الفصل الثامن

١

في غرفته جلس وحيدًا غريبًا جاثيًا على ركبتَيه، غارقًا في بحر من دموع وذكريات، وبين يديه طرحتها البيضاء المزيَّنة باللؤلؤ والخرز الأبيض، كان قد تفاجأ بها مُخبَّأةً بين ثيابه المطوية بعناية. مضى على وصوله سبعة أشهر ولم يقُم بعدُ بإفراغ حقائبه، يطيب له أن يتركها كما تركَتْها هي، مرتَّبة منظَّمة مُحتفِظة بلمساتها عليها، وبقايا ما علق فيها من عطرها. لم يشأ أن يُشوِّه هذا الجمال، راح يتأمَّل الحقيبة المفتوحة أمامه، هكذا فعلَت في حياتي، هكذا دخلت إلى عالمي فأكسبَتْه الترتيب والأناقة ولمسةً خاصة من سحر أنوثتها. لكن «يا فرحة ما تمت!» اعتصر الطرحة بين يدَيه، قرَّبها من وجهه، راح يستنشق بقايا روحها المسكوبة هنا وهناك وفي كل مكان.

بكى قلبه؛ فما عاد لعينَيه وسعٌ لبكاءٍ أو دموع. تذكَّر الليلة الأولى، خوفها وحياءها، ارتجاف يدَيها، رعشة شفتَيها المصبوغتَين بالأحمر الداكن، عينَيها المُسبلتَين وصوتها الناعم، يا لهذا الصوت الملائكي! تذكَّر نُزهتَهما الأولى مشيًا حول الفندق، وتسلُّلهما بين الأشجار ليلًا، رنَّ في أُذنَيه صوت ضحكتها حين حملَها وهي تشُد قبضتها على قميصه خشية أن تقع، كيف أُوقعُكِ يا حبيبة القلب كيف؟

خمسة أيام هي كل رصيده منها، امتلأَت جمالًا وحبًّا وسعادةً موقوتة بالفقد والفراق، غادرها والشوقُ يسبقه، سافَر وترك رُوحَه معلَّقة في الوطن بين يدَيها، وَيْلي من يدَيها الصغيرتَين وحبَّة الخال المختالة! كانتا في حضن يدَيه في آخر لحظة، همس لها: «سأراك قريبًا، أعدُكِ بذلك يا جميلتي.» غالبَت دموعها وابتسمَت. ما أتعسَني! لماذا لا أتمكَّن من تحقيق وعدي لها؟ هذه هي المرة الثانية التي أخذلُها! يا للظلم والقهر! متى أراكِ سلمى متى؟ لماذا كُتب على الحب أن يُكوى بالخوف؟ وكأنهما ولدا معًا؛ الحب والخوف. الحبُّ خوفٌ نِصفُه، ونصفُه اشتياق.

قام بطيِّ الطرحة بحذر، وأعادها إلى الحقيبة، وأغلَقَها على خوفٍ وأمنياتٍ وصرخةٍ مكتومة ويأسٍ مَقيت. وفي غرفته جلس وحيدًا غريبًا جاثيًا على ركبتَيه، غارقًا في بحر من دموع وذكريات.

٢

– ستعطيكِ أمي بعض الأوراق لتجلبيها لي معك.

– على عيني، لكن أريد أُجرتي سلفًا.

– أنا جاهز، أقصد «نحن» جاهزون.

– ههههه، هل ما زلتَ تذكُر؟

– طبعًا وما زلتُ إلى الآن لا أعرف لماذا كنتِ تخاطبيني بضمير الجمع؟ أظن أن ضمير الجمع يتوافق مع مكانتي العالية وقَدْري الرفيع!

– لا تشطح كثيرًا بخيالك، إنما كنتُ أفعل ذلك استجابةً لرغبةٍ داخلية عندي في إبقاء العلاقة بيننا أكثر رسمية.

– آها، يا للرسمية التي غدَوْنا عليها الآن!

