا ترى أنه يقوم حائلًا بين المرأة والرجل، وكذلك فيما يتعلق بالجنس، أما فيما يتعلق بالثروة فإنها تعرف أنها سوف تفقد نصيبها من ثروة والدها الكبيرة فيما إذا تم هذا الزواج.

ولما تبين جناح إخلاص الفتاة لم يجد ثمة مانعًا من الزواج منها، وخاصة بعد أن اطمأن إلى أن أحدًا لن يتهمه بأنه رغب في الزواج طمعًا في مال الفتاة.

وتم الزواج وأسلمت الفتاة فحدثت ضجة كبرى وثار أهل الفتاة ضد جناح وحاولوا إلغاء هذا الزواج من طريق القضاء، إلا أن الفتاة أثبتت أن سنها تخول لها الحق المطلق في اختيار زوجها، وأراد القاضي أن يغمز محمد علي جناح فلمَّح له إلى أنه يسعى وراء مال الفتاة الثرية، فما كان من رتن إلا أن ثارت وقالت إنها هي التي عرضت الزواج على محمد علي جناح، وقد عرضته وهي تعرف وجناح يعرف أيضًا أنها ستحرم من كل ثروتها، ولكنها ليست في حاجة إلى هذه الثروة.

وقد عاش الزوجان بعد ذلك في سعادة وهناء برغم كل ما كان بينهما من فوارق انعدمت بعد الزواج، وكانت ثمرة هذا الزواج فتاة أطلق عليها اسم «فينا».

إلا أن الزوجة ما لبثت أن انتقلت إلى رحمة الله وهي لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد، فحزن جناح لفقدها واضطر أن يترك الطفلة عند جدتها لأمها.

وما لبثت أواصر الصلة بينه وبين هذه الابنة أن انقطعت.

•••

واحتمل جناح هذه الصدمة بشجاعة نادرة فلم يندب حظه أو يشكو لأحد ما أصابه، وإنما ازداد تفانيًا وإخلاصًا في خدمة المسلمين في الهند … وكأنه أراد أن ينسى في غمار الجهاد الوطني قسوة الصدمة النفسية التي أصابته بموت زوجته أولًا ثم بانقضاء ما كان بينه وبين ابنته.

ويربط كثيرون من المؤرخين بين ما أصاب جناح في حياته الخاصة بعد أن انتهى ما كان بينه وبين زوجته الزرادشتية، وبين التحول الذي ظهر في اتجاهاته السياسية بعد هذه النكبة العاطفية …

ففي ذلك الوقت عينه، وبعد الانفصال الأبدي بينه وبين زوجته وابنته أخذ جناح ينادي بضرورة انفصال باكستان عن الهند.

•••

لم يبدأ جناح حياته السياسية بالدعوة إلى الفصل بين الهند وباكستان، بل لقد بذل الرجل كل جهده في بادئ الأمر للتوفيق بين البلدين والإبقاء على وحدة شبه القارة الهندية، ولكنه اضطر في النهاية إلى المناداة بالفصل بعد أن استنفد كل وسيلة للتوفيق.

وأكبر دليل على هذا أن جناح لم ينضم فورًا إلى حزب الرابطة الإسلامية بعد تأسيس هذا الحزب وآثر أن يعمل للتوفيق، فلم يصبح عضوًا فيه إلا بعد انقضاء سبع سنوات على تأسيس الحزب، وحاول بعد أن انضم لحزب الرابطة أن يقف من حزب المؤتمر الهندي موقف الصديق وقال إنه ليس هناك ما يمنع من أن يصبح حزب الرابطة الإسلامية جناحًا وحزب المؤتمر جناحًا آخر، وبهذا يمكن لشبه القارة كله أن يطير وأن يحلق في الجو حتى تتحقق له الحرية، وليس هناك طائر يمكن أن يطير بجناح واحد!

وهكذا ظل جناح رسول مودة وإخاء بين المسلمين والهندوس حتى استحق من هؤلاء وأولئك كل تقدير وإجلال.

ولكنه مع ذلك أثبت أنه سياسيٌّ صادق، بعيد النظر، واسع الأفق، راجح الفكر، فما كاد يقتنع بأن الخير في قسمة شبه القارة الهندية واستقلال مسلميها في دولة قائمة بذاتها؛ حتى سار قُدُمًا في تحقيق فكرته هذه ولم يتراجع قط.

