الفصل السادس

١

الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة، الغرفة مُضاءة بأنوارٍ خافتة من «الكلوبات» الموضوعة في الزوايا وعلى طرفَي السرير المرتَّب بعنايةٍ فائقة، الأبيض كان سيد الألوان هنا؛ الشراشف والمخدَّات وسيراميك الأرض، الستائر بيضاءُ مُسدَلة، وخشَب الغرفة أبيضُ ناصع، ولهذا السبب بالذات اختار الغرفة هذه. وتأكيدًا للفضاء الأبيض، فقد حرَص على ملء الغرفة بأنواع الورود والزهور البيضاء، رائحة زهر الياسمين تحديدًا كانت تنشر على الغرفة جوًّا سحريًّا من الألفة المحببة، وإيحاءات بمساءاتٍ صيفية باردة.

كانت جالسة بكامل زينتها على أحد المقعدين الأبيضين الموضوعين قرب النافذة، وعلى الطاولة فنجانان وركوة مملوءة بالقهوة الساخنة، وباقة جوري بيضاء، وأطباق من الشوكولاتة الفاخرة والفواكه والموالح المشكلة. أصواتٌ بعيدة ومتقطعة لدويِّ مدافعَ واشتباكات، القلب يخفق وجلًا، اليدان المزدانتان بالخواتم ترتجفان وتعصران الطرحة البيضاء بين الأصابع، العينان تنظران إلى انعكاس بريق الأنوار الخافتة على الخرز والماس المطرَّز على فستانها الأبيض، الأنفاس سريعةٌ متتابعة كأنفاس طريدةٍ هاربة من فهدٍ صياد، لمَ الخوف؟ تُكرِّر لنفسها مرارًا وتكرارًا، أليس هذا ما أردتُه دومًا، أحلم؟ هذا فوق الحُلم وأجمل من الخيال، تنظر إلى الساعة مجددًا، هل تأخر؟ ربما قليلًا أو كثيرًا، لقد تاه الوقت لديها منذ اللحظة التي جلسَت قبالته بجانب مقصف العمارة وهو يقول لها: «اشتقتُ إليكِ.» وتوقَّف العالم بعد ذلك بزمانه ومكانه، بعلله ومعلولاته، وتاهت في منعطفات السعادة الحلوة، لكنه تأخر، قال لها «سأوافيك بعد دقائقَ يا عروسة.» فأين ذهب؟ ماذا سيُحضِر أيضًا؟ كل شيء هنا؛ الورود والشموع والطعام، ماذا أيضًا؟

وقفَت واتجهت إلى الخزانة، ثيابها القليلة مرتَّبة بعناية، وكذلك ثيابه، الحمام أيضًا يتلألأ بأنوار الشموع البيضاء، لن يبقيا هنا طويلًا؛ فأجرة الفندق غالية. أخذت تحدث نفسها: لا بدَّ أنه تكلَّف كثيرًا! نظرت إلى المرآة، وأعجبها جمال وجهها المزيَّن بمهارة عالية، أنا جميلة، وهو يُحبني «يموت فيَّ»، كما قال لي، ابتسمَت وخرجَت.

طرقٌ خفيف على الباب، «من؟» سألَت وهي ملتصقة بالباب، «افتحي سلمى، أنا سعيد.» وهبط قلبها في الرهبة مُجدَّدًا، أخذَت نفسًا عميقًا، أدارت قفل الباب وفتحَتْه حاشرة نفسها خلف الباب، دخل سعيد بكامل أناقته. سارعَت لتجلس في مكانها، محدثة جلبةً بارتطام أطراف فستانها الواسع بالخزانة وأرجل المقاعد. أغلَق سعيد الباب وراءه، كان يحمل شيئًا، لم تتبين سلمى ما هو، كانت منشغلةً بتهدئة نفسها من الرعشة التي سكنَت قلبها، وامتدَّت إلى جسدها حتى آخر أطرافها.

«آمل ألا أكون قد تأخرتُ عليكِ.» قال ذلك ووضع ما بيده، ثم قال لها: «تعالي سلمى أريد أن أريك شيئًا.» جلسَت على طرف السرير، ورأت ما بجانبه، إنه صندوقٌ خشبي متوسط الحجم، قال لها: «افتحيه.» حملَتْه بيدَيها وفتحَتْه، أخذَت تُقلِّب ما فيه وهو يُراقب بفرحٍ طفوليٍّ انفعالاتها الحلوة على وجهها، ابتساماتها، نظراتها، يداها، دهشتها. وأخيرًا قال: «هل تذكرين؟ هذا كنزي! ما بقي لي منكِ بعد أن فقدتُكِ قبل عامَين، ذكرياتي معك، هذه ورقة الشوكولاتة التي أكلناها معًا في اليوم الوحيد الذي حدَّثتُكِ فيه أيام المعهد، الزهرة الصفراء التي قطفناها من شجرة كانت تُظلِّلنا، وهذه الأوراق هل تذكُرين؟ حين كنت تُخربشين على دفتركِ، وهنا في طرف الورقة الأقرب إليَّ رسمتِ قلبك الصغير، لقد انتزعتُها خلسةً من دفتركِ، وهذا هو القلم الأزرق الذي كنتِ تكتبين به، أيضًا خطفتُه منكِ وبقيتُ أتنشَّق شذاه دهرًا، من يومها علمتُ أنكِ لي، وأني معكِ سأقضي عمري.» كانت تبتسم وعيناها تلتمعان بالدموع؛ فالسعادة التي يُقدِّمها لها أكبر من أن يحملها قلبها الصغير، قالت أخيرًا: «شكرًا.» أمسَك يدَيها وقال: «بل شكرًا لكِ لأنكِ ملكة حياتي، أُحبك سلمى.» لم تجب، كانت مطرقة، مد يده إلى ذقنها ورفع وجهها تجاهه وقال: «انظري في عينيَّ سلمى.» وببطء وبكثير من المجاهدة رفعَت عينَيها إلى يدَيه اللتَين تحتضنان يدَيها، إلى قميصه الأبيض الذي يزيده وسامة، إلى سترته الرسمية السوداء، وربطة عنقه الساتان، إلى ذقنه، شاربيه، وأخيرًا إلى عينيه، لكن أنى لها أن تقوى على النظر طويلًا في هذا السحر الطاغي، في هذا الحب المتدفق من تلك العينَين البُنِّيتَين، أخفَت وجهها بين يدَيها وراحت تبكي!

كيف يفهم رجلٌ ما يمرُّ به قلبُ أنثى؟ كيف لمنطقه الثنائي الصارم أن يُدرك ثنايا ومتاهات عالمها الأنثوي الخصب؟ سارع إلى القول: «ما بك؟ هل آذيتك سلمى؟» ظلَّت تبكي وهي تتخيل كيف صار وجهها مع كل المساحيق التي كانت عليه؟ وقف سعيد حائرًا فعلًا؛ فالبكاء يعني له الحزن أو الألم، وهما أمران لا يدري كيف سبَّبهما لها! ماذا سيفعل؟ ارتبك، ثم أحضر علبة المناديل ووضَعَها بجانبها، مشى خطواتٍ باتجاه الحمام، عاد إليها، رفع يده ليضعها على كتفها، تراجَع إلى الخلف وخرج من الغرفة، اتصل بأخته، حكى لها ما حصل فقالت: «لا تقلق، إنها زحمةُ مشاعر لا أكثر!»

٢

أنا كاذبة! لم أذهب إلى بيت صديقتي كما أخبرتُ بذلك والدتي، لكنني أمشي الآن في ساحة سعد الله الجابري باتجاه المتحف، شَعرتُ أنه أخطر شيء أقوم به في حياتي! كانت الرعشة تُربكني، تزيد من سُرعة خطواتي، تملَّكَني خوفٌ وترقُّب وإثارة، ووجيب قلبي المجنون يصمُّ أذني، أكاد أجزم أنه وصل إلى الناس حولي، أشعُر بنظراتهم تخترقني، تفضح كذبتي، تُسجِّل خطواتي. ليتني جلبتُ صديقتي معي، لكنها لا تستطيع الحضور، أعلم ذلك لكن كم أتمنى وجودها معي الآن. فكَّرتُ أن أعود، لكن الأوان قد فات، لقد تلبَّستُ بالجرم وانتهى الأمر. دعوتُ الله أن أصل قبله، لأجمع شتات نفسي، وأستجلبَ الشجاعة من وهم اعتدادي بذاتي، ولأنفضَ عني ما علق بي من غبار الخوف والارتباك.

رأيتُ بوابة المتحف فسارعتُ خطواتي، يا للجنون! تجاوزتُ السور ووقفت في الحديقة أمام بوابته الكبيرة. مشَيتُ ببطء هذه المرة بين الأشجار والآثار، القطط تتجول في المكان بكثرة، والجو لطيف مع نسماتٍ باردة. التماثيل الموضوعة أمام البوابة كبيرةٌ جدًّا، هذه أول مرة أراها من هذا القرب، إنها ضخمةٌ حقًّا!

