الفصل الرابع

١

في غرفته بقي وحيدًا غريبًا جاثيًا على ركبتَيه، غارقًا في بحر من دموع وذكريات، وبقايا قصة حب، فقَرَّر أن يستمرَّ في صمته ووحدته؛ فحبهما لم يعلم به أحد، وكذلك ألمه وفجيعته لن يعلم بهما أحد، وغيابها من حياته أضاف إليها قدسيةً خاصة، فعاهد روحها على الصمت، وقرَّر الرحيل فما عاد يُطيق أن يرى مملكةً يعبق كل ركنٍ فيها بشذاها لكن بلا ملكة، فجمَعَ ما تبقَّى من ذكرياتها وخبَّأها في صندوق وسافر بعيدًا. وها قد حان الوقت لينتحب، ليُعالج ألمًا مؤجلًا، ويبكي دموعًا مخبأة كانت طي الكتمان زمنًا طويلًا، ليُعيد نكت جرحٍ رُمَّ على فساد فظل ينزُّ وجعًا وكآبة ونحولًا.

تذكَّر كيف هاتفها ليلًا أول مرة، وكيف أخبرها بحُبه، تذكَّر صمتها وخوفها، ورعشة صوتها وعذوبة أنفاسها، كانت المرة الأولى والأخيرة التي يسمع فيها صوتها عبر الهاتف، ثم تذكر الاتصال الثاني وكيف كان متلهفًا لسماع صوتها لكنه بدلًا من ذلك سمع صوت سيدةٍ قالت له مُوبِّخة: «يا ابني هذا الرقم لا تتصل به، حرامٌ عليك أعراض بنات الناس، البنت عرسها بعد أسبوع، اذهب الله يهديك.» لحظتها انتهى كل شيء بالنسبة إليه، كم عاوَد الاتصال بعدها لكن الرقم كان خارج الخدمة كل مرة، ما الفائدة ولم يبقَ للأمل مطرح؛ فحبيبة الروح ستُزفُّ لرجلٍ غيري؟ تلك اليدان الصغيرتان، كم أشتاق إليهما! كان يشتعل نارًا كلما تخيَّلها في أحضان الغريب، نارٌ ما عاد يطيق تحمُّل حريقها فترك كل شيء وغادر بعيدًا.

على الأرض بقي زمنًا، يُقلِّب في صفحات ذاكرةٍ ممزقة، يقرأ كلمات، ويتأمل صورة، ويشتمُّ بقايا زهرةٍ يابسة وعلبة عطرٍ فارغة، ويُقلِّب ورقة شوكولاتة ذابلة، ولكلٍّ منها سجلٌّ في الذاكرة، ومشهدٌ من الحب لا يزال حيًّا ينبض في عالمه. جلس محاطًا بجدرانٍ إسمنتية سميكة، الشبابيك مُغلَقة، والستائر مُسدَلة، في ذهنه عتْمةٌ تامة، وفي قلبه شعلةٌ مُتوهِّجة، وفي عينَيه حزنٌ عميق عميق. شعَر أنه محبوس في قُمقُم، مخبوء في غياهب ظلماته، مثل ماردٍ جبَّار ينتظر اللمسة السحرية ليتحرر من أَسْره. جلس محاطًا بجدرانٍ إسمنتية سميكة، والأحلام تطوف به بعيدًا جدًّا، تطير به في أعالي السماوات، وتغوص في أغوار نفسه والحبيبة، ثم فتح عينَيه ليرى يدَيه مُكبلتَين بمختلف الأصفاد.

يرن الهاتف، إنها سماء، ماذا تريد الآن؟ لن أجيب، ليس الوقت مناسبًا أبدًا، يرن الهاتف مجددًا ولا يتوقف، لعله أمرٌ طارئ، وبتثاقُلٍ يُمسِك بهاتفه المحمول ويرُدُّ، يُصغي، يسمع ضجيجًا، صراخًا عاليًا، بكاءً متقطعًا، يصيح: «آلو، سما، آلو، آلو … سما.» مزيد من الضجيج والصراخ، وأخيرًا يسمع صوتها المتهدج بالبكاء: «قتلوه، يا سعيد قتلوه …» بكاءٌ شديد، «من؟» يصيح وقد ارتجف قلبُه هلعًا، يصيح مجددًا، «من يا سما من؟» ويأتي صوتها مزلزلًا كقيام الساعة: «قتلوه، قتلوه.»

٢

كانت تجربةً فريدة من نوعها، علَّمَتني الكثير، بدأتُ بها غيرةً من صديقاتي اللاتي أصبحن كلهن تقريبًا يتعلَّمْنها، وقتلًا للأوقات المملة الطويلة بلا كهرباء؛ فلم نعُد نرى الكهرباء إلا مرة كل شهرٍ أو شهرَيْن؛ فقد تحوَّلَت حياتنا بالكامل، نصبح ونمسي ولم يعُد لنا من همٍّ سوى ترقُّب عودة التيار، أو انتظار الماء، وسكَن الترقُّب والحذر الشوارع، وصرنا نتنفَّسه في الأجواء، ونراه جاثيًا على ملامح الناس، والموتُ مثل مُهرِّجٍ يمطُّ لسانه عابثًا هازئًا، ويبتلع بضحكاته الهستيرية المزيد من البشر.

نهاراتٌ صيفية طويلة وحارَّة، ما الذي يمكن عملُه؟ ابتعتُ إبرًا بمقاساتٍ مختلفة وكراتٍ من الخيوط الصوفية والقطنية المتعددة الألوان، بدأت بتعلُّم أول الغرز. كان كل شيءٍ يبدو مستحيلًا بالنسبة إليَّ؛ مسك الإبرة والخيط، إدخال الخيط وإخراجه من الفتحة التالية. فكَّرتُ كثيرًا في الاستسلام، وفعلًا تركتُ الموضوع لمدةٍ طويلة، لكن لستُ أدري كيف كان يأتي إليَّ ويصطدم بشغَفي، فأتجاهله مجددًا، لكنه يعود ليتحدَّاني ويواجهني، فاستسلمتُ إلى خيوطي وإبرتي. وبعد كثيرٍ من الجهد بدأتُ بإتقان الغُرز الأولى، ثم انتقلتُ إلى عمل نسيجٍ متكامل، عملتُ مربعًا من غُرزتَين فقط، حقيقة لم أصدق يومًا أنني سأُنجز شيئًا ما بشغل الإبرة (الكروشيه)، كان ذلك يمنحني شعورًا رائعًا. بدأتُ بالغُرز الأولى، وشيئًا فشيئًا أخذ يظهر الشكل وتتضح ملامحه، وكأنني أزخرف لوحةً من المنمنمات، وأخذَت الأشكال تتبدَّى؛ مثلثات ودوائر ومربعات. وما كان يفاجئني حقًّا هو أنه في أثناء عملي لغُرزٍ معينة تتشكل زخارفُ جديدة لم أحسب حسابها، وتظل تكبر وتنمو، ويظل الجمال يُولِّد الجمال حتى لو لم أحسب له حسابًا.

