الفصل العشرون

الحظ المعاكس

الذين يعتقدون أنهم مضطهدون في الحياة وأن كل من في الدنيا وما فيها من ناس وأشياء يناوؤهم ويكيد لهم ويناصبهم معذورون وإن كان الأطباء يقولون أن هذا مرض فقد تتوالى المصادفة على وتيرة واحدة لا تختلف أو تتنوع حتى يكبر في وهم المرء أن هناك عمداً. فيروح بعذر ابن الرومي الذي حكوا أنه كان إذا رأى النوى مبعثراً أمام البيت يرتد داخلاً ويقعد عن التصرف في يومه ذاك إيثاراً لطلب السلامة مما يتوهم أنه لا محالة ملاقيه من السوء والشر.

حدث يوماً أني بكرت في القيام من النوم وليتيسر لي أن أكتب ما ينبغي أن أكتب في ذلك اليوم ثم أخرج لقضاء عدة حاجات لا سبيل إلى إرجاء واحدة منها. فأما الكتابة فاستحالت لأن الآلة الكاتبة تعطلت لعلة لم أستطع أن أهتدي إليها ولأني لم أجد في البيت كله لا حبراً ولا قلماً ولا شيئاً مما يستطيع المرء أن يكتب به فابتسمت — فما بقيت لي حيلة — وقلت «صدق المثل. باب النجار مخلع» وحدثت نفسي أن هذا يفسح الوقت لقضاء الحاجات الأخرى فارتديت ثيابي وخرجت من الشقة متوكلاً على الله فلم أكد أضع رجلي على الدرج حتى زلت قدمي ونهضت متوجعاً على يدي ورجلي فقد هاضني الاصطدام بالدرجات وحدثت نفسي أن ساقي على الأقل لا ينقصها هذا الرض الجديد ثم نفضت التراب عن ثيابي — بحكم العادة فإن السلم نظيف — ومضيت متحاملاً على نفسي إلى « الجراج» ولكن السيارة أبت كل الإباء أن يدور محركها ولست حديث عهد بالسيارات ولا أعرفني عجزت عن علاج حرانها إذا كان لأسباب عارضة ولكن الأمر استعصى عليّ في ذلك الصباح حتى كدت أجن فتركتها واستأجرت سيارة وفي ظني أنها أسرع من الترام وما إليه فلم نكد نقطع كيلو واحداً من الطريق حتى عرض للسائق راكب دراجة خرج فجأة من زقاق فأراد السائق أن يتقي أن يدوسه ويزهق روحه فاصطدم بحافة الرصيف وكاد يقتلني أنا أو يحطمني على الأقل. فأنقدت الرجل ما استحق من الأجر وقلت الترام أسلم وكنا عند محطته فوقفت ثلث ساعة أنتظره وهو لا يجيء لسبب لا أدريه، وأنا أحتمل المشي مهما طال ولكني لا أحتمل الوقوف خمس دقائق فأحسست أن بدني قد تضعضع وأن ساقيي أصبحتا لا تقويان على حملي وإن كنت دقيقاً خفيفاً — وزناً لا دماً — ورأيت مركبة خيل مقبلة فأسرعت إليها وركبتها والقارئ أعرف بمركبات الخيل وأكبر الظن أنه رأى كيف ينام الجواد وهو يوهمك إنه يجر المركبة.. ما علينا.. سرنا دقائق بسرعة كيلو وربع في الساعة وإذا بالترام الذي نفذ صبري وتهدم جسدي وأنا أنتظره يدركنا ويمر بنا كالبرق الخاطف ويتركني أتحسر على العجلة التي صدق من قال إنها من الشيطان لعنه الله..

وأوجز فأقول إن كل باب طرقته في ذلك اليوم الأسود ألفيته مسدوداً وإن أي رجل أردت أن ألقاه وجدته مسافراً أو مريضاً فأقصرت خوفاً على الباقين الذين كنت أريد أن أقابلهم أني يدركهم الموت.

