أبعاد

اضطُرَّتْ دوري أن تستقلَّ ثلاث حافلات؛ واحدة إلى كينكاردين، حيث انتظرت المتجهة إلى لندن، ثم انتظرت مرة أخرى حافلة المدينة المتجهة إلى مركز التأهيل. بدأت الرحلة يوم الأحد في التاسعة صباحًا؛ وبسبب فترات الانتظار بين مواعيد الحافلات، لم تقطع المائة ميل سفرًا إلا مع حُلول الساعة الثانية بعد الظهر. لم تكن تبالي بكل هذا الجلوس، سواء في الحافلات أم في المحطات؛ فعملها اليومي ليس من النوع الذي تُؤَدِّيهِ وهي جالسة.

كانت عاملةَ تنظيفٍ في نُزل سبروس بلو. كانت تدْعك الحمامات وتُغَيِّر مُلاءات الأسِرَّة وترتِّبها وتكنس السَّجَّاد بالْمِكْنَسة الكهربائية وتلمِّع المرايا. أحبَّت عملها؛ شغل عقلها بقدرٍ معيَّن، وأنهكها بحيث كانت تستطيع النوم في الليل. نادرًا ما واجهت فوضى؛ على الرغم من أن النساء اللواتي كُنَّ يعملْنَ معها يمكن أن يحكين قصصًا تجعل شعر رأسك يقف. كان هؤلاء النسوة أكبر منها سنًّا، واعتقدن جميعًا، أنها يجب أن تحصل على عملٍ أفضل. قلْنَ لها: إنه يجب عليها أن تتدرب على وظيفة مكتبية بينما لا تزال شابة صغيرة وتتمتع بمظهر مقبول. لكنها كانت راضيةً عمَّا تفعله؛ فلم تَكُنْ ترغب في أن تُضطَرَّ إلى التحدث مع الناس.

لم يعرف أحدٌ مِمَّنْ عَمِلَ معها ما حَدَثَ؛ أو لو كانوا يعلمون، فلم يكشفوا عنه. نشرت الجريدة صورتها؛ استخدمت الصورة التي التقطها هو لها هي والأطفال الثلاثة: المولود الجديد، ديميتري بين ذراعَيْها، وباربرا آن وساشا على الجانبين ينظران. كان شعرها طويلًا ومُمَوَّجًا وبُنِيَّ اللون حينئذٍ، وطبيعيًّا في تجعيداته ولونه، كما كان يحبه، ووجهها خجولًا وناعمًا؛ صورة عكست كيف أراد أن يراها أكثر مما عكستها هي فعلًا.

منذ ذلك الحين، قصَّت شعرها قصيرًا وصبغته بلون فاتح، وفقدت كثيرًا من وزنها. استخدمت اسمها الثاني حاليًّا: فلور. كذلك كان العمل الذي وجدوه لها في بلدة بعيدة عن التي كانت تعيش فيها.

كانت هذه المرة الثالثة التي قامت فيها بالرحلة. رَفَضَ في المرتين الأُولَيَيْنِ أن يراها. ولو فعل هذا مرة ثانية فربما تتخلى عن محاولاتها، وحتى لو رآها، فقد لا تأتي مرة أخرى لفترة من الزمن. لم تَنْوِ أن تُسرف في حماسها، وفي الحقيقة، لم تكن تعرف حقًّا ماذا تنوي أن تفعل.

في الحافلة الأولى لم تُعَانِ كثيرًا. استقلتها ونظرت إلى المشاهد الطبيعية فقط. كانت قد نشأت على الساحل، حيث كان هناك شيء ما يشبه الربيع، لكن هنا، يقفز الشتاء مباشرة تقريبًا إلى الصيف. منذ شهر سقط الثلج، والآن الجو حارٌّ بما يكفي للخروج بملابس بلا أكمام. مساحات ساطعة من المياه تغطي الحقول، وتنهمر أشعة الشمس عبر فُروع الشجر العارية.