أنهيتُ المربَّع، وأخذتُ أتأمله بحبٍّ أموميٍّ، وبفخرٍ كبير، كيف ابتدأ هذا العمل المنجَز والكامل بغُرزةٍ واحدة بسيطة لتأخذ مكانها الصحيح وتتكرر مرارًا وتكرارًا ليتَكوَّن هذا العمل الرائع! لكن كل شيءٍ بحسبةٍ معينة وميزانٍ دقيق؛ إذ كان عليَّ أن أعمل بعددٍ معين، فإذا أخطأتُ في الحسبة ظَهرَت نتائجُ مختلفة في نهاية العمل.

أخذتُ أُفكِّر في هذا المربع الذي بين يديَّ، شعرتُ بشبهٍ كبير بيني وبين إحدى غُرزه، فما النفس إلا غرزةٌ بسيطة في نسيج هذا الكون الهائل، تُشكِّل معه لوحةً متناسقة متناغمة جميلة، صحيح أنها غرزةٌ صغيرة واحدة، لكن جمال الكون كله مختصر فيها، وما جماله إلا انعكاس وتكرار لجمالها لأن يد المصمم التي صمَّمَتها واحدة. فتحتُ الفيسبوك وكتبتُ في صفحتي:

احذر أن تخرج عن نظام اللوحة العظيمة، إن ذلك لن يؤثِّر على وجودك فحسبُ، بل على جمال اللوحة كلها، فإذا نظر إليها الناظر فسيُميِّز على الفور أنكَ وحدكَ مصدر القُبح والنفور.

٣

– ما قصة جارتك الصغيرة؟

– مَن تقصد؟

– تلك الفتاة التي صادفتُها عندك.

– آها، تقصد سما؟ سما صايغ؟

– نعم، إذا كان هذا هو اسمها.

– يا رجل، ما لكَ ولها؟

– لا شيء، مجرد فضول.

– قلتَ فضول؟

– لماذا تنظر إليَّ هذه النظرة؟

(يضحك.)

– اسكُت وإلا خرجتُ من فوري.

– لماذا الغضب يا صاحبي؟

– أنا لستُ غاضبًا.

– أعتقد أنكَ قرَّرتَ تركي وحيدًا في عالم العزوبية الرائع.

– ماذا تعني؟

– أنت تعلم تمامًا ما أعنيه، من الواضح أن البنت أعجبَتْكَ.

– هُراء.

– إنها متميزة، وجميلة، وذكية.

– …

– هيا هيا لا تنكر، أنا صديقُكَ يا رجل ولستُ أمك.

– أنت تهذي، ثم إنها صغيرة جدًّا.

– وأنت معجبٌ بها جدًّا.

٤

النوم مثل الحب، عليك ألا تتكلَّف البحث عنه؛ إذ كلما بالغتَ في الحصول عليه، أوغل هو في الهرب منك؛ لأن له موعدًا يأتيك طواعية، فإذا تسلل إليك فلا تقاوم، عليك أن تستسلم وحسبُ، فإن قاومت فقد لا يعود أبدًا. كنتُ أتقلَّب في فراشي مستجدية النوم لكنه تدلَّل طويلًا، كلماتُ صديقتي لا تزال تتردَّد في أذني: «لماذا لم تأتِ يا هبلة! كل أهل حلب كانوا في المطار. كان الزحام شديدًا وكأنه يوم المحشر، ومع ذلك تمكَّنتُ من الاقتراب منه. لقد صافحته، هل تصدقين؟ تلامسَت يدانا! كم كان ذلك رائعًا! تعالَي اليوم وستشمِّين رائحة عطره على يدي.» تضحك طويلًا، وأنا أغصُّ بقلبي كثيرًا.

مضى على كلماتها هذه شهران أو ثلاثة ربما، لكنني لم أتمكن بعدُ من نسيانها على الرغم من كل الأحداث الحزينة التي عشناها، أين هو الآن؟ لقد غادر البلد بكل تأكيد؛ فمن سيبقى فيها سوى أمثالنا من الناس العاديين؟ وبينما أنا في سريري إذا بالمصباح يُضيء معلنًا عودة التيار الكهربائي، يا للمفاجأة! الساعة الثانية صباحًا! فزعتُ من سريري، وركضتُ خارج الغرفة، كانت أمي قد استيقظَت، رحتُ أقفز وأُصفِّق بيدي: «جاءت الكهربا، جاءت الكهربا.» هتفَت أمي: «ماذا سنفعل أولًا؟ ا… امم … ماذا سنفعل؟ الغسيل؟ كي الملابس؟ لا لا، كنس الغرف؟ الشواحن، بسرعة سما ضعي كل الشواحن في الكهرباء.» هُرعتُ لتنفيذ ذلك ووضعتُ جهازَي الكمبيوتر أيضًا في الشحن فقد فرغَت بطاريته منذ أكثر من عشرة أيام. لقد أصابتنا عودة التيار الكهربائي بلوثةٍ من فرح وجنون. نظرتُ إلى النافذة كانت كل شبابيك جيراننا مضاءة أيضًا، وتعلو أصوات المكانس الكهربائية منها. قمتُ بتكنيس الغرف بدوري، بينما كانت أمي تضع ثيابنا في الغسالة الكهربائية لأول مرة بعد شهرَيْن من غسلها لكل شيءٍ بيديها. مرَّت ساعة ونصف والتيار لا يزال يُشرِّفنا بحضوره، جلسَت أمي لترتاح قليلًا وذهنها يعمل: «ماذا نفعل؟» قلت لها متعَبة: «ننام أمي، ننام، هذا ما سنفعل، أرجوك.» ثم قامت باتجاهي وقالت: «قومي انقعي البرغل، سنُدير الكبَّة!» «ماما! كبَّة في الفجر؟» صحتُ بذهول، لم تُجبني واتجهَت إلى المطبخ. العجيب أن أصوات «ماكينات الكبَّة» بدأَت تتهادى إلى سمعي من بعض الجيران! ضحكتُ في سِرِّي، واتجهتُ إلى المطبخ. استنفارٌ جماعي، هذا ما أصاب حيَّنا على الأقل في هذه الساعة المتأخرة من الليل التي أحالَتْها الكهرباء نهارًا.

وجدت أمي جالسةً على الكرسي تبكي بحرقة، وأبي واجم بجوارها، عرفتُ السبب على الفور، لقد تذكرا نادرًا فهو وحده من كان يجلب لنا «ماكينة الكبَّة» من فوق الخزانة من غير أن يستعين بشي. حاولتُ التخفيف عنهما وسحبتُ كرسيًّا، صعِدتُ على الفور وأنزلتُها قائلة: «هيا، هيا، فلنُباشر، فمن يعلم متى تنقطع الكهرباء؟» لكنها هذه المرة كانت كريمةً معنا؛ إذ بقِيَت أربع ساعاتٍ متواصلة، أنهَينا في أثنائها عمل «دراويش الكبَّة» والكبَّة بالصينيَّة، ولم ننتهِ إلا وضوء النهار يملأ البيت، عندها فقط نمتُ ﮐ «القتيل» كما يقولون.

