الفصل الأول

١

٢٠١٠م

أكان يتوجَّب عليك أن تكون بهذا القَدْر من الوسامة؟ ومن السحر الغامض؟ بشعرٍ داكن، وجبهةٍ عريضة، وشفتَين رقيقتَين، وندبةٍ واضحة في راحة يدكَ اليمنى، أراها بوضوح وأنا أُسلِّمك كتابًا أو مالًا؟ أكان يجب أن تكون بهذا الكمال؟ وعبارةٌ يتيمة تظل تُردِّدها أمامي كلما حاولتُ أن أعبثَ بغروركَ لأسمع منك المزيد، لكن لا تقول سواها: «كل قارئ له عشقه الخاص!» تُلقيها أمامي بسخرية المنتصر، وعبَث الشامت، وكأنكَ تقول: «كلا، لم تنفع محاولتكِ أيضًا هذه المرة!» لكن أنَّى لي بغيرها، وأنا بعدُ في السابعة عشرة من عمري؟

كانت مكتبتكَ التي تعمل فيها ذلك الوقت هي نافذتي الوحيدة إليكَ وإلى عالمك الساحر، لا أذكر مرةً أن التقت أعيُننا، لكم تمنَّيتُ أن يحدث ذلك ولو لمرةٍ واحدة؛ فنظرةٌ واحدة فقط كانت ستُعلمكَ كَمْ في القلب من معانٍ! وفي كل زيارةٍ كنتُ أطرحُ عليكَ السؤال ذاته: «بمَ تنصحني هذه المرة؟» وكنتَ تُجيبني الإجابة ذاتها: «كل قارئٍ له عشقه الخاص.» كم كنتُ صغيرة وساذجة! لم أتعلَّم بعدُ حِيَل النساء وأساليبهن. ومَرَّ العام سريعًا، كنتَ فيه جاري ومؤنسي وأملي وبابي إلى سعادةٍ مسروقة أتنسَّمها بداية كل شهر، وانتهى العام في لحظةٍ واحدة، شَهِق بعدها الزمن ليتركني في هُوَّةٍ كبيرة من الفراغ والوحشة. هكذا رحلتَ بكل البساطة والبرود المُمكِنَين، ولِمَ لا؟ أكنتُ أعني لكَ شيئًا؟ وما الغريب في القصة؟ افتُتِحت مكتبةٌ، وأُغلقَت بعد عامَين، فلم يكن مشروعًا رابحًا على أية حال. وهكذا انتهت قصتك الوسيمة وملامحك السعيدة التي لا أعرف لها وصفًا غير ذلك؛ فأنت السعادة وكفى. رَحلْتَ لكنك وهبتَني عِشق الكتاب، «شُكرًا» الآن أقولها، «شكرًا» فقد منحتَني عشقًا جديدًا.

لاحظ أبي أنني أقرأ كثيرًا، فاقترح عليَّ، على الرغم من تشدُّده، أن ألتقي أحد جيراننا الذي يسكن عند المنعطف، وهو رجلٌ كبير في العمر يمتلك مكتبةً ضخمة، يمكنني أن أستعير منه ما أشاء من الكتب، لكن بشرط ألا أذهب وحدي؛ إذ عليَّ أن أصطحب معي أختي الصغيرة. هكذا أبي، كلما أحسستُ أنه أغلَق عليَّ أبواب الحياة، أجده يترك لي إحدى نوافذها لتتسلَّل إليَّ نسائمها الشائقة.

لم يكن أبي مُتعلمًا، كان حِرْفيًّا يعمل في دباغة الجلد، المهنة التي وَرِثها عن أبيه وجَدِّه، وكان يعمل فيها هو وأعمامي كلهم ما عدا عمِّي الكبير الذي قرَّر ترك هذا العمل، فقرر الجميع تركه لأنه تخلَّى عن العائلة وتمرَّد عليها، أو هكذا قالوا. لم نعُد نسمع عنه شيئًا، أنا شخصيًّا لم أَرَه في حياتي، وصَدِّقوني لم يكن أحد يتحدث عنه إلا بالسوء. أما أبي فكان على عكسه تمامًا، كان الولد الطائع المُرضيَ الوالدَين، كما كانت تقول جَدَّتي دومًا. على كل حالٍ كان أبي مُتدينًا جدًّا، وكذلك أمي، وهل لها أن تكون غير ذلك؟ أذكُر أنني منذ أن وَعَيتُ على الدنيا وأُمي تضع نظَّاراتها وتقرأ القرآن، وأبي لا تفوته صلاةٌ في المسجد، أما أنا فكنتُ أرتدي الحجاب منذ أن أصبحتُ في العاشرة من عمري، أو قبل ذلك بقليل، وكنتُ أُصلِّي مع أمي، ولا أتأخر أبدًا عن الصلاة. أتذكَّر أن المعلمة قالت لنا مرة: «إن الصلاة هي صلة بين الإنسان والله، فإذا أراد الإنسان أن يُحدِّث ربه فعليه أن يُصلِّي.» لكنني كنتُ أَعجَب من نفسي، لطالما خاطبتُ الله في صلاتي لكنه لم يكن يُجيبُني، كنتُ دائمًا أشعر بالإحباط، وكدتُ أقتنع حقًّا أن الله لا يسمعني، أو أنه لا يكترث بي! فقرَّرتُ أن أخاطبه بطريقتي الخاصة، فقد كنتُ أدفن رأسي في الوسادة، وأتذكَّر كل شيءٍ جميل حصل معي في ذلك اليوم، وأعلم أن الله هو من ساقه لي، كنتُ أقول له: «شكرًا.» وكان يقول لي: «عفوًا.» وهكذا أحببتُ صلاتي أكثر، وابتعَدتُ عن تلك الصلاة أكثر، فإذا كانت الصلاة لا تصلُني بالله، فلماذا أُصلِّي؟ كانت هذه الفكرة تُراوِدني كثيرًا، وكبرَتْ معي حتى قرَّرتُ أخيرًا ترك الصلاة إلى أن أتمكَّن يومًا من سماع صوت الله فيها.

كانت أمي تصطحبني إلى دروس الدين التي تُلقيها «الآنسة»،١ وكنتُ أعجبُ من أمي ومن جميع النسوة اللاتي كن يُبقين الحجاب على رءوسهن على الرغم من عدم وجود رجالٍ في البيت! كانت «الآنسة» تتحدث بنبرةٍ شجية فيها الكثير من الحزن، ويحدُث كثيرًا أن تبكي النساء من حديثها، في الوقت الذي كنتُ فيه أُتابع نقوش السجادة التي تتوسَّط الغرفة، كانت رائعة الجمال، فيها الكثير من الزخارف والنقوش والألوان المتداخلة التي كانت تجعلُني أُديم تأمُّلَها. لستُ وحدي؛ فكذلك كنتُ أرى أعيُن جميع النسوة على الأرض فقد أَسَرهُنَّ جمالُ السجَّادة، أو هكذا كنتُ أظن!

ما زلتُ أذكُر مرةً حين كنتُ ساهمةً في تأمُّل السجادة، وإذا بالآنسة تصرخ بأعلى صوتها: «أنتِ!» كاد قلبي ينخلع من مكانه، حَسِبتُ أنها تُخاطبُني، وإذا بها تُسمِّر نظرها على فتاةٍ عشرينية نحيلة كانت تجلس بجواري، وقالت: «أنتِ، قومي معي إلى الغرفة المجاورة.» ارتجفَت الفتاة، وحملقَت بها والدتُها بنظراتِ اتهامٍ واستفسار، ومشت الفتاة ذليلةً خلف الآنسة خارج الغرفة. علمتُ فيما بعدُ أن الآنسة طالبتْها بالاعتراف بذنبها الذي عَرفَت به الآنسة عن طريق كشْف الحُجُب عنها، وأَمرتْها بالتوبة والتطهُّر حتى يرتفع غضب الله عنها لتكون أهلًا لحضور جلساتنا.

حين عادت الفتاة كانت آثارُ البكاء واضحةً على وجهها، لستُ أدري أكان من الخوف، أم من الندم، أم من الشعور بالخزي؛ فقد كانت نظرات جميع النسوة تلتهمها، أما أنا فكنتُ أنظر إلى أعيُنِهن وقرأتُ فيها التشفِّي والسخرية. قالت «الآنسة» بعد أن استوت على أريكتها الوثيرة: «الشهوة يا بناتي من رجز الشيطان، وعليكُن كَبْحها حتى تَصْرفنها في الحلال مع أزواجكن، استغفرن الله، علَّ الله أن يغفر لكنَّ.» ثم تابعَت «الآنسة» مواعظها، وفي قلبي نما كُرهي ونفوري منها، ومن يومها لم أعُد أذهب مع أمي إلى هذه الدروس مُتحجِّجةً مرةً بمرضي ومرةً بدروسي. وصحيحٌ أننا لم نكن نعرف بالضبط ذنب الفتاة ذلك اليوم، لكن كيفَ لك أن تُخْفي سرًّا كهذا في مجتمعٍ نسائي قائم على النميمة؟ فقد قيل إنها تُصاحب شابًّا، وقيل إنها تُواعده في الحدائق، وإنهما يُقيمان علاقةً محرمة، كما قيل لي إنها تلتقي بأكثرَ من شابٍّ. لكن من يقدر على التقاط الحقيقة من بين أفواه النساء وحكاياتهن الممزوجة بخيالاتهن، والمنسوجة بالكثير من التشفِّي أو الغَيْرة أو الحقد أو على الأقل بشهوة الحَكْي ونَقْل الأخبار، والشعور بالنشوة لرؤية السامعين يَنشَدِهون استغرابًا؟

هل يُعقل أن يكون الله الذي يسمع صلاتي ويُجيبني هو نفسه من يُحِل العقوبة واللعنة والغضب على تلك الفتاة البائسة؟ أم أن إلههم غير إلهي؟ أليس هو الرحمن الرحيم؟ لم أعُد أريد أن أعبد الإله الذي في دروسهم ومواعظهم، عاهدتُ الله بيني وبين نفسي أن أبحث عنه يومًا ما عندما أتمكن من الخروج وحدي، عندما أكبَر، سأُسافر وأبحث عنه؛ فهو بالتأكيد لا يقبع في سياط الواعظات والواعظين.

٢

في الزيارة الأولى ذهبتُ مع والدي وقد كان ذلك في بداية العُطلة الصيفية قبل عامٍ بعد أن نلتُ شهادة الثانوية العامة. كنتُ أرغب في الالتحاق بالجامعة، لكن أبي لم يُوافق، بحجة أنه لا فائدة من دراسة البنت، وأمام ما رآه مني من كآبة وحزنٍ اقترح عليَّ أن أُرافقه إلى بيت جارنا الذي تفصله عنا ثلاث عمارات. كانت تنبعث من بيته رائحةُ تبغٍ قوية، ولا يكاد ضياء الشمس يتسلَّل عبر ستائره السمكية القاتمة. انقبض قلبي في البداية، إلى حين دخولنا غرفة المكتبة فقد كانت واسعةً فسيحة تتوسَّطها طاولةٌ خشبية مستديرة لمَّاعة، وحولها كرسيان خشبيان، وعلى جدران الغرفة الثلاثة تنتصب أرفُف الكتب التي تمتد من الأرض حتى قُبيل السقف بقليل، وعند الجدار الرابع مَكتبٌ خشبي عليه مذياعٌ خشبي، ومِنفَضةٌ خشبية، وعُلبة تبغٍ، والعديد من الغَلْيونات، وبعض الجرائد، وبجوار المكتب كرسيٌّ خشَبي هزَّاز عليه وسادةٌ قديمة باهتة اللون. بدا كل شيء هنا مصنوعًا من الخشب، وخلافًا لتوقُّعاتي فقد كان كل شيء نظيفًا ولامعًا.