في الحافلة الثانية، بدأت تشعر بالتوتر، ولم تستطع أن تمنع نفسها من محاولة تخمين أيٍّ من النساء اللواتي حولَها تتجه إلى المكان نفسه. كُنَّ يسافرْنَ وَحْدَهُنَّ، وارتَدَيْنَ ملابسهنَّ غالبًا بقدْر من العناية، ربما ليبدون كأنهن ذاهبات إلى الكنيسة. بدت النساء الأكبر عمرًا منهن وكأنهن تنتمين إلى كنائس تقليدية متزمِّتة، حيث يجب عليهن ارتداء التَّنُّورات والجوارب ونوع من القبعات؛ في حين تنتمي الأصغر سنًّا على الأرجح إلى رَعِيَّة أكثر حيويةٍ تتقبل ارتداء البِذَل والوشائح البراقة والحُلْقان وتسريحات الشعر المُرسل.

لم تكن دوري تلائم أيًّا من الفئتين؛ فخلال فترة عملها طيلة عام ونصف، لم تشترِ لنفسها قطعة ثياب واحدة جديدة. ارتدت زي العمل الرسمي في ساعات عملها، وبنطلون الجينز في أي مكان آخر. أقلعت عن التزين لأنه لم يكن يُسْمَحُ به، والآن، على الرغم من أنها تستطيع هذا، لم تتزين. لم يناسب شعرُها القصير الأصفر بلون الذُّرَة وجهَها الهزيلَ الخاليَ من الزينة، لكن لم يكن هذا مهمًّا.

في الحافلة الثالثة، جلست على مقعد يجاور النافذة، وحاولت أن تُهَدِّئَ نفسها بأن تقرأ اللافتات: لافتات الإعلانات ولافتات الشوارع على السواء. استخدمت حيلة معينة كانت قد تعلَّمَتْها لتبُقِيَ ذهنها مشغولًا. أخذت حروف أي كلمة تقع عليها عيناها، وحاولت أن ترى كم كلمة جديدة يمكن أن تستخرجها منها. «قهوة»، على سبيل المثال، يمكن أن تعطيك «هو» و«قوة» و«هوة»؛ وكلمة «متجر» يمكن أن تعطي «مرج» و«رجم» و«جرم» — مهلًا — و«مر». كانت الكلمات وفيرة على الطريق خارج المدينة بينما يمرون بلوحات الإعلانات والمحالِّ التِّجارية شديدة الضخامة، ومسابقات السَّحب على السيارات، حتى البالونات التي تطفو فوق الأسطح للإعلان عن التنزيلات.

•••

لم تخبر دوري السيدة ساندس عن محاوَلَتَيْها الأخيرتين، والأرجح أنها لن تخبرها عن هذه المرة أيضًا. كانت السيدة ساندس، التي كانت دوري تراها فيما بعد ظهيرة أيام الإثنين، تتحدث عن التطلع للمستقبل، على الرغم من أنها كانت تقول دومًا إن هذا سوف يستغرق بعض الوقت، وإنه لا يجب استعجال الأمور. قالت لدوري إنها تبلي بلاءً حسنًا، وإنها تستكشف تدريجيًّا مكامن قُوَّتها.

قالت: «أعرف أن هذه الكلمات أصبحت مبتذَلة حتى الموت، لكنها تظل صحيحة.»

احمَرَّ وجهُها حين انتبهت لما قالته — «الموت» — لكنها لم تَزِدِ الأمر سوءًا بالاعتذار.

حين كانت دوري في السادسة عشرة من عمرها — منذ سبع سنوات مضت — كانت تزور أمَّها في المستشفى كلَّ يوم بعد انتهاء يومها الدراسي. كانت أمُّها تتعافى من عمليةٍ أَجْرَتْهَا في ظَهْرها، أخبرها الأطباء أنها عملية كبيرة لكن ليست خطيرة. كان لويد ممرضًا. جمعهما، هو ووالدة دوري، أنهما خُنْفُسَا (هيبز) قديمان؛ على الرغم من أن لويد كان أصغر ببضع سنوات من والدتها، وحينما كان يتاح له الوقت، كان يأتي ليتحدث معها عن الحفلات الموسيقية والمظاهرات الاحتجاجية التي حضراها معًا قبل أن يَعْرِفَ أحدهما الآخر، والأشخاص البشعين الذين عَرَفاهم ورحلات المخَدِّرات التي أفقدتهما الوعي، وأشياء من هذا القبيل.

