الفصل الرابع عشر

النحو

النحو، علم لا أعرف منه إلا اسمه، وما أكثر ما أجهل وأضأل ما أعرف ولو كنت وجدت من يعلمنيه لتعلمت وما قصرت، وكيف بالله تنتظر مني أن أعرفه بالفطرة والإلهام..؟

كان أول من قيل لنا أنه معلم نحو رجلاً قاسيا سيء الطباع سريع البادرة، وكانت له عصى قصيرة من الخيزران يدسها في كمه حتى إذا أمن أن يراه الناظر أخرجها وسلطها عل أجسامنا الصغيرة وأهوى بها على أيدينا، وجنوبنا، ورؤوسنا فلا يتركنا إلا بعد أن ينقطع نشيجنا وتخفت أصواتنا وتذهب عنا القدرة على الصراخ والاستنجاد فلم يكن أبغض إلينا من درسه.

ومن المضحك أن ذلك لم يكن يخيفا منه أو يزيدنا إلا إلحاحاً في معابثته، وكنت أنا أثقل التلاميذ عليه وأبغضهم إليه، لأني كنت — وأحسب أني مازلت — شيئاً صغيراً جداً وخفيفاً مستدقاً لا أستقر في مكان ولا أزال أنط من هنا إلى هنا ولا يكف لساني عن الدوران. فكان نصيبي من هذه العلقات النصيب الأوفر وحظي هو الأجزل.

وكان الناظر فيه سذاجة عجيبة لم تفتنا نحن الأطفال، وكيف كان يمكن أن يفوتنا التفطن إلى سذاجته ونحن مئات من الأطفال لنا مئات من العيون نفحصه بها، ومئات أخرى من الآذان والرؤوس تسمعه وتتدبر أمره وتجسه وتختبره.. فكنت أذهب إليه وأقول له على سبيل الملق والدهان «يا سعادة البك».

فيلتفت بوجهه الكبير إلي ويقبل علي بابتسامته البلهاء فقد كانت الرتبة جديدة وفرحه بها عظيماً. ويسألني «مالك يا إمن (بالميم فقد كان أخنف) عبد القادر».

فأقول له «يا سعاد البك الشيخ فلان يا سعادة البك معه عصى يخفيها في كم القفطان ويضربنا بها يا سعادة البك».

وكنت صادقاً ولكنه لم يكن يعرف أني صادق غير أنه كان يسمع «سعادة البك» تصافح أذنه مرات عديدة في نصف دقيقة فيطرب ويصرفه الطرب عن التثبت فيقول لي — متأمراً معي — «طيب. رح إنت إلى الفصل وعاكسه».

أي والله كان يحرضني على معاكسة الشيخ المسكين ليضبطه — كما يقال — متلبساً بالجريمة. أو كان يكتفي بأن يأمرني بالعودة إلى الفصل.

ثم يدخل هو ويفاجئ الشيخ بانتزاع العصى من كمه ويوبخه أمامنا — وينصرف. فتصيح أربعون حنجرة جديدة «هيه»! فيكاد الشيخ يجن وينهال علينا ضرباً باليدين والرجلين، فتنكشف سراويلاته، فيعلو الصياح من جديد! ولكنه يكون قد تعب وأضناه الجهد وبهر أنفاسه العدو وراءنا فيقف وهو ينهج ويخرج المنديل من جيب القفطان ويمسح به العرق المتصبب ونحن جميعاً نتكلم وليس بيننا واحد يصغي إلى ما يقال.

هذا كان أستاذنا في النحو. ولو أنه كان موفقاً في التعليم لكان الناظر وحده كفيلاً بإفساد الأمر عليه. فقد كان يتظاهر بالعلم بكل شيء وهو لا يعرف شيئاً. فإذا تورط ولم يسعه إلا الاعتراف بجهله.

قال: «جاهل جاهل. لكن إداري تمام».

ومن طريف ما أذكره من نوادره أنه دخل علينا في درس ترجمة وكان المعلم غائباً.ولم يكن هو يعرف ذلك وإن كان فيما يزعم إدارياً حاذقاً. ولكن سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له أن هذه الفرقة ليس فيها معلم فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه وبطوله وعرضه وسألنا: «ما لكم يا أولاد؟»

قلنا: «يا سعادة البك المعلم غائب».