كانت رائحة التبغ هنا أقوى من الرَّدْهة فسَعَلْتُ قليلًا، انتبه إليَّ صاحب البيت وسارع إلى فتح الستائر والنوافذ وهو يعتذر. وما إن دخل نور النهار إلى الغرفة حتى اكتست الغرفة سحرًا جديدًا، أخذ الخشب المصقول يلتمع حولي، وازدادت ضخامة الكتب. ولاحظتُ أيضًا أن أرضية الغرفة كانت من الخشب، كان الخشب يُضْفي على المكان دفئًا خاصًّا، وحميميةً مُحبَّبة. وعندها فقط تبيَّنتُ عن قُربٍ ملامحَ جارنا، كان رجلًا في أواخر الخمسين من عمره، قد غزت التجاعيدُ وجهه الأبيض الشاحب، لكنه مع ذلك كان مريحًا وهادئًا، بشَعرٍ فضيٍّ وعينَين زرقاوَين ضيقتَين، وكان نحيلًا يرتدي قميصًا سماويًّا وسروالًا داكن اللون، وفي يده اليمنى يرتدي خاتمًا بحجرةٍ سوداء.

ابتسم عندما رآني أُحدِّق في الخاتم، وقال: «أَعجبكِ؟ إنه من حَجَر العقيق، هديةٌ قديمة من شخصٍ قديم.» ارتبكتُ لملاحظته، ووخزني أبي على كتفي، فأطرقتُ في الأرض خجلًا. سارع إلى القول: «تفضَّلا بالجلوس.» وجلس هو وأبي حول الطاولة الخشبية، وأخذتُ أُحدِّق في الكتب الكثيرة بينما كانا يتحدَّثان، ونظرتُ إلى الأعلى فرأيتُ ثُريَّا تتدَلَّى من السقف تشبه بتصميمها تلك التي في بيوت الأشباح. انتبهتُ على قوله مُوجِّهًا حديثه إليَّ: «حدِّثيني، أي نوع من الكتب تُفضِّلين؟» أجبتُه مستحضرةً عبارةَ ذلك الشابِّ ذي الجبهة العريضة: «لكل قارئٍ عشقُه الخاص.» رفع حاجبَيه إعجابًا كما أظن، بينما قطَّب أبي جبينه استياءً، ثم قال: «أفترض إذن أنني سأترككِ هنا لتختاري من الكتبِ ما تشائين.» ابتسمتُ لهذه الفكرة، وخرج مع والدي.

٣

بقِيتُ وحدي في غرفة المكتبة، كانت من أكثر اللحظات إثارةً في حياتي، أخذتُ أُقلِّب نظري بين أرفُف المكتبة. كان ثَمَّةَ جدارٌ بكامله لا يحوي تقريبًا إلا كتبًا أجنبية، بِلغةٍ عرفتُ فيما بعد أنها اللغة الألمانية. اتجهتُ إلى قِسمٍ آخر فوجدتُ الكثير من الكتب التي تتحدَّث عن المعادن والآلات والميكانيك وغيرها من المصطلحات التي لم أفهم معظمها، بدأ حماسي يخبو. مشَيتُ باتجاه النافذة فثَمَّةَ كُتبٌ مُكدَّسة تحتها على الأرض، أخذتُ أُقلِّبها فإذا هي في مواضيعَ دينيةٍ تتحدَّث عن الله، ودواوينُ كثيرةٌ لشُعراءَ لم أسمع بهم من قبلُ، ولأني لم أكن أحب الشعر وقفتُ وقد ازدادت خيبةُ أملي. في الحقيقة لم أكن أدري عن أي شيء أبحث، اتجهتُ إلى قسمٍ آخر ووجَدتُ الكثير من القصص والروايات، فتحمَّستُ قليلًا، أخذتُ أبحثُ عن واحدةٍ تَلفِت انتباهي، لكن عناوين الروايات والقصص كانت تبدو لي مُملَّة، حينها سمعتُ أبي يناديني: «هيا سنعود إلى البيت.» ودخل الجار إلى المكتبة وسألَني: «هل اخترتِ كتابًا؟» ولما وجد يدي فارغة قال: «ليس بعدُ؟» أجبتُه: «لم أجد ما أعرفه بعدُ.» فقال: «إذا كنتِ تبحثين عما تعرفين، فستُكرِّرين قراءة الكتب ذاتها، كيف ستكتشفين حُبَّكِ لأمرٍ ما إذا كنتِ لا تُجرِّبينه أولًا؟» لم أجِب، فنظر إلى الكتب حيث كنتُ واقفة، وقال: «القصص والروايات ممتعةٌ جدًّا.» ثم مد يده وأخرج كتابًا أعطاني إياه وقال: «ما رأيكِ أن تبدئي بهذه الرواية؟» نظرتُ إلى العنوان: «الدوامة»، ولأني لم أشأ إحراجه أمسكتُ بالرواية مبتسمةً وقلتُ: «شكرًا لك، سأقرؤها.»

عُدنا إلى البيت على أقدامنا؛ فلم يكن بعيدًا، وقد اشتد الحر، فلم أَكَد أصل إلى البيت حتى رميتُ بنفسي على السرير مُجهَدة، وقد أخذ النعاس يتملَّكني وخُيِّل إليَّ أنني أطير بين بناءَين عاليَين وكنتُ في غاية السعادة. انتبهتُ على صوتِ أُمي تُنادينا على طعام الغداء، تحلَّقنا حول الطاولة، التفَت أبي إليَّ وقال: «متى ما انتهيتِ من الكتاب أَعيدِيه للدكتور نور، لا نُريد أن يقول عنا إننا لا نُعيد الأمانة، وها قد عرفتِ البيت، لكن لا تذهبي وحدك، خذي فاطمة معك.» «نور» هذا هو اسمه إذن، أخذتُ أفكر لمَ هذا هو اسمه بالتحديد؟ كنتُ أومن أن للأسماء طاقةً خفية تسري في صاحبها، وعبثًا يحاول الآباء والأمهات انتقاء أسماء أولادهم، ويعتقدون أنهم هم الذين يهَبونهم الأسماء، لكن الحقيقة أن لكل إنسانٍ اسمَه الخاصَّ المرتبط بوجوده وبذاته، ولا يمكن أن يُسمَّى بغير هذا الاسم على الإطلاق، «نور» اسمٌ جميل يحمل الكثير من التفاؤل والحياة. كانت الأفكارُ تتدفَّق إلى رأسي بينما كنتُ أتناول الطعام، ثم تذكَّرتُ أن أبي قال «الدكتور نور»، فسألتُه: «هل جارنا يُدرِّس في الجامعة؟» أجاب: «نعم، يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية.» التمعَت عيناي وقلتُ بعَفْوية: «ما أروَعَ هذا!» أجاب أبي: «وما الرائع فيه؟ أتعلمين كَمْ راتبه؟ إن أعلى راتبٍ يُحصِّلونه لا يتجاوز نصف ما أجنيه شهريًّا، ويقولون إنهم في أعلى السلَّم الوظيفي!» ثم ضَحِك ساخرًا وأكمل طعامه في حين توقفتُ أنا وقد شعرتُ باستياءٍ كبير.

اتجهتُ إلى غرفتي وأمسكت الرواية: «الدوَّامة» لجان بول سارتر، أهو إنجليزيٌّ أم أمريكي أم غير ذلك؟ لم أكن قد سمعتُ عنه من قبلُ، ولم أكن قد قرأتُ أعمالًا أو كتبًا مترجمة أصلًا. وما إن بدأتُ في القراءة حتى اختفى كل شيءٍ بالنسبة إليَّ، وانحصر عالمي كله في هذه الرواية، ولم أتوقَّف حتى انتهيتُ من قراءتها. كانت ممتعةً حقًّا، وأكثرُ ما شدَّني إليها فكرةُ أنه لا يُوجد خيرٌ أو شرٌّ محض في هذا الوجود، وما نعتقده شرًّا مطلقًا، فإنه يحمل فيه بذرة الخير، والعكس صحيح. أخذتُ نفسًا عميقًا ورحتُ أبحث في حياتي عن الأمور التي أمقُتُها وأعتقد أنها سيئة، فتذكَّرتُ الدروس التي كنتُ أحضرها مع أمي، عندها عقدتُ العزم على أن أعود إليها بروح جديدة حتى لو كنتُ أعتقد أنها سيئةٌ جدًّا، أن أبحث فيها عن خيرٍ ما، عن شيء يجعلني أعتقد حقًّا بهذه الفكرة، فإن لم أجد سلَّمتُ ببطلانها. أعجبَتْني الفكرة، وقبل أن تشغلَني الحياة عنها، فتحتُ صفحتي على الفيسبوك وكتبتُ فيها:

لا شرَّ مُطلَق؛ ففي شدة الظلام ثَمَّةَ بصيصُ نور.

وحدَث ما كنتُ أخشاه؛ فما إن عُدتُ إلى الدروس مع أمي بعد انقطاعي عنها مُدَّة سنةٍ تقريبًا حتى انهالت النسوة عليَّ وعلى أمي بالأسئلة عن سبب اختفائي، وهل ذلك بسبب خطبةٍ أو زواجٍ أو مرضٍ ما، وكُنَّ يُحدِّقن في يدي بحثًا عن خاتمِ خطوبة، وأخذَت بعضُهن تَغمِز أمي وتهمِس لها، بينما راحت أُخرى تُحدِّق في حاجبيَّ وتسأُلني: «كأنكِ أزلتِ شيئًا من حاجبَيك؟ ما تعرفين أنَّ من تفعل ذلك ملعونة؟» كنتُ أبتسم مجاملةً لهن حتى حضَرَت «الآنسة» وكان كل شيءٍ يجري بشكلٍ اعتيادي حتى وقعَت عيناها عليَّ، فحملَقَت فيَّ وحدَّقَت وقالت بلهجةٍ حانية: «أهلًا أهلًا، أخيرًا قرَّرتِ العودة إلى الله، لا تيأسي يا ابنتي فالله يغفر للمُعرضين عنه.» ومع أنها قالت ذلك بأسلوبٍ ودود، فإنني لستُ أدري بعد أن سمعتُ منها هذه الكلمات ما الذي جرى لي، شعرتُ بحرارةٍ مباغتة تسري في جسمي، وأخذَت الكلمات تتدفق من لساني كنبعِ ماءٍ متفجر، وكان مما قلتُه؛ فقد نسيتُ معظمه: «ومن قال لكِ إنني قد أعرضتُ عنه للحظة؟ هل تجرُئين على القول إنني لا أحب الله؟ وهل كشفتِ عن قلبي؟ أم أن الوحي نزل إليكِ؟ لِمَ لا تنظرين إلى قلبكِ وتطلبين المغفرة أنتِ؟ أم أنكِ معصومة عن الخطأ؟ أخبريني لِمَ تُكشَف الحُجُب عنكِ أنتِ بالتحديد دونًا عنَّا جميعًا؟ ما هي هذه الحُجُب؟ حدِّثينا، وكيف يحدُث ذلك؟ اشرحي لنا، من حقنا أن نعرف، وأنتِ ألا ترتكبين الذنوب أبدًا؟»

خيَّم صمتٌ مُطبِق كصمت القبور وشعرتُ أنه سيدوم إلى الأبد، كانت عيناي مُسمَّرتَين في عينَيها، ولم أرمش للحظة، ولم أَدْرِ عن بقية النسوة أين وماذا كُن يفعلن. كانت تغمرني نشوةُ الانتصار، استمر الصمت طويلًا حتى شعرتُ بألمٍ حادٍّ في فخذي فقد كانت أمي تقرصُني وتقول: «دخيلك يا آنسة لا تؤاخذيها؛ فهي طفلةٌ لا تدري ما تقول.» ظلَّت الآنسة صامتةً وقد احمرَّت وتلوَّنَت من فَرْطِ غضبها ولكنها أخيرًا رفعَت نظرها إلى الأعلى وقالت: «ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء مِنَّا، قوموا إلى بيوتكم. انتهى الدرس!»

