مقدمة

بقلم  إبراهيم المازني

أترى يرضى كل امرئ عن نفسه.. أحسب أن الجواب نعم، وقد يتمنى ما أوتي سواء من جاه أو مال أو فصاحة أو غير ذلك، ولكنه لا يقبل أن يغير شخصيته، وأن يستبدل بها سواها. ولعل العادة هي السبب، فإن المرء يألف نفسه كما لا يألف شيئاً غيرها. والذين قرأوا «جبل الهموم» لأديسون الكاتب الإنجليزي المشهور — أم ترى القصة لغيره وأنا ناس — يذكرون أن الكاتب تصور أن الله أذن مرة للناس في إلقاء ما لا يرضون عنه من خلقهم، فراح كل واحد يلقي ما كره، فهذا يرمي أنفه، وذلك يقذف بأذنيه، وثالث يخلع ساقيه إلخ إلخ حتى عظم الجبل، ثم أمره الله أن يختار كل منهم بديلاً مما ألقي. ففعلوا، ولكنهم نظرواً بعد ذلك في مراياهم فسخطوا وتذمروا وتوسلوا إلى الله أن يسمح لهم بأن يستردوا ما ألقوا — ولا أعرف أصدق من هذا التصوير لرضى كل امرئ عن نفسه.

وسؤال آخر يخطر لي «أترى مع ذلك يعرف المرء عيوبه أم تخفى عليه» والجواب أني لا ادري، والأرجح أن الإنسان يفطن إلى عيوبه، وإن كانت الفطنة لا تمنع أن يغالط نفسه فيها. وآية هذه الفطنة ما نرى من سعي كل امرئ لتعويض ما يحسه من نقص أو ضعف. على أن الذي أدريه أني أنا لا تخفى عليّ عيوبي، وأني لأعرفها جميعاً وأنكرها وأشمئز منها وأنا راض بما قسم لي الله، ولكني لا أراني أستطيع أن أغضي عما أعرف من عيوبي ونقائصي. وقد سمعت صوتي مرة فاستقبحته، وكانت محطة الإذاعة قد طلبت مني كلمة لمناسبة احتفال نسيت بأي شيء كان. فاعتذرت بأني سأكون مشغولاً في وقت الاحتفال، فاقترحوا أن يسجلوا الكلمة على شريط كهربائي، فقبلت. واتفق أن فرغت من الشأن الذي كان يشغلني قبل الوقت المقدور، فعدت إلى البيت وفتحت المذياع، فسمعت كلمتي، فنظرت إلى زوجتي وقلت «هل تعرفين هذا الصوت» قالت وهي تحسبني أمزح «أولا تعرف صوتك» قلت «أعوذ بالله يا امرأة … أعرف أن صوتي منكر ولكن لا إلى هذا الحد.. يا حفيظ.. ولكن قولي جادة، أهذا هو الصوت الذي تسمعينه منى؟» قالت «لا شك..» قلت «ولكنه في أذني غير ذلك حين أتكلم.. فإذا كان هذا الصوت الذي أسمعه الآن هو صوتي المألوف فإن البكم يكون والله خيراً».

وأرى وجهي أحياناً في المرآة فأنكره — وأمط له بوزي أيضاً — وأنا أعلم أن الجمال لا يطلب في الرجل، ولكن مثل هذا الوجه لا يليق أن يحمله إنسان. ولو كنت أقول الشعر الآن لقلت فيه مثل ما قال الحطيئه في وجهه، بل لقد قلت في وجهي قديماً شعراً أذكر منه مطلعه:

«أنظر إلى وجهي هذا اللعين
وأحمد على وجهك رب الفنون»

إلخ …

وما أصبحت يوماً على وجهي إلا لقيت ما أكره، ولهذا أتحرى أن أرى أي وجه آخر قبل أن تطالعني هذه السحنة.. وأراني أقتصد في ذم الوجوه الدميمة لفرط شعوري بما «حباني» الله إن صح التعبير بهذا اللفظ. وما وقفت أمام المرآة — لا جزى الله خيراً من اخترعها — إلا ذكرت قول ابن الرومي:

«أقصر وعرج
وثقل في واحد»

وأعتقد أن في رواية البيت خطأ، ولكن هذا هو المعنى العام ولا وقت عندي للمراجعة.

ومن المصائب أن ما كان خليقاً أن يعد من محاسني ومزاياي هو الذي أقعدني عن الغايات، فإن فيّ حياء شديداً سببه دقة الشعور بالذات، ومن متناقضاتي أني على حيائي أراني في كثير من الأحيان ثقيل الصراحة وهذه الصراحة مرجعها إلى البلاهة — ولا أدري ماذا غيرها — فإني أقول الشيء فأحسبه لا يسوء إنساناً لأن مثله لو قيل لي لما حفلته، وإذا بالدنيا تقوم ولا تقعد وأنا مذهول لا أفهم سبب هذه الثورة، وهذه إما أن تكون بلاهة وإما أن تكون غباء أو شيئاً يجري هذا المجرى.