كنت محظوظةً في اليوم التالي بتصفُّح الإنترنت من جهازي المشحون جيدًا، فتحتُ صفحة رندة وكنتُ قد تركتُها زمنًا. كانت منشوراتها في الغالب صورًا لبعض المعالم الأثرية والزخارف الإسلامية المعمارية في تركيا. أما كتاباتها فهي في الأغلب تحمل طابعًا صوفيًّا إلهيًّا، ذكَّرتْني بكتابات طاغور الذي قرأته منذ عامٍ تقريبًا، وكانت قد قبلَت صداقتي فأرسلتُ إليها رسالةً خاصة أبدي فيها إعجابي بكتاباتها، ورغبتي في التواصُل معها. أرسلتُ الرسالة فإذا بمربعٍ ينبثق من أسفل الشاشة معلنًا وصول رسالةٍ جديدة، من صديقٍ جديد، لقد كانت من سليمان «الملك»!

الآنسة سماء، يُسعدني قبولُك صداقتي، ومع أنني لم أركِ سوى مرتَين فإنني رأيتُ روحك منثورةً على صفحتكِ، وقرأتُكِ في منشوراتكِ الجميلة، كل المودة لك. سليمان.

وتراءت لي ابتسامتُه المزينة بغمازتَين جميلتَين وهو ينظر إليَّ، أعدتُ قراءة الكلمات مراتٍ كثيرة، والغرور يملأ ساحاتي، وينفث فيَّ بسحره.

بماذا أجيبه؟ كتبتُ مراتٍ ومرات، وكنت أمحو كل مرة. فكَّرتُ ألا أجيب، لكنه سيكون تصرفًا غير لائق، خاصة أنه ظهر متصلًا في هذه اللحظة. إنه يجلس الآن أمام الشاشة ينتظر ردِّي، وطالما ابتدأ هو حوارًا فليس أمامي إلا أن أُكمِله، أليس كذلك؟ لكن عليَّ أن أتقمَّص جيدًا الغرور الذي ملأ به رأسي. كتبتُ أخيرًا: «أشكركَ أستاذ» وأضفتُ الكلمة الأخيرة عمدًا، وضغطتُ enter ووصلَت الرسالة. انتظرتُ، وانتظرتُ ولم يرسل شيئًا، ثم خرج، يا للخيبة! طيب، هذا أفضل. عُدتُ إلى صفحة رندة لكنها لم تقرأ بعدُ رسالتي. كانت بطارية جهازي الكمبيوتر توشك على النفاد، كتبتُ على صفحتي:

كثيرٌ من الأحداث تُوحِّد الشعور الجمعي لدى الناس، أعقدها وأبسطها، ومنها مثلًا عودة التيار الكهربائي والماء معًا في الثانية فجرًا!

وقُبيل أن تنفَد البطارية فتحتُ بريدي الإلكتروني وإذا برسالةٍ تصلني من شادي، وهذه المرة أيضًا لي وحدي، ومجددًا لوحة بخط الثلث كتب فيها «اقرأ باسم ربك الذي خلق.» وبينما كنتُ أتأملها أعطاني الجهاز تنبيهًا بقرب نفاد البطارية. ارتبكتُ وقررتُ على الفور إرسال ردٍّ له كتبتُ فيه: «لوحةٌ رائعة! هل من مزيد؟» وأغلقتُ الجهاز، هل كان ما أرسلتُه صائبًا؟

٥

كنتُ متحمسةً للقاء جدو نور ذلك المساء فقد مضى أكثر من شهرٍ على آخر زيارة له. حرصتُ على أن أحضر جهازي الكمبيوتر لأشحنَه عنده؛ فقد ركَّب مؤخرًا مُولِّدةً كهربائية يستعين بها في أيام انقطاع الكهرباء الطويلة. وبصعوبةٍ بالغة قاومتُ رغبتي في الحديث عن رندة وعن اكتشافي لصفحتها على الفيسبوك؛ فلم يستوِ بعدُ السيناريو الذي كنتُ أطبخه في رأسي. جلستُ أحدِّثه عن روايةٍ كنتُ قد حمَّلتها من الإنترنت «كالماء للشوكولاته» للاورا اسكيبيل، قرأتُ عليه بعض النصوص المقتَبسة منها، وبينما نحن نتحاور إذا بي أشعر بدوارٍ خفيف، أو ربما رعشةٍ قصيرة، وخلال ثانية أو أقل شعرتُ بضغطٍ كبير على رأسي. وفي اللحظة التالية سمعنا دويًّا رهيبًا راح يتردَّد في أذني كصرخة موت، صاحت فاطمة والتصقَت بي، عانقتُها وخبَّأتُ رأسي بين يديَّ بطريقةٍ آلية. لم أَدرِ كيف حدث ما حدث بعد ذلك بسرعةٍ كحُلم، سمعنا أصواتًا مختلفة في الشدة متقاربة في السرعة. سحبَنا جدو من يدينا، أو ربما حملَنا لست أدري، وجدتُ نفسي في قَبْو البيت وأصوات طلقٍ ناري تسكت ولا تلبث أن تعود. كانت الدموع تنهمر من عينيَّ من غير أن أبكي. لستُ أذكر إلا أنني كنت أعصر فاطمة بين يديَّ، وجدو واقف قبالتنا يتمتم بالقرآن أو الدعاء، دخل بعد قليلٍ بعضُ الجيران، وجلسنا. وما إن هدأَت الأصوات حتى التفت إليَّ جدو وناولَني جهازي الجوال الذي لستُ أدري كيف وصل إلى يده، وطلَب مني أن أُطَمئِنَ أهلي عنا وأطمَئِنَّ عليهم، وكذلك فعلتُ.

بقينا هناك زمنًا حتى أظلم المكان، وانطفأ ضَوء النهار. ومثلما يقوم شخصٌ مُدرَّب جيدًا حال الأزمات، قام جدو بإخراج شمعاتٍ وكبريتٍ وفوانيسَ زيتيةً صغيرة من خزانة كانت هناك، أضاء بها الغرفة، ومن مكانٍ ما أخرج زجاجاتٍ من الماء والعصير وزَّعَها على الجميع، يبدو أنه كان مستعدًّا لظروفٍ كهذه جيدًا.