لن أُحدِّثكم بعدها ما حدَث من النسوة ومن أمي تحديدًا التي أصابها العارُ مني لأني تطاولتُ على «الآنسة»، لكنَّني بقيتُ صامتةً طوال الوقت؛ فاللذة التي حصَلتُ عليها تكفيني، فلمَّا عُدنا إلى البيت انهالت عليَّ أمي بغضبها، وأظهرَتْ حَسْرتها على أنني ضيَّعتُ تعبها وتربيتها، ومنعَتْني هذه المرة من الحضور معها في الأسبوع القادم. دخلتُ إلى غرفتي مُجهَدة؛ فقد خُضتُ للتوِّ أوَّلَ معركةٍ لي وانتصرتُ فيها، لكن عن أي نصرٍ أتحدَّث؟ وأي معركة؟ وهل فعلًا حصلتُ على ما كنت أبحث عنه؟ هل وجدتُ الخير؟ وجَدتُني أتضاءل من جديد، وأنكفئ على نفسي ندمًا. وفي تلك الليلة حين وضعتُ رأسي على الوسادة واستحضرتُ نِعَم ربي علي، لم أسمع ردَّه المعتاد حين قلتُ له: «شُكرًا!»

٤

ثَمَّةَ شيءٌ ما لم أتمكَّن من فهمه بعدُ، فقرَّرتُ أن أعرف أكثر عن مؤلِّف الرواية التي أنهيتُها مُؤخَّرًا «الدوَّامة»، فكتبتُ في مُحرِّك البحث: «سارتر»، وعلى خلاف ما كنتُ أظن فقد ظَهرَت نتائجُ كثيرة جدًّا للبحث، وإذ ﺑ «سارتر» ليس كاتبَ رواياتٍ فحسبُ، وإنما صاحب الفلسفة «الوجودية»، وهي فلسفةٌ تُركِّز على الإنسان وتُعلي من قيمته، وأنه أقدمُ شيءٍ في الوجود، وما قبله عدَم، وأن عليه أن يُثبِت نفسه أمام كل العوائق والحدود، أما القيم فهي غيرُ ثابتة، وليس لأحدٍ أن يفرض قيمًا أو أخلاقًا مُعيَّنة على الآخرين. «الجحيم هو الآخر» هذا عنوانُ أحد أعمال الكاتب نفسه، هذا صحيح تمامًا؛ فلو كنتُ وحدي لأصبحتُ أكثر سعادة. أعجبَني الجزء الأخير المتعلق بالحرية، وسرحتُ قليلًا بخيالي، أخذتُ أُفكِّر ماذا لو كنتُ حُرةً بالمُطلَق فلا سلطة لأحدٍ عليَّ؟ ماذا كنتُ سأفعل؟ وابتسمتُ للفكرة، كنتُ سأرتاد الجامعة بلا شك، كنتُ سأسافر، وأعمل، سأسكن وحدي، لا، لا أُريد أن أكون وحدي. وفي هذه اللحظة تذكَّرتُ وجه الشابِّ ذي الشعر الداكن الذي كان يُعيرني الكتب، «أريد أن أكون معه!» وعند هذه الفكرة احمرَّت وجنتاي فحرَّكتُ رأسي أُحاول طرده من خيالي، وعُدتُ إلى «الدوامة».

كنتُ أشعُر بضيق، فلم أصل بعدُ إلى ما كنتُ أبحثُ عنه، عن ذلك الشيء الذي حجَب عني الحقيقة وأبعدَني عنها، فاتصلتُ بجارنا الدكتور نور واتفَقتُ معَه على الحضور. أخذتُ معي أختي فاطمة وذهبتُ إليه مساءً. عندما فتَح لي الباب، بدا لي مبتهجًا، فسألتُه: «كيف حالُكَ اليوم دكتور؟» قطَّب جبينه ثم ابتسم وقال: «أما عن حالي فأنا على خيرِ ما يُرام، وأما عن ندائكِ لي بدكتور فلم يرُقْ لي، هذه كلمةٌ لا أُحب سماعها إلا في الجامعة، وأنتِ جارتي، وهذا بيتي.» فقلتُ له: «أناديك عمي إذن.» ضحك وقال: «بالنظر إلى عُمرَينا فأنا بعمر جَدِّك.» فقلت بعفوية: «أنت إذن جدُّو نور.» فقال مبتسمًا: «جدُّو نور»، ستكونين أنتِ أوَّلَ من يُناديني بذلك». وقادنا إلى غرفة المكتبة، جلسنا على الطاولة المستديرة، وقال: «أرى أنكِ أنهيتِ الرواية بسرعةٍ كبيرة.» قلتُ: «نعم، كانت ممتعةً جدًّا، ومحتواها يختلف كثيرًا عن أي شيء قرأته سابقًا.» ابتسم جدُّو وقال: «وكيف وجَدتِها؟» أجبتُه: «رائعة، أقصد أنها أعطتني فكرة عن فلسفة سارتر الوجودية، وقمتُ بالبحث عنها على الإنترنت، وتوصَّلتُ إلى فكرة أنه لا يُوجد خير أو شرٌّ محض، وبما أنني لا أعتقد بشيء حتى أُجرِّبه، فإنني إلى الآن لم أتبنَّ هذه الفكرة.» رفع جدو نور حاجبَيه مستحسنًا كلامي وقال: «أنتِ فتاةٌ ذكية، لكن هل لي أن أسألكِ كيف ستُجِّربين هذه الفكرة؟» قلتُ: «لقد فعلتُ ذلك بالفعل.» قال: «حقًّا، كيف؟» فحكيتُ له قصة الدروس الدينية وكيف تركتُها ثم عُدتُ إليها وما حدَث في الدرس الأخير من مواجهةٍ بيني وبين «الآنسة»، فلم يقل شيئًا، بل ظل صامتًا، فقلتُ وقد نفَد صبري: «ما رأيك؟ ماذا أفعل؟» أجاب: «طالما أنكِ بدأتِ بالتجربة فأكمليها إلى النهاية، وأخبريني بالنتائج لاحقًا. هل أُعطيكِ كتابًا آخر؟» ولم ينتظر ردِّي بل قام إلى المكتبة واستَلَّ كتابًا وناولَني إياه وقال: «خذي، هذه روايةٌ جديدة، وكاتبها برازيليٌّ معاصر، أظنُّكِ ستُحبِّينها، اقرئيها ولا تعودي حتى الأسبوع المقبل.» أمسكتُ بالرواية: «الخيميائي»، قطَّبتُ جبيني فلم أفهم العنوان، لكنني لم أكترث كثيرًا فوضعتُها في حقيبتي؛ فقد كنتُ ما زلتُ أُفكِّر فيما سأفعله مع تجربتي في الدروس الدينية، وكم كنتُ أوَدُّ الحديث معه أكثر عن الموضوع، لكنني فوجئتُ به ينادي أختي فاطمة: «هيا يا حلوة، ستعودان إلى المنزل.» وناولها قلمًا ذهبيًّا وقال: «أتعرفين أن هذا قلمٌ سحري؟» قالت أختي وقد شدَّتها نبرتُه: «حقًّا؟ ماذا يفعل؟» أجاب: «إنه يجلب السعادة لكلِّ مَن يستعمله، ولا يفارقه حتى يُمكِّنه من القراءة والكتابة بأجمل الخطوط.» أمسكَت فاطمة القلم بيدَيها الصغيرتَين وأخذَت تنظر إليه بسعادة. غَمزَني جدو وربَّت على كتفي وقال: «هيَّا، هيَّا حان وقت الرحيل.» أمسكتُ بيد أختي وعُدنا إلى البيت.

وفي ليلةِ ذلك اليوم لم أتمكَّن من النوم؛ فغدًا هو موعد الدرس الديني. كان عليَّ أن أُقرِّر هل أذهبُ أم لا؟ وإذا ذهبتُ فماذا عليَّ أن أفعل؟ هل أُكمل المواجهة؟ أم أعودُ أدراجي؟ أخذتُ أُفكِّر كيف ستنظر إليَّ النسوة والآنسة تحديدًا؟ وبعدها رُحتُ أغُطُّ في النوم.

في الصباح فتحتُ عينيَّ على صوتِ فاطمة تهزُّني من كتفي وتقول: «لقد نجح القلم الذهبي، تمكَّنتُ أخيرًا من كتابة الهمزة!» أختي فاطمة عمرها ستُّ سنوات، كانت تُعاني من مشكلةٍ في كتابة المنحنيات في الأحرف والأرقام، ولذلك فقد كانت تكتُب الهمزة على شكل خطٍّ أفقي صغير فوق الألف. لم أكترث لما قالَتْه، وأبعدتُ دفترها عنِّي، وقمتُ وأمرٌ واحدٌ يشغلُني: ماذا سأفعل اليوم في الدرس؟

بعد الغداء ركضَت إليَّ فاطمةُ ومعها دفترها، قالت: «هل أخبرتُكِ عن القلم السحري؟» أجبتُها بشرود: «نعم فعلتِ، مباركٌ عليك.» وأبعدتُها عنِّي، ثم نظرتُ إلى عينَيها اللتَين كانتا تفيضان إثارة، فرأيتهما انكسرتا من ردَّة فعلي الباردة. فجأةً تبدَّى لي شيءٌ كنتُ غافلة عنه تمامًا، أمرٌ تمكنَت أختي الصغيرة من الوصول إليه بينما عجزتُ أنا عنه. أمسكتُها من يدها وقلتُ: «أريني دفترك مرةً أخرى، أنا آسفةٌ، لم أنتبه في المرة السابقة.» تهلَّل وجهها وعاد البريق إلى عينَيها، وسارعَت إلى القول: «هذا هو القلَم الذي تمكَّن من كتابة الهمزة، إنه حقًّا قلمٌ سحري!» أجبتُها: «أتعلمين ماذا قال لي جدو نور عندما ذهبتِ؟» نَظرَت إليَّ متعجبة، أكملتُ: «قال إن القوة السحرية التي في القلم تنتقل إلى اليد التي تكتُب به، فتغدو قادرةً على فعل العجائب.» «صحيح؟» أجابت أختي وهي تنظُر إلى يدها، قلتُ: «بالتأكيد.» وأخذتُ القلم من يدها وأعطيتُها قلم رصاص، وقلت: «والآن، جرِّبي بنفسكِ، سترين كيف أن يدكِ أصبحَت يدًا سحرية.» أمسكَت فاطمة القلم بتردُّد وأخذَت تخُطُّ على الورقة حرف الألف وفوقه الهمزة، وإذا بها تكتبه بسلاسة ووضوح، ويا لفرحتها حين فعلَت ذلك! أخذَت تقفز وتصرخ، وشاركتُها الأمر ذاته وتعانقنا لنجاحنا الكبير، ولربما علت أصواتنا قليلًا، فاندفعَت أمي للحضور متسائلة عن سبب صياحنا، أجبتُها وأنا أغمز أختي: «لا شيء، سوى أن فاطمة أصبحَت تمتلك قُوًى سحرية!» وضحكنا.