ويطيب لي أن أجالس الفقراء والعامة والأميين وأشباههم، ولا يطيب لي أبداً أن أجالس الأغنياء والأعيان والكبراء أو من يعدهم الناس كبراء، ولاسيما إذا كانوا من ذوي الألقاب فما أعرفني أكره شيئاً مثل كراهتي للألقاب، وهي عندي تفقد المرء شخصيته، فيصبح «سعادة الباشا أو البك» بعد أن كان محمداً أو علياً أي شخصاً متميزاً باسمه الخاص الذي لا يشاركه فيه مشارك، ويصبح واحداً من جماعة بعد أن كان إنساناً قائماً بذاته، وتخاطبه فتقول له «يا باشا» وتهمل اسمه، والغريب أن البعض يسره أن يكون باشا أو بك بغير اسم..

وفي الهند طائفة يحقرها بعض الهندوكيين ويعدونها من المنبوذين وأنا لا أحتقر أحداً، ولكن ذوي الألقاب عندي منبوذون — أعني أني أنفر منهم وأكره مجالسهم وأتقي مخالطتهم وأوثر عليهم البسطاء الفقراء بل حتى الجهلاء والأميين، وأرى لي عطفاً عليهم وحباً لهم وفهماً وإدراكاً لأساليب تفكيرهم وسروراً بحديثهم، وإن كان كله تخليطاً.

وقلما أطيق المحافل والاجتماعات الكبيرة التي يكثر فيها الناس، والعزلة والاستفراد أحب إليّ فإذا كان لابد من الناس فيكونوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر على شرط أن يكونوا ممن ألفتهم وإلا شعرت أن على عنقي حبلاً يأخذ بمخنقي. وأنا ثرثار ولكني أمام من لا أعرف طويل الصمت نزر الكلام، ولهذا أفر من معرفة الناس لأني أحب أن أثرثر، واغتبط بأن أرى نفسي مرسلة على سجيتها، ولكني لا أستطيع ذلك مع إنسان أنا به حديث العهد.

وأحسبني من أسوأ الناس ظناً بالناس، وقد تعبت في رياضة نفسي على حسن الظن فلم أفلح، ولهذا لا يخيب لي فيهم أمل. على أن هذا لا يثيرني عليهم لأني لا أزال أسأل نفسي «هل أنت خير منهم» ولا أجد إلا جواباً واحداً هو «لا» بالثلث. ومن طول ما اعتدت محاسبة النفس صرت عظيم التسامح، ومن طول ما وطنت النفس على معاناة الشر والأذى والمتعبات والمنغصات صرت لا يروعني حادث مهما جل. والذين يعرفونني يظنون هذا جلداً ولكنه ليس من الجلد في شيء، وإنما هو ثمرة ما تقرر في نفسي من سوء الظن بالدنيا والناس.

وأنا في العادة أوثر الاحتشام أمام الناس، ولكني حين أكون بين أخواني وخلصائي أطلق لنفسي العنان ولا أبالي ما أقول أو أفعل مادمت أريد أن أقوله أو أفعله ولو وسعني أن أملأ الدنيا سروراً واغتباطا لفعلت، فإني عظيم الرثاء للخلق، وأحسب أن هذا تعليل ميلي للفكاهة، فإني أتسلى بها وأنشد أن أدخل السرور على قلوب الناس لاعتقادي أن عند كل منهم ما يكفيه من دواعي الأسى. ومادام في الوسع أن نعرض عليهم الناحية المشرقة الضاحكة فلماذا نغمهم ونحزنهم.. ثم إن للفكاهة مزية أخرى هي أنها من أقوى ما أعان على احتمال الحياة ومعناة تكاليفها والنهوض بأعبائها الثقال، فهي ليست هزلاً ولا تسلية فارغة، وإنما هي تربية للنفس. والرجل الذي يلقى الحياة بابتسامة المدرك الفاهم — لا الأبله الغافل — خير وأصلح ألف مرة من الذي لا يزال يدير عينيه في جوانبها الحالكة ويندب ويبكي ويعول. ولو نفع السخط والغضب والبكاء لقلنا حسن فلماذا لا ننظر إلى الجانب الوضاء.. أو لماذا نعمى عنه وهو موجود.. أي لماذا نفقد القدرة على الاحتفاظ بالاتزان أو صحة الوزن للأمور؟

لو كان إنسان يستطيع أن يعرف نفسه معرفتها، لكنت أنا خليقاً بذلك، فما أنفك أدير عيني فيها وأحاول أن أغوص إلى أعماقها. ولكنه مطلب عسير، وأعترف أني كثيراً ما أفاجأ من نفسي بألغاز تحيرني وتهدم كل ما بنيته من الآراء والنظريات، ومع كثرة الإخفاق وتواليه لا أزال أعتقد أن كل إنسان صورة من غيره، فمن عرف نفسه، فقد عرف الناس جميعاً. ولكنه مثال بعيد كما قلت، غير أن مطلبه على بعده جميل فاتن، وقد صار هذا نهجي في الوصول إلى المعرفة، وهو ليس بأشق ولا بأيسر وأسهل من نهج سواي. ولكل امرئ سبيله، وإذا كانت سبيلي تنأى بي عن الناس، فإنهم معي وفي قلبي، ألم يقل الشاعر:

«وفيك انطوى العالم الأكبر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