كان الهدوء يلفُّنا، والتزم كل واحدٍ منا بالصمت نؤازر به بعضنا، حينها فقط استردَدتُ شيئًا من رباطة جأشي، وهدأَت الرعشة التي شلَّت حركتي، ورحت أتفحَّص المكان. كانت غرفة القبو المخصَّصة لبيت جدو نور، ربما خمسة أمتار في أربعة، في أعلاها شباكٌ ضيق مُغطًّى بقضبانٍ حديدية يُطل على الخارج، كانت باردةً ورطبة قليلًا، فيها سريرٌ حديدي قديم، ومقاعدُ خشبية وطاولة، وصناديقُ من الكرتون، وعدةُ أدراج، ومكتبةٌ صغيرة مملوءة بالكتب! «هنا أيضًا!» قلتُ لنفسي، وبعض فرش الإسفنج ووسادات. كانت الأرضية مُغطَّاة بحُصُرٍ مُلوَّنة، وكان هناك رجل وزوجته وابنتاه اللتان توقَّفَتا أخيرًا عن البكاء، وامرأة في الخمسين من عمرها، وفتاة في عمري تقريبًا مع أخيها. أسندتُ فاطمة على الوسادة، وقمتُ باتجاه جدو، أخبرتُه أني أريد العودة فلم يسمح لي، وأضاف: «قد نبات الليلة هنا.»

٦

١٧ تموز، ٢٠١٢م

التاريخ الذي قصم ظهورنا جميعًا.

عجيبٌ أمر هذا الإنسان، كل ما كان يجلب له مسراتِ الحياة يتحوَّل في طرفة عينٍ إلى مُنغَّصاتٍ لها، إلى سكاكينَ حادة تحزُّ ببطءٍ ساخر أوتار قلوبنا المجهدة، فنتمنَّى ضربةً قاصمة أو موتًا رحيمًا لكنه لا يأتي، يظل يتفرَّج علينا متشفيًا ربما، أو مستريحًا من جولة صيدٍ دسمة، مستجمعًا قُواه لقنصٍ جديد. هنيئًا للأموات، ويا حسرة على الأحياء!

السابع عشر من تموز، التاريخ الأسود الذي قلب حياتنا وحفر عميقًا في قلب بيتنا الذي كان سعيدًا، مزلزلًا كل ركنٍ وكل حجر وزاوية. كنتُ جالسةً في الصالة أعمل بالكروشيه على حياكة مفرشٍ لمكتبتي، وأمي كانت في اضطرابٍ مبهم؛ فلا تلبث أن تجلس حتى تقوم وتنظر من الشباك، ثم تعود وتجلس، وكأن قلقًا رحيمًا كان يُجهِّزها للفاجعة، وفاطمة تلهو بعرائسها. وكالعادة تهادى إلى سمعنا دويُّ مدافعَ أو قذائفَ فلا فرق، أصواتٌ صرنا نسمعها كل يوم ليلًا أو نهارًا، فندعو لمن سقطت فوق رأسه، ثم نكمل مشوار يومنا أو نغفو مجددًا؛ فتكرار المصائب واختلاطها بتفاصيل حياتنا اليومية جعل من الفاجعة مثل نار التنُّور كلما حمِيَت أكثر قست لها قلوبنا أكثر.

لكن أمي فزِعَت لذلك الصوت فزعًا مختلفًا، فراحت تتفقَّد قنوات الأخبار، لم أكن أجد مُبررًا لقلقها، ثم انقطع التيار الكهربائي، وأذَّن المغرب، وبعد أقل من ساعة أظلمَت الشوارع إلا من وميض بعض السيارات المارة التي تُلقي بشيء من أنوارها داخل البيت فيُضاءُ للحظاتٍ ويغرق مجددًا في العتمة. عندها طُرق الباب طرقًا خفيفًا، حسبتُ أني واهمة، تكرَّر الطرق بصوتٍ أعلى، ركضَت أمي وكانت تُصلِّي المغرب، مُرتديةً ثيابَ الصلاة قالت من خلف الباب: «من؟» ردَّ الصوت: «خالة أم سعيد هذا أنا، رامي.» فتحَت أمي طرف الباب مستجيبةً لصوتِ صديقِ نادر الذي تعرفه جيدًا، قمتُ واقتربتُ لأسمع بوضوحٍ أكبر. أكمل رامي: «دخيلك يا خالة أنت أمٌّ مؤمنة، دخيلك احتسبي واصبري، والله سبحانه يجازيك الجنة.» كلمات قليلة يبدو أنه تدرَّب عليها مرارًا قبل أن يقذفها في وجوهنا، لم أجد أمي في حالةٍ كتلك الحالة، وضعَت يدها على فمها مُخفيةً شهقةً مجروحة، وتهاوت على الأرض. أسندتُها وصفَقتُ الباب، وأجلستُها على أقرب أريكة، جلبتُ لها الماء، ورحتُ أصيح من وراء الباب: «اذهب من هنا ولا تعُد، هيا اذهب.» أشارت أمي إليَّ بيدها وتمتمَت: افتحي له وأَدخليه.

– ماما! هذا واحدٌ كذاب.

– أَدخليه.

ارتديتُ ثياب الصلاة وفتحتُ الباب، كان لا يزال واقفًا وخلفه شَبحُ رجل، دخل رامي وجثا على ركبتَيه أمام أمي، وقال: «يا خالة، هو والله شهيد، ارفعي راسك، كان طاهرًا ومُصليًا!» صحتُ فيه: «شهيد ماذا؟ أُحذِّرك، هذا موضوعٌ لا مزح فيه، اخرج من هنا حالًا.» لكنه حتى لم يلتفت إليَّ، كان ينظر إلى أمي بثبات، فرفعَتْ يدها، وحسبتُها ستصفَعُه، لكنها حطَّت بها على كتفِه برقَّة، ووجهُها يحمل أغربَ ملامحَ كان لي أن أراها على وجهها يومًا؛ الخوف ممتزجًا بحنان، وقالت: «كنتُ أعرف منذ زمن، لكن لم أكن أدري أن وقته قد حان بهذه السرعة، أحضروه إلى هنا!» حملقتُ في أمي وقد بدأ الذعر ينال مني، ضعُفَت ساقاي عن الوقوف فجلستُ محاولة استيعاب المصيبة التي سقطَت على رءوسنا، قال رامي: «متأكدة يا خالة أنك قادرة على رؤيته؟» فوقفَت أمي على الفور وقالت: «هيا، أدخلاه حالًا.» ثم التفتَت إليَّ وقالت بحزم: «اتصلي بوالدك، أخبريه أن يأتي، واذهبي إلى فاطمة ولا تخرجا حتى أسمح لكما، أسمعتِ؟ لا تخرجا حتى أسمح لكما.» وبالقوة المتبقية في ساقيَّ سحبتُ نفسي لتنفيذ ما طلبتُ، ودخلتُ غرفة فاطمة أرتجف، وبالرغم من حر تموز، فقد أحسستُ بالبرد ينبع من قلبي، يصيبني بخدرٍ مؤلم، ووخزٍ في أطرافي، لففتُ الغطاء حولي وأخذتُ أتخيل ما يجري في الخارج، رجلان يحملان جثة! جثة من؟ جثة من؟ رباه! تساءلتْ فاطمة عما يجري، وهمَّت بالخروج فسحبتُها، وقفلت الباب، وقبضتُ على المفتاح بكل قوة. حاولتُ أن أبكي، أن أصرخ لكن المشاعر جفَّت في حلقي، كانت فاطمة مذعورة وبدأت تتذمَّر. تذكرتُ أن عليَّ مكالمة والدي، ماذا أقول له؟ كيف؟ ورغم كل اضطرابي شعرتُ أن عليَّ أن أهدأ بأي طريقة فقد راح تذمُّر فاطمة يتحول إلى صُراخ، وأنا عليَّ أن أستدعي والدي، وأساند أمي.