كيف غفلتُ عن ذلك؟ عن أن الخير الذي كنتُ أبحث عنه في الآخَر السيِّئ هو انعكاسٌ لما في ذاتي، ولولا النور الذي فيَّ، لما رأيتُ النور الذي في الآخر؛ فما هو إلا صورةٌ عني، وعندما أتلمَّس خيري سأجد بالتأكيد خير غيري، والعكس بالعكس صحيح؛ فحين لا نرى إلا الشر والسوء عند غيرنا فهذا لأننا لا نراهم إلا من ناحية النقص الذي فينا، وكذلك فعلَت أختي بطبيعتها الحساسة لكن بصورةٍ منعكسة، حين آمنَت بقوة القلم السحرية انتقل إليها إيمانها بذاتها، أعجبَتْني الفكرة وتحمَّستُ لها كثيرًا، فكتبتُ في صفحتي على الفيسبوك:

لتجدَ الخير في غيرك، عليك أن تجدَ خيرك.

سارعتُ إلى أمي التي كانت مستلقيةً وبادرتُها: «متى نذهَب إلى الدرس؟» حملقَت فيَّ وقالت: «نذهب؟ وهل ستأتين معي لتُحرجيني مجددًا بكلامكِ الغريب الذي لا أعرف من أين تأتين به؟ لن أصحبكِ معي اليوم.» أجبتها: «كلا، كلا، أرجوكِ خذيني معك، أعدُكِ أن أكون طيِّعة كما تريدين.» أجابَتْني وهي ترمقُني بنظرةٍ ريبة: «حسنًا، لكن لا تفتحي فمكِ بحرف.» لم أكن أدري ماذا سأفعل، كنت أريدُ الذهاب وحسبُ.

وفي الوقت المُحدَّد ذهبتُ مع أمي وجلستُ بجوارها وسط النسوة اللاتي أخذن يتهامسن وهُنَّ يرمينَني بسهام نظراتهن الحادة. كنتُ أبتسم لكل واحدةٍ منهن وأترقَّب حضور الآنسة، ولم يطُل انتظاري كثيرًا؛ فقد أطلَّت وسَطَ ترحيبات النسوة وسلاماتهن الحارة، اتخذَت مكانها في صدر الغرفة، وسلَّمَت علينا، وأخذ قلبي يخفق، ماذا ستفعل حين تراني؟ هل ستطردني؟ أم تتجاهلني؟ هل ستُعنِّفني؟ كنتُ مرتابة في كل شيء، ولم أكن مطمئنة إلا لأمرٍ واحد وهو أن قلبي اليوم مليء بالحب، أخذَت نبضاتُ قلبي تتسارع أكثر فأكثر، وشعرتُ ببرودةٍ في أطرافي على الرغم من حرارة الجو، وأخيرًا في لحظةٍ واحدة التقت أعيننا، ومثل شحنتَين متماثلتَين تباعدَت نظراتنا. ابتدأتِ الآنسة الدرس، وأحسستُ برجفةٍ خفيفة في صوتها، وبعد المقدمات والدعاء قالت: «اليوم ستَتفضَّل الآنسة الصغيرة لتُلقي الدرس؛ فهي، كما تعلمن، شابةٌ متعلمة وتُحب أن تتطاول على من هن أكبر منها.» وأشارت إليَّ، والتفتَت جميع النسوة ما بين مُتشكِّكة وساخرة. نظرتُ إليها؛ فقد بدا واضحًا أنها كانت تتحدَّاني، وحين هممتُ بالكلام، قرصَتْني أمي وقالت وهي تفتعل ابتسامة على وجهها: «أنت بالتأكيد تمازحين ابنتي؛ فهي لم تتلقَّ تعليمًا دينيًّا لائقًا لكي تُلقي درسًا، وعن أي شيء ستتحدث؟ إنها لا تعرف، كما أنه لا يجوز لأحدٍ أن يتكلم بحضورك.»

آلمَتْني كلماتُ أمي أكثر من أي شيءٍ آخر، لكنها جعلَتْني أنتصر على تردُّدي، فسارعتُ بالوقوف بينما جميع النسوة جالسات، وقلتُ موجهةً الكلام إلى أمي: «ولِمَ لا يا أمي؟ لِمَ لا يُمكنُني أن أتحدَّث؟ فقد جادل بعضُ الصغار الرسولَ عليه الصلاة والسلام في حضوره.» ثم التفتُّ إليهنَّ، ونظرتُ في أعيُنهنَّ واحدةً واحدة، وأكملتُ وأنا أشعُر بطاقةٍ جميلة: «لستُ أدَّعي العِلمَ ولا الفَهْم ولا الفقه، ولم أتلقَّ تعليمًا دينيًّا، ولم أحصُل على شهادات، ولا أحفَظ القرآن الكريم كاملًا، لكنني أُوقن أن لديَّ قلبًا يُحبُّ خالقه. لا أطلُب منكن تصديقي؛ فيكفيني أن الله يعلم، وأنني أعلم أن في قلب كل واحدةٍ منكن حبًّا مماثلًا. لست هنا لأُخطِّئَ واحدةً منكن، بما فيكن أنتِ أيتها الآنسة، ولو كان الموقف الذي حَصَل في الدرس السابق قد أساء إليكِ أو إلى أي واحدةٍ منكن فأنا أعتذر. أما وقد سنحَت لي هذه الفرصة لأنال شرف الحديث إليكن فأودُّ القول إننا جميعًا متساوون، وليس لأحد الحقُّ في تفضيل نفسه أو غيره على الآخرين، الله وحده يفعل ذلك لأنه وحده المُطَّلِع على القلوب، وا… والسلام عليكم.»

ألقيتُ بنفسي على الأريكة، وكأن حِملًا كبيرًا انزاح عن صدري، كنتُ مرتاحة وخفيفة، ولم يعد يهمُّني شيء، ولم أعُد أنظر إلى أعينهن، ولا أذكُر تمامًا ماذا حدث أو ماذا قيل، كنتُ راضية عن نفسي وعما قلتُه، وكان ذلك يكفيني. قبل الرحيل أخذَت النسوة تُسلِّمن على «الآنسة» وحين حان دوري، صافحتُها فابتسمَتْ، فابتسمتُ بدوري. وقُبيل أن نرحل جاءت إليَّ الفتاة العشرينية النحيلة التي كانت قد وبَّخَتْها «الآنسة» في درسٍ سابق، وكنتُ قد نسيتُها تمامًا، احتضنَتْني بشدة، وقالت: «أتعلمين، أنت أَوَّلُ واحدةٍ أشعر أن كلامها يقرأ ما في قلبي بدقة، أنت لطيفة حقًّا، أتمنى أن نظل معًا.» ورحلتْ سريعًا تاركةً إياي في حالةٍ غريبة تملَّكَتْني حتى عودتي إلى البيت، وأمي لم تُعنِّفني هذه المرة ولم تقل شيئًا.

وقبيل النوم فتحتُ الفيسبوك وكتبتُ:

أحيانًا، قد تكونُ غير مهيَّأٍ بعدُ للإصلاح، لا تنزعج، تنحَّ جانبًا؛ فالوقتُ لم يَحِن بعدُ.

ثم خطَرَت لي تلك الفتاة النحيلة، وما فعلَتْه وما قالَتْه، تذكرتُ أنني لا أعرف اسمها أيضًا، فكتبتُ:

قد يُفاجئكَ الخير في طريقٍ مغايرٍ تمامًا للطريق الذي تسلُكه، ما عليكَ سوى أن تتفتَّح وحسبُ.

نظرتُ إلى ما دوَّنتُه، كنتُ أشعر بالرضى، واستسلمتُ لنومٍ عميق.

٥

نظر إلى نفسه مليًّا في المرآة، ارتسمَت ابتسامةٌ عريضة على مُحيَّاه، شعَر بالرضى والثقة. ارتدى ساعتَه الفضية، تناوَلَ مفاتيحه وهاتفه النوكيا من على الطاولة وخرج. كان ممتلئًا بالفخر كصباح كل يوم؛ فوسامتُه خدَمَته كثيرًا في السنوات القليلة الماضية، وها هي تؤمِّن له عملًا محترمًا. وصحيحٌ أنه كثيرًا ما يسلخُ ساعات الصباح في وحدةٍ مَقيتة بين الكتب من غير أن يدخل زبونٌ واحد، لكن المساء مختلف كثيرًا؛ فبالنسبة إليه تكفي صَبيَّةٌ واحدة جميلة يقنعها بشراء كتاب في أن تفتح شهيَّته للعمل طَوال اليوم، فكيف وهو يرى بوضوحٍ آثارَ وسامته مُتبدِّية في عيون السيدات والآنسات، الصغيرات منهن والكبيرات على حدٍّ سواء؟ لكنه لم يكتفِ بهذا، بل أضاف إلى ذلك لَباقتَه في الكلام، وحُسن مُحاورته، مع لمسةٍ ساحرة من ابتسامةٍ ماكرة تجعل أي شخص لا يخرج إلا وقد ابتاع كتابَين أو ثلاثةً على أقل تقدير.

كما أن سياسته الجديدة في المكتبة حسَّنَت من عمله كثيرًا؛ فقد ابتدع لأول مرة نظامًا جديدًا في إمكانية استعارة الكتب بدلًا من شرائها لمن لا يملك الثمن، مقابل مبلغٍ ماليٍّ بسيط، وقد زاد هذا من أرباحه، وإن كان قد سرَّع في تلَف الكُتب وضياعها؛ الأمر الذي لم يُعجِب صاحب المكتبة، خاصةً أنه لم يَدْرِ بذلك إلا بعد ما يقارب العام.

وصحيحٌ أنه لا يُحب القراءة، وليست الكتبُ بالنسبة إليه سوى رأس مالٍ عليه أن يستثمره جيدًا، لكنه حين وجد نفسه مضطرًّا للعمل بها، فإنه تمكَّن ببداهته من امتلاك أسرار هذه «الصنعة» كما يحلو له أن يُسمِّيها؛ فقد حفظ أسماء الكتب ومؤلِّفيها، واطَّلَع على أكثر الكتب طلبًا، وأجبر نفسه على قراءة أشهرها. عرف كيف يعرض بضاعته بحيث تكون مغرية للزبون، وتعلَّم مداخل كل زبون ومفاتيحه، وكيف يُقنعه بالشراء، وخاصة الفتيات منهم.

صدحَت الموسيقى معلنةً إقلاع جهاز الكمبيوتر، جلس أمامه وراح يتفقَّد، كما يفعل كل صباح، سجلاته الخاصة بالاستعارة، ليعرف أسماء الزبائن الذين عليهم إعادة الكتب اليوم. ظهر أمامه اسمها وحيدًا، تذكَّرها تمامًا فهي من ذلك النوع الذي يُطلق عليه «زبونة مُستدامة»، إنها لا تُسبِّب المتاعب أبدًا، ولا يمكنها أن تدفع كثيرًا، لكنها بالتأكيد ستُفيده على المدى البعيد ولن تذهب إلى غيره؛ فقد عرف بالضبط نوعية الكتب التي تُفضِّلها، وفهم نفسيتها جيدًا؛ فبخلاف بعض الصبايا الحسناوات اللاتي يتخذن من الكتب ذريعةً لهن لرؤيته واستمالته بمحاولاتهن المكشوفة، فإن هذه مختلفة، إنها تأتي إلى المكتبة لسببَين اثنَين: إنها تقرأ حقًّا، لكنها بقَدْرِ ما تنجذب إلى الكتب فهي منجذبةٌ إلى سحر عباراته الغامضة التي يعرف كيف يُلقيها أمامها مع لمسةٍ خفيفة من ابتسامةٍ حلوة.