كان لويد محبوبًا بين المرضى بسبب مزحاته ومهارته الواثقة والقوية. كان قصيرًا وقويًّا وممتلئ الجسم وعريض الكتفين وسلطويًّا بما يكفي لكي يُظَنَّ في بعض الأحيان أنه طبيب (لم يكن هذا يُسعده؛ فقد كان مقتنعًا أن كثيرًا من الأدوية مزيفة وأن كثيرًا من الأطباء حَمْقَى). كان لديه جلد حساس ضارب إلى الحُمْرة، وشعر فاتح اللون، وعينان جريئتان.

قبَّل دوري في المصعد، وقال لها إنها زهرة في صحراء، ثم ضحك من نفسه وقال: «يا لي من مبتذل!»

قالت متلطفةً: «إنك شاعر ولكنك لا تعرف.»

ماتت أمها فجأة في إحدى الليالي بسبب انسداد دموي. كان لدى أم دوري صديقات كثيرات يمكن أن يتعهَّدْنَ برعايتها — وأقامت مع واحدة منهن لفترة من الزمن — لكن كان لويد، الصديق الجديد، هو الذي تفضِّله دوري. مع حُلول عيد ميلادها التالي كانت حاملًا، ثم تزوجَتْ. لم يتزوج لويد قطُّ مِنْ قَبْلُ، على الرغم من أن لديه طفلين على الأقل، لم يكن متأكدًا من مكانهما. لا بد أنهما قد كبرا في ذلك الوقت على أي حال. تغيرت فلسفتُه في الحياة مع تقدمه في العمر؛ حيث أصبح يؤمن بالزواج، والاستقرار، والإنجاب بلا تحديدٍ للنسل. وعثر على شبه جزيرة سشلت التي عاش عليها مع دوري، والتي أصبحت زاخرة بالناس هذه الأيام؛ أصدقاء قدامى وأساليب حياة قديمة وأحباب قدامى. وسريعًا ما انتقل هو ودوري عبر البلاد إلى مدينة اختاراها من اسم على الخريطة: مايلد ماي. حصل لويد على وظيفة في مصنع للآيس كريم، وزرعا حديقة. عرف لويد الكثير عن الْبَسْتَنَة، مثلما عرف عن نِجارة البيت وتشغيل مِدْفأة الخشب والحفاظ على سيارة قديمة في حالة جيدة.

وُلِدَ ساشا.

•••

قالت السيدة ساندس: «طبيعيٌّ تمامًا».

تساءلت دوري: «حقًّا؟»

كانت دوري تجلس دائمًا على مَقْعَد مستقيم الظهر أمام مكتب، وليس على الأَرِيكة التي تزينها الورود وتغطيها الوسائد. نقلت السيدة ساندس مَقْعَدها إلى جوار المكتب، بحيث تستطيعان التحدث بدون أي حاجز بينهما.

قالت: «توقعت إلى حد ما أن تفعلي هذا؛ أعتقد أن هذا ما كنت سأفعله لو كنت في مكانك.»

لم تكن السيدة ساندس لتقول هذا في البداية؛ فمنذ عام، كانت أكثر حَذَرًا؛ إذ كانت تعلم أن دوري يمكن أن تغضب من فكرةِ أنَّ أي إنسان، أي مخلوق، يمكن أن يكون في مكانها. الآن، تعرف أن دوري سوف تعتبرها مجرد وسيلة، بل وسيلة متواضعة، لمحاولة الفهم.

إن السيدة ساندس من نوع مختلف؛ لم تكن رشيقة ولا رفيعة ولا جميلة. ولم تكن كبيرة في السن كذلك. كانت تقريبًا في عمر والدة دوري؛ على الرغم من أنها فيما يبدو لم تكن من الخنافس يومًا. كان شعرها الرَّماديُّ قصيرًا، ولديها شامة فوق إحدى عظمتي وَجْنَتَيْهَا. وكانت ترتدي أحذية مُستوية وبنطلونات فَضْفاضة وبلوزات مزينة بالورود؛ وحتى عندما تكون بلون وردي أو تركوازي لم تعكس اهتمامها حقًّا بما ترتديه؛ كما لو أن أحدهم قال لها إنها تحتاج إلى أن تتأنق، فذهبت في طاعة تشتري ما اعتقدَتْ أنه يمكن أن يحقق هذا. أزال وَقَارُها الكبير واللطيف والموضوعي أيَّ مرح مفرط وأي قدر من الإهانة قد تعبِّر عنه تلك الملابس.