قال: «الدرس إيه».

قلنا: «ترجمة يا سعادة البك».

فانشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل يسمع منا ما يسره!

فقال: «طيب وإيه يعني؟»

فقلنا: «يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك».

فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا؟

فقلنا له أنه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكنا لم نفهم منه.

فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه لوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم التلاميذ. وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئاً.

ثم قال: «إن المسألة بسيطة، وأن النفي سهل جداً، وأن أدواته في اللغة معروفة وهي «لا ولم ولن إلخ إلخ» والأمثلة سهلة ومعروفة».

وشرع يسوق الأمثلة، فلما بلغ (لم) قال: «مثلاً: لم كتب، لم ضرب. لم ذهب»!

فانفجرنا ضاحكين. وكان لنا العذر. وكيف لا نضحك من «لم كتب ولم ضرب»..!

فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا: «تضحكون.. ابكون.. ابكون..».

فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل!

هذا في التعليم الابتدائي. أما في التعليم الثانوي فقد كان أول معلم لي فيه مصاباً بالربو، فكان لا ينفك يسعل ويتفل حتى توجعنا بطوننا، ولهذا كنا ننام في درسه أو نهرب منه اتقاء لوجع البطن!

ثم صار لنا معلماً آخر وكان سياسياً ولكنه كان في هذا نسيج وحده فكان يغلق النوافذ ليأمن أن يسمع أحد ما ينوي أن يقول — أعني ما ينوي أن يفضي إلينا به من الأسرار.

ثم يشرع في الحديث فيصف لنا كيف كان الحكم المصري على عهد الخديو إسماعيل ظالماً، فنجادله، وينقضي الدرس كله في هذا الجدل العجيب.

ولست أدري لماذا كان يجشم نفسه إغلاق النوافذ. ولو أن الناظر الإنجليزي سمعه لكان حقيقاً أن يسر لا أن يغضب ولكني أحسبه كان يفعل ذلك ليكون تأثير كلامه في نفوسنا أبلغ والعجب بعد ذلك أن تلاميذه كلهم صاروا وطنيين متطرفين في وطنيتهم لا خونة لبلادهم كما كان يشتهي هو أن يكونوا.

فممن كنت أتعلم النحو بالله وما الذي كان يمكن أن يغريني أن أتعلمه وحدي. ثم ما فائدة هذا النحو الذي أتعلمه ولم أحتج إليه.

وعسى من يسأل «وكيف كنت تصنع في الامتحانات»؟

فأقول أني كنت أقرأ ورقة الأسئلة وأترك النحو إلى آخر الوقت ثم أتناوله وأروح أجمع طائفة من الأمثلة أستخلص منها القاعدة فأجعل هذا جوابي. ولا شك أنه كان لا يخلو من نقص ولكنه لم يكن خطأ كله.

هذه كانت طريقتي وقد استغنيت بها عن حفظ ما في كتب النحو. وأراني الآن أصبحت كاتباً — وقد كنت في زماني شاعراً كذلك — وقد وسعني هذا وذاك بغير معونة من النحو. بل من غير أن أتعلم العروض.

وأذكر أني وأنا في مدرسة المعلمين العليا كان الشيخ حمزة فتح الله هو الذي يتولى امتحاننا في اللغة العربية — على الأقل في إحدى السنين — وكان من أعضاء اللجنة التي هو رئيسها الشيخ عبد العزيز شاويش وفتح الله بركات بك وأستاذنا في المدرسة وكنا ندخل على اللجنة واحداً واحداً كما هي العادة فأخبرني الذين سبقوني على أداء الامتحان أن الشيخ حمزة عليه رحمة الله يفتح كتاب النحو والصرف ويأمر الطالب أن يسمعه الباب الفلاني وكانت هذه مبالغة ولكنا صدقناها فأيقنت أني مخفق ووطنت نفسي على معركة. وجاء دوري فدخلت فناولني مقدمة ابن خلدون وقال افتحها في موضع واقرأ ففعلت فأمرني أن أضع الكتاب وشرع يسألني عن كلمة «العدوان» ما فعلها الثلاثي ولماذا يقال «اعتديا» — بفتح الدال للماضي — واعتديا بكسرها للأمر.