– سبحان الله! من كان يدري؟

– حسنًا، المهم اطلبي وتمنَّي.

– هل أنت واثق؟ أطلب ما أشاء؟ عليَّ إذن أن أتريَّث و«أتدلَّل» قَدْر ما أستطيع.

– أكيد، لكِ ذلك.

– هل توافق هكذا «على بياض» من غير أن تعرف طلبي؟

– وماذا أستطيع غير الرضى والموافقة؟

– ألا تخشى أن تصيبني كلماتُكَ بالغرور؟

– «تِهْ دلالًا فأنت أهلٌ لذاكا …»

– ههههه غلبتَني. أُراهن أنك تبتسم الآن، هل أنا مُحقَّة؟ أراكَ مبتسمًا مسترخيًا.

– نعم، والذهن يذهب شرقًا وغربًا يحاول تصوُّر ما تريدين.

– ماذا تُريدني أن أريد؟ فلا أريد إلا ما تريد!

– وماذا تُريدين أن أريد؟

– ههههه. لا تسرق كلماتي.

– بل أفكاركِ، أُفكِّر بطريقتك.

– عليك حد السارق إذن، عليك أن تمثُل أمام العدالة.

– «يا أعدل الناس إلا في معاملتي، فيكَ الخصامُ وأنت الخصم والحكمُ!»

– ههههه. عليكَ حدٌّ وسداد أُجرة. أعانك الله.

– ولا بأس أمام الرضى.

– البارحة ليلًا حدثتُكَ ساعة.

– وكيف كان ذلك؟

– أمام شبَّاكي، هل سمعتَ الكلماتِ أم طارت بها الرياح؟

– وكيف كانت كلماتُكِ؟

– إيه، كثيرة، لطالما فعلتُ ذلك، أنظُر باتجاه الجنوب، وأرقُب القمر، وأتحدَّث بقلبي بلا صوت، أتحدَّث وأتحدَّث ثم أختم ﺑ «تصبح على خير.»

– يا له من موقفٍ روحاني عظيم، وكم أنتِ عميقة الروح والوجدان!

– شكرًا.

– سأخلُد إلى النوم الآن، سأضع رأسي على ركبتَيكِ وأغفو.

– نَمْ مطمئنًّا في روحي وفي أمان الله.

٣

«الحي السياسي»، قالت لسائق سيارة الأُجرة فانطلَق بها، راحت تُفكِّر: كم مرَّ عليَّ من الوقت منذ آخر مرة رأيتُه؟ عام؟ أو أقل؟ ماذا سأقول له حين يراني؟ هل ستجري الأمور على خير؟ ماذا سيحدُث في الدقائق القليلة القادمة؟ اضطربَت السيارة وهي تمرُّ على بعض المطبَّات والحُفر، فانشغلَتْ بذلك قليلًا عن قلقها. نظَرتْ من النافذة، شوارع وأبنية باتت تألفها قليلًا، الناس في الشوارع بخدودٍ منتفخة بالقات،١ وعيونٍ ساهمة، الأطفال يركضون وبعضهم بأرجلٍ حافية، على الأرصفة رجالٌ يأكلون، ونساءٌ تبيع أو تشحذ.

«من هنا يبدأ الحي السياسي، أين تُريدين؟» جاءها صوت السائق، لكن الحي كبير، تتذكَّر أنه أخبرها مرة بوجود فرن للخبز بجوار بيته، قالت: خذني إلى فرن الخبز.

– يُوجد ستة أو سبعة أفران في هذا الحي، أي واحدٍ تبغين؟

– خُذني إلى أقربها.

نزلَت مع تباشير يأسٍ بدأَت تتسلَّل إلى روحها، ذهبَت إلى أول فرنٍ صادفَتْه، وراحت تسأل عنه لكن لا أحد يعرفه، انتقلَت إلى الآخَر مشيًا، فالثالث والرابع، سلخَت ساعاتٍ تمشي تحت الشمس، دخلَت حاراتٍ ومشت في أزقَّة، راقبَتْها بعض الأعين المُتطفِّلة، ولحق بها أطفالٌ وجدوها غريبة. وأخيرًا تملَّكَها اليأس من كل جانب، وعبثَت بها خيبة الأمل، استدارت ومشت إلى الشارع الرئيسي لتُوقِف سيارةَ أُجرة وتعود.