«أهلا بكِ في القصر الملكي.» التفتُّ خلفي، فرأيته مبتسمًا، وابتدأ الحلم، إنه هو بلا شك، قلتُ من فوري: «لقد أفزعتَني.» أجاب: «آسف، لم أقصد ذلك.» نظرتُ إليه مليًّا هل حقًّا أنا معه؟ سيراني أحدٌ ما قريبًا، كل العيون تنظر نحوي، سارعتُ إلى القول: «هل ندخل؟» قال: «بالطبع لا، ساحة المتحف جزء منه، تعالي سأُعرِّفكِ على ما فيها، هذه التماثيل الكبيرة الرمادية هي نسخةٌ من الواجهة الأصلية للقصر الملكي التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك تمثالٌ لسيدٍ روماني جالس.» قطَّبتُ جبيني وسألته: «أين رأسه؟» ضحك وقال: «أضاعه هناك، ربما عند تلك السيدة؛ فالنساء كما تعلمين ساحراتٌ.» ضحكنا، ونظرتُ حيث أشار، كان هناك قرب السور تمثالٌ من الحجر لسيدةٍ واقفة، قال: «الحمد لله رأسها على كتفَيها.» ضحكتُ، وأكملنا المشوار.

الشغف، كان يُحدِّثني بكثيرٍ من الشغف، رأيتُ في عينَيه فخرًا وولعًا كبيرَيْن، حدَّثَني أنه كان يتردد إلى المتحف منذ طفولته مع عمه الذي كان يعمل محاسبًا فيه. حكى لي عن المرات العديدة التي امتطى فيها ظهر تمثال الأسد، وعن الأماسي الصيفية التي قضاها يسبح في بركة المتحف مع أبناء عمه. حكى لي عن تماثيل الآلهة التي تسير ليلًا وتُرعِب الحراس، وخاصة تمثال الإله تيشوب. أراني تمثال ربة الينبوع والماء الذي ينبُع من يدَيها، وحكى لي عن «المدامع» التي هي آنيةٌ زجاجية كان يحتفظ فيها الناس بدموعهم التي ذرفوها على موتاهم كنوعٍ من الذكرى.

كان المتحف مليئًا غنيًّا، لم أكن أتصور أنه بمثل هذا الغنى والجمال. رأيتُ تمثال الأسد العجيب الذي يوحي أنه واقف ويمشي في الوقت نفسه، ثم قادني إلى تمثالٍ مضحك لرجلٍ يعقد يدَيه على صدره في هيئة الصلاة، تحدَّاني أن أُشبِّك يديَّ كما يفعل، فلم أستطع. أراني قوالب لصنع الخبز، أخبرني كيف كانوا يصنعون رغيف الخبز مُزينًا برسوماتٍ لحيوانات وأشكالٍ مختلفة. حدَّثَني عن ميل الإنسان للجمال منذ القِدَم، وكيف أن هذا المكان يجمع خُلاصة الأسلاف وحكاياتهم وأحلامهم وفنونهم أيضًا، ربما ما كانوا يتخيلون في يومٍ من الأيام أن هذه الآنية مثلًا التي يستخدمونها في حياتهم اليومية ستشكل لنا كنزًا تراثيًّا، من يدري ماذا يفعل الزمن؟ حكى لي عن طاقة الإنسان الكبيرة في تطويعِ كل المواد المحيطة به مهما هانت أو قست لخدمة غاياته وحاجاته؛ الطين والحجر، الذهب والفضة، البرونز والبازلت، وغير ذلك كثير. كانت تحرُّكاته كملكٍ في قصره، وكلماته كعاشقٍ عن معشوقه، ونظراته كفنانٍ لعمله. كان يحكي بلا توقفٍ عن ذكرياته في كل ركن وزاوية، أمام كل قطعة وحجر، كل واحدٍ منها له في ذاكرته قصص وحكايا. حدَّثَني أنه حين صار يافعًا تمكَّن من الحصول على عملٍ في هذا المتحف مما زاد من تعلُّقه به ووقتِه الذي يقضيه فيه.

شَعرتُ معه أنني في عالمٍ منفصل تمامًا عن الواقع، خاصة أن المتحف خالٍ تقريبًا من الزوار. وحين انتهينا من القسم الأخير من المتحف وهو قسم الفن الحديث، قال: «تعالي سأُريكِ شيئًا.» مشيتُ خلفه طواعيةً، وهل أملك غير ذلك؟ نزلنا درجاتِ السلَّم إلى الطابق الأول، فالطابق الأرضي، وأكملنا نزولًا إلى القَبْو، وقد بدأنا ننغمس في البرودة والظلام درجةً درجة. توقَّفتُ وقلتُ: إلى أين تأخذني؟ فلنصعد، لا أُحب الأماكن المظلمة.

– لا تخافي أنا معك، ثم إن الظلام هنا فقط، صدِّقيني، المستودعات في الأسفل مضاءة بالكامل من النوافذ، فالنهار في أوله.

– هل يُسمح لنا بالدخول إلى المستودعات؟

عندها أخرج مجموعة من المفاتيح ورفعها في وجهي وقال: هل نسيتِ أنني موظَّف هنا؟

تابعنا النزول والظلامُ يزداد ورائحة الرطوبة تتسلَّل إلى أنفي فعطستُ مرارًا، وقد بدأ قلبي ينقبض، مشينا في ممرٍّ طويل، انعطفنا يسارًا ثم يسارًا مرة أخرى، توقفنا عند بابٍ حديدي مقفل. أخرج المفاتيح وطلب مني تشغيل جوَّالي لأُضيء له المكان قليلًا، فتح الباب فأصدر أزيزًا عاليًا، سرى تيارٌ هوائيٌّ بارد فارتعدتُ، ودارت ببالي أسوأ الاحتمالات، ماذا أفعل هنا؟ كيف أضع نفسي في موقفٍ كهذا؟ ماذا لو آذاني؟ لن يسمعَني أحد، هل أعرف عنه شيئًا؟ عدتُ خطوتَين إلى الوراء وقلتُ: «أنا صاعدة.» لم أنتظر ردَّه، عُدتُ أدراجي في الظلام، انعطفتُ يمينًا، ويسارًا ثم يمينًا، سمعتُه يناديني، وَقْع خطواته تبتعد ثم تقترب مني، فأبتعد عنه مجددًا، ولا أجد السلم، تبًّا، ما هذه المتاهة؟ قبل لحظاتٍ كان هنا، تعاظَم الخوف في قلبي، شعرتُ برغبة في البكاء، وبألمٍ في معدتي، أخرجتُ جهازي لأُنير الطريق أمامي أكثر، لاحظتُ أن التغطية ضعيفة جدًّا، يا للكارثة! مشيتُ مرةً أخرى بهدوءٍ أكبر، وخطواتٍ أوسع، أخذتُ أتلفتُ يمينًا ويسارًا، ولا يزال صوتُه يتردَّد في الممرات يُناديني.

وفجأةً تذكَّرتُ المكان، هناك يمينًا السلَّم المؤدِّي إلى الأعلى، ركضتُ باتجاهه، وقلبي يطالب بالنجاة، ولشدة ارتباكي وانعدامِ حذري انعطفتُ سريعًا فارتطمتُ بشيء ووقعتُ أرضًا، وجاءني صوته: «سلامتك سما سلامتك، ما بكِ؟ ماذا حدث لكِ فجأة؟ لماذا هربتِ؟ تعالي أساعدكِ، هل تريدين الصعود؟ لمَ لم تقولي، الله يسامحك، كنتُ دللتُكِ على الطريق.» كان في عينَيه الكثير من القلق، يا إلهي! ماذا أصابني؟ الحنان في صوته، اللهفة في كلماته سكبَت على قلبي برد الاطمئنان، وفي الوقت نفسه أشعلَت فيه طوفانًا من العجز، لم أدرِ بعدها لِمَ أخذتُ أبكي، كمٌّ كبير من المشاعر تفجَّر دفعةً واحدة، غطَّيتُ وجهي وبكَيتُ وأنا لا أزال على الأرض. وحين هدأتُ رفعتُ رأسي فوجدته جالسًا أيضًا بعيدًا عني قليلًا وهو يبتسم. وقف وأخذ ينفضُ الغبار عن سرواله، وقال: «هيَّا إلى الأعلى، من هنا، هل نسيتِ كيف جئنا؟» ودلَّني على الطريق وأنا أمشي خلفه مستسلمةً تمامًا، غمَرني إحساسٌ بالخجل.

وصلنا إلى الطابق الأرضي فقادَني إلى الساحة الداخلية المكشوفة، أشار إلى كرسي حجريٍّ وقال: «اجلسي، سأعود بعد لحظات.» كان الهواء منعشًا فعلًا، أخذتُ نفسًا عميقًا واستعدتُ ما جرى. كان كل شيء يبدو جميلًا وخياليًّا حتى أصابني الخوف فجأة. عاد بعد لحظات جالبًا لي ماءً، شربتُ وظل واقفًا، قلتُ: لا أعرف كيف أشكركَ، أو أعتذر، لا أدري.

– العفو.

– لمَ لا تجلس؟

– أخاف.