فلم أعرف لهذا جواباً فقلت «هكذا نطق العرب وعنهم أخذنا». فألح في طلب الجواب المرضي.

فقلت: «إن اللغة نشأت قبل القواعد. وأنا أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدة أو حكماً».

فساءه جوابي ونهرني وخشي الشيخ شاويش العاقبة فقال له «يا مولانا. العصر وجب» فنهض الشيخ حمزة لصلاة العصر وتركني لزملائه فأسرعوا في امتحاني قبل أن يفرغ الشيخ ويعود.

وأحسب أن ما وسع العرب الأولين من معرفة العربية بلا نحو لا يعجز عنه أبناء هذا الزمان.

ومن الميسور فيما أعتقد أن تحل قراءة الأدب العربي محل النحو.

وليس يعجز رجال العربية عن وضع مختارات صالحة لكل سن.

وإذا كان لابد من النحو فليكن ذلك عرضاً وأثناء القراءة وعلى سبيل الشرح وللاستعانة به على الفهم. وعلى ألا يكون ذلك درساً مستقلاً يؤدى فيه امتحان.

أما الطريقة التي يتعلم بها أبناؤنا العربية فإني أراها مقلوبة لأنها تبدأ بما يجب الانتهاء إليه ومن ذا الذي يتصور أن صبياً صغيراً يستطيع ان يفهم ما الفعل وما الاسم وما الحرف وإن هذا يكون حكمه كيت وكيت وذاك يجري عليه كذا وكذا وأن هذه الفتحات والضمات والكسرات علامات إعراب أو لا أدري ماذا هي، وأن لفظاً يكون مسنداً ولفظاً آخر يكون مسنداً إليه إلى آخر هذه الألغاز التي لا يعقل أني يدركها طفل صغير، بل غني أنا الكبير أردت منذ أيام أن أراجع شيئاً فى النحو ففتحت كتاباً وقرأت فيه شيئاً ثم وضعته يائساً من الفهم ولجأت إلى وسيلة أخرى كانت أجدى عليّ من هذا الكلام الذي أراه لا يفهم وذلك أني كتبت الوجهين اللذين حرت بينهما واختلط عليّ الأمر فيهما فلم أعد أدري أيهما الصواب وأيهما الخطأ ثم ذهبت أنظر إليهم فالذي سكنت إليه نفسي أخذت به وتبينت بعد ذلك أن ما أخذت به كان هو الصحيح وأن عيني لم تخدعني وأن نفسي إنما اطمأنت إلى ما طال عهدها به من الصواب أما ما لم تألفه أثناء مطالعتي فقد رفضته.

والطريقة التي أشير بها تجعل العربية سليقة على خلاف ما هو حاصل الآن فإن أبناءنا يتعلمون العربية كما يتعلمون الإنجليزية أو أية لغة أجنبية أخرى لا يشعرون بصلة بينها وبين نفوسهم وكثيراً ما يتفق أن يخرج التلميذ وهو أعرف باللغة الأجنبية منه بالعربية. وليس بعد هذا فشل والعياذ بالله.

واسأل من شئت فلن تجد أحداً لا يقول لك أن اللغة العربية انحطت — أعني ضعف العلم بها — في هذا الجيل ولست أعرف لهذا سبباً إلا أن التلاميذ لا يتعلمون اللغة وإنما يحفظون نحواً وصرفاً وبلايا كثيرة أخرى مثل البلاغة إلخ لا تعلمهم اللغة وإنما تبغضها إليهم فإذا كان التبغيض هو الغاية المنشودة فلا شك أن المعلمين قد وفقوا إلى ما لا مزيد عليه. أما إذا كان الغرض هو التعليم فخير الأساليب هو الأسلوب الطبيعي الذي يتعلم به الطفل الكلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