قالت دوري: «حسنًا، لم أَرَهُ في المرتين الأوليين إطلاقًا. لم يرغب في الخروج.»

– «لكنه خرج هذه المرة؟ خرج، أليس كذلك؟»

– «بلى، خرج. بالكاد تعرَّفت عليه.»

– «هل كَبِرَ في السِّن؟»

– «أعتقد هذا، أعتقد أنه فقد بعضًا من وزنه. وتلك الملابس، الزي الموحد، لم أَرَهُ قَطُّ يرتدي شيئًا كهذا.»

– «هل بَدَا لك شخصًا مختلفًا؟»

– «كلا.» ثم عضت دوري شَفَتَها العُليا وهي تحاول أن تفكر كيف كان الاختلاف. كان هادئًا جدًّا. لم تَرَهُ قَطُّ هكذا مِنْ قَبْلُ. لم يعرف حتى إنه سوف يجلس أمامها. كانت كلماتها الأولى له: «ألن تجلس؟» فقال: «هل هذا مناسب؟»

قالت: «بدا خاويًا نوعًا ما. تساءلت ماذا إذا كانوا يُعطونه مخدِّرًا؟»

– «ربما شيئًا ما ليظل مستقرًّا. لا أعرف. هل تبادلتما الحديث؟»

تساءلتْ دوري إذا كان يمكن أن تسمِّيَهُ هكذا. سألته بعض الأسئلة الغبية والعادية؛ كيف يشعر؟ (بخير.) هل يحصل على ما يكفي من الطعام؟ (يظن هذا.) هل هناك مكان يستطيع أن يمشيَ فيه إذا أراد؟ (نعم، تحت المراقبة. يعتقد أنه يمكن تسميته مكانًا. ويعتقد أنه يمكن تسميته مشيًا.)

قالت: «يجب أن تحصلَ على هواء نقي.»

قال: «هذا صحيح.»

سألَتْهُ ما إذا كان قد كوَّن أي صداقات. بالأسلوب الذي تسأل به أطفالك عن أحوالهم في المدرسة.

قالت السيدة ساندس — وهي تدفع عُلبة المناديل المفتوحة إلى الأمام: «نعم، نعم.» لم تَحْتَجْ دوري إليها؛ فقد كانت عيناها جافَّتَيْنِ. كان الاضطراب في أسفل بطنها، الْجَيَشَان.

انتظرت السيدة ساندس؛ فهي تملك ما يكفي من الخبرة لكي تتركَها دون ضُغوط.

وكما لو أنه اكتشف ما كانت على وشك أن تقوله، أخبرها لويد أن طبيبًا نفسيًّا كان يزوره ويتحدث معه في أحيانٍ كثيرة.

قال لويد: «أقول له إنه يضيع وقته. أنا أعرف بقدر ما يعرف هو.»

كانت تلك هي المرة الوحيدة التي بَدَا فيها على طبيعته بالنسبة لدوري.

ظل قلبُها يدق طَوَال الزيارة. اعتقدَتْ أنها يمكن أن تفقدَ الوعي أو تموت. كان النظر إليه يكلفها مجهودًا كبيرًا، وأن تراه عيناها رجلًا رفيعًا اشْتَعَلَ شعرُه بالشَّيْب، هيَّابًا مع أنه بارد، ويتحرك حركة آلية وإن كانت مضطربة.

لم تَقُلْ أي شيء من هذا للسيدة ساندس؛ فقد تسأل السيدة ساندس، بمكر، ممن كانت خائفة. منه أم من نفسها؟

لكنها لم تكن خائفة.