في تلك اللحظة تذكَّرتُ زوجة خالي التي ماتت منذ عام تقريبًا. أهكذا يكون الإحساس بالفقد؟ أي وحشة؟ وأي فراغ يُسمِّم العقل والفكر، ويضرب ظلمًا منابع الدمع الرحيمة فلا نقدر على البكاء؟ اتصلتُ بوالدي وتحايلتُ عليه ليحضُر، وهدَّأتُ من روع فاطمة وأعطيتُها جهازي الكمبيوتر لتلعب، ورغم كل الخوف الذي كنتُ على يقين أنه ينتظرني حزمتُ أمري وخرجتُ، وليتني لم أفعل!

٧

كان معطفه «الباردسون» يُضفِي على قامته الطويلة ومَنكبَيه العريضَين جاذبيةً خاصة، بالإضافة بالطبع إلى سنوات عمره التي تُرشِّحه لأن يكون أستاذًا جامعيًّا، وليس طالبًا على مقاعد الدراسة؛ فقد التحق بالكلية نفسها التي كان يدرُس فيها قبل أن تُغيِّبه ظلمات الاعتقال أربعة عشر عامًا. وكأن ذلك لم يكن كافيًا لجذب الطلاب إليه، وخاصة الصبايا اللاتي سحرتهن الخصلات الفضية أكثر من صرعات الشباب وتسريحاتهم الغريبة؛ فقد أضاف إلى هيئته مسحةً من الرزانة والرسمية أكسبَتاه شيئًا من المظهر الودود والغامض في الوقت نفسه. ومنذ يومه الأول، اكتسب صداقاتٍ عديدة من باب المساعدة، أو من دافع الفضول لا أكثر، ولكنَّ أصدقاءه وجدوا مشكلة فيما عليهم أن ينادوه به؛ فكلمة «عمو» التي يطلقونها عادة على غيره ممن هم في مثل عمره لا تليق بزميلٍ لهم في الدراسة، كما أن نطق اسمه بلا ألقاب ينقص من قدره ويُقلِّل من ذوقهم، مع أنه ألحَّ عليهم ألا بأس في ذلك لكنهم لم يجدوها لائقة. وأخيرًا مازحه أحدهم قائلًا: «ما رأيُكَ ﺑ «حجِّي»؟» ضحك زملاؤه، أما هو فقد أعجبَتْه الكلمة وقال: «لِمَ لا؟ فألٌ حسن.» ومن يومها التصق به اللقب «حاج سليمان».

وبعد سنواتٍ من التجاور على مقاعد الدراسة اكتسب شعبية أكبر، وصار أكثر انفتاحًا مع زملائه، فارتاحوا له وغدا بمثابة الحكيم الذي يلجأ إليه الشبان خصوصًا؛ فقد كسب مودتهم بعد أن كان منافسًا قويًّا لهم في الاستحواذ على إعجاب الحسناوات وقلوبهنَّ.

كان مستندًا في ذلك اليوم على أحد المقاعد الحجرية في ساحة الكلية متخذًا من أوراق الأشجار العملاقة ملاذًا له من شمسِ آب الحارقة. ارتشف رشفةً من علبة الكولا الباردة ووضعها بجانبه، وأعاد قراءة الصفحات التي بيده؛ فبعد ساعة سيدخل الامتحان التكميلي للمادة التي رسب فيها. كان يُراقب من بعيدٍ ذلك الشاب الأشقر وقد مضى عليه أكثر من ساعة وهو ينتقل من شباك إلى شباك في نزقٍ ظاهر. إنه يعرفه جيدًا فهو طالبٌ يتقدَّمه بعامٍ دراسي، ساعده هو وأصدقاؤه مراتٍ عديدة في شرح شيء، أو وهبوه كتبهم وملخَّصاتهم التي انتهَوا منها. إنه شديد الانفعال، «كل الشباب كذلك» حدَّث نفسه مبتسمًا، أو لعله يُحب أن «يطالع شقاره»١ بين الحين والآخر.

أكمل حاج سليمان قراءة ما بيده وعينه على الشاب، بعد دقائق، جلس الشاب على أقرب مقعد واضعًا رأسه بين يدَيه. هزَّ حاج سليمان كتفَيه وأكمل دراستَه فلم يتبقَّ سوى نصف ساعة على موعد الامتحان.

وصحيحٌ أن الحاج سليمان لم يجده حين خرج، لكنهما تحدَّثا على الهاتف مساءً، ومن يومها تقاربا أكثر، وصارا يلتقيان صباحًا في الكلية، أو مساءً في بيته مع صديقَيه الآخرَين يتسامرون ويأكلون ويتحدَّثون عن همومهم. كان الحاج سليمان حريصًا في اختيار زملاء الدراسة ممن يسمح لهم بدخول بيته في حي الأعظمية؛ فهو لا يريد تطفُّلًا من أي نوعٍ على حياته الخاصة، وخاصةً فيما يتعلَّق بذكرياته الأليمة. وصحيح أنهم في مثل عُمر أولاده، إلا أنه انسجم معهم وبادلَهم الودَّ والثقة ومشاقَّ الدراسة، وهم بدورهم عوَّضوه شيئًا من حنان الأُبوَّة الذي لم يذُقه يومًا؛ فقد عَمِلَت سنواتُ الاعتقال الطويلة على تشويه مشاعره، وسلَبَته كثيرًا من الحنين. ولمَّا لم يجد من ينتظره من أهله بعد خروجه، فلم يعُد يعبأ بالعلاقات الإنسانية الحميمة التي يتقارب فيها الناس بقلوبهم. وهكذا نأى بنفسه عنهم، وأبعدَهم عنه، معتبرًا أي تقرُّب من أحدهم إما تجسُّسًا عليه، أو تطفُّلًا أخرق في أحسن الأحوال، وللسبب نفسه لم يتورط بارتباط مع أي امرأة بخطبة أو زواج. كما أنه ظل متخوفًا من أي انفتاحٍ إنساني إلا مع أصدقائه القُدامى الذين لم يَبقَ منهم سوى واحدٍ أو اثنَين، أو مع زملاء الدراسة الجدد الذين ظل يُقنِع نفسه أنهم حالما يتخرج سيخرجون من حياته كما دخلوها. لكنه مع كل اجتماع بهم في بيته يجد نفسه يتعلَّق بضحكاتهم، بدعاباتهم الخفيفة منها والسمجة، يستغرب من لهفتهم واندفاعهم إلى الحياة، ويجد نفسه كلما غادروه في وحدةٍ قاتلة ما كان يشعر بها من قبلُ. لقد تمكَّن هؤلاء الشباب من أن يبثُّوا روح الحياة فيه، أعادوا إلى قلبه جذوة الحنين، هذه القوة الرحيمة التي تَسِم القلب الإنساني بسِمَتها العذبة، لكنها تمزجُه بألم الفقد والشعور بالاحتياج إلى الآخر، وهذا ما كان يُزعِجه ويُؤرِّقه.