وقد كانت المصاعب التي واجهت جناح منذ أول يوم من جهاده كفيلة بأن تبعث اليأس إلى نفسه وتثنيه عن عزمه، ولكنه استطاع بإخلاصه وصبره وكفاحه ومثابرته وتضحياته أن يقود السفينة إلى بر الأمان وأن يحقق الأماني القومية لمسلمي الهند حتى أصبح مثلًا يحتذى لغيره من المجاهدين، وبذلك استطاع أن يجمع حوله تأييد ١٠٠ مليون مسلم كانت تضمهم شبه القارة الهندية واستطاع بهذا التأييد أن يحقق حلم «الباكستان».

ولعل من أبلغ الأدلة على بعد نظره ما رواه لنا السيد أصفهاني وزير الصناعة الباكستاني، إذ قال:

في عام ١٩٤٢ وقبل تأسيس باكستان بخمس سنوات، اجتمعنا في بومباي لدراسة الحالة التي نشأت عن اعتقال غاندي وجميع أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطني الهندي والزج بهم في السجن، وكان الاعتقال قد تم قبل هذا الاجتماع ببضعة أيام وراجت في أوساط حزب المؤتمر والدوائر الهندوسية على أثر هذا الاعتقال دعايات تنادي بضرورة اتفاق حزب الرابطة الإسلامية مع حزب المؤتمر على الإضراب لتحقيق استقلال شعوب شبه القارة.

فاجتمعت اللجنة التنفيذية لحزب الرابطة الإسلامية في بومباي، وخاصة بعد أن حرص زعماء حزب المؤتمر الذين كانوا خارج السجن والزعماء الهنود عامة على التأكيد بأن حزب المؤتمر يريد أن يكون عادلًا مع المسلمين وأنه سيمنحهم الاستقلال الذي يريدونه، ورأت طائفة من زعماء حزب الرابطة في مختلف الأقاليم أن هذه هي فرصتنا للتضامن مع حزب المؤتمر إذا كنا نرغب في نيل حريتنا، وكنت أنا مِن بين مَن يرون هذا الرأي.

ووصلت إلى بومباي في مساء اليوم السابق لعقد الاجتماع، ولا أزال أذكر جيدًا تلك المقابلة التي جمعتني بالقائد الأعظم مع اثنين من أخلص أصدقائي، وكان أحدهما من الأعضاء البارزين في اللجنة التنفيذية للحزب. وفي هذه المقابلة انطلقنا نعرب عن رأينا بحرية وصراحة ونبين كيف أن الظروف التي كانت سائدة في البلاد تدعونا إلى عدم تفويت مثل هذه الفرصة التي ستمكننا من انتزاع الحرية من أيدي البريطانيين ومنحها للهندوس والمسلمين على السواء.

ولم تمض بضع دقائق حتى أدركت أن جناح لا يقرنا في الرأي وأن هدوءه المعتاد يخفي وراءه فكرته التي كان ينادي بها، وهي أن مصالح المسلمين تقتضي منا اتخاذ سياسة ترمي إلى تفادي الوقوع في أساليب البريطانيين والهندوس على السواء، وكان من رأيه أن نتخذ موقف المحايد الحذر وألا نعبأ بأي القوتين وأن نغتنم كل فرصة لتدعيم حزب الرابطة الإسلامية.

ولا أزال أذكر جيدًا ما حدث في أول اجتماع عقدته اللجنة التنفيذية للحزب في اليوم التالي، فلقد كان أحد أعضاء الحزب البارزين في البنغال يتحدث مؤيدًا وجهة نظرنا ولكنه لم يكد يستمع إلى الأسباب التي قدمها جناح من كرسي الرئاسة لمعارضة هذا الرأي حتى عاد العضو المذكور إلى مقعده دون أن يتم حديثه وقد أصبح من أكبر مؤيدي جناح، وترسَّم عدد آخر من الأعضاء خطى هذا العضو فأعرب بعضهم عن تأييده لجناح بإلقاء الخطب، كما اكتفى البعض الآخر بالإعراب عن هذا التأييد بالصمت.

وقبل أن يجري التصويت على القرار لم يكن قد شذَّ عن الإجماع سوى ثلاثة أعضاء اتفقوا فيما بينهم على الامتناع عن التصويت، كما اتفقوا مع القائد الأعظم على تقديم استقالاتهم إذا لم تسِرْ الأمور على ما يرام في خلال ثلاثة أشهر بموجب اقتراح الرئيس، وكنت أنا أحد هؤلاء الثلاثة. قال لنا القائد الأعظم يومذاك: امنحوني فرصة ثلاثة أشهر، فإذا لم أتمكن من إثبات صحة وجهة نظري استقلت أنا من رئاسة الحزب.