– من أي شيء؟

– أن تبكي مجددًا.

ضحكتُ وقلت: «إن لم تجلس أنتَ، فسأقف أنا.» حرَّك يدَيه ثم جلس في المقعد نفسه مبتعدًا قَدْر إمكانه عني. وسكَتنا، وطال صمتُنا، كنتُ مليئة بالامتنان له والحرج منه في الوقت نفسه. قطعتُ الصمت بقولي: أعتذر منكَ مجددًا، لا أدري ماذا أصابني هناك في الأسفل، ربما الظلام أو الوحشة، أو لا أعلم. شعرتُ فجأةً أن عليَّ أن أرى النور.

– لذلك هربتِ مني؟

– لم أهرب منك (سامحني على كذبي!) قلتُ في نفسي.

– لا بأسَ، كنتُ أوَدُّ أن أُريكِ شيئًا من ذكريات طفولتي في المستودعات.

– ما هو؟

– لا يهم.

واصطدَمْنا بجدار الصمتِ مجددًا، شعرتُ بالخطأ الكبير الذي اقترفتُه، لقد جرحتُه في الصميم، وسلبتُ منه الثقة. قمتُ لأستعيد شيئًا منها وقلتُ: هيَّا تعالَ ننزل الآن، لم يفُت الأوان بعدُ.

– لا أعتقد أنها فكرةٌ جيدة.

– لماذا؟ هيا لا تُحمِّل الموضوع أكثر مما يحتمل.

– صحيح، أنا أُحمِّل الموضوع أكثر مما يحتمل.

– كلا أبدًا، لم أقصد هذا، أنتَ على حق، أنا فعلتُ ذلك، لكنني اعتذرتُ منك، دعنا لا نختم يومنا الرائع هذا بالزعل.

– أنا لستُ زعلانًا.

– بل أنتَ كذلك، هيا قم، أرجوكَ، ماذا عليَّ أن أفعل كي ترضى؟

لم يقُل شيئًا، مشى صامتًا إلى الداخل وباتجاه القبو مجددًا، ومرةً أخرى غطسنا في الظلام والرطوبة، فتح الباب الحديدي نفسه، وانتشر النور. كانت المستودعاتُ عبارة عن صالاتٍ تشغل مساحاتٍ كبيرة، لا شيء فيها تقريبًا سوى بعض الكراكيب المحشورة في الزوايا. دخلنا حتى وقفنا وسط المستودع، قال لي: «أحببتُ أن أشارككِ شيئًا من ذاكرتي التي مضى عليها ربما عشرون عامًا، هنا بيتُ أسراري؛ فلا يعرف هذا المكانَ إلا القليلُ من الموظفين الذين رحل أغلبهم؛ فلا أحد يُحب النزول إلى هنا؛ فقد أُشيع أن بعض الأرواح تتنقل ليلًا.» ابتسمتُ وتلفتُّ حولي متخيلة الأرواح، فأكمل: «أترين هذه العلامات السوداء على الجدران؟ إنها آثار أيضًا، أليس هذا متحفًا للآثار؟» عجبتُ لقوله فابتسمتُ وقلتُ: «ماذا تقصد؟ آثار ماذا؟» أجاب: «آثار لعبي بالكرة عندما كنتُ صغيرًا، كنتُ آتي إلى هنا ألعب وحدي أو مع أبناء عمي، وخلَّفَ لعبُنا هذه الآثار.» كانت الجدران مليئة بالبقع السوداء، ثم أشار بيده إلى الأعلى وقال: «أترينَ تلك البقعة السوداء قُرب السقف؟ إنها رميتي التي تفوَّقتُ بها على أولاد عمي في تحدٍّ لمن يرمي الكرة أعلى لكن بشرط ألا تُلامس السقف.»

نظرتُ إليه، كان ينظر إلى الأعلى، إلى الماضي الجميل الذي انعكس في بريق عينَيه، هاتان العينان الحانيتان، كيف لي أن أُكافئهما وأعتذر منهما؟ شَعرتُ بألفةٍ عجيبة تجاهه، مشى إلى الأمام باتجاه الزاوية، وجثَى على ركبتَيه، وقال: «تعالي.» استجبتُ له وجثوتُ حيث كان، رأيتُ نقوشًا أسفل الجدار للحروف اللاتينية: S.H.K، وعدة خطوطٍ ودوائر، سألتُه: «وإلى أي قرن تعود هذه النقوش؟» ضحك وقال: «لعام ١٩٩٤م، ربما، نقشناها أنا وأولاد عمي سامر وكامل.» اقتربتُ من النقش أتأمله، ثم التفتُّ إليه وأنا لا أزال جاثية على ركبتيَّ، كان راكعًا فوقي تقريبًا مستندًا بذراعه على الجدار فوق رأسي، ولأول مرة أراه قريبًا مني هكذا. شعرتُ بوخزٍ لذيذ في قلبي، وغمَرني إحساسٌ بالاحتواء والأمان، ودخلتُ في لحظةٍ سرمدية من الهناء. شعرتُ بثقلٍ غريب في جَفنيَّ وكأن النُّعاس هبط هكذا فجأةً عليَّ، وراودَني خوفٌ يهزأ بي، فاستجبتُ آسفةً لهذا الأخير ووقفتُ. وفي لحظةٍ واحدة خرجتُ من سموات الجنة إلى أرض الواقع، وعُدتُ إلى البيت.

٣

تزوَّج سعيد في أجواءٍ احتفالية بسيطة، تم كل شيءٍ في سلاسةٍ تامة، على الرغم من اعتراضات أمي الكثيرة على العروس؛ فهي كبيرة وعليها كلامٌ كثير، كما أنها ليست من مستوانا، أما ما أثار عجبي حقًّا فهو موقف أهلها الذين انقلبوا من المعارضة التامة إلى القبول المطلَق، هل كان هذا من فعل بريق الذهب وسحره في النفوس؟ لا يهم؛ فقد اجتمع الحبيبان، ورقص قلبي فرحًا.

اجتمع من بقي من أهلنا وأهل العروس في بيتنا، وانتهى العرس مع أذان العشاء، هكذا صارت الاحتفالات في حلب بعد الحرب تبدأ وتنتهي باكرًا، تذكَّرتُ أيام زمان حين كان يبدأ الحفل بعد منتصف الليل. اختلطَت أصوات الاحتفال بأصوات قذائفَ بعيدة، وامتزجَت الضحكات بدموع أمي، وتناوشَت في قلبي المشاعر؛ الفرح بسعيد والغصة لغياب نادر. بعدها أخذ العريس عروسه ليباتا في فندق الميريديان، ثم سافر سعيد عائدًا إلى قطر ليُنهي معاملات استقدام العروس الجميلة.

في اليوم التالي كتبتُ على صفحتي:

هل يكون الإنسان خائنًا إذا نسي أحبابه الراحلين وسمح لروحه بالفرح؟

«سلامة روحك» جاءني تعليقٌ مباشرةً من الملك على منشوري الأول، تأمَّلتُه مليًّا، حسنًا، ضغطتُ زر الإعجاب بتعليقه، وحين هممتُ بكتابة ردٍّ ظهر منشورٌ جديد له كتب فيه:

بعض الأرواح لا يليق بها إلا الفرح.

خفق قلبي وابتسمتُ في سري، إنه يستعير كلماتي، هل حقًّا يقصدني أنا؟ كان عليَّ أن أضغط زر الإعجاب بمنشوره الجديد لكنني لم أفعل، وأشغلتُ نفسي بتصفُّح منشورات الأصدقاء، بعد دقائقَ كتبتُ على صفحتي:

الحرب لعنةٌ سوداء تغرس أنيابها في كل قلبٍ سعيد.

وما هي إلا لحظاتٌ حتى كتب منشورًا ثانيًا:

صحيح أن الحرب لعنةٌ سوداء، لكنها مثل التنُّور تُظهِر بريق المعادن الخالصة.

يا إلهي! هل حقًّا يفعل ذلك؟ أم هي محض صدفة؟ مستحيل، إنه يفعلها، يرد على منشوري بمنشور! بدأ قلبي يخفق هذه المرة أسرع، هل أُجاريه في اللعبة؟ ماذا أكتب الآن؟ فكَّرتُ قليلًا ثم غيَّرتُ رأيي، ضغطتُ على زر الإعجاب على منشوره الأخير، وأطفأتُ الجهاز.

اتصلت بجدو نور وطلبتُ منه أن ألتقي به مساءً فوافق، وبقيتُ أُفكِّر طوال اليوم كيف سأجمعه برندة؟ إنها بعيدة في تركيا، وجدو هنا وسط الحرب في حلب، كيف سيلتقيان؟

في المساء ذهبنا أنا وفاطمة إليه فاستقبلَنا بمودةٍ كبيرة في مكتبته المحبَّبة، سألتُه: جدو، ألا تُفكِّر بالسفر؟

– لأهرب من وطني؟

– بالطبع لا، ليس هذا ما قصدتُه جدو، إنما لتبتعد قليلًا من أجواء الحرب وما تفعله في نفوسنا.