الحنين إلى أيِّ شيء؟ ما كان يعرف تحديدًا، أحيانًا كان يلعن الجامعة والشباب وكل من عرفه، ثم لا يسلو عن همِّه إلا بالقراءة أو تصفُّح «الفيسبوك» والكتابة على صفحته التي أنشأها له أحد زملائه الشباب؛ ﻓ «هذا زمن الفيس» كما ألحُّوا عليه. وفي مدةٍ قصيرة وجد نفسه منخرطًا فيه بشكلٍ أكبر، خاصة أنه أعاد اتصالَه بمن بقي له من أقاربه الذين يقطنون خارج البلد. كما أنه جعل من هذا الفضاء الأزرق مُستوعبًا لا ينتهي ولا يتململ لكل ما كان يجول في خاطره من أبياتٍ شعرية، أو نُتَفٍ نثرية، يستعيد بذلك أيام صباه الأدبية، ويسكُب فيها ما حنَّكَه الزمان به من درايةٍ وحكمة.

كان جالسًا إلى مكتبه ذلك المساء كعادته يتصفَّح الفيسبوك، لكنه كان يمرر إلى الأسفل في شرودٍ واضح ولا يقرأ منشورًا، ثم خطَرَت تلك الفتاة على باله. إنها ماثلةٌ أمامه الآن حين رآها عند صديقه، صبيةٌ جميلة متوسطة الطول، بوجهٍ مستدير كقرص القمر يحيط به إشارب من الساتان السماوي وترتدي معطفًا كُحليًّا طويلًا. كان في عينَيها السوداوَين سرٌّ جاذب، مزيجٌ من العناد والخَفَر، من الحيوية والكبرياء. مرَّر المؤشر إلى خانة البحث، كتب متذكرًا كلمات صديقه جيدًا، وتلك الحمرة الخفيفة التي اصطبغَت بها خدَّاها: «سماء صايغ»، وعلى الفور ظهرت له صفحتها. تأكَّد من أنها هي، ثم أخذ يقرأ منشوراتها، قرأ بعنايةٍ فائقة، كلمةً كلمة. ظل يقرأ ويمرر إلى الأسفل والساعة تدور تك تك تك، وهو يقرأ والزمن يمضي، ووجهه يتلون بما يقرأ، يرفع حاجبَيه إعجابًا، يبتسم مرحًا، يُقطِّب جبينه مستفهمًا، حتى انتبه على صوت تسميع مسجد الحي. عندها فقط نظر إلى الساعة وهاله مرور الزمن بهذه السرعة، لكنه عاد إلى الفيسبوك يقرأ، وأذَّن الفجر، وأُقيمت الصلاة، وهو يقرأ، حتى انتهى إلى آخر منشور كتبَتْه، وهو أول منشور لها في الفيسبوك منذ أنشأت صفحتها عام ٢٠٠٩م: «مرحبا، أنا جديدة في الفيسبوك، شكرًا لكل من قَبِل صداقتي، من أهلي وأقاربي وصديقاتي، وأُرحِّب دائمًا بصداقاتٍ جديدة، أنا سما صايغ » ومن غير تردُّد ضغط على زِرِّ طلَب الصداقة. أغلق جهازه، واندسَّ تحت لحافه جالبًا معه ولأول مرة شعورًا بالرضى المُعطَّر بالحنين.

٨

كان صوتها يرتجف بشدة، بكاء وشهقات، حتى إنه سمع صوت والده من الخلف يصرخُ بكلامٍ غير مفهوم، عليه أن يفهم ماذا حصل لكنه لم يعُد يسمع سوى البكاء، وانقطع الاتصال، ما هذه الاتصالات البائسة؟ أهكذا تفعل في هذا الوقت الحرج؟ لعلها ليست سماء، نظر إلى الرقم المتصل مجددًا، لكنها هي بلا شك، تبًّا! أيكون الأمر صحيحًا فعلًا؟ شعر بظلمةٍ تلفُّه وتتركه وحيدًا مرتجفًا غريبًا. عاود الاتصال، عليه أن يتأكد، كان لا يزال يتشبَّث بوهم أن ما سمعه مجرد دعابةٍ سمجة، أو تشابُك خطوطٍ هاتفية عتيقة. ابتهل إلى الله في سِره، وحاول طرد الأسوأ من ذهنه. رنين، ورنين ولا رد، عاود الاتصال مراتٍ كثيرة، لكن بلا فائدة، انهار أخيرًا على أرضية الغرفة المُغطَّاة بالموكيت الكحلِّي المهترئ وقد بدأ الغضب يتسلل إلى عقله. قام وأخذ يرمي كل ما يراه، الوسائد والأوراق والكتب، كاسات الزجاج والقدور، راح يلعن بصوتٍ عالٍ. وأخيرًا سقط على وجهه يُعاود الاتصال، مرة ومرة ومرة، كاد الرنين يُصيبه بالجنون، لعن الغربة والناس والعمل وكل شيء.

أخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابًا في خطواتٍ محمومة فوق أكداس الخراب الذي أحدثَه للتو، غير عابئٍ للزجاج المكسر الذي بدأ يُدمي قدمَيه الحافيتَين، وإذا به يلمح من بين الركام، ورقة قصدير ملوَّنة، يعرفها جيدًا. إنها غلاف حبة الشوكولاتة، التي كانت الشيء الوحيد الذي تلقَّاه منها، انتشلَها فحملَتْه بعيدًا إلى ذلك اليوم الهنيِّ معها تحت شجرة الزيزفون. ومن غير تفكير، حمل هاتفَه وراح يكتب الرقم، إنه لا يزال يذكره جيدًا فقد كان رقم هاتفه قبل أن يُعطيهَ لها. انتظر قليلًا منتظرًا أن يسمع صوت المجيب الآلي بأنه خارج الخدمة، ولكن يا للمفاجأة! سمع رنينًا منتظمًا، تسارعَت دقَّات قلبه، وراح الأمل الأليم يتسلَّل مجددًا إلى قلبه المكلوم.