لم ينتظر طويلًا؛ فقد اقترب موعد حضورها، إنها دقيقة جدًّا ومنظَّمة؛ فهي تُعيد كل الكتب في موعدها المحدد، التاسعة والنصف صباحًا، كما أن الكتب تعود وكأنها لم تُمسَّ، وهذا نادرًا ما يحدُث مع الزبائن الآخرين.

تسلَّم الكتب منها، شكرها بلباقته المعتادة، تصفَّح الكتب متظاهرًا أنه يتفقَّدها، أخفى رأسه خلف شاشة الكمبيوتر، انتظر دقيقتَين وهو يمثِّل تقليب نظره فيها، ثم نظر إليها أخيرًا وقال وهو يعلم تمامًا من هي: «سما صايغ؟» أومأت رأسها بالإيجاب، أخذَت تعصر يدَيها، وتنشغل بالنظر يمينًا وشمالًا، راقبها مستحليًا ارتباكها، ضغط بضعة أزرار على الكمبيوتر، ماطل قَدْرَ ما يستطيع، فتح دُرج مكتبه، أخرج هُويَّتها وأعادها إليها.

أخذَتْها وهي تشكره، التفتَت تنظر إلى الكتب، خطَتْ إلى الداخل بضع خطوات، لم يُلاحقها كعادته مع الصبايا الأخريات، كلا إنها ليست من هذا النوع. انتظرها دقائق، فعادت بكتابَين، قالت وهي تعرضهما له: «بأيِّهما تنصحُني؟» رفع كتفَيه مبتسمًا وقال: «لا يمكنني المزاودة على ذوقكِ الجميل في اختيار الكتب، ثم إن لكل قارئٍ عشقَه الخاص.»

٦

في صباح أحد الأيام كنتُ مُتحمِّسةً جدًّا لألتقي جدو نور حتى أُخبره بما حدَث معي في الدرس الديني، وما توصَّلتُ إليه، لكنني تذكَّرت أنني لم أقرأ بعدُ الرواية التي أعارني إياها، استلَلْتُها من الدُّرْج وأخذتُ أقرأ: «الخيميائي»، تذكَّرتُ أن جدو نور قال إنني سأُحب هذه الرواية، وإن كاتبها برازيلي. أغمضتُ عيني وأخذتُ أتخيل كتابًا يخرج من البرازيل ويطير عاليًا ويعبُر المحيطات والقارات ليصل إليَّ، ابتسمتُ وفتحتُ عيني وبدأتُ القراءة. كانت الرواية ساحرةً بكل جزءٍ منها، وكلما توغَّلتُ فيها أكثر ازداد تعلُّقي بها وشوقي إلى إنهائها على الرغم من أعمال المنزل واضطراري إلى تركها مراتٍ كثيرة؛ فقد زارتنا عمتي وأولادها في ذلك اليوم، كنتُ أحضر لهم القهوة والكتابُ بيدي، أُريدُ أن أعرف ماذا حدث؟ وكيف؟ ولماذا؟ شدَّتْني أجواء الرواية السحرية، وأسفار الشابِّ «سانتياغو» ومغامراته وخساراته، والعلامات، والأسطورة الشخصية، كان كل شيء يبدو لي رائعًا مثاليًّا. كنتُ أحسد الشابَّ على حريته في حياته، على أسفاره ومغامراته، وأنه امتلك الشجاعة ليُلاحِق حُلمًا رآه في النوم.

لم أتمكَّن يومها من الذهاب إلى جدو نور فعمَّتي لم تغادرنا حتى وقتٍ متأخر. وأنا لم أكن أريد الذهاب إليه حتى أُكمل الرواية التي لم يتسنَّ لي إنهاء قراءتها حتى أوى الجميع إلى النوم. أعجبَتْني كثيرًا، وأخذَتْني إلى عالمٍ جديد رائع، ورغم إعجابي الشديد بها، فإنني في الوقت نفسه شعرتُ بالظلم وبالأسف على نفسي، ماذا لو أنني تمكَّنتُ من السفر يومًا ما وحدي؟! لو كنتُ شابًّا لفعلتُ ما يحلو لي، كنتُ سأجوب العالم سعيًا وراء حُلمي، لكن أي حُلم؟ ما هي «أسطورتي الشخصية»؟ فكَّرتُ كثيرًا وعزمتُ على أن أسأل جدو نور غدًا عندما أذهب إليه.

وحين حلَّ مساء اليوم التالي، أخبرتُ أمي أنني سأزور جارنا، قالت: «كلا، لن تذهبي؛ فعمتك ستأتي اليوم.» أجبتُ باستياء: «مجدَّدًا؟ لكنها كانت عندنا البارحة.» قالت أمي مبتسمة: «نعم، وسيأتي ابن عمتك أيضًا، تعرفينه، إنه هنا في إجازةٍ من عمله وبعد أسبوع سيُسافر، هو مستعجل جدًّا وجاهز تمامًا.» قطَّبتُ جبيني أحاول استيعابَ ما قالت ثم سألتُها: «مستعجل على ماذا؟ وجاهز لماذا؟» أمسكتني أمي من يدي وجلسنا، وقالت: «ألم تعرفي بعدُ يا حبيبتي لماذا زارتنا عمتك البارحة واليوم أيضًا؟» ولمَّا لم أُجب أكملَتْ: «ابن عمتك يعمل منذ أشهر في قطر، وأحواله من حسنٍ إلى أحسن، وهو هنا الآن في إجازة ليتزوج واختارك أنت عروسًا له، وهذه أفضل فرصةٍ لذلك؛ فأخوك سعيد هنا أيضًا، وفرحتنا ستكتمل ونحن معًا.» صدمَتْني كلماتها وفاجأَتْني كثيرًا، وأوَّلُ ما خطر لي حين تذكَّرتُ سامر ابن عمتي نفوري منه، قلتُ لأمي: «ذلك المتعجرف البغيض؟» عضَّت أمي على شفتَيها محاولةً إسكاتي، وتلفَّتَت حولها خوفًا من أن يسمعني أبي. وقفتُ غاضبةً وقلتُ: «ومن قال إني أريد الزواج؟» أمسكَتْني أمي من يدي وأرغمَتْني على الجلوس وتفحَّصَتْني بعينَيها وقالت: «وهل هناك فتاةٌ شابة جميلة مثلك لا تريد الزواج؟ أتنوين أن تعيشي حياتكِ كلها من غير زوج وبيت وأولاد؟» أجبتها: «لم أقصد هذا، وإنما لا أُفكِّر الآن بالموضوع، ثم إن سامرًا بالتحديد لا يروق لي، بل على العكس أجده ثقيل الدم ومتعجرفًا جدًّا.» أجابَتْني أمي: «إنه لطيفٌ صدقيني، ثم إنك ستُحبِّينه بعد الزواج، أؤكِّد لك ذلك.» قلتُ: «آه، نعم صحيح!» ثم وقفتُ قائلة: «أريدك أن تخبري عمتي أن تبحث لابنها عن عروسٍ غيري.» وتوجَّهتُ إلى غرفتي وأخذَت الأفكار تجتاح رأسي من كل جانب. تذكَّرتُ ذلك الشابَّ ذا الشعر الداكن الذي كان يُعيرني الكتب، لم أكن قبل هذه اللحظة أُفكِّر في الزواج منه، كنتُ أتشوَّق لرؤيته فحسبُ، كان يُمثِّل لي الكمال والجمال والسعادة، لكنني الآن تمنَّيتُ لو أنه يأتي ليخطبني من أبي، حتى أذهب معه بعيدًا عن الجميع، لكن كيف لهذا أن يحصل وقد مضى أكثر من عامٍ على رحيله عن حارة بيتنا؟ كان الشعور بالقهر يخنقُني ويُخلِّف مرارةً في حلقي، فعزمتُ بيني وبين نفسي أن أبحث عنه مهما كلَّف الأمر.

وما هي إلا دقائقُ حتى انفتح الباب ودخل أبي مسرعًا وقرأتُ في عينَيه الغضب، عدَّلتُ من جلستي، وأخفيتُ دمعتي، فقال: «صحيحٌ ما سمعتُه؟ ما تريدين ابن عمتك يا بنت؟» لم أعرف بمَ أجيب؛ فقد كان موضوع الزواج يُحرجني، وخاصةً بحضور أبي. صمَتُّ برهة، كان صوتُه يترك صدًى رهيبًا في الغرفة. أخذتُ نفسًا عميقًا وقلتُ: «ليس عندي شكٌّ في محبتكم لي وتعرفون مصلحتي، لكن أبي، أيرضيك أن تُجبرني على الزواج؟ وهل هذا عملٌ يُرضي الله؟» تفاجأ أبي وظل صامتًا لحظات، وكأنما هدأ قليلًا فتركني وخرج وهو يُتمتِم، وبقيتُ وحدي أحاول أن أتنبأ بما سيحدُث.

في المساء جاءت عمتي ومعها زوجها وابنها، وفي غرفة الضيوف جلسنا معًا كلنا، أبي وأمي وسعيد ونادر وأنا، شاهدتُ على الطاولة باقةً من الأزهار الجميلة. استرقتُ النظر إلى سامر، كان يرتدي بزَّةً رسمية بربطة عنقٍ حمراء، وكان يضرب على الأرض بكعب حذائه اللامع. كانت أمي تُحدِّث عمتي، وأبي يحدث زوجها وابنها، وكنتُ أنا جالسة بجوار أمي، لم أكن أسمع حديث الرجال فقد كانوا بعيدين عني قليلًا. حاولتُ التركيز في حديث أمي وعمتي التي لم تتوقف عن الكلام، وكانت أمي تهزُّ رأسها فحسبُ، سمعتُها تتحدث بلا توقفٍ عن الحياة في قطر، وعن الرفاهية في السيارات والقطارات والأسواق والمهرجانات، وعن الهدايا التي يجلبها لهم ابنها من هناك. شعرتُ بمللٍ شديد، قمتُ إلى المطبخ فلَحِق بي سعيد، سألني: «ما بكِ؟ هل تشعرين بما أشعر به؟» قلتُ: «وبمَ تشعر؟» قال: «بالملل الشديد، من عمتك التي لا يهدأ لسانها، ومن ابنها المتحاذق، ومن أبيه الأحمق.» ضحِكتُ من وصفه لهم، وسُررتُ لوجوده إلى جانبي وإحساسه بي، وشعرتُ في داخلي بالامتنان الكبير له، حينها دخلَت أمي وقالت: «القهوة، أسرعي بها.» شرعتُ بإعداد القهوة، وظل سعيد معي يدعمني وجوده، وحين حملتُ الصينية لأخرج، حملها عني وقال: «أنا سأُقدِّمها لهم، وأنتِ عليكِ أن تكوني قوية وسأكون إلى جانبكِ، تأكَّدي من ذلك.» أخذت نفسًا عميقًا وشعرت بالراحة والقوة ومشيت خلفه ودخلنا الغرفة.