ولا شك أن ابن الرومي كثرة تجربته لأمثال هذه المصادفات فصار يؤثر اختصار الأمر والنكوص من البداية اتقاءاً لمعاناة الخيبة التي مل تكرارها ولم يكن يجد فيها لذة وله العذر.

وأذكر أنه كان معنا في المدرسة الابتدائية تلميذ مجد مجتهد وذكي بارع وكان حرياً بالنجاح والسبق في أي امتحان ولم يكن لأحد منا أمل في مزاحمته ولكنه قبل كل امتحان يصاب بمرض يقعده عن أداء الامتحان وكنا نحن على نقيضه لا نصاب بمرض حتى ولا بزكام خفيف، وكان يتفق أن ينذرنا المدرس انه مختبرنا غداً في الجغرافيا فتهبط قلوبنا إلى أحذيتنا فقد كانت الجغرافيا أثقل ما نتلقاه من المعارف والعلوم في المدارس الابتدائية لأنها كانت عبارة عن أسماء خلجان وأنهار وجبال ورؤوس وبلدان ليس إلا وكان حفظ هذه الأسماء التي لا آخر لها يسود نور الضحى في عيوننا ولا أعلم ماذا كان يفعل سواي ولكني أعرف أني كنت أنشد المرض بكل وسيلة أعرفها فأروح أقف ساعة وساعتين في تيارات الهواء وأصب الماء البارد على رأسي في الشتاء وأترك رأسي مبلولاً للهواء وفي مرجوي أن أزكم أو أحم فلا يحدث من ذلك شيء وأضطر إلى الذهاب إلى المدرسة فما بي بأس يصلح أن يكون مسوغاً للتخلف وأعاني الاختبار الذي أنذرنا به وألقى جزاء العجز عن الحفظ.

وتمضي الأيام وأنا صحيح معافى وإذا بأحد المدرسين يبشرنا أنه سيذهب بنا إلى حديقة الحيوانات في يوم كذا فنفرح ونعد طعامنا ونمنى النفس بيوم جميل نلعب فيه وننط ونمتع العين بمنظر القرود والفيل ذي الخرطوم — أو أبو زلومة كما نسميه — والأسود.

ويصبح الصباح الذي أحلم به فأهم بأن أرفع رأسي عن الوسادة فإذا به أثقل من حجر الطاحون فأستغرب وأتحسسه فلا أجده مشدوداً إلى شيء فأسأل أمي فتقبل علي وتجسني ثم تقول «أنت سخن.. لابد من شربة حالاً «فأصيح» ولكن كيف أذهب إلى جنينة الحيوانات إذا شربت شربة «فتقول» جنينة الحيوانات.. أنت مجنون.. نم نم.. لا جنينة حيوانات ولا غيرها.. «فأتحسر وأقول لنفسي» بقي يا ربي تشفيني يوم امتحان الجغرافيا وتمرضني يوم جنينة الحيوانات.. الأمر لله «وأرقد وتجيء الشربة فأتجرعها بكرهي وبعد ساعتين اثنين تهبط درجة الحرارة إلى الحد الطبيعي..

ومن غرائب الدنيا أن فيها متزوجين يسخطون على نسائهم ولا يريدونهن — ولا يدري أحد لماذا تزوجهن إذن — ورجالاً يطلبون الزواج ولا يجدون النساء الموافقات، وفقراء لا يكادون يجدون الكفاف ولهم من البنين تسعة أو عشرة أصحاء يأكلون الزلط كالنعامة، وأغنياء يسر الله لهم الرزق وأدر عليهم أخلاف الثروة يشتهي الواحد منهم أن تكون له طفلة واحدة ولو كانت عوراء أو كسيحة.

وترى بنا دميمات ثقيلات الدم والروح يتزاحم الشبان عليهن ويطرحون أنفسهم تحت أقدامهن وهن لا يردنهن ولا يشجعنهم ويرفضن أن يكن زوجات لهم وأن كانوا صالحين وأحوالهم حسنة وسيرتهم مرضية.