انقطع الرنين ولم يُجب أحد. اتصل مجددًا ومع الرنة الأولى فُتح الخط، حبس أنفاسه منتظرًا، لحظة، لحظتان، لا صوت، شعر بالحرج والارتباك، فقال: «آلووو، آلو.» وأخيرًا أتاه صوت من الطرف الآخر: «نعم؟» كيف يمكن لثلاثة أحرف أن تفجر في قلبه بركانًا، مزيجًا عجيبًا من حنان وشوق وفرح وخوف؟ أخذَت ضربات قلبه تتسارع بجنون؛ فقد مضى أكثر من عامَين على آخر مرة سمعها، شكر الله في قلبه أن منحه نعمة سماعها مجددًا. كان هذا وحده كافيًا؛ فكأنما سكب صوتها على قلبه المشتعل ماء الحياة، «آلووو، نعم، من هناك؟» ألحَّ الصوت مجددًا، مسح عينيه بطرف كمه وقال: «كيف حالك سلمى؟ ما عرفتيني؟ أنا سعيد، كيفك سلمى هل أنت بخير؟ آه يا إلهي! لم أكن أظن أنني سأسمع صوتك يومًا.» توقَّف ملتقطًا أنفاسه ومخففًا من وطأة اللهفة على قلبه، لكنه لم يتلقَّ سوى الصمت، الصمت مجددًا؟ انتظر لحظاتٍ سقط فيها في ظلمةٍ حارقة، «لقد تركتَني وانتهى الأمر، ما الذي تريده الآن؟» هكذا أجابت بكلماتٍ حوَّلَت الماء إلى نار في طرفة عينٍ فاشتعل القلب مجددًا.

– أنا لم أترككِ أبدًا ولن أفعل.

– …

– سلمى، لِمَ لا تجيبين؟

– أين أنتَ؟ كأنك خارج البلد!

– من زمان يا سلمى، من زمان خرجتُ، تركتُ البلد بعد فقدكِ، ما عادت مكانًا يصلح لي، أردتُ الهرب وحسبُ، كيف لي أن أستمر في حب سيدةٍ متزوجة؟

– متزوجة؟! ما هذا الذي تقوله؟

– نعم سلمى، أمُّكِ أخبرَتْني أنكِ ستتزوجين، ولمَّا حاولتُ الاتصال مجددًا كان الرقم مغلقًا، يشهد الله كم حاولتُ وكم سهرتُ واحترقتُ، ثم تركتُ كل شيء وسافرتُ.

– …

– سلمى.

(صوت بكاءٍ متقطع.)

– ماذا سلمى؟ ماذا؟

– كيف يمكن أن تُفكِّر أنني قد أتزوَّج غيركَ؟ أما الآن فلا فائدة من كل هذا. اعذرني، عليَّ أن أُغلق؛ فصديقتي في مأزق، عليَّ أن أقف إلى جانبها، وداعًا سعيد …

٩

مات نادر، استُشهد، أو قُتل، لا أعرف؛ فأنا أساسًا لم أعُد أعرف عنه شيئًا منذ عامٍ تقريبًا. قال لنا رامي صديقه إنه أُصيب بطلقة رصاصٍ طائشة استقرَّت في صدره مباشرة، مَن قتلَه؟ لا أحد يدري! لم أعُد أتذكَّر التفاصيل الأخرى التي قالها؛ فقد ظلت أمي تصغي باهتمام، أما أنا فانتابتْني نوبة غضبٍ كبيرة، شعرتُ بها لأول مرة في حياتي، كان غضبًا صرفًا تنامى إلى حقدٍ ممزوج بقهر، أحسست بغشاوة سوداء على عقلي وقلبي، وصارت الكلمات والحركات تصدُر عني بمحض إرادتها لا إرادتي، وكأني فقدتُ السيطرة على جسدي. كانت لحظةً لا تُنسى، تلك التي رأيتُه فيها مغطًّى بدمائه، محمولًا على الأكتاف، فقدتُ نفسي لحظة أن رأيتُه، شعرتُ بالجنون، عرفتُ كيف يُولَد الشر في النفوس، وأحسستُ بعاصفة من غضب، ثم بكثير من الندم؛ فلم أعرفه جيدًا، لم أجلس معه ما يكفي، لماذا قتل نادر؟ ولمصلحة من؟ أحسست أن تلك السنوات التي قضيتها معه لم تكن كافية، والآن غاب إلى الأبد، وفات الأوان.

كنتُ أصرخ، وألعن وأسبُّ وأشتم، حتى إني ضربتُ أصدقاءه الذين حملوه، ولطمتُ وجهي، كم كانت أمي حكيمة حين طلبَت مني ألا أخرج! ذلك المشهد الذي رأيتُه سلبَني كل شيء، كل رغبةٍ لي في الحياة، كل أمل وكل متعة، صرتُ أعيش كل يومٍ بقرفٍ كبير، وصورةُ وجهه بخصلات شعره الذهبية المغطَّاة بالدماء والتراب لا تُفارِق مُخيِّلتي.

بعدها غصَّ بيتُنا بالمُعَزِّين، وجوهٌ تأتي وأخرى ترحل، نهار وليل، وليل ونهار، أيادٍ تصافحني، تُربِّت على كتفي، تُعانِقني، كلماتٌ جوفاءُ أسمعها: «البقية في حياتك، عظَّم الله أجركم، عليكِ أن تصبري، بل أن تفرحي وتفخري.» أبتسم مجاملةً وأدعو عليهم في سِري، ألمح التعاطف والأسى في عيونهم، لكن ما إن يُشيحوا بوجوههم عني حتى يتهامسوا في شئونهم الخاصة، في زوج فلانةٍ الذي طلَّقها، وتلك التي اشترت سيارةً جديدة، وفي سجَّادة الجيران الباهظة وابنهم الأرعن. تصِلُني أصواتهم، فأنظر إليهم من بين دموعي، فيُعاوِدون تمرير أصابعهم على السبحات التي بين أيديهم ويتمتمون بشفاههم، أو يعودون لينظروا نظراتٍ جوفاء في المصاحف المفتوحة أمامهم، فألعنهم مجددًا!

«شهيد الوطن، الخائن، الإرهابي، شهيد الحرية، العميل، البطل» كلها كلماتٌ قِيلَت في شخصٍ واحد وغيرها كثير، لكنهم لم يقولوا أهم توصيف له: إنه أخي! لم يتحدَّثوا عن الشامات التي تُزيِّن وجهه وعنقه، لم يذكروا القطط والسلاحف التي ربَّيْناها معًا، أو ملصقات سيارات البورش واللامبورغيني على جُدران غرفته. لم يقولوا شيئًا عن حساء الدجاج الذي يُفضِّله، أو مسقَّعة الكوسا التي لا يمكن أن يأكلها، ولا السلَّة المُعلَّقة فوق باب الصالون والتي لم يكن أحد يُحرز فيها الأهداف غيره. إنهم لا يعرفون شيئًا، ومن لا يعرف شيئًا لا يحق له أن يُعزِّيني فيه، ولا أن يترحَّم عليه، ولا حتى أن يلعنه.