باشر أخي بتقديم القهوة لزوج عمتي فقال: «أما وقد جاءت القهوة، فدعونا نتحدث في المهم.» وما إن جلستُ حتى انبرت عمتي تُحاول أن تخلق جوًّا من المرح فقالت: «لا تتعجل يا أبا سامر؛ فالبنت هنا، والبنات يخجلن، صحيح؟» ووكزَتْني في معدتي محدثةً ضحكةً عالية مصطنعة، همسَت لي أمي: «اذهبي إلى أختك وأطعميها.» وحين هممتُ بالنهوض، أسرع أبي بالقول: «اجلسي يا بنتي؛ فالكلام يخصُّكِ أنتِ.» عدَّلتُ من جلستي، وأسندتُ ظهري وأنا أشعر بإحراجٍ شديد، قالت عمتي: «كما تعلم يا أخي فابني سامر، الله يخلي لك أولادك، يعمل في أضخم الفنادق في قطر، ويتقاضى راتبًا ممتازًا، وقد استأجر بيتًا رائعًا في بناءٍ فخم وإطلالةٍ جميلة، وقد …» قاطعها أبي قائلًا: «سبق أن حدَّثتِنا بهذا يا أم سامر.» فقال زوج عمتي متداركًا الموقف: «نعم، نعم، ونحن هنا لنطلب يد ابنتكم المصون لابننا على سنة الله ورسوله، وقد سبق أن وعدتَنا خيرًا، واليوم أتينا لقراءة الفاتحة، والاتفاق على باقي الأمور.» تمتمتُ في سرِّي وقلبي يرتجف: «أي خير؟ وأية فاتحة؟» نظرتُ إلى أخي سعيد مستنجدة، فوجدتُه بدوره ينظر إليَّ أيضًا، أشرتُ له بعيني أن قل شيئًا، فقال أبي على الفور: «أهلًا بكم في بيتكم وبين أهلكم، أما السؤال الذي سألتموه فاسمعوا جوابه من صاحبة العلاقة، ها هي أمامكم فاسألوها.» حملقَت عمتي عينَيها وقالت: «منذ متى يكون للصغار كلام في حضرة الكبار؟ ما هكذا ربَّانا والدنا يا أخي، أم أنكَ نسيتَ الأصول؟» قال زوج عمتي: «بل عين الصواب والأصول، دعينا نسمع منها رأيها؛ فهي العروس والقرار قرارها.»

صمت الجميع وتحوَّلَت أنظارهم إليَّ، شعرتُ بحرارة في وَجْنتيَّ، قالت عمتي مُقرَّة: «ها، السكوت علامة الرضى.» قال زوجها بنزَق: «اسكتي يا امرأة، دعيها تتحدث.» أخذتُ نفَسًا ونظرتُ إلى عمتي وقلت: «عمتي، لن أنسى أبدًا كم كنتِ وما زلتِ كريمةً معنا، وكم كنتُ أُحب اللعب في فِناء بيتكم مع بناتكِ اللاتي هن أخواتي، وستظلِّين كذلك، إلا أنني في الحقيقة لا رغبة لديَّ بالزواج في الوقت الحالي؛ فما زلتُ صغيرة.» ضربت عمتي على فخذها انزعاجًا، بينما أشاحت أمي وجهها، وظل أبي بلا انفعال، وساد السكون لحظات، ثم قالت عمتي: «جيل آخر زمن، وما العيب فينا وفي ابني؟ ألفُ بِنتٍ تتمناه.» فقال أخي سعيد: «لا عيب فيكم عمتي، أنتم خيرة الناس، وها قد سمعتِ جوابها: ما في نصيب.» قال أبي قُبيل أن تنطق عمتي التي قامت واقفة تستعد لإكمال الحرب: «إلى أين يا أختي؟ وأنت يا ولد الزم أدبك.» قالت: «أيرضيك ما سمعته منهما؟» حرَّك أبي يدَيه وذراعَيه أنْ ما باليد حيلة. قام زوج عمتي ممسكًا بيد ابنه وقال: «هيا بنا، بيتكم عامر، السلام عليكم.» خرجَت عمتي وانتشلَت باقة الورد معها وأخذَت تُردِّد: «ستندمون، لن تجدوا أفضل من ابني، دعوها عندكم حتى تُعنِّس.» وزوجها يسحبها ويقول: «اسكتي يا امرأة، اسكتي.»

أمَّا إن سألتموني عن ابن عمتي العريس سامر وماذا فعل في كل هذه الأحداث؟ فسأجيبكم بلا شيء، نعم، لم ينطق بكلمة، ولم يغضب، أو ينفعل، فقط عندما مرَّ من جانبي نظر إليَّ باحتقار.

وهكذا انتهى كابوس عمتي وابنها والزواج على خير، تنفَّستُ الصعداء، وشكرتُ سعيدًا على دعمه لي. وهنا عاد أبي إلى الغرفة بعد أن شيَّع عائلة عمتي، وقال وهو يرفع إصبعه متوعدًا: «ها نحن نخسر بيت أختي بسببكِ، هذه المرة تركتُكِ على راحتكِ، لكنها الأولى والأخيرة، ما تريدين الزواج يا بنت؟» وخرج.

٧

سعيد، أخي الكبير، يكبرني بأحدَ عشرَ عامًا، يُشبه جدِّي لأمي كثيرًا، مربوع القامة، شعره أسودُ مُموَّج، ووجهه مُدوَّر وكذلك أنفه، عيناه بُنيِّتان صغيرتان ورثهما عن جدِّي، وبشرته حنطية، كان شكله يتغير كثيرًا من عامٍ إلى عام، ويزداد وسامةً كلما تقدَّم في العمر، وكأنه ينضج على مهلٍ فتظهر حلاوته شيئًا فشيئًا. هو أخي وصديقي وأبي، صاحَبَني أيام طفولتي، وعلَّمني كثيرًا، وعوَّضَني عن حنان أبي الذي كان حاضرًا غائبًا. أذكر مرة أنني دخلتُ إلى البيت عائدة من المدرسة، فوجدتُ أبي في البيت على غير العادة، نظر إليَّ باستغرابٍ كبير وقال: «لماذا يا بنت غيرتِ لباسكِ المدرسي؟» ظننتُه مازحًا فضحكتُ، لكن ملامح وجهه الجامدة جعلَتْني أوقِنُ أنه كان جادًّا، كانت أمي هي من أجابَتْه: «البنت صارت في الثانوية، ما تريد لها أن تكبر؟» رمش بعينَيه وظل صامتًا، كيف يعلم في أي مرحلةٍ أنا، وجلُّ وقته انصب على تجارته التي هي إرث العائلة الثمين؟ ابتعد عنا كثيرًا، وأنا نأيتُ بنفسي عنه أكثر، والتصقتُ بأخي سعيد الذي رحل قبل عام، ففقدتُ برحيله جدار الأمان الرجولي الذي كنتُ أستند عليه، أكان عليه أن يتركني؟ وأنا إلى من ألتجئ؟ اليوم أشعر بحاجتي إليه أكثر من أي وقتٍ مضى. صحيحٌ أنه يتصل بي ويُراسلني بشكلٍ شبه يومي، لكن ما عُدنا كما كُنا، حلَّت اللهفة لسماع صوته محل السكينة للحديث إليه، ونازعَني فيه والداي وإخوتي، بعد أن كنتُ أستأثر به وحدي، أصحيحٌ كما يقولون إن البعيد عن العين بعيد عن القلب؟

كنتُ أختلف عن سعيد في كثير من الأمور، هو يُبسِّط، وأنا أُركِّب، هو يحزم، وأنا أتردَّد، ومع ذلك كنتُ أطمئن للحديث إليه، وأعلم أنه سيفهمني جيدًا كما أنا، لا كما يريد أن يتصور هو. بعد الثانوية التحق سعيد بمعهدٍ تجاري هربًا من الخدمة الإلزامية لا حبًّا في التعليم، وللسبب ذاته رحل عنَّا. كان يمثِّل لي الجانب المتزن الصارم من الحياة، لا أذكُر أنه خرج للعب مع أصدقائه، أو في سهرةٍ شبابية، ولم تكن لديه هوايةٌ يمارسُها، ولم ينتسب لأيِّ نادٍ رياضي ولا يتابع مباريات كرة القدم المهووس بها أخي نادر. كان يستجيب لمطالب أبي بلا جدال، وكان أبي يُحبه ويُفضِّله على نادر. لم يرسُب في أية مادة في المعهد، بل كان ينال أعالي الدرجات على الرغم من نفوره من التعليم؛ الأمر الذي طالما حيَّرني.

ذات ليلة وجدتُ غرفته مضاءةً إضاءةً خافتة، اقتربتُ من الباب، أصغيتُ، وسمعتُ نحيبًا يخترق القلب، هممتُ بالدخول لكنني امتنعتُ حفاظًا على خصوصيته وعلى نفسي؛ فما كنتُ أقدر على تحمُّل رؤيته في هذه الحالة. في الصباح عاد سعيد إلى طبيعته، ربَّاه! إنه يضحك ويُثرثر كما لو أن ما حدث البارحة من نسج خيالي! أيُعقل أن يكون وراء هذا الجَلَدِ والحزم قلبٌ رقيق يبكي بحرقة؟ ولماذا؟ سافر سعيد، وسافر سرُّه معه بعيدًا.

أما أخي نادر فهو يكبرني بأربعة أعوام، وهو على عكس سعيد؛ فمنذ ولادته كان جماله يخطَف الأبصار، هكذا حدَّثَتْني جدَّتي، شعره أشقرُ ناعم، وعيناه واسعتان عسليتان وبشرته بيضاءُ مُتورِّدة. ظَهرَت معالمُ رجولته باكرًا فكبر دفعةً واحدة، وازداد طولًا حتى إنه يُضطَر لثَنْي رقبته في غرفة الضيوف ليتجنب كريستال الثريَّات المُدلَّاة من السقف، وهو الوحيد الذي نعتمد عليه كلنا في جلب غرضٍ عُلِّق في الأعلى، أو لإحضار ماكينة «الكبَّة» التي تحفظها أمي فوق خزائن المطبخ.

كان نادر حبيب جدَّتي لأبي فهو يشبه كثيرًا زوجها المتوفَّى الذي رحل عنها وهي لا تزال صبيَّة في الثلاثينيات وكانت قد أنجبَت أبي وأعمامي الثلاثة، من يومها عزفَت جدَّتي عن الزواج ونذَرَت نفسها لتربيتهم. كانت سيدةً قوية، ولا تزال كذلك إلى اليوم؛ فعلى الرغم من أنها تجاوزت الثمانين عامًا فهي لا تزال تقضي كل احتياجاتها بنفسها، حتى فنجان القهوة الصباحية لا يمكن أن تشربه إلا إذا أعدَّتْه هي شخصيًّا؛ فلا أحد يعرف كيف تُغلى القهوة «على الأصول» بحسب رأيها.

ولأن نادرًا يشبه جدِّي فقد أحبَّته جدَّتي وفضَّلَته علينا، كانت تُميِّزه بقبلاتها وإطرائها وتشتري له أجمل الثياب والهدايا، حتى إنها لم تسمح لوالدي بأخذه معه إلى العمل، وكان أبي يقول لها دومًا: «لا تُفسدي الولد يا حاجَّة.» لكن تنبيهاته لم تكن تُجدي نفعًا، فنشأ نادر مُدلَّلًا متواكلًا، لكنه كان مُتوقِّد الذكاء نبيهًا، إلى جانب وسامته وطوله مع كتفَين عريضَين وشعرٍ أشقرَ ناعم.