– لا أستطيع، ثم إلى أين سأذهب؟ ومع من؟

– إلى تركيا مثلًا.

نظر إليَّ متفاجئًا وقال: تركيا؟ ولماذا تركيا تحديدًا؟

– لأنها … لأنها … لأنها قريبةٌ منا كثيرًا، كما أنها جميلةٌ جدًّا ومناسبة لتغيير الجو.

– لا أستطيع ولا أريد الآن، ربما لاحقًا.

– متى جدو؟

– حتى تتعافى سورية!

– سننتظر طويلًا إذن.

– أخبريني الآن، هل أنهيتِ الكتاب؟

– بالطبع، لكنني في الحقيقة استغرقتُ في قراءته زمنًا طويلًا، كما أنني لم أفهم كثيرًا من مقاطعه.

بعدها أخذتُ في الاستفسار عن بعض الأمور وجدو يجيبني، ثم سمعنا طرقًا على الباب، قام جدو ليفتح، وسمعتُه يُرحِّب به، إنه سليمان «الملك»!

٤

رمضان، ١٤٣٤ﻫ / ٢٠١٣م، حلب

فتحَت أم سعيد الثلاجة وأخذَت تتأمل داخلها، ومع أنها تعرف تمامًا الأغراض القليلة التي فيها ومكانها تحديدًا، إلا أنها جثت على ركبتَيها محاولةً استيعاب كل زاويةٍ في الثلاجة بنظرها علَّها تكون قد وضعَت شيئًا ما ونسِيَته. لكنها مثل كل مرة انتصبَت واقفة فلم تجد شيئًا جديدًا؛ فالمعجزات لا تحدث، والثلاجة ستظل على حالها، «على حطة يدها» كما يقولون. تنهَّدَت وسحبَت طبقًا فيه نصف حبة طماطم «بندورة» مغلَّفة بعناية يضرب لونها إلى الاصفرار.

أزالت الغلاف البلاستيكي بحركةٍ متثاقلة من يدها، وقامت بتقطيعها شرائحَ رفيعةً ما أمكنها ذلك وأعانتها عليه السكِّينة. استدارت إلى الغاز، وحملَت قِدْرًا كانت عليه، سكبَت القليل من المجدرة بالبرغل فملأَت بها طبقًا مُتوسِّط الحجم كان يأكله زوجها وحده، والآن عليهم أن يتشاركوها أربعتهم. رتَّبَت هذَين الطبقَين اليتيمَين على الطاولة، وضعَت إبريقَ ماء شبه بارد وثلاثة أكواب، سحبَت ملاعق من الدرج ونادت على أُسْرتها: «هيا، تفضلوا، اقترب أذان المغرب.»

- أيش هذا؟

أول كلمةٍ نطق بها أبو سعيد وهو يرى الطعام ونظر إلى زوجته مستفسرًا، أجابت: ماذا تُريديني أن أعمل؟ البرغل نفَد تمامًا، وكذلك الخضار، ماذا كنتَ تظن؟ وما طبختُه اليوم سيكفينا اليوم وغدًا وإلا بقينا يوم غدٍ بلا طعام.

تمتم أبو سعيد: «لا حول ولا قوة إلا بالله.» سحب الكرسي مُصدِرًا أزيزًا مزعجًا، ثم أذَّن المغرب. أمسك كوب الماء وراح يُنادي بأعلى صوته: «سما، فاطمة أين أنتما؟ ألا تسمعان الأذان؟» هرولَت الفتاتان على صوت والدهما الغاضب وأخذتا مكانَيْهما على الطاولة. صاحت فاطمة: مجدرة أيضًا؟ البارحة أكلناها، ثم أين البصل المقلي؟ ماما لن آكل.

عضَّت أمها على شفتَيها ونظرت بطرف عينها إلى أبيها نظرةً فهمتها فاطمة جيدًا فلاذت بالصمت، ولاذ به الجميع فلم يعُد يُسمع إلا صوت طرق الملاعق على حواف الطبق الوحيد. كانت أم سعيد في أثناء ذلك تملأ طرف ملعقتها وتأكل ببطءٍ شديد حتى يتسنَّى لأفراد أُسْرتها أن يأكلوا أكثر ليشعروا بشيء من الشبع الذي ما كانت تأبه له كثيرًا هذه الأيام.

في اليوم التالي استغرق أبو سعيد في نومه أكثر من المعتاد، راحت زوجُه توقظه، لكنه أجابها بأن تتركه. لم يكن نائمًا، كان يتقلَّب على فراشه بهمٍّ كبير؛ فإفطار البارحة أوحى له بشبح الجوع يلوح له قريبًا جدًّا؛ فقد نفد الطعام من حلب، من أحيائها الغربية تحديدًا، من كان يُصدِّق ذلك؟ حلب المليئة أسواقها بأجود الخضار والفواكه وأرخصها وألذِّها طوال العام باتت اليوم خاوية على عروشها، خلت أسواقها من الباعة إلا من بضعةٍ منهم ممن حالفهم الحظ بتجاوُز المعبر بسلام محمَّلين ببضائعَ مختلفة من أحياءِ حلب الشرقية ليبيعوها هنا بعشرة أضعاف سعرها. ما كان يحزُّ في نفسه حقًّا دموع الصغيرة فاطمة التي تلتمع في عينَيها كل يوم وهو عائد من عمله فتنظُر في يدَيه، وتسأله: «لا يُوجد لبن اليوم أيضًا يا بابا؟» إنه يعرف تمامًا كم تُحب هذه الصغيرة اللبن، لكن ماذا يفعل إذا كانت كل مشتقات الألبان نفدَت تمامًا؟ قطَّب جبينه ولعن كل شيء. عليه أن يفعل شيئًا وسيفعله اليوم.

٥

كنتُ عَجِلةً مساء ذلك اليوم، عملتُ أي شيء بشرودٍ تام، طغى التوتُّر على حركاتي، وأويتُ إلى فراشي باكرًا جدًّا. دسَستُ نفسي في السرير، وشدَدتُ اللحاف حتى غطَّيتُ رأسي، أريد أن أخلو بنفسي، يا إلهي ماذا فعلتُ! أعدتُ أحداث ما مررتُ به صباح اليوم، حاولتُ تذكُّر كل شيء، أخاف أن تهرب مني إحدى التفاصيل، أرغب في الاحتفاظ بها عميقًا في حنايا ذاكرتي فلا يفلتُ منها شيء، حاولتُ استحضار كلماتنا، نظراتنا، خطواتنا، ضربت رأسي وأنا أتذكَّر ما قمتُ به من غباء في القبو، ثم أغمضتُ عيني والشذى عاد ليغمرني حين كان راكعًا فوقي، تذكَّرتُ المشاعر التي انتابتني، الرعشة الخفيفة في قلبي، والرجفة الكبيرة في أطرافي، والخوف المقيت الذي تَسلَّل زاحفًا إليَّ، أخذتُ أتخيل سيناريوهاتٍ أخرى جميلة كانت لتحدُث لو تَصرَّفتُ بطريقةٍ أخرى في تلك اللحظة، ثم أزحتُ اللحافَ عن رأسي بعد أن شعرتُ بحاجتي الشديدة للهواء، لكن لحظة، ماذا كان يرتدي؟ يبدو أن حضوره الحلو طغى عليَّ فنسيتُ أن أُلاحظ ثيابه. هل كان لقائي به صائبًا؟ بالتأكيد لا، لكنني فعلتُه وانتهى الأمر، عليَّ ألا أفكر في ذلك، بل ألا أُكرِّر أي حماقةٍ جديدة.

سحبتُ جهازي الكمبيوتر لأرى إن كان متصلًا الآن على الفيسبوك، لكن بطارية الجهاز كانت فارغة تمامًا، يا للخيبة! لكن ربما هذا أفضل، عليَّ أن «أثقل حالي» قليلًا. النوم يُجافيني، قمتُ وتشاغلت بغزل الصوف، كنتُ أصنع شالًا لسلمى أُهديه لها قبل رحيلها، سلمى زوجة أخي سعيد، كم هذا رائع! أُريد أن أصبح عمةً عما قريب.

بعد ساعة حضر والدي وقام بتوصيل «الأمبيرات» وهي خطوط تمديد للكهرباء موصولة بمولدةٍ كبيرة يملكها أشخاص يقومون بتأجير الكهرباء لمن يشترك بأمبير أو اثنين أو أكثر، أضاء البيتُ أخيرًا فقمتُ لأجلس مع أهلي، تجاهلتُ جهازي الكمبيوتر تمامًا، فإذا وصلتُه بالشحن فإنني سأفتحُه بالتأكيد. كلا لن أفعل، وأمضيتُ الوقت وأنا أختلس النظر إليه حتى انتهى وقت الأمبير وغرقنا في الظلام مجددًا، وارتحتُ أنا أخيرًا.