•••

حين بلغ ساشا عامًا ونصفًا، ولدت باربارا آن، وحين بلغت عامين، رُزِقَا بديميتري. سَمَّيَا ساشا معًا، وبعد ذلك اتفقا على أنه هو من سيختار أسماء الأولاد وهي سوف تختار أسماء البنات.

كان ديميترى أول طفل لهما يصاب بالمغص. ظنت دوري أنه ربما لا يحصل على ما يكفي من الحليب أو أن لبنها لم يكن دسمًا بما يكفي، أو دسمًا أكثر مما ينبغي؟ لم يَكُنْ هذا صحيحًا على أي حال. أحضر لويد سيدة من منظمة لا ليتش للتشجيع على الرضاعة الطبيعية وتكلمت معها. قالت لها السيدة: أيًّا كان ما تفعلينه، فلا بد أن تمتنعي عن إعطائه أي لبن صناعي مكمِّل؛ فهذا أول الغَيْث، وسرعان ما سيلفظ ثديك تمامًا.

لم تكن تعرف أن دوري كانت تُطعمه بالفعل لبنًا صناعيًّا مكمِّلًا. وقد بدا حقًّا أنه يفضِّله؛ كان يلفظ الثدي أكثر وأكثر. وفي خلال ثلاثة أشهر كان يتغذى كليًّا على زجاجات اللبن الصناعي، ثم لم تكن هناك طريقة لإخفاء الأمر عن لويد. قالت له إن حليبها جَفَّ، وإنها سوف تُضْطَرُّ إلى أن تبدأ بإطعامه حليبًا خارجيًّا. عصر لويد ثديًا بعد الآخر بتصميمٍ جنوني ونجح في استخراج بضع قطرات من لبن هزيل. نَعَتَهَا بالكاذبة؛ فتشاجرا. قال لها إنها عاهرة مثل أمها.

قال إن كل أولئك الخنافس كُنَّ عاهرات.

تصالحا سريعًا. لكن حينما كان ديميتري يضطرب، حينما يُصاب بالبرد، أو يخاف من أرنب ساشا، أو لا يزال يتعلق بالكراسيِّ في العمر الذي كان أخوه وأخته قد بدآ في المشي بلا مساعدة، كان لويد يتذكَّر عجزها عن إرضاعه طبيعيًّا.

•••

أول مرة ذهبت فيها دوري إلى مكتب السيدة ساندس، أعطتْها إحدى النساء هناك كتيبًا. كان على غِلافه الأمامي صليب ذهبيٌّ وكلمات بلون ذهبيٍّ وحروف بَنَفْسَجِيَّة. «حين تفوق خسارتك الاحتمال …» كان بداخله صورة للمسيح بألوان هادئة مع كلمات أخرى أصغر لم تقرأها دوري.

على مَقْعَدها أمامَ المكتب، حيث لا تزال تقبض على الكتيب، بدأت دوري ترتجف. كان على السيدة ساندس أن تنتزعَه من يدها.

قالت ساندس: «هل أعطاكِ أحدٌ هذا؟»

قالت دوري — وهي تومئ برأسها تجاه الباب المغلق: «هي.»

– «لا تريدينه؟»

قالت دوري: «لحظة سُقوطك هي اللحظة التي يهاجمك فيها الجميع.» ثم أدركت أن والدتها قالت هذا حين جاءت بعض السيدات لزيارتها في المستشفى برسالة مشابهة. «يعتقدون أنكِ سوف تنهارين ثم يكون كل شيء على ما يُرام.»

تنهدت السيدة ساندس.

قالت: «حسنًا، الأمر ليس بهذه البساطة بالتأكيد.»

قالت دوري: «بل ليس حتى ممكنًا.»

– «ربما لم يكن ممكنًا.»

لم يتحدثا عن لويد في تلك الأيام. لم تكن دوري تفكر فيه قطُّ ما دام بوسعها تجنُّب ذلك؛ وعندما كانت تفكر فيه كانت تعتبره حادثة فظيعة من حوادث الطبيعة.