كنت أتشارك مع نادر في الشغف بتربية الحيوانات وجلب مختلف أنواعها إلى البيت؛ قطط ضالة، وسلاحف صغيرة، وعصافير ملونة، وأرانب، وصيصان. وكان سعيد يُوبِّخنا بقوله: «حرام عليكم، دعوها تعيش بحرية.» وكان يرُدُّ عليه نادر: «لو تركناها لماتت فورًا، على العكس نحن نُطيل أعمارها ونعتني بها.» وكنتُ كلما نفق أحدها وجدتُ نفسي أدخل في حالة من الحزن والكآبة الشديدة، وخاصة تلك السمكة الذهبية التي ما زلتُ إلى اليوم أذكُر كيف وجدتُها طافيةً على سطح الماء وقد فارقَت الحياة. أُصِبتُ يومها بغثيانٍ تبِعه إعياءٌ وإقياءٌ حتى إن أمي حلفَت على نادرٍ بعدمِ إحضارِ أيِّ نوع من الحيوانات بعدها، لكنها كفَّرتْ عن يمينها بعد أيامٍ بالطبع.

وعلى خلاف توقُّعاتنا جميعًا فقد أحب نادر الدراسة، وكان ذكيًّا ينال أعلى الدرجات بأقل مجهود، وبعد الثانوية العامة اختار نادر قسم الكيمياء الحيوية. كان رأسه مزروعًا بأفكار جدَّتي التي طالما ذكَّرتْنا وتظل تُذكِّرنا أن لنادرٍ مستقبلًا علميًّا مرموقًا، وأن العمل والتجارة لا تناسبان وجهه الجميل. وهكذا نشأ نادر طفلًا مدللًا وشابًّا مجتهدًا، لا أدري كيف اجتمعا، لكنني أعلم أنه طالما أغاظني، وكنتُ الوحيدة التي تُعانده وتتشاكل معه.

أما فاطمة أختي الصغرى، التي جاءت إلى الدنيا خطأً، بحسَب رأي جدَّتي حين علِمَت بحمل أمي بها، فهي بمثابة ابنتي؛ فقد شَهِدتُ ولادتها وساهمتُ كثيرًا في تربيتها، وكانت ولا تزال مثل فَلْقة القمر تفوق بجمالها أخي نادرًا، وجهُها مُدوَّر، وبشرتها ناصعة البياض بعينَين زرقاوَين وشعرٍ أشقرَ مجدَّل. وكثيرًا ما كنتُ أسمع جدتي تُحدِّث عماتي بأن فاطمة سينطلق نصيبها قبلي نظرًا لجمالها، ربما؛ فما كنتُ أملكُ بشرتها الناصعة، ولا شعرها الأشقر اللامع.

٨

ذات مساء عُدتُ إلى رواية «الخيميائي» أحاول أن أستعيد توازُني الذاتي، استحضرتُ بعض عباراتها التي أثَّرتْ فيَّ أكثر من غيرها: «كل كائنٍ على هذه الأرض يؤدِّي دورًا أساسيًّا في كتابة تاريخ هذا الكون، لكنه لا يدرك شيئًا من هذا الواقع.» فكَّرتُ قليلًا، ربما هذا غير صحيح تمامًا بالنسبة إلى الناس كلهم، أما عن نفسي فأريد أن أصنع شيئًا مميزًا؛ فقد مللتُ من كل الأمور العادية التي تحدُث معي ومع الآلاف غيري في هذا الزمن وفي الماضي، وستتكرر هي نفسها في المستقبل. شعرتُ أننا نُسخٌ متكررة لنمطٍ واحد، تخيَّلتُ مئات الفتيات يتزوَّجن بأبناء عماتهن أو أعمامهن، يُنجبن، ويُربِّين، وينجبن المزيد ويُربِّين ويكبرن ويشِخن ويمُتن. كنت سأكون واحدةً منهن لولا أن الشجاعة كانت حليفي في المرة الماضية، وكم أخشى أن تخونني في المرة القادمة. حسنًا، وماذا بعدُ؟ ماذا عن أحلامي؟ عن حريتي؟ عن حبي؟ ماذا عن أسطورتي الشخصية؟ لكن ألا أريد أن أتزوَّج وأنجب ويكون لي بيتٌ خاص وأسرةٌ سعيدة؟ فتحتُ الفيسبوك وكتبتُ:

العقبات في الطريق كثيرة، واحدة تُزيحها لتُكمل، والأخرى تُبقيها لتصعد.

شعرتُ برغبةٍ كبيرة في لقاء جدو نور، لم أُفكِّر كثيرًا، هاتفتُه على الفور، فوافق على حضوري، جهزتُ نفسي وأختي، حملتُ الكتاب وخرجتُ.

كان في انتظاري خارج منزله، سلَّمتُ عليه، فناولَني مفتاح بيته، وقال: «خذي، سأغيب قليلًا، لن أتأخر، ادخلي المكتبة وتصرَّفي كأنكِ في بيتك، إلى اللقاء.» وقبل أن أنطق وجدتُه قد رحل، شيَّعتُه بنظراتي، كان يمشي بخطواتٍ عريضة وسريعة، عجبتُ له بالنظر إلى كبر عمره. توجَّهتُ إلى العمارة، فتحتُ الباب بحذرٍ شديد، فأصدَر أزيزًا مزعجًا، دخلتُ وأغلقتُه خلفنَا، وكأنما تملَّكني شعورٌ بالحذر الشديد فأخذتُ أمشي بخفَّة على الأرض وأُومئ إلى فاطمة بالسكوت. لم أسأل مرةً جدو نور عن عائلته، هل زوجته نائمة الآن؟ ماذا عن أولاده؟ تذكَّرتُ أنني لا أعرف شيئًا عنه، وفي المرات التي زرتُه فيها، لم أرَ يومًا أحدًا آخر في بيته. أخذتُ أتخيل كيف سيكون موقفي لو دخل عليَّ الآن أحد أفراد عائلته، ليتني لم أقبل الدخول إلى بيته بعدم وجوده، لكن هذا لا ينفع الآن.

دخلتُ إلى المكتبة، كانت مُعتِمة كالعادة، فتحتُ الستائر فالتمع الخشب تحت ضياء النهار. وضعتُ أغراضي على الطاولة المستديرة، وأعطيتُ أختي أوراقًا وأقلام تلوين، وتوجَّهتُ ناحية المكتبة حيث قسم الروايات. كانت الأرفف نظيفةً تمامًا، نظرتُ إلى الأعلى ووقفتُ على رءوس أصابعي، لكنني لم أستطع الوصول إلى الرفوف العليا. سحبتُ كرسيًّا ووقفتُ لأُلقي نظرة، المزيد والمزيد من الروايات لكنها قديمة وشبه مهترئة. توقَّف نظري عند روايةٍ ضخمة «البؤساء» تذكَّرتُ أنها روايةٌ مشهورة من الأدب العالمي، عليَّ إذن أن أقرأها. سحبتُها ونزلتُ ووضعتُها على الطاولة، بدأتُ في قراءتها، وحين وصلتُ حتى الصفحة الثلاثين فكَّرتُ في أن لديَّ الوقت الكافي في البيت لإكمال القراءة، أما الآن فعليَّ أن أكتشف المزيد. استثارني الفضول لأعرف أكثر عن جدو نور، كان هناك مكتبٌ صغير يقبع في إحدى الزوايا، عليه صدَفةٌ كبيرة، ومصباح ومِنفَضة والكثير من الأوراق. نظرتُ إلى الأسفل وإذا بثلاثةِ أدراج، هل أفتحُها؟ سيكون ذلك تصرُّفًا سيئًا، لكن سأُلقي نظرةً واحدة فقط، لن ألمس شيئًا، وهكذا أقنعتُ نفسي بفتحها، فتحتُ الدرج الأول وإذا به المزيد من الأوراق وكتاب بلغةٍ أجنبية، أغلقتُه وفتحتُ الثاني، وجدتُ علبةً مخملية خضراء باهتة اللون، ومن غير تردُّد فتحتُها، يا إلهي! ما هذا؟ لم تقع عيناي على أجملَ مما أرى! كانت قلادةً فضية يتوسطها حجرٌ أزرق بلون السماء رائع الجمال، أمسكتُها بيدي فأخذَت تلتمع تحت أشعة الشمس، وتتوهَّج بأنوارٍ مختلفة الألوان.

في هذه اللحظة، سمعتُ طرقًا على الباب، ارتجفتُ للصوت، فوقعَت القلادة من يدي، وبسرعة أعدتُها إلى مكانها، وأغلقتُ الدرج، وركضتُ نحو الباب وأنا أرتجف خوفًا. فتحتُ الباب، واصطنعتُ ابتسامة لأخفي توتُّري الشديد، سلَّم عليَّ جدو نور ودخل متجهمًا، جلس على الكرسي الهزَّاز وظل واجمًا.

أتُراه اكتشف فعلتي؟ هل كان يختلس النظر من النافذة، ظل صامتًا ساهمًا دقائق حتى كأنه انتبه لوجودنا فرفع رأسه وتكلَّم مع فاطمة وناداها فأتت إليه فأجلَسَها على حضنه ومازحَها، أخبرتْه عن القلَم الذهبي وكيف أن سحره انتقل إلى يدها فتمكَّنتْ من الكتابة، أظهر القليل من الحماسة، ثم التفت إليَّ وقال: «ما أخبار قراءاتك؟» «جيدة» أجبتُه بسرعة، فتمتم: «جيد.» ولم يقُل بعدها أي شيء. كنتُ في حَيْرة منه ومن نفسي، لم يكن على عادته، ولم أكن أنا أيضًا على طبيعتي؛ فقد كان الخطأ الذي ارتكبتُه مكتوبًا على جبيني، أحسستُه يرشَح مني، فقرَّرتُ الهروب قبل أن يسألني أي شيء. أخرجتُ رواية «الخيميائي» من حقيبتي، أعدتُها إليه وقلتُ: «شكرًا لك لقد أنهيتُها.» قال: «حقًّا؟ أعجبتكِ؟» أجبتُه: «كثيرًا، أوَدُّ الحديث عنها معك لكن ذاهبتان الآن.» رفع يده مودعًا، وهكذا خرجنا، ولم أكَد أرى السماء حتى تنفستُ ارتياحًا، أعادها إليَّ وقال: «قراءة ممتعة.» فلَملَمتُ أغراضي وأمسكتُ بيد فاطمة وقلتُ: «شكرًا لك، نحن في وقت لاحقٍ ربما.» فقال: «ربما.» نظر إلى يدي الأخرى، كنتُ أحمل رواية «البؤساء»، بادرتُه بالقول: «سأستعير هذه من بعد إذنكَ.» أمسكَها وراح يتأمَّلُها لحظاتٍ وهو يبتسم بشرود، ثم وكأنني نجوتُ من عقابٍ مُحتَّم، مشيتُ إلى البيت وشيءٌ واحد يشغل بالي «القلادة ذات الحجر السماوي».

٩

الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كان نادر يسير مع أصدقائه في أحد شوارع حي الشهباء الراقي، كانوا يتناولون المُثلَّجات، ويحتفلون على طريقتهم، فقد أنهَوْا صباح اليوم امتحانات الثانوية العامة. صحيحٌ أن النتائج لم تظهر بعدُ، ولا يدري نادر ولا أصدقاؤه ما إذا كانوا قد نجَحُوا أم لا، لكنهم مع ذلك يحتفلون تفاؤلًا بنجاحٍ غير مؤكد، أو خلاصًا من شبح الامتحانات الذي جثَم طويلًا على صدورهم، وعلى صدر كل بيت فيه طالبُ ثانوية «بكالوريا».