صباح اليوم التالي استيقظتُ باكرًا جدًّا، قبل السابعة، سارعتُ إلى جهازي الكمبيوتر لأضعه في الشحن فقد كان التيار الكهربائي موصولًا. ها قد مضى يوم الأمس بطوله، ما المشكلة إذا فتحت «الفيسبوك» الآن؟ وهكذا فعلتُ، لكن لا رسائلَ جديدة منه، بل منشورٌ واحد كتب فيه:

قد تُعادل ساعاتٌ قليلة تقضيها برفقةٍ مميزة أعوامًا بأكملها؛ لأنها تصنع ذاكرتَك.

إنه يتحدث عن لقائنا بالتأكيد، يا للرومانسية! أتمنَّى أن يعني ذلك أنه غفر لي تصرفي الغبي، هل أضغط على زر الإعجاب أو أُعلِّق؟ بماذا أُعلِّق؟ فكَّرتُ طويلًا، ثم اخترتُ أن أضغط زر الإعجاب وحسبُ، وكذلك فعلتُ، فوجدتُه متصلًا وبدأ حواره معي: صباح الخير.

– صباح النور.

– ما شاء الله، ما هذا النشاط؟ دائمًا تستيقظين باكرًا؟

– تقريبًا.

– هل أنت دائمًا هكذا؟

– ماذا تقصد؟

– لا تُجيبين بوضوح، لا أسمع في إجاباتك: نعم أو لا، تكررين فقط: ربما، أحيانًا، لكن …

– هل يزعجك هذا؟

– أُحب أن أعرفك أكثر، أكثر وأكثر.

– طيب، لا بأس.

– عفوًا.

– على أي شيء؟

– ألن تشكُريني على الجولة السياحية صباح أمس في المتحف؟

– ههههه، طيب يا سيدي، شكرًا.

– عفوًا يا سيدتي. كيف وجدتِ المتحف؟

– رائعًا جدًّا، لم أكن أتصور أن العمل فيه مثير للاهتمام، وأنه بهذا الغنى والجمال حتى يوم أمس، لقد تمكنتَ من تغيير نظرتي تمامًا.

– ممتاز، هل لي أن أعرف ماذا كنتِ تعتقدين؟

– حسنًا، كنت أظنُّ أنه ممل جدًّا، وأن اليأس وحده هو ما يقود الإنسان للعمل فيه؛ لهذا فقد كنتُ أُشفِق عليكم.

– ههههه.

– لمَ تضحك؟

– على كلماتك.

– لقد تعلمتُ درسًا.

– وما هو يا شاطرة؟

– هل تهزأ بي؟

– أبدًا والله، قولي ماذا تعلَّمتِ؟

– ألا أحكم على شيء قبل معرفتي به.

– جميل.

– شيء أو شخص .

– طيب، جميل أيضًا.

– وأنتَ؟

– ماذا؟

– كيف كانت جولتكَ يوم أمس؟

– كنتُ سعيدًا بأني شاركتُ شيئًا من أسرار طفولتي لشخصٍ مميز جدًّا وحسَّاسٍ جدًّا.

– …

– سما.

– …؟

– أُريد أن نلتقي مجددًا، لديَّ شيءٌ مهم لأخبركِ إياه، اليوم ما رأيكِ؟

أخذ قلبي يخفق بشدة، وعضضتُ على إصبعي، وأخذتُ أتأمَّل كلماته على الشاشة. رأيتُ وجهه مبتسمًا ينظر إليَّ بعينَيه الحانيتَين، غمرَتْني مشاعرُ غريبة أختبرها للمرة الأولى من خوف ورهبة وإثارة. لم أعرف بمَ أُجيبه، إنه ينتظر، عليَّ أن أفعل شيئًا! وبسرعة، ومن غير تفكير كثير، قمتُ بتسجيل خروجي وأطفأتُ الجهاز.

٦

«ليست مصادفة أبدًا» قال لنفسه مبتسمًا لصديقه، مظهرًا ملامح المفاجأة وكأنها حقًّا مصادفة؛ فهو يعرف تمامًا لمَ تسوقه قدماه ليجلس مساء كل يوم في مقهًى مطلٍّ على بيت صديقه، وعلى شباك مكتبته تحديدًا؛ فهو يعلم أنه لا يفتح النوافذ أبدًا إذا كان وحده، فإذا وجدها مفتوحة فهذا يعني أنه يستضيف زائرًا. وهذا المساء وجد النوافذ مفتوحة فاتجه من غير تردُّد إلى بيت صديقه وطرق الباب، إنه يعلم أنها هنا، وها قد حان الوقت المناسب ليراها مرةً ثانية.

وبما أن بيت صديقه الذي يعرفه جيدًا ليس فيه غرفةٌ أخرى لاستقبال الضيوف، فإنه حتمًا سيُدخِله إلى المكتبة، إلا إذا قرر صديقه فجأة أن يكون فظًّا ويطرده من بيته، وهذا أمرٌ لن يفعله مطلقًا. كان واثقًا جدًّا، لكنه انزعج قليلًا من ابتسامةٍ ماكرة انطوت عليها ملامح صديقه وهو يصافحه هامسًا له: «إنها هنا، ما هذه المصادفة؟» لكنه لن يعبأ بذلك؛ فالوقت غير مناسبٍ أبدًا للانزعاج.

وكما خطَّط تمامًا، قاده صديقه إلى المكتبة، وفور دخوله وقعَت عيناه عليها، كانت جالسة على الكرسي أمام المكتب الخشبي، حتى إنه لم يلحظ وجود أختها فاطمة الصغيرة جالسة على السجادة. وقفَت فور دخوله، ابتسم بثقةٍ واتجه إليها، مد يده ليُصافحها، لكنها ابتسمَت وأطرقَت، آه صحيح، إنها لا تُصافِح! يا للجمال المتحدِّر عن إطراقها!

سارع نور بالقول منقذًا الموقف: «تفضَّل سليمان بالجلوس، البيت بيتك.» جلس قبالتها مباشرة، وهو لا يرفع عينَيه عنها، «كيف حالك؟ سما على ما أظن؟» قال ذلك مصطنعًا البراءة. لم تُجب، بل اكتفت بهزِّ رأسها وابتسامةٌ خَفِرة ترتسم على مُحيَّاها، وساد الصمت. كان يراقبها، تعبثُ بصفحات كتابٍ بين يدَيها، والارتباك يرشح عنها، اصطنعَت السعال مرةً، وراحت تُنقِّل نظرها إلى الأعلى مرة وإلى الأسفل أخرى. كان مبتهجًا حدَّ الطرب بهذه الصغيرة الملائكية أمامه، وفي قلبه إيقاعاتٌ راقصة من الفرح الغامر، وفي نظراته فخر المنتصر بقرب وقوع الفريسة.

وقفَت فجأة وقد أحاط بها الحرج من كل جانب، وحين فتحَت فمها للكلام سارَع إلى القول: «الإنسان ذلك المجهول، كتابٌ رائع، هل أنهيتِ قراءته؟» تفاجأَت ونظرت إلى الكتاب بين يديها وقالت: «آه، الكتاب، نعم، أقصد ليس تمامًا، بعض المقاطع تحتاج وقتًا لأفهمها جيدًا، لكن أعتقد أنه يجب أن أنصرف، لقد تأخرنا.» «إنها ذكية ولبقة» فكَّر سليمان، وقال: «يعني إذا حضر الشياطين غادَرَت الملائكة؟» ارتبكَت مجددًا وابتسمَت وقالت: «لا، بالطبع لم أقصد، إنما …» قاطعَها نور هذه المرة وقال: «اجلسي يا سماء، لم تشربي شيئًا بعدُ.» كان للهدوء الذي نطق به نور كلماته قدرةٌ كبيرة في بث الاطمئنان في قلبها فعادت لتجلس، وخرج نور ليجلب شيئًا.

«سأكافئك على هذا يا صديقي» فكر سليمان في نفسه وهو يشعر بالامتنان لمغادرة نور المكتبة. قال فورًا مُركِّزًا نظره عليها يُراقب ردَّة فعلها على كلماته: «اسمكِ متميزٌ يا سماء مثلك، إنه يُشبهكِ.» ابتسمَت وأطرقَت مجددًا، أخذَت نفسًا عميقًا، أو هكذا تخيل، ثم نظرت إليه مباشرة في عينيه، الأمر الذي فاجأه حقًّا وقالت: أشكرك، لكنك لا تعرفُني.

– بلى، قرأتُ منشوراتكِ كلها على «الفيسبوك»، وتعليقاتكِ أيضًا على أصدقائك.

– حسنًا، ربما.

– ماذا؟

– هل تعتقد أنكَ بكلماتٍ قليلة ستعرف إنسانًا على الحقيقة؟

– أنت على حق، لكن كما يقولون: المكتوب باين من عنوانه.

– كُلنا على الفيسبوك صالحون ومثاليون وحكماء أيضًا.

– أنتِ لستِ كذلك؟

– لم أقل هذا.

– ماذا إذن؟

– ماذا تريد؟

– أنت ذكية.

قال ذلك وكان نور قد حضَر ومعه صينيةٌ عليها بعض المشروبات الغازية وزجاجات العصير، اكتفت هي بالابتسام. قال نور وهو يرمق صديقه: «تفضلوا العصير، لا شيء من واجبكم.» بعدها أمسك نورٌ بزمام الجلسة وراح يتحدَّث عن بعض أفكار الكتاب، وقاطعه سليمانُ مراتٍ في محاولة منه لاستعراض مواهبه ومهاراته. أما سماء فكانت صامتةً معظم الوقت، وقُبيل غروب الشمس استأذنَت بالانصراف وغادَرَت مع أختها.