قالت — مشيرة إلى ما جاء في الكتيب: «حتى لو آمنت بهذه الأمور، سيكون هذا فقط من أجل …» كانت تريد أن تقول إن هذا الإيمان القوي يمكن أن يكون مناسبًا لأنها تستطيع حينئذٍ أن تتخيل لويد يحترق في الجحيم، أو شيء من هذا القبيل، لكنها كانت عاجزة عن الاستمرار في الكلام لأنه كان من الغباء جدًّا أن تتحدَّث عن الأمر. وبسبب المانع المألوف لديها، كان الأمر أشبه بِمِطْرَقَة تضربها في بطنها.

•••

اعتقد لويد أن أطفاله يجب أن يَتَلَقَّوْا تعليمهم في البيت. لم يكن هذا لدواعٍ دينية — كعدم الإيمان بوجود الديناصورات، وإنسان الكهف، والقُرود وكل هذه الأشياء — بل لأنه أرادهم أن يكونوا قريبين من والديهم وأن يتعرفوا على العالم بحرص وبالتدريج، عوضًا عن أن يُلقَوا فيه مرة واحدة. قال: «أعتقد أنهم أطفالي؛ أعني أنهم أطفالنا وليسوا أطفال وزارة التعليم.»

لم تثق دوري أنها تستطيع التعامل مع هذا، لكن اتضح أن وزارة التعليم لديها إرشادات وخُطط دُروس يمكن أن تحصل عليها من المدرسة المحلية. كان ساشا ولدًا ذكيًّا، علَّم نفسه فعليًّا القراءة، وكان الاثنان الآخران لا يزالان صغيرين في السن بَعْدُ على أن يتعلَّما هذا القَدْر. في الأمسيات والإجازات الأسبوعية، علَّم لويد ساشا الجغرافيا، والنظام الشمسي، والبَيَات الشِّتْوي لدى الحيوانات، وكيف تعمل السيارة، بأن غطى كل موضوع بالإجابة على أسئلته عنه. وسرعان ما كان ساشا قد سبق خُطط المدرسة التعليمية، لكن دوري كانت تلتزم بها على أية حال، وجعلت ساشا يكمل التمارين في الوقت المحدد التزامًا بالقانون.

كان يسكن بالمقاطعة أُمٌّ أخرى تقوم بالتدريس المنزلي. كان اسمها ماجي، وكان لديها شاحنة صغيرة. احتاج لويد سيارته ليذهب إلى عمله، ولم تتعلم دوري القيادة؛ لهذا كانت تُسْعَد حين تَعرض عليها ماجي أن توصلها إلى المدرسة مرة في الأسبوع لكي تقدم التمارين المحلولة وتحصل على الجديدة. بالطبع كانتا تصطحبان كل الأطفال معهما. كان لدى ماجي ولدان. عانى الأكبر من أنواع عديدة من الحساسية حتى إنها اضطرت أن تراقب كل ما يأكله مراقبة صارمة؛ وهذا هو السبب في أنها كانت تُعَلِّمُهُ في البيت. ثم بَدَا أنها يمكن أن تُبقيَ الأصغر في البيت كذلك. لقد أراد أن يبقى مع أخيه وكان يعاني من الربو على كل حال.

كم شعرت دوري بالامتنان حينئذٍ بمقارنتهما بأطفالها الأصحاء الثلاثة. قال لويد إن السبب هو أنها أنجبت كل أطفالها حين كانت لا تزال يافعة، بينما انتظرت ماجي حتى بلغت حافَة سِن اليأس. كان يبالغ في تقديره لعمر ماجي، لكن كان صحيحًا أنها انتظرت. عملت بمهنةِ فَنِّيِّ صناعةِ نظارات. كانت شريكةَ زوجها، ولم يبدآ في تكوين عائلة حتى تستطيعَ ترك المهنة، وكان لديهما بيتٌ في الريف.

كان شعر ماجي خليطًا من الأبيض والأسود، وقصيرًا جدًّا. كانت طويلة، ذات صدر مستوٍ غير بارز، مبتهجة وعنيدة. وكان لويد يدعوها «ليزي» (السحاقية)؛ من وراء ظهرها فقط بالطبع. كان يمازحها في التليفون لكن يهمس لدوري: «ليزي». لم يزعج هذا دوري فعليًّا؛ فهو قد نعت عديدًا من النساء بهذا، لكنها خَشِيَتْ أن ترى ماجي مزاحه وُدًّا مبالغًا فيه، أو تطفلًا، أو على الأقل مضيعة للوقت.