ورفض أحد الأعضاء الامتناع عن التصويت وأدلى بصوته ضد القرار بعد أن فشلت جميع الجهود التي بُذلت لإقناعه باتخاذ موقف حياد على الأقل. وانفضت اللجنة فقررت أنا وصديق لي تأجيل رحيلنا عن بومباي بضعة أيام، وفي هذه الأثناء كنا نجتمع بجناح أكثر من مرة في اليوم لنصارحه بعدم اقتناعنا بصواب القرار الذي اتخذته اللجنة التنفيذية للحزب، ولكن القائد الأعظم واصل محاولاته لإقناعنا بوجهة نظره.

وفي صبيحة أحد أيام الآحاد اطَّلعنا على مقالين؛ أحدهما مقال كان قد نشره غاندي في صحيفة «هاريجان»، والآخر مقال نشرته صحيفة «بومباي كرونيكل» للبندت نهرو في نفس اليوم، وكان المقالان قد ظهرا في الليلة السابقة لاعتقال زعماء حزب المؤتمر، وقد أثبت لنا المقالان أن موقف الهندوس أو حزب المؤتمر من المسلمين لم يتغير، وأنه لا يزال من رأيهم أن يظل المسلمون أقلية تتمتع بالحقوق التي تتمتع بها غيرها من الأقليات في «الهند الديمقراطية».

وفي صبيحة يوم الأحد المذكور غيَّرنا رأينا، وآمنا بوجهة نظر القائد الأعظم، وتركناه بعد أن أكدنا له أننا سنعمل بعد عودتنا إلى أقاليمنا على بذل كل جهد في استطاعتنا لنثبت للشعب الذي كان يؤمن بالفكرة التي كنا نؤمن بها قبل حضور هذا المؤتمر؛ أنه كان على خطأ كما كنا، وأن القرار الذي اتخذه حزب الرابطة الإسلامية، والذي لم يكن سوى قرار القائد الأعظم نفسه، هو القرار الصائب الوحيد.

ولما عدنا إلى أقاليمنا لم تُعْوِزْنا الدلائل التي كنا نستخلصها مما يجري حولنا من أحداث لإثبات صحة هذا القرار الذي اتُّخذ برأي القائد الأعظم وحده، إذ لو لم يرشدنا القائد الأعظم إلى تجاهل المحاولات التي كان يبذلها حزب المؤتمر واغتنام كل فرصة ممكنة لتنظيم وبناء حزب الرابطة الإسلامية؛ لابتُلى المسلمون بنكسة ولمضت عليهم سنوات طويلة قبل أن يفيقوا منها، ولما تمكن حزب الرابطة الإسلامية من أن يتمتع بالقوة التي نمتَّع بها بين ذلك التاريخ وعام ١٩٤٦، ولمَا أصبح هذا الحزب السياسي المسئول الوحيد الذي ينطق بلسان جميع المسلمين في شبه القارة الهندية.

وقد استقبل كثيرون دعوة جناح لقسمة الهند واستقلال مسلميها في دولة منفصلة ذات حدود بكثير من الشك والارتياب وخاصة هنا في مصر التي كانت تنادي منذ قامت حركتها الوطنية الأخيرة في عام ١٩١٩ بالوحدة مع السودان … فقد تشكك المصريون في دعوة جناح إلى قسمة شبه القارة بين الهندوس والمسلمين، ورأوا فيها محاولة لإضعاف تلك الدولة الكبيرة وهدمًا لوحدتها، ولم يكن من اليسير على المصريين أن يفهموا إذ ذاك حقيقة الأسباب التي أدت بجناح إلى الدعوة لتأسيس باكستان.

ولكن جناح لم يكن بدعوته يطلب شهرة أو مجدًا فقد عاش طول حياته أبعد ما يكون عن السعي إلى الشهرة، كما أنه لم يكن يسعى إلى هدم الوحدة القائمة بين سكان شبه قارة الهند، وإنما بدأ بدعوته بعد أن آمن بها إيمانًا وتيقن أنها الوسيلة الوحيدة للسلام في ذلك الجزء من العالم ولإنصاف المظلومين والنهوض بالمتخلفين من أبناء دينه.