وحين غادرَت التفَت سليمانُ إلى صديقه فرآه شابكًا يدَيه على صدْره وهو يرفع حاجبَيه مبتسمًا وكأنه يقول: ها قد فعلتَها!

٧

أعترف أنني في الأسابيع القليلة الماضية أربكَني كل شيء، عرس سعيد وسفره، رحلتي إلى المتحف مع شادي، وتقرُّب سليمان المفاجئ والسريع مني، واستمرار انقطاع الكهرباء والماء، وكأن المصائب لا تشتفي من آلامنا أبدًا، وكلما ظننا أن البلاء الذي نحن فيه هو أسوأ شيء يمكن أن يحصل، نجد أنفسنا في بلاءٍ جديد نفتح له أفواهنا دهشةً ولسانُ حالنا يتساءل: هل يمكن أن يحدث هذا؟ لكن الحرب لا تكتفي، والموت كذلك؛ فحلب نفسها قد انقسمَت إلى شرقية وغربية بحاجزٍ في حي بستان القصر، وكل شخص من الأحياء الشرقية عليه أن يحصل على إذن لدخول الأحياء الغربية، والعكس صحيح. هذا مع نشاط القنَّاصين من الطرفَين الذين يتسَلَّون بقنص طفلٍ مُتعلِّق بصدر أمه، أو شيخٍ يحمل خبزًا لعياله. وهذا ما أدى إلى انقطاع الكثير من المواد الغذائية عن المناطق الغربية من حلب مع غلاء الأسعار الفاحش.

لقد ازدادت مشاغلنا كثيرًا؛ فمثلًا تضاعَف الوقت الذي نقضيه في غسيل الصحون إلى ضعفَين أو ثلاثة بسبب تراكم الصحون أيامًا، وبسبب اضطرارنا إلى صب الماء من الأوعية التي كُنا نُخزِّن فيها الماء وقت توفُّره، وهذا أمر ليس بسهولة استخدام الماء من الحنفيات، وينطبق الأمر كذلك على غسيل الملابس، وسقي أحواض الزرع، وشطف الشرفات، وتنظيف البيت، الماء حياة، لم نكن نُدرك قيمة ذلك حتى فقدناه. هذا بالطبع ما عدا الأخبار السيئة التي كنا نسمعها كل يوم من موتِ عزيز، أو خرابِ بيت، أو اختفاءِ شخص، أو سرقةِ بيت؛ فقد نشطَت العصابات وكثُر النشَّالون، وتطوَّرَت أسالبيهم وعلا سقفُ مطالبهم في بيئة الحرب الملعونة؛ ولذلك فقد قاطعتُ رؤية الأخبار نهائيًّا، لكن ماذا أفعل إذا كانت الأخبار السيئة تدخل بيوتَنا عَنوةً وتقتحم حياتنا فتُكدِّرها غصبًا؟ البارحة تحديدًا علمتُ بخبر وفاة رضيعَين توءمَين لجارتنا غادة التي رزقها الله بهما بعد سبع سنوات من العلاج، لكنهما ماتا البارحة بسبب انقطاع الكهرباء في المستشفى! وقبلها صديق والدي مريض السكري الذي تُوفِّي إثر احتياجه لإبرة أنسولين لم يتمكَّن من إيجادها، يا للظلم والقهر! ولا أحد يجد حلًّا سوى أن ترمي بنفسكَ وبعائلتكَ وأطفالكَ في البحر لتُقامر بحياتك وحياتهم من أجل عيشةٍ تليق بإنسانيتك!

أمام هذه الضغوطاتِ وجدتُ أني بحاجة إلى فُسحةٍ للتفكير، إلى وقتٍ أستقطعه لنفسي. لا أنكر أن الغرور أخذ يلعب برأسي وأن قلبي ممتلئ فرحًا بالمشاعر التي تتوارى في كلمات شادي ونظراته الحانية يوم لقائنا في المُتحَف، وبتصرفاتِ سليمان الملك الجريئة آخر مرة التقيتُه فيها عند جدو نور، ورسائله الواضحة التي يكتبها في منشوراته على «الفيسبوك» بعباراته الأنيقة وكلماته الشعرية. لكنني اليوم أدركتُ أنني لا أعرف بالضبط ماذا أريد، وأن ما أقوم به لا يعدو أن يكون لعبةً خطرة لا أعرف عاقبتها؛ ولذلك فقد قرَّرتُ الابتعاد قليلًا، وبما أن «الفيسبوك» هو المنفَذ الوحيد لاتصالي بهما فقد قمتُ بتسجيل خروجي وإخفاء جهازي الكمبيوتر في خزانتي، حتى لا يقع تحت عيني وتُراودني نفسي لفتحه، كما أني لم أعُد أذهب إلى جدو نور مطلقًا.

لقد مرَّ على ذلك ثلاثةُ أسابيع، كم مَرةٍ شعرتُ بالحنين، برغبةٍ شديدة بمعرفةِ ما يكتب سليمان، كم مرة شعرتُ بتأنيب الضمير تجاه شادي، والطريقة التي عاملتُه بها، كم تساءلتُ عن الأمر المهم الذي كان ينوي أن يُخبرني إياه! هل يُريد الارتباط بي مثلًا؟ أعلم أنه يهتم بي، أرى ذلك في كلماته، في لهفته بالإسراع إلى الحديث معي، في بريق عينَيه يوم التقينا، لكنني مع ذلك لا أعرف إن كنتُ أحبه حقًّا أم أحبُّ تعلُّقه بي، ولا أدري إن كنت حقًّا مستعدة للارتباط به. يا للضياع الذي يحيط بي كدوَّاماتٍ من الرياح العاتية لا أنجو من إحداها حتى تخطَفني الأخرى!

انتظرتُ أسابيع ثم حاولتُ التواصُل مع شادي فلم أفلح، لقد قالها لي مرة: «أنا حازم.» يومها ضحكنا، لم أكن أعلم أنه بهذه الحدة، أحيانًا يُراودني شعور أنه على حق، وأنني السبب في ذلك، وأحيانًا أمقُت تعلُّقي به، وأضع اللوم كله عليه؛ فهو لا يعرف كيف يتعامل مع قلب الأنثى، إن عليه أن يُناضل، أن ينتظر دهرًا إذا اقتضى الأمر، ثم أعود لأفكر: وهل كل الناس مثل جدو نور؟ أُحاول أن أقف مكانه، وأتلقَّى ما تلقَّاه مني، لقد آلمتُه حقًّا، هل يُعاقبني، أو يهربُ مني؟ لست أدري.

مضت الأيام والأسابيع والشهور وحسابه مغلق على «الفيسبوك»، وهو بالطبع لا يرى رسائلي. لقد كانت رسائله كلها مخزَّنة في صفحتي بعد عودتي إليها، كان يُرسل كل يوم رسالة أو اثنتَين، كتب لي في آخر رسالة: «خسارة، ظننتُ أني وجدتَ شريكة حياتي.» لقد كان ينوي الارتباط بي! لم أَدرِ بعدها ماذا حدث معه. ذهبتُ إلى المتحف أسأل عنه، لكن لم يعرف أحدٌ مكانه، أحدهم قال لي إنه سافر، لكنه لم يُقدِّم استقالته، ثم أُغلق المتحف بعدها نهائيًّا بسبب الحرب، وامتلأت البوابة المُزيَّنة بالتماثيل الحجرية بسواترَ رملية، وغرق المتحف في الظلام، ثم إنني لم أعُد أستطيع الذهاب هناك مجددًا؛ فالمنطقة كلها صارت خطرة.

في مساء أحد الأيام تحلَّقنا حول العَشاء نُشاهد التلفاز من كهرباء «الأمبير»، ظهر فاصلٌ إعلاني عن إقامة حفلة في دمشق يُحييها الفنان «السوبر ستار» رائد! يا للمفاجأة! إنه هنا في سورية وفي دمشق تحديدًا؟ هذا ما كان ينقصني. شَعرتُ بغصَّة في صدري وبصعوبةٍ كبيرة تمكَّنتُ من بلع اللقمة، وقمتُ إلى غرفتي. لا أدري بعدها ماذا أصابني، اجتاحَتْني رغبةٌ مُلِحَّة بالبكاء، لم أقاومها كثيرًا، خرجتُ إلى الشرفة وبكيتُ حتى لا أُثير استغراب أهلي، ماذا بي؟ هل هو الشوق للأيام الماضية؟ أيام الهناء قبل الحرب حين كان بيتنا عامرًا بنادر وسعيد وجدَّتي وكلنا معًا لا نعرف سوى المرح وهموم الدراسة البسيطة؟ أم هو فيض ذكرياتٍ لمشاعر حملتُها يومًا لذلك الشاب الذي كنتُ قد تناسيتُه تمامًا؟ أم هو القهرُ لما آل إليه حاله وما آلت إليه حالنا؟ لستُ أدري.