كان الليل حلوًا كحلاوة المثلجات وكحلاوة مشاعر شبابٍ استقبلوا للتوِّ أول عطلةٍ صيفية لهم بعد انتهاء رحلة المدرسة الطويلة التي استهلكَت طفولتهم وشيئًا من شبابهم. كانوا يتحدَّثون عن الحياة الجامعية، عن الصبايا الجميلات اللاتي سيتسنَّى لهم لأول مرة الاجتماع بهن، عن الرحلات والمغامرات الموعودين بها في الجامعة أو في المعهد على أقل تقدير. كان نادر الوحيد من بينهم صاحب الخبرة الأكبر في هذا المجال؛ فكثيرًا ما كان أخوه الذي سبقه إلى المعهد يحكي له الحكايا، وكان بدوره ينقلها لأصدقائه مازجًا الكثير من الخيال مع القليل من الحقيقة. أخذ نادر يلتقط لنفسه ولأصدقائه صورًا بالكاميرا الرقمية الجديدة التي حَصَل عليها مؤخرًا من خاله المقيم في أمريكا، كانت كاميرا حديثةً بتقنياتٍ متطورة. اتخذ نادر مع أصدقائه وضعياتٍ كثيرة لالتقاط الصور؛ استلقَوا على الشارع، حملوا واحدًا منهم على الأكتاف، تسلَّقوا جدران إحدى الفلل الفاخرة، وراحوا يُراجعون الصور ويضحكون.

كان الشارع خاليًا إلا من نسماتٍ صيفية باردة وأصواتِ ضحكاتهم، وكأنما احتجَّت أرواح الأرصفة والأشجار والأبنية على فرحهم الطاغي، فاستجاب لها حظُّهم العاثر، وكان أن عبروا أحد الشوارع الخالية، ومِثلَ حُبٍّ يأتي على غفلة ظهَرتْ سيارةٌ فارهة تشقُّ الطريق، وفي لحظة واحدة شهقَت فراملها مصطدمةً بنادر فأوقعَتْه أرضًا، وتوقَّفتْ.

التمَّ الأصدقاء بصراخهم وصيحاتهم حول نادر، لكن إصابته لم تكن خطيرة؛ فلم تكن السيارة مسرعة على أية حال. استشاط أحد الشباب غضبًا، فاتجه إلى السيارة سبًّا وشتمًا، في هذه اللحظة فُتح بابا السيارة دفعة واحدة وظهر رجلان، فابتلع الجميع ألسنتهم من مظهرهما المميز، وتراجع الشاب الغاضب محتميًا بأصدقائه المجتمعين حول نادر الذي ابتلع بدوره ألمه وصمَت.

«من تُفكِّر نفسك يا ولد؟» قال أحدهما من خلف نظارته السوداء بصوتٍ أجشَّ بينما اكتفى الآخر بوضع يديه خلف ظهره وهو ينظر يَمنةً ويَسْرة، وقبل أن ينطق نادر بكلمةٍ عاجلَه الرجل بقوله: «هاتِ ما بيدك.» ولم ينتظر أيضًا، إنما أشار إلى صاحبه بإيماءة من رأسه، فانقضَّ الآخر عليه على مرأى من أصدقائه الذين انشلَّت حركتُهم وألسنتُهم تمامًا لهذا المشهد الذي ما كانوا يتوقَّعون رؤيته إلا في مسلسلات الكوميدية. وفي أقلَّ من دقيقةٍ كانت كاميرا نادر في يده.

– ما هذه؟

– كاميرا.

– ماذا تُصوِّرون؟

– آنا، أنا وأصدقائي نلتقط صورًا لنا.

– هات هُويِّتك.

– نعم؟

– هُويِّتك يا ولد.

مذهولًا أخرج نادر محفَظتَه وناولَه هويته، فانتشلَها من يده، تفحَّصها جيدًا، واتجه وصاحبه إلى السيارة، مدَّ نادر يده وصرخ: «لكن يا سِيدي، الهوية الله يوفقك.» لم يُجب الرجل بل التفت مع صاحبه عائدَين إلى السيارة، وزمجر المُحرِّك بصوته، وانطلقَت السيارة بمحاذاة نادر الذي ما يزال غارقًا في الدهشة.

دخلَت العائلة بعدها في دوَّامة لمدة أشهرٍ طويلة لاستعادة الهوية، في خلالها انتهت مدة التسجيل في الجامعة، وتأخَّر نادر بسبب ذلك سنةً دراسية كاملة. وفي خلالها أيضًا جنَّدَ والد نادر لهذه المهمة كل الوسائل التي يطولها من وساطاتٍ ومعارف لاسترجاع الهوية.

وبعد كثير من الجهد عادت الهوية؛ فبعد أن سلك والد نادر كل الطرق التي يطولها تبيَّن له أن الطريق الوحيد الذي لم يسلُكْه هو الأصلح؛ فقد تمكَّن من لقاء ضابطٍ ذي رتبةٍ عالية، وأخلاقٍ طيبة على خلاف الذين التقى بهم سابقًا، وقد تفهَّم الموقف جيدًا وفي الأسبوع نفسه عادت الهوية. وحين علم الضابط بالقصة وعد بمعاقبة الشخصَين اللذَين قاما بإيذاء نادر واحتجاز هويته.

وصحيحٌ أن نادر عاد إلى الجامعة، وانتهى كابوس المعاملات والأوراق والطوابع والرشاوى، وعاش نادر سنواته الجامعية بشكلٍ اعتيادي، لكنه ما كان يدري أن شيئًا ما كان ينتظره في أكثر لحظات حياته حسمًا، وأن النار التي اعتقد أنه أخمدها كانت لا تزال مختفية تحت الرماد تنتظر الشرارة الأخيرة لتشتعل وتحرق كل شيء.

١٠

في الأسابيع التالية ذهبتُ مع أمي إلى الدرس الديني، كان على عادته، النسوة والآنسة والمواعظ. قرَّرتُ أن أُواظبَ على الحضور، لكنني هذه المرة لا أريد أن أهزم أحدًا، أو أن يهزمني أحد، أريد أن أعرف أكثر وحسبُ. رأيتُ تلك الفتاة النحيلة، كانت تبتسم كلما نظرتُ إليها، وكنتُ أبادلها الابتسام.

ثم عُدتُ إلى قراءتي لرواية «البؤساء»، التي كانت طويلة، فاستغرقت أيامًا لإنهائها. كانت تتحدث عن الظلم الاجتماعي في فرنسا في القرن التاسع عشر، أحببتُها، شعرتُ باختلافها عن كل ما قرأتُ، وعرفتُ كيف استحقَّت أن تكون من الأدب العالمي. من أجمل عباراتها: «أنتَ تنظر إلى النجم لسببَين؛ لأنه متلألئ، ولأنه غامض لا يرقى إليه الإدراك.» هكذا هي الأحلام، تشدُّنا بروعتها وسحرها، ثم تغيب مع ضَوء النهار لتعود إلى البريق ليلًا حين ينام كل شيء، ولا يبقى سوانا، تُجابهنا بحقيقتها، وتُذكِّرنا بروعتها، وتتحدَّانا لبلوغها.

حين وصلتُ إلى الصفحات الأخيرة من الكتاب وجدتُ ورقةً مطوية بإحكام، كانت رقيقة ومُخبَّأة جيدًا بين طيَّات الكتاب، انتزعتُها برفق حتى لا تتمزق؛ إذ يبدو أنها ملتصقة بالصفحات بفعل الرطوبة. عاودَني الفضول مجددًا، لكنني الآن أكثر شعورًا بالأمان، وأبعَد عن التردُّد، فتحتُها بحذر، كان الكلام واضحًا مكتوبًا بخطٍّ دقيق بقلمٍ أزرق جافٍّ وقد كُتب في الأعلى: «كتاب الوداع»، وهذا نص الكتاب:

أكتُب إليك كتابي هذا، والدمع يمنع عني الرؤية، فأجد صعوبةً في تمييز الأحرف والكلمات، أعرف تمامًا ما أود قوله لك، في جعبتي الكثير، وفي قلبي ألمٌ كبير. سأختصر لأقول: اشتقتُ إليكَ، وشوقي يقتلني. لو كنتَ بعيدًا عني لهان ذلك، لكنك بجانبي، تنظر إليَّ، تسمعني، تُحدِّثني، وأظل أشتاقك وأنا أقربُ ما أكون إليك. ليس شوقًا عاديًّا، إنه شوقٌ ممزوج بيأس، وحبٌّ ممزوجٌ بكُره، لست أدري كيف اتفق هذا، لكن هذا ما يجول في نفسي ويأكل روحي. الألم ينخر كل زاوية فيَّ، في جسدي وروحي وعقلي. أشعر أن الكون ينهار على رأسي وأنني في عتْمةٍ تامة، إنه ألمٌ محض يكويني لكنه للأسف لا يُزهِق روحي. أكرهُكَ لأنني مجنونة بحبك، أكره حبي لك، وددتُ لو أن لي القدرة على إلغاء ذاكرتي، لو حصل هذا لكان من أكبر النعم عليَّ. أعترف أني خطر ببالي مرةً أن أُلقي بنفسي أمام إحدى السيارات المسرعة حتى أتخلَّص من الشعور بك!

أواه أواه! كيف يُبلى القلب ممن يهواه؟

أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني. يا قلعة حلب، يا جامعها الأموي، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءًا من آلامي، خذوني إليكم، ضُمُّوني بحنانكم؛ فأنا متعبة. ما لي أجد الكلمات تنثال على الورقة بلا توقُّف؟ وكأنما يتوالد الشعر حين يُحتضَر الحب وتكثر خيباته؟ وداعًا، أقولها لك لأن الشوق يأكلني. وداعًا حفاظًا على روحي، علَّني ألقاك يومًا أو لا ألقاك لست أدري، سأترك الأقدار تفعل ما تشاء.

حلب، ١٣ آب، ١٩٩٤م
تأمَّلتُ الورقة طويلًا، وأعدتُ قراءتُها مراتٍ عديدة، شعرتُ بالأسف تجاه كاتبتها، من تُراها تكون؟ ماذا فعل جدو نور بعد أن قرأ هذه الرسالة؟ أي ألمٍ يفيضُ من الكلمات! كم كانت جريحة؟! هل عادت إليه أم لا؟ أتُراه ظلمها؟ أم ماذا؟ ثم شعرتُ بشيءٍ غريب، أحسستُ بمسئوليتي تجاهه، أن عليَّ أن أفهم أكثر وأعرف أكثر، لكن الرسالة مضى عليها ستة عشر عامًا تقريبًا، إنها فترة طويلة جدًّا، ماذا عليَّ أن أفعل؟ هل أتجاهل الموضوع وأُعيد الورقة إلى مكانها وكأن شيئًا لم يكن؟ أم أسأله عنها؟ نظرتُ في التاريخ مرةً أخرى، الثالث عشر من شهر آب، نظرتُ إلى التقويم، قلَّبتُ الأوراق الماضية، الثالث عشر من آب! إنه اليوم الذي ذهبتُ إليه المرة الماضية، هل هذه مصادفة حقًّا؟ وهل لهذا علاقة بمزاج جدو نور السيئ ذلك اليوم؟ تذكرتُ القلادة ذات الحجر الأزرق السماوي، وعاد إليَّ الفضول، كتبت في الفيسبوك:

أن تكون فضوليًّا يعني أن تقع في المتاعب، وفي المعرفة أيضًا.

١  الآنسة هي مُعلِّمة تُلقي دروسًا دينية على مجموعة من النساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