لم يتحرك القائد الأعظم للفكرة عفوًا ولا بوحيٍ من أحد، بل إنه آمن بها بعد أن عالج الحياة العامة سنوات طويلة حاول في أثنائها التوفيق بين الحزبين المتنافرين وبذل كل ما يمكن أن يبذل ليحقق لمسلمي الهند حريتهم، فلما ثبت له أن سياسة التوفيق لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة لم يجد بدًّا من الدعوة إلى الفصل بين الهندوس والمسلمين ليزول ما بينهم من دواعي الاحتكاك الذي كاد يبلغ الحرب الأهلية.

وقد روى الدكتور محمد حسين هيكل تفصيل حديث جرى بينه وبين محمد علي جناح بالقاهرة من عشر سنوات أو نحوها، فقد مر — رحمة الله عليه — بهذه العاصمة في ذهابه إلى لندن أو عودته منها إلى الهند، واجتمع به الدكتور هيكل مع لفيف من الإخوان، فأخذ يحدثهم في نظريته عن الباكستان وإنشائها. ويقول الدكتور هيكل وهو يروي نبأ هذه المقابلة:

وكنا يومئذ مجمعين على أنه لا يجوز إقامة دولة يهودية في فلسطين، وكان من بين الحجج التي يقوم عليها رأينا أن إنشاء دولة على أساس ديني أمر لا يسيغه التفكير في العصر الحاضر، وأبديت هذا الرأي لصاحب فكرة الباكستان وقلت إنني أخشى أن نبدو متناقضين إذا نحن أيدنا رأيه في الوقت الذي نقاوم فيه إنشاء الدولة اليهودية، فباكستان التي يدعو إليها كانت الفكرة فيها قيام دولة من المسلمين مستقلة عن الهند، أي قيام دولة على أساسٍ دينيٍّ.

ورد الرجل اعتراضي يومئذ قائلًا:

شتان يا أخي بين الأمرين! فالدولة اليهودية التي يراد إنشاؤها يراد أن يُجلب إليها اليهود من أطراف الأرض المختلفة في أوروبا وأمريكا ولا أدري من أين من القارات الأخرى، فهي إذن دولة لا وجود لها اليوم ويراد إكراه أصحاب فلسطين العرب على التخلي عن وطنهم لإنشاء هذه الدولة، أما الباكستان فأهلها هم أهلها، وهم المسلمون في بلاد الهند، وبين التقاليد والعقائد الإسلامية والهندوسية من التناقض ما يجعل عيش الفريقين معًا ظلمًا على الأقلية، أي على المسلمين. فهم يريدون، من غير أن يضار الهندوس في شيء، أن يستقروا في بلادهم، وأن يكون معهم إخوانهم الذين يريدون الانضمام إليهم من أرجاء الهند، لا من بلاد أخرى، ليكون لهم جميعًا من الحرية في آرائهم وعقائدهم وتقاليدهم ما يعانون اليوم تقييده ومعارضته. فنحن لا نريد أن ننشئ دولة من لا شيء، ولا نريد أن نغتصب أرض أحد، ولا نريد أن نجني على حرية أحد، وإنما نريد أن نهيئ لهؤلاء المسلمين — وعددهم مائة مليون — وسيلة صالحة وطبيعية للتمتع بحريتهم في عقائدهم وتقاليدهم من غير إضرار بأحد ولا اعتداء على أحد.

قال الرجل هذا الكلام مقتنعًا به كل الاقتناع، مؤمنًا به كل الإيمان، فانتقل إلينا إيمانه واقتناعه، وكتبت أؤيد رأيه، وكان ذلك طبيعيًّا، فقد استطاع القائد الأعظم أن ينقل هذا الاقتناع وهذا الإيمان من قبل إلى عشرات الملايين من مسلمي الهند في ذلك العهد، ثم استطاع أن ينقله إلى الحكومة البريطانية وإلى الهندوس من أهل الهند، وكذلك انتهى إلى أن أسس الباكستان.

ومن هذا يكون من غير الحق في شيء أن يقال إن جناح سعى إلى تقسيم الهند وإلى الاستقلال بالباكستان على أنقاض الوحدة الهندية تحقيقًا لمطمع شخصي أو تعصبًا لإخوانه المسلمين أو فرارًا من الوحدة القومية التي تسوي بين العناصر والأديان.