٨

توضَّأ أبو سعيد وصلَّى العصر، وبعد التسليمة الثانية تأمَّل قليلًا، ثم صلَّى مجددًا، لم يعرف ماذا عليه أن ينوي لهذه الصلاة، لكنه صلى وهذا هو المهم. جلس دقائقَ يستغفر ويُسبِّح على غير عادته ثم ارتدى ثيابه وخرج. لم يُخبر أحدًا أين ينوي الذهاب؛ فلم يكن يريد أن يشغل بال أحدٍ عليه، فيُلحُّوا عليه بالاتصال كل دقيقة، الأمر الذي يُزعجه كثيرًا، ثم إنهم لو عرفوا فلن يتركوه يذهب بسلام.

ركب سيارته وانطلَق مسرعًا، تجاوَزَ بضعة حواجز، ثم أكمل مُتوغلًا أكثر باتجاه حي بستان القصر، وشيئًا فشيئًا بدأ المشهد يتغير، عمارات بأكملها مُهدَّمة، وأخرى مُسْودَّة من آثار الاحتراق، ركام يملأ الشوارع وكأنك عبَرتَ حافة الموت إلى الجحيم. ركَن سيارته بعيدًا وأكمل رحلته سيرًا على الأقدام متناسيًا حاجة جسده للماء فقد كان صائمًا وكذلك الجميع. بدأَت الطرقاتُ تزدحم بالمارة، أناس قادمون، وآخرون مثله ذاهبون. كان يتفحَّص الوجوه بحثًا عن أجوبة لتساؤلاتٍ كثيرة، لكنه ما كان يلتقط شيئًا؛ فجميع المارَّة القادمون منهم والذاهبون لهم الملامح الجامدة نفسها؛ لا غضب، ولا خوف، ولا حزن، ولا فرح. وجوهٌ مطرقة متأملة، ونظراتٌ عابثة، وخطواتٌ مسرعة. حاول إيقاف أحدهم، شيخ يحمل عدة أكياسٍ ثقيلة يمشي ببطءٍ شديد، سأله: كيف الوضع؟ أجابه: «منيح منيح.» وتركه مسرعًا. لم يعُد يُريد أن يسأل أحدًا، فليعبُر وليكن ما يكون.

أمتارٌ قليلة تفصله عن «معبر كراج الحجز»، وقد ازداد الازدحام، وأخذ يسمع من بعيد أصوات إطلاق رصاص، أكمل سيره وانحشر بين الجموع. لاحت له الحافلتان الصفراء والحمراء المتوضِّعتان فوق بعضهما بطريقةٍ لطالما أعجزَتْه عن معرفة كيفية حدوثها، كان يرى هذا المشهد في الصور، والآن هو يُعاينه وجهًا لوجه. ركامٌ كثير، وسواترُ رملية متراكمة، سيارات الأجرة الصفراء أيضًا هنا في صفٍّ طويل في انتظار دورها للدخول من أجل تعبئة الوقود، وكذلك الحافلات الصغيرة البيضاء. الجو حارٌّ مع شمس تتجه غربًا فتفقأ أشعتها العيون. الناس هنا مُتجمِّعون على اختلافهم؛ رجال ونساء وأطفال، رأى طفلًا يجُرُّ شيخًا مقطوع الرجل على عربةِ نقلٍ حديدية، وامرأةً تحمل رضيعًا وتجُرُّ اثنَين بيدها، رأى الكثير والكثير، وكلهم يتدثَّرون بالصمت ويحترفون الانتظار.

اقترب أكثر فمدَّ عنقه متطاولًا ليرى، لكن الزحام حجَب عنه الرؤية، لاذ بالصبر حتى اقترب من المكان الضيق الذي من خلاله يعبُر الناس، خمسة أو ستة أشخاص يحملون البنادق على ظهورهم، والمسدَّسات على خواصرهم يتحكَّمون وحدهم في مصائر هؤلاء البشر! أي ظلم؟ ولماذا؟ لا يُوجد أي سبب، أي ذريعة يمكن أن تُقبل ليمنعَ ثلَّةٌ من المجرمين الغذاءَ عنا، واللبن عن الصغيرة فاطمة، تذكَّرها فاختنقَت العبرة في حلقه، قاومَها وأكمل سيره. وصل أمامهم مباشرة، سأله أحدهم: «إلى أين؟ ماذا لديك؟» ارتبك لحظة فلم يكن جاهزًا لهذا السؤال، وانعدمَت لديه القدرة على اختلاق جواب، أيكون السعي لشراء الخضار واللبن جريمة يجهد المرء في إخفائها، ويسقُط في رهبة الخوف لأنه ما من سببٍ آخر أخرجه غيرها؟ ربما ضاق ذاك المسلَّح من سكوته الطويل، فأومأ له برأسه فدخل.

مشى مع الناس أمتارًا ثم لاحت له من بعيدٍ لوحة كُتب عليها بخط اليد: انتبه قناص! كان قد سمع كثيرًا عن القنص الذي يحدث في هذه المنطقة، لكن هل يُعقل أن أموت هنا؟ ارتعد وابتسم سخريةً في اللحظة نفسها وأكمل سيره. بدأ الناس حوله يُسرعون خُطاهم، وأخذ آخرون يركضون، هكذا يتحايلون على الموت، ويُقلِّلون الفرصة على القنَّاصين في إصابتهم. راح أبو سعيد يفعل كما يفعلون: رجل قارب الستين من عمره يركض متوغلًا في المجهول. كان يلهث بشكلٍ متصل فهو لم يعتَدْ على السير مسرعًا فكيف بالركض؟ سبقَه كثيرون، وسبق كثيرًا ممن آثر المشي متجاهلًا كل التحذيرات والمخاوف، مراهنًا بحياته اليقينية في سبيل حياةٍ محتملة. تناهى له صوت صِبيةٍ يبكون، وامرأة تُطمئنهم: «لا تخف حبيبي الآن نصل، الآن نصل.» وهي تجرُّهم جرًّا، تساءل أبو سعيد في نفسه: أيهم أشد خوفًا هم أم هي؟ أم تراه هو؟

تجاوَزَ طريق الخطر أخيرًا وقد مالت الشمس أكثر نحو المغيب، هاتفه يرن في جيبه، لقد بدأَت حملة التفقُّد! لم يعبأ به فالوقتُ لم يكن لصالحه. انفتَح الحي أمامه على الباعة من مختلف البضائع، تجمَّعَت الغُصَص في حلقه وهو يرى كل شيء هنا بعد أن فقدوا كل شيء أكثر من شهر هناك، احتار من أين يبدأ، ثم عرف على الفور، فاتجه إلى بائع اللبن فابتاع سطلًا كبيرًا ناسيًا أن عليه أن يُخفِّف حمله ما أمكن لأنه سيحمل غيره الكثير، ثم أخذ ما قَدرَ على حمله من الخضار والفاكهة واللحم؛ فكل شيءٍ مُتوفِّر هنا وبأسعارٍ جيدة جدًّا.

أجاب على هاتفه، وطمأنَ أُسرته على قرب عودته من غير أن يُخبرهم عن مكانه، واتجه مسرعًا صوب المعبر. طريق العودة كان كطريق الذهاب، لكن مع كثير من التعب المتراكم بفعل الصيام واشتداد العطش والحمل الثقيل. العرق يُبلِّل ياقة قميصه، واليدان تقبضان بقوة على أملٍ محشور في أكياس. كلما خارت قُواه تذكَّر وجه الصغيرة حين سيتهلَّل ويُشرق لدى رؤيتها اللبن فيُسرع مجددًا.

قُبيل الحاجز سأله شاب بجواره: ماذا تحمل يا عمي؟

– أشياء للبيت.

– أعرف، أقصد ما هي بالتحديد؟

– خضار ولبن وكيلو لحمة.

– اللحم ممنوع، ألا تعرف؟ وكذلك السجائر وحليب الأطفال.

– نعم؟ ولماذا إن شاء الله؟

– لا أعرف، لكنه ممنوع، سيأخذونه إن رأوه، صدِّقني.

– وما الحل إذن؟

– خَبِّئه يا عمي. دعني أساعدك …

ركن أبو سعيد الأكياس أرضًا، والتقط كيس اللحم، فقام الشاب بطريقة، يبدو أنه استعملها كثيرًا، بشَقِّ أحد الأكياس طوليًّا، ثم قام بالضغط على كيس اللحم ليبدو مُبسَّطًا أكثر ما يمكن، وطلب من أبي سعيد أن يُفكِّك أزرار قميصه، فاستجاب الأخير له، وقام الشاب بمهارةٍ كبيرة بلف كيس اللحم حول جسد أبي سعيد، ثم أعاد تزرير قميصه. نظر إليه الشاب مبتسمًا وقال: «اللحم بأمان الآن بإذن الله.»

شكره أبو سعيد وقفل عائدًا إلى بيته.