– «تريدين التحدث إلى السيدة العجوز؟ نعم، إنها هنا. تغسل على لوح الغسيل. نعم، أجعلها تعمل كالعبيد. هي قالت لك هذا؟»

•••

اعتادت دوري وماجي أن تشتريا البقالة معًا بعد أن تُحضرا الأوراق من المدرسة، ثم في بعض الأحيان تحتسيان القهوة في تيم هورتونس وتأخذان الأطفال إلى حديقة ريفرسايد. تجلسان على أحد المقاعد الطويلة بينما يتسابق ساشا وأطفال ماجي حولهما أو يتدلَّون من آلة جديدة للتسلق، وباربرا آن تتأرجح وديميتري يلعب في ملعب الرمل؛ أو تجلسان في الحافلة الصغيرة إذا كان الجو باردًا. تتحدثان معظم الوقت عن الأطفال وما تطبخان. لكن بطريقة ما، اكتشفت دوري كم ترحَّلت ماجي في أوروبا قبل أن تتلقى تدريبها في صناعة النظارات، واكتشفت ماجي كم كانت دوري صغيرة في السن حين تزوجت. وكذلك كيف حبِلت بسهولة في البداية، وكيف لم يَعُدْ هذا سهلًا بعد ذلك، وكيف جعل هذا لويد متشككًا، بحيث فتَّش أدراجها بحثًا عن حُبوب منع الحمل؛ اعتقادًا منه أنها تتناولها في الخفاء.

سألت ماجي: «وهل تأخذينها؟»

صُدمت دوري. ثم قالت إنها لا تجرؤ على هذا.

– «أقصد، أعتقد أنه أمر شنيع أن أتناول حبوبًا دون أن أخبره. كانت مجرد مزحة منه حين بدأ يفتِّش عنها.»

قالت ماجي: «أوه!»

وذات مرة، سألتها ماجي: «هل كل شيء على ما يرام؟ أقصد زواجك؟ هل أنت سعيدة؟»

قالت دوري نعم، بدون تردد. بعد ذلك أصبحت حَذِرَة فيما تقوله. رأت أنها اعتادت أشياءَ قد لا يفهمها الآخرون. كان للويد نظرته الخاصة إلى الأمور: هكذا كان فحَسْبُ. حتى حين قابلته أول مرة في المستشفى، كان هكذا. كانت رئيسة الممرضات من النوع المتكَلِّف، لهذا سماها السيدة «بيتش أوت أوف هيل» (عاهرة من الجحيم)، بدلًا من اسمها الذي كان «السيدة ميتشيل». كان ينطق الاسم سريعًا جدًّا حتى إنك بالكاد تستطيع أن تلتقطه. كان يعتقد أنها تحابي المفضَّلين لديها، وأنه ليس واحدًا منهم. والآن هناك شخص يَمْقُتُه في مصنع الآيس كريم؛ شخص أسماه «لوي ماصُّ القضيب». لم تعرف دوري اسم الرجل الحقيقي. لكن على الأقل برهن هذا أن من يثير حفيظته ليس النساء فقط.

كانت دوري متأكدة أن هؤلاء الناس ليسوا بهذا السوء الذي يظنه لويد، لكن لا طائل من معارضته. ربما يحتاج الرجال إلى أعداء فقط، كما يحتاجون إلى النكات. وفي بعض الأحيان كان لويد يحوِّل الأعداء إلى نكات، تمامًا كما لو كان يضحك من نفسه. كان يسمح لها حتى أن تضحك معه، ما دامت ليست هي من بدأت الضحك.