قبل أن تركب شعَرتْ بأحدٍ يشدُّها من كُمِّها، استدارت فرأت طفلًا مُتسولًا قال لها: «أنا أعرف الدكتور السوري فهو دائما يعطيني مالًا.» ابتسمَت لطيبة هذا الولد، ناولَتْه ما وجدَتْه في محفظتها من نقودٍ معدنية، ربَّتتْ على كتفه وقالت: إنه ليس دكتورًا، لكن شكرًا لك.

– هو دكتور، كل الناس تقول له دكتور، هو الدكتور السوري.

– طيب، كيف هو شكله؟

– «حليوة» هذا الدكتور، أنتم السوريون حلوين.

– شكرًا لك.

– تعالي أدلك أين يسكن.

وبدافع التعلُّق بقَشَّة انطلقَت خلفه، لعله يكون مُحقًّا! فأخذها إلى شارعٍ فرعي فيه أشجارٌ كبيرة وعماراتٌ من طابقَين مكسوة بحجرٍ أحمر وترابي على طريقتهم التقليدية في تزيين واجهات العمارات، قال لها الصبي: هذه حارتُه. لكنه لا يعرف أين يسكن تحديدًا، وتركها وركض. هناك ثلاث عمارات من الطرف الأيمن على امتداد الشارع، وعلى الطرف الأيسر أرضٌ خالية، وفي كل طابق شقَّتان أو أكثر. هكذا أخذَت تُحدِّث نفسها من خلال ملاحظتها للنوافذ على كل جهة، نوافذ عريضة مقسَّمة تعلوها القَمَريَّات ذات الزخارف والزجاج الملون. وقفَت تُحاول أن تتذكَّر ما قاله لها عن إطلالة البيت؛ فقد أخبرها مرةً أنه يرى الجبال من شبَّاك المطبخ، نظرتْ حولها، لا تكاد ترى الجبال فالعمارات تَسُد عليها الرؤية. دارت حول العمارات تبحث عن عمارة تقع مطابخها على إطلالةٍ مفتوحة، فوقع حَدْسها على العمارة الثالثة الأبعد، لكنها من طابقَين، ومع إلغاء الطابق الأرضي لأنه لا يمكن رؤية الجبال من نوافذه، تكون قد حصَرتْ بحثها في طابقَين.

هبَّت نسمةُ هواءٍ باردة، فملأت رئتَيها، واتَّقد أملها، اتجهَت صوب باب العمارة لتدخل، فوجدَتْه مغلقًا، يُوجد «إنترفون» بجانب الباب، ضغطَت على الأزرار العليا، لا أحد يجيب؛ فالوقت قُبيل صلاة الجمعة. دقَّت الأزرار كلها مرةً أخرى، فأتاها صوتُ امرأة تصرخ وتسب، ثم أجابها صوتُ طفل لم تفهم كلامه. ضحكَت في سرِّها، وتذكَّرت رحلتها الفاشلة في البحث عن رائد، كان ذلك منذ زمانٍ مضى!

التفتَت عائدة، نزلت درجة، فدرجتَين، «مين؟» أتاها صوتٌ يسأل، تسارَعَ نبض قلبها، هل يكون هو؟ «مين؟» بإلحاح أكثر هذه المرة: «آلو … مين؟» عادت إلى الإنترفون، تعلَّقَت بصوت وكلمات؛ فهي طاقة نجاتها الوحيدة من فشلٍ مُركَّب في هذه اللحظة، ابتَلعَت ريقها وقالت: «نعم.» أتاها الصوت نفسه: «من تبغين؟» وزال الشك دفعةً واحدة، ورقصَت حبَّات القلب طربًا، وزغردَت الروح بفرحة النجاح، هذا صوته! أم هكذا خَيَّل إليها أملُها؟ كلا، لن تقول له من تكون، افتعلَت لهجةً يمنية وقالت: «إحنا البقالة، جبنا لك الغاز، ممكن تفتح لنا الباب؟» فأجاب: «لكن أنا ما طلبت الغاز.» قالت مستجيبة لغريزتها العَفْوية: «افتح لنا يا أستاذ، يمكن هذا جارك. الغاز ثقيل الله يرحم والديك.»