٩

طوفان النجاحات المتتالية غمره نشوةً، الكاميرات التي تُلاحقه، والأيادي التي تمتد لمصافحته أو للمسه على الأقل، الفتيات الجميلات اللاتي ترتمين عليه مجازًا وحقيقةً، الأموال التي بدأَت تتراكم في أرصدته، السيارات الفاخرة والثياب الباهظة؛ كلها أمورٌ ما كان يجرؤ أن يحلُم بها، ها هي الآن تتحقق، وهو لا يزال تحت تأثير تخديرها.

لكنه اليوم بعد حفلة الأمس كان في مزاجٍ سيئ؛ فأخبار بلده تصلُه سرقةً من بعض معارفه الذين حوَّل أسماءهم في هاتفه المحمول لضروراتٍ تخصُّه وحده، حتى إنه لم يستقبل مدير أعماله (مسيو جوني) مع أنه أخبره أنه يحمل له عروضًا حصرية من كبرى شركات التسجيل والتوزيع الغنائي في العالم العربي. كان جالسًا على الشرفة يسحب نفسًا من سيكارته والأفكار تأخذه بعيدًا. تذكَّر أيامه الأولى في البرنامج، خوفه الشديد وخجله أمام اللجنة وارتباكه في حضورهم. تذكَّر الأغنية الأولى التي غنَّاها، والتي أهَّلَته للوقوف على عتبة تحقيق حلمه. تذكَّر فرحته في كل مرة يصعد سلَّم النجومية الباهر، وسلَّم القلق أيضًا، هل هذا ما أريده فعلًا؟ لقد حصلتُ على اللقب، فلماذا لا تزال تسكنني الغصة؟ لا لا، كان يريد أن يذهب بذاكرته أبعدَ من ذلك، إلى ما قبل البرنامج كله، قبل عامَين تقريبًا، إلى حياته البسيطة في منزل جدته لأبيه التي تكفَّلَت برعايته بعد وفاة أمه وسفر أبيه، إلى نزقه من المدرسة، والأعمال الكثيرة التي زاولها وهو لا يزال في الثالثة عشرة، حتى انخراطه في العمل مع صديق والده الذي أكرمه ووضع عليه آمالًا كبيرة في ازدهار أعمال المكتبة؛ فهو متحدثٌ لبق وذو وجهٍ وسيم وذوقٍ رفيع، فلا يخرج أحدٌ من عنده إلا وقد اشترى كتابًا على الأقل. تذكَّر الخيبة التي علَت وجه «معلمه» حين صارحَه برغبته في السفر ودخول البرنامج، الآن فقط بدأ يشعر بشيء من الأسف عليه، كيف تركتُه بعد أن عملتُ معه ثمانية أعوام؟ وبعد أن وثق بي وافتتح مكتبة وسلَّمها لي بالكامل لكنني خذلتُه؟ كم كانت أيامًا جميلة!

عاد إلى الداخل، أطفأ عقب سيكارته، وتناوَلَ هاتفه المحمول ليجد أكوامًا من الرسائل، أغلقه ورماه جانبًا، فتح جهازه اللوحي (الآي باد) ودخل إلى ملف الصور، وإلى ملف «صور قديمة» تحديدًا، وبدأ يبحث عن صور المكتبة التي عمل فيها (مكتبة النيل الجديد). شعر بحنينٍ مفاجئ إليها، راح يُقلِّب صورها ويتأمل تفاصيلها مبتسمًا، لماذا هذه الصور بالتحديد؟ أخذ يتأملها مليًّا، وبدأَت الذكريات تنسكب عليه كشلَّالٍ من المطر العذب اللطيف، ثم تذكر وجهها المستدير جيدًا، معطفها الكحلي وحجابها السماوي، وحدَها تميَّزَت عن الجميع، تذكَّر خفرها في حضوره، وارتباكها من ابتسامته، تذكَّر نبرة صوتها الناعمة، ونظراتها المختلسة إليه وهو يتظاهر عنها بالانشغال بأي شيء، ثم أغلق كل شيء، وفي عينَيه عزمٌ جديد.

١٠

أنا في فراغٍ كبير، أبكي لأي شيء، السقوط في العدم، هذه كانت حالتي، الخوف يلفُّني والشوق كذلك. كانت المشاعر تتأرجح بي بين ألم وقهر وندم ومحاولة للتجاهل، شعرتُ كأني أسقط في هُوَّةٍ سحيقة بلا نوافذ أو أنوار. أغرقتُ نفسي بالعمل، اشتغلتُ بالكروشيه كثيرًا، لم أتوقف أبدًا، حتى إن أمي عجبَت من نشاطي وهَوَسي به، كنتُ أُردِّد في العمل الواحد ذكرًا معينًا «الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله …» وأظل أُكرِّره مع كل غرزة أعملها، فقد سألَتْني مرَّةً سيدةٌ عجوز وأنا أُريها أحد أشغالي: «بأي ذكرٍ اشتغلتِ هذا العمل؟» لم أفهم قصدها، فشرحَت لي أن عليَّ أن أغزل نسيجي بالذكر حتى يظل مباركًا، وأن لكل ذكرٍ قوة، فهذا مشغول بالتسبيح، وذلك بالحمد أو التهليل أو التكبير، وأن عليَّ أن أختار بذكائي الذكر المناسب للشخص الذي أحيكُ له، وحين يرتدي ما اشتغلتُه له، فإن الذكر يلائمه تمامًا ويُحرِّره من همومه وأحزانه. أعجَبَتني فكرتها كثيرًا، ومن يومها وأنا لا أعمل أي غرزة من غير أن أذكر الله فيها.

عملتُ ستراتٍ وشالاتٍ بمختلف الألوان، اشتغلتُ جوارب وفساتين لأطفال لا أعرفهم، وبطانيات للمواليد، وربطات شعرٍ وميداليات وقُبعات، ثم جمعتُ كل شيء ووهبتُه لعائلات النازحين، وكأنما سكب ذلك عليَّ طاقةً عالية من الفرح الرفيع، رأيتُ وجوههم تتلألأ بالامتنان والسعادة.

ومضت أيامٌ وأسابيع وشهور، في تلك الفترة أدمنتُ على قراءة نصوص سليمان الملك التي كان ينشرها يوميًّا على صفحته، كنتُ أول المعجَبين بها والمعلِّقين عليها. وطالما أن اتصالي به لا يتجاوز تعليقاتٍ على «الفيسبوك» فلا بأس إذن، هكذا رحتُ أُبرِّر لنفسي. كانت نظرته للأمور مختلفة، عميقة وواقعية جدًّا، أعجبَني أسلوبه الساخر من بعض المواقف الاجتماعية، أَسرَتْني قدرتُه الهائلة على تطويع اللغة ومهارتُه العالية في صوغ الكلمات، وكأنها لغةٌ خاصة به وحده، والكلماتُ التي نستخدمها كلنا تنحاز له طواعية، وكأنه أخرجها للتوِّ من رَحِم اللغة الخِصب، إنه ملكٌ مثلما وصفتُه تمامًا.

إنه يُحبني لم يعُد هنالك من شك، لم يبقَ سوى أن يقولها صراحة، لكنه لا يفعل، يهرب، هذا ما يتقنه، الجميع يهربون مني، رائد وشادي، والآن سليمان، هل أُرعبهم؟ لماذا إذن دخلوا عالمي، وعكَّروا صفوه؟ كنتُ سعيدةً بحياتي، والآن ماذا؟ إنهم فعلوا ذلك طوعَ إرادتهم، شادي، أكاد أنسى ملامحه، ما تزال صفحتُه مغلَقة. والآن يُفاجئني حضور سليمان في تفاصيل حياتي، يصاحب لحظاتي اليومية، أرى غمَّازتَيه في خيالي فيُشرق كوني أملًا، وأمتلئ غبطة وخوفًا، عليه أن يفعل شيئًا، لكنه لا يفعل، هل هو خائف مثلي؟ من أي شيء يخاف؟ لكن هل حقًّا أريد الارتباط به؟ ليت ذلك يحدُث! هل سيُوافق أبي؟ إنه في عمره تقريبًا، لا يهم، سأسعى جاهدة لإقناعه؛ فأنا أُحبُّه، لكن الأسوأ لم يحدُث بعدُ.

أصواتٌ وجلبةٌ في الخارج، أنظر من النافذة فأرى تجمُّعًا، جرس الباب يرن، تُسرع فاطمة كعادتها لفتح الباب، تُناديها أمي: «لا تفتحي حتى تسألي من.» أسمع صوتها: «من؟ … نعم؟ من تريد؟ … من؟» أقوم مسرعةً إليها، أنظر من «العين الساحرة» فأرى رجلًا يرتدي نظاراتٍ شمسية لا أعرفه، «من؟ من تريد؟» أضع أُذني على الباب لأسمعه يقول: «هل هذا بيت سما صايغ؟» هل نطق اسمي للتو؟ الدهشة أربكَتْني، هُرِعتُ إلى أمي وأخبرتُها، جاءت أمي لتقول: نعم يا ابني.

– هل هذا بيت الصايغ؟

– نعم، من تريد؟

– خالتي، أنا رائد بدران أرغب في طلب يد سما صايغ للزواج!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