وترى بنات جميلات رشيقات ممشوقات يفتن العابد بالحسن والظرف وحلاوة الطبع وطيب الحديث وبراعة الذكاء ولكنهن مسكينات لا يرغب فيهن أحد ولا يبالينهن مخلوق ولا يحلم بوجودهن شاب ولا كهل.

قالت لي مرة واحدة من هؤلاء الجميلات المسكينات — أعني المنبوذات — أن أغلب ظنها أن العنس هو كل حظها من الدنيا فتألمت وقلت لها «يا شيخة حرام عليك.. أهكذا كلام تقوله شابة في العشرين من عمرها «هذا اعتقادي. وأي شيء هناك يغري بالأمل.. أن للناس يطلبون المال «قلت» مالك جمالك وعقلك وحسن تدبيرك وأخلاقك الطيبة «قالت» أشكرك ولكنك لن تستطيع أن تحيي أملاً مات.. إني أدرى منك..» فتذكرت فتاة هي مثال مجسد للدمامة وثقل الدم وقلة العقل فقلت «إذا كانت فلانة قد وفقها الله إلى زوج صالح كريم.. فقاطعتني وقالت «هذا هو الذي يحدث دائماً.. أليس حظ فلانة هذه مدهشاً.. من كان يتصور.. اللهم لا اعتراض.. «قلت» إنك مازلت صغيرة فاصبري «قالت» بالطبع.. ثم أنه لا حيلة لي إلا الصبر ولكنه لا يسعني إلا أن أرى وأتعجب.. هل تعرف أن كل من زارتنا خاطبة — وإن كانت لم تصرح ببواعث الزيارة — ذهبت ولم تعد.. وليس هذا فقط بل سمعنا من معارفنا أن هؤلاء الزائرات الخاطبات عبنني بكيت وكيت (وذكرت لي عيوباً ليس في شيء منها) وإن كل حديث جرى مع أبي في أمر زواجي انتهى بالانقطاع بلا سبب نعرفه «فلم يسعني إلا أن أرثى لها. فليس كل ما تعانيه إبطاء الحظ عليها بل شر من ذلك الإيلام الذي يحدثه صدة الخيبة كلما نشأ الأمل وقد كان من أثر ذلك أنها صارت تجنح إلى التمرد أحياناً على المجتمع وعلى حالاته وما يكون بين الناس فيه فلولا أن لها من عقلها وحسن تربيتها وازعاً قويا.

وقالت لي مرة وأنا ماض بها إلى بيت خالة لها: «شف. أنا لا أخرج قط إلا مع أبي أو أخي أو معك أحياناً. ولكني واثقة أن ناساً يعرفون وجهي ولا يعرفون صلتك بنا سيرونني اليوم وواثقة أيضاً أنهم سيعتقدون أنك.. أنك غريب.. وأني خارجة معك للنزهة أو.. وأني بالاختصار بنت فاسدة الأخلاق.. وواثقة فوق هذا أنهم سيعنون بأن يذيعوا هذا عني كأن لهم ثأراً عندي.. فما رأيك».

فقلت لأخفف عنها: «المصيبة واحدة.. أنا أيضاً رجل تقي ورع أخاف الله وأتقيه ولي زوجة وأولاد. وأنا واثق أن ناساً يعرفونني ولا يعرفونك سيروننا فيقولون كل منهم في سره أو لصاحبه شف. شف. أما أن معه لبنتاً.. يا ابن اﻟ..».

فضحكت فقلت: «هذا أحسن.. ليس في وسعنا أن نصلح الكون إذا صح أن به حاجة إلى الإصلاح ولكن في وسعنا دائماً أن نتلقى ما تجيء به الحياة بابتسامة حلوة كابتسامتك وأن لم يرزق كل إنسان مثل هذا الفم الجميل».

وهكذا الدنيا دائماً..

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