وانفتح الباب، وتنفَّسَت الصُّعَداء أخيرًا، درجات فقط تفصلها عنه، شكَرت الله أنه لم ينزل بعدُ إلى الصلاة، قادتها الفرحة بخطواتٍ عجلة ومضطربة، كادت تُوقعها أرضًا، وشيءٌ من قلق يشتعل ببطء في قلبها، هل يكون الوهم قد خيَّل لي صوته؟ وهل أراه حقًّا؟ صعِدَت إلى الطابق الأول، فوجدَت شقَّتَين، شقَّة أمام بابها كَومةٌ من أحذية وصنادل، ليست هذه بالتأكيد، والأخرى بابها مفتوح إلى الداخل ولا أحد فيها. صعِدَت إلى الطابق الثاني، حيث وجدَت شَقَّتَين أيضًا، إحداهما لا شيء أمام بابها، والأخرى أمامها قارورةُ ماءٍ كبيرة، أيهما تكون؟ وقفَت تُفكِّر لثوانٍ وهي تلتقط أنفاسها، وصدرها يعلو ويهبط في سرعةٍ كبيرة مستجيبًا لخفقات قلبٍ لاهثة ورئتَين تطلبان الأكسجين. نظرتْ إلى البابَين مرةً أخرى، يبدو أن الباب الثاني قد نُظِّف في وقتٍ قريب، لعله يكون هنا! رفعَت يدها إلى زر الجرس، لا لا، ليس الجرس، إنه مزعج، حسنًا، وضعَت قبضةَ يدها على الباب لتطرقه، ثم أرخَتْها، ماذا لو فتح لي شخص غيره؟ لكن لا بدَّ أن يكون هنا؛ فهذا هو الطابق الأخير، وفوقنا السطح فقط. عادت إليها الشجاعة، مدَّت يدها مرةً أخرى، طرقَت طرقاتٍ خفيفة، كل طرقة كانت تنزل على قلبها رهبة وولعًا وترقبًا، لا أحد يجيب، حسنًا، لمَ لا أنتظره حتى يخرج؟ اقتنعَت بالفكرة، وبدأَت تنزل الدَّرَج، وحين وصلَت إلى الطابق الأرضي توقفَت فجأة، استدارت، صَعِدَت الدرَج ركضًا، ومن غير تردُّد ضغطَت زر الجرس مرتَين، وقفَت تلهث، ثوانٍ وسَمِعَت صوت خطواتٍ قرب الباب، أنفاسها تتسارع، صوت مفاتيح، أحدها يدخل القفل، طق، طق، وانفتح الباب.

يا إلهي إنه هو! هو نفسه شادي، شادي العزيز، فتح فمه دهشةً، وجدَها تلهثُ مبتسمةً متأثرة ووجهها محمرٌّ. وقفا يتأمل أحدهما الآخر، فتح فمه ليقول شيئًا، أغلقَه، أعاد تثبيت النظارة على عينَيه، شعر بقطراتٍ من العرق البارد تغزو جبهته، يده الأخرى على مقبض الباب، ماذا؟ وكيف؟ غطَّت وجهها بيدَيها، وبدأَت بالبكاء، وكادت تقع أرضًا، أسندَها وأدخلَها البيت: «مجنونة، مجنونة.»

١  القات نبات تُشتهَر اليمن بزراعته، ويقوم الناس بتخزين أوراقه في أفواههم، واستخلاص عُصارتها فيستمتعون بتأثيرها في مزاجهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