ولكن جناح ألفى نفسه مضطرًا في آخر الأمر إلى أن ينهج هذا الأسلوب وأن يشق الطريق الذي انتهى بقيام الباكستان، بعد أن رأى ألا جدوى من التعاون وألا سبيل إلى الحياة الحرة الكريمة إلا بتحقيق الانفصال ليستطيع المسلمون والهندوس أن يعيشوا في حسن جوار وفي تعاون، وليتمكن عشرات الملايين من المسلمين من أن ينهضوا من سباتهم وأن يلقوا عن كواهلهم عبء الجمود والتأخر الذي لا يمكن التخلص منه إلا إذا تحققت لهم حريتهم في عقيدتهم الإسلامية وفي شعائرهم وتقاليدهم ونوع حياتهم.

وقد استغرق هذا التطور في تفكير القائد الأعظم عشرات السنين ثم استقرت نتيجته في ذهنه واحتلت من قلبه مكان الإيمان، ذلك لأنه كان سياسيًّا عمليًّا، يؤمن بالمثل العليا ثم يلتمس لتحقيقها الوسائل الممكنة، ولا يكتفي بالدعوة إليها وإن لم تتيسر الوسائل لتحقيقها، ولعله آمن بهذه السياسة العملية بحكم وراثته ثم بحكم دراسته.

•••

وكان جناح محاميًا شديد الاعتزاز بكرامته، وقد حدث مرة أثناء مرافعته في إحدى القضايا أن قال له القاضي: أرجو أن تلاحظ أنك تترافع أمام قاضٍ من الدرجة الأولى!

فما كان من جناح إلا أن صاح به: وأنت … هل تظن أنك تخاطب محاميًا من الدرجة الثالثة؟

وحدث مرة أن أخذ القاضي يلقي درسًا على المحامين في ضرورة المحافظة على المواعيد، وكان جناح من بين المحامين الذين استمعوا لهذا الدرس، وكان يعرف أن لهذا القاضي الذي يقف من المحامين موقف المعلم الناصح ولدٌ مستهترٌ لا يحافظ على الكلمة ولا على المواعيد … فما كان من جناح إلا أن قال للقاضي قبل أن يتم نصحه للمحامين: ألم يكن الأجدر بك أن تلقي هذا الدرس في منزلك!

figure
الصحفيون المصريون ينشرون غطاء من الزهور على قبر محمد علي جناح.

ولم تُتِح الأقدار للقائد الأعظم أن يعيش ليرى تحقيق فكرته الثانية؛ فكرة تعاون العالم الإسلامي مع العالم المسيحي ومع البلاد الآسيوية لتحقيق السلام العالمي، كما رأى تحقيق فكرته الأولى بإنشاء الباكستان، فقد اختاره الله بعد مرض طال به وأضناه، لكنه ظل رغم مرضه يعمل جاهدًا، مخالفًا نصائح أطبائه، ليوطد أركان الدولة الجديدة، وليثبِّت خطاها في سبيل التقدم، مؤمنًا بأن التعاون المنتج لا يكون إلا بين الأكْفاء، وأن تعاون العالم الإسلامي مع سائر بلاد العالم الأخرى لا يثمر النتيجة المرجوة منه إلا إذا بذل هذا العالم الإسلامي الجهد ليكاتف غيره من دول العالم في ركب الحضارة.

هذا هو المثل الأعلى الذي ارتسم في ذهن القائد الأعظم مؤسس الباكستان بعد أن تم تأسيسها، وبعد أن أصبحت دولة لها كيانها بالفعل ولها أثرها في سياسة العالم. وقد كان لهذا المثل الأعلى عدة مظاهر منذ بدأت الباكستان حياتها كدولة، ومنذ انضمت إلى الأمم المتحدة، فمنذ سنة ١٩٤٧ بدأت الباكستان تلعب دورها مع الدول العربية بوصفها دولة إسلامية، بل أكبر دولة إسلامية، ولم ينسَ أحد ممن تتبعوا أخبار الأمم المتحدة سنة ١٩٤٧ ما قام به ظفر الله خان، وهو وزير خارجية الباكستان، في مشكلة فلسطين، وكيف قاوم بكل قوة إقامة دولة إسرائيل، وكان في هذا متفقًا مع مبادئ محمد علي جناح، القائد الأعظم، تمام الاتفاق. وهما في هذا كانا يعبران بإخلاص عن اتجاه العالم الإسلامي في الدول العربية وفي غير الدول العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