دفَنَّاه في مقبرة جبل العظام وحدنا تمامًا، بعد أن صلَّينا عليه في البيت بحضور إمام مسجد عمار بن ياسر. هكذا كانت إرادة والدي، أو هي تنفيذٌ لإرادة أخرى، لا أعرف، ثم انتهى وجود نادر إلى الأبد، وابتدأ وجودٌ جديد خبيث يتسلَّل سرًّا إلى بيتنا ويُسمِّم حياتنا؛ فعلى الرغم من رباطة الجأش والصلابة الكبيرة التي أظهرتْها أمي يوم تلقِّينا الخبر وأيام العزاء، إلا أنها بعد ذلك انهارت تمامًا، لم تعُد تقوى على عمل شيء؛ فهي إما تُصلِّي أو تبكي أو مستلقية في غرفة نادر، ولا تتحدَّث إلا قليلًا، وأبي قلَّما نراه؛ فقد صار يتعمَّد البقاء في العمل لساعاتٍ أطول، وفاطمة صارت تأتيها نوباتٌ من الهلع ليلًا فتستيقظ باكيةً إثر كابوسٍ مخيف. وفجأة وجدت نفسي أتحمَّل مسئولية البيت كله، ومسئولية مساندة أمي وأختي، كان عليَّ أن أتحايل على ألمي؛ فلم يكن هناك أحدٌ غيري. استلمتُ أعمال البيت كلها، وشعرتُ لأول مرة بالعبء الكبير الذي كانت تحملُه أمي. ومما زاد الأمر سوءًا استمرارُ معاناتنا مع الماء والكهرباء، بلا أملٍ لنا لحلٍّ قريب. كما انشغلتُ تمامًا عن أشغالي الكروشيه، وعن القراءة أيضًا، مع انقطاعٍ شبه متصل للهواتف الأرضية والإنترنت.

تغيَّرتْ حياتنا، وتبدَّلَت معها ملامحُ حلب؛ فشارع النيل الذي كنا نقطُنه وكذلك الأحياء المجاورة صارت أرصفتها مفتَرشًا للباعة لمختلف البضائع، بائع الحلوى بجوار بائع الخضار والفواكه، بجانبه بسطةُ ملابسَ داخلية، وأخرى لأوانٍ منزلية وكهربائية وجَوَّالاتٍ مستعملة أو مسروقة، ويُرافقُ كلَّ هذا روائحُ الفلافل المقلية بزيوتٍ رديئة، أو كبابٌ مشوي مع الكبدة أو العجَّة. لقد «تبَهْدلَت» الأحياء الراقية بحسب وصف عمتي. ومما زاد من سوء الوضع ارتفاع الأسعار الجنوني؛ فما كنا نشتريه بمائة ليرة تضاعَف مرتَين أو ثلاثًا أَوَّل الحرب، ثم وصل إلى عشرة أضعاف. وإذا ناقشتَ أحدهم عن الغلاء صاح في وجهك: «يعني ما تعرفُ عن هبوط الليرة أمام الدولار وغلاء المازوت؟» وما دخلُ الدولار أو المازوت في سروال الجينز أو كيلو البندورة؟ حاولتُ مع أبي مرارًا لأُقنِعه بالسفر فنخرج من البلد كما يفعل كثيرون، وكذلك ألحَّ عليه سعيد، لكنه كان متشبثًا برأيه كثيرًا؛ فإلى أين سنذهب وليس لنا من عمل ولا دار؟ أحيانًا كنتُ أفهمه وأعذرُه، وغالبًا ما شعرتُ بالقهر والظلم من قراره؛ فأي مالٍ وأي عمل هو أهم عنده من أرواحنا؟ ألا يكفي فقدنا لنادر؟

كتبتُ على صفحتي في الفيسبوك:

الحرب ورمٌ خبيث، قلما دخل بيتًا فخرج منه بسلام.

١٠

على حافة سريرها جلسَت، تتجاذبها مشاعرُ شتَّى، وتخبط بها أمواجٌ متصارعة من غضبٍ وحنين وانتشاء، لا يزال يتذكَّرني بعد عامَين تقريبًا! راحت تُدندِن في سِرِّها: «خطرنا على باله، خطرنا يا هوى …» ابتسمَت، اتجهَت إلى المرآة تلمح التماع السعادة في عينَيها، ثم ذرفَت دمعاتٍ سخية من القهر والظلم الذي لحق بها من أقرب الناس إليها. أسرعَت إلى هاتفها النقَّال، ضغطَت على زر الذاكرة، فظهر رقمُ آخرِ اتصالٍ وارد. كتبَتْه على ورقةٍ خبَّأتها بعناية تحت ثيابها، وسارعَت بمسح الرقم من الذاكرة، ثم أعادت الجهاز إلى مخبئه. لم تكن تستخدمه أبدًا؛ فلم يكن فيه رصيد على أية حال. كانت فيما مضى تقوم فقط بالرد على الاتصالات القليلة الواردة التي كانت تطلُب صاحب الرقم الأصلي «سعيد»، لكنها تُغلِق الخط فورًا بمجرد سماع الصوت وتتأكد أنه ليس هو. ويومًا بعد يوم قلَّت الاتصالات الواردة، حتى اختفت تمامًا؛ فبعد آخر مرة تحدثا فيها اكتشف أخوها الجهاز، لكنها بعد أيام ولحسن الحظ وجدَت الشريحة سليمةً في سلة المهملات بعد أن صادر أخوها الهاتف النقَّال، فوضعَت الشريحة ذاتها في جهازٍ قديم لم يفتقدْه أحدهم. ومرَّت الأسابيع والأشهُر وأملها باتصاله يذوي كشمعةٍ بائسة، كان اليأس يقتلها والقلق أيضًا. لم تكن تعلم سببًا لغيابه المفاجئ رغم وعوده ومشاعره التي بدت لها صادقةً جدًّا. سؤالٌ واحد ظل ينهش صدرها كصرخةٍ مكتومة، كطلقةٍ نارية تُغرَس في قلبها وتُحدِث فيه ألمًا متجددًا يومًا بعد يوم: لماذا؟ هل حدث له مكروه؟ هل ندم؟ هل تراجَع وفقَد الثقة بي؟ وعلى الرغم من مشاعر الغضب والمقت وليالي البكاء الطويلة فإنها أبقت بطارية الجهاز ممتلئةً على أمل أن يتصل يومًا ما.

وها قد اتصل الليلة في هذه الساعة القدسية، لكنه الآن بعيدٌ جدًّا! لا يهم، المهم أنه لم يتوقَّف يومًا عن حبي! لقد كانت لعبةً خبيثة أبعدَتْه عني. كانت ترغب بشدة أن تندفع إلى أمها وتكشف لها كذبَتْها، أن تصرخ وتُنفِّس عن غضبها، لكن ليالي البكاء الطويلة علَّمَتها الصبر والتأنِّي. أيقنَت أنها بذلك ستكون الخاسرة الوحيدة مجددًا، فالتزمَت الصبر والانتظار؛ فأيامٌ قليلة من الانتظار مع أملٍ كبير، لا تُساوي شيئًا أمام عامَين مع يأسٍ بائس.

١  تعبيرٌ اصطلاحي في اللهجة الحلبية المحلية وتعني الغضب وعدم التحكُّم بالانفعالات، والصياح أحيانًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