أمَلَت ألا يكون هذا سلوكه مع ماجي. في بعض الأوقات شعرت بالخوف حين رأت شيئًا من هذا القبيل على وشك الحدوث. إذا منعها من الركوب مع ماجي إلى المدرسة والبقالة، فسوف يسبب لها هذا إزعاجًا كبيرًا. لكن الأسوأ هو إحساس الخِزْي. كان يجب عليها أن تلفِّق أكذوبة ما لتوضِّح الأمور. لكن ماجي قد تعرف؛ على الأقل قد تعرف أن دوري تكذب، وعلى الأرجح سوف تفسر هذا على أن دوري كانت في موقف أسوأ مما هي عليه فعليًّا. وماجي لديها نظرتها الثاقبة الخاصة للأمور.

لكن بعد ذلك، سألت دوري نفسها لماذا عليها أن تهتم بما تعتقده ماجي. كانت ماجي غريبة عنها، لم تكن حتى شخصًا شعرت دوري بالراحة معه. كان لويد من قال هذا، وكان محقًّا. إن حقيقة الأمور بينهما، الرابطة بينهما، ليست شيئًا يمكن أن يفهمه أي شخص آخر ولا يعني أحدًا آخر. لو استطاعت دوري الحفاظ على إخلاصها، كل شيء سيكون على ما يرام.

•••

ازداد الأمر سوءًا بالتدريج؛ ما من منعٍ مباشر، ولكن المزيد من النقد. خرج لويد بنظرية أن الحساسية التي يعاني منها أطفال ماجي والربو ربما نتيجة خطأ ماجي. قال إن الأم هي السبب عادةً. لقد اعتاد أن يرى هذا في المستشفى طوال الوقت؛ الأم المسيطرة وعادة المتعلمة زيادة عن اللازم.

قالت دوري باندفاع: «يولد الأطفال أحيانًا بمرضٍ ما فحسب، لا تستطيع أن تقول إنها الأم كل مرة.»

– «أوه! لِمَ لا أستطيع؟»

– «لا أعني (أنت). لا أعني أنك لا تستطيع، أعني، أليس من الممكن أن يولدوا بمرضٍ ما؟»

– «منذ متى أصبحتِ خبيرة في الطب؟»

– «لم أَقُلْ إني خبيرة.»

– «كلا، لم تقولي. ولست كذلك.»

من سيئ إلى أسوأ. أراد أن يعرف ما الذي كانتا تتحدثان عنه، هي وماجي.

– «لا أعرف. لا شيء حقًّا.»

– «هذا غريب. امرأتان في سيارة. أول مرة أسمع بهذا. امرأتان تتحدثان عن لا شيء. إنها عازمة على أن تفرِّقنا.»

– «مَن؟ «ماجي»؟»

– «خبرتي كبيرة مع هذا النوع من النساء.»

– «أي نوع؟»

– «نوعها.»

– «لا تكن سخيفًا.»

– «احذري. لا تقولي عني سخيفًا.»

– «ولماذا تراها تريد أن تفعل هذا؟»

– «كيف لي أن أعرف؟ هي فقط تريد أن تفعل هذا. انتظري. سوف تَرَيْنَ. سوف توصلك إلى هذا بالصياح والأنين والشكوى من وحشيَّتي، في أحد تلك الأيام البغيضة.»

•••

وقد تحقق ما قاله في الحقيقة. على الأقل، سوف يبدو له الأمر كذلك. وجدَتْ نفسها حوالي العاشرة مساء في إحدى الليالي في مطبخ ماجي، تحبس دموعها وتحتسي شايًا بالأعشاب. حين طرقت الباب قال زوج ماجي: «من الآتي في تلك الساعة؟» وسمعته عبر الباب. لم يعرف من هي. وبينما كان يحدق بها بحاجبين مرفوعين وفمٍ مَزْمُوم، قالت: «أنا آسفة جدًّا للإزعاج.» ثم جاءت ماجي.

مَشَتْ دوري الطريق كله في الظلام، في البداية على الطريق المفروش بالحَصَى الذي سكنت هي ولويد عندَه، ثم على الطريق السريع. كانت تتجه إلى جانب الطريق مع كل مرة تمر فيها سيارة، وهذا أبطأها كثيرًا. نظرت إلى السيارات التي مرت بها اعتقادًا منها أن واحدة منها يمكن أن تكون سيارة لويد. لم تكن ترغب في أن يعثر عليها، ليس الآن، ليس قبل أن يشعر بالرعب حتى يفقد عقله. استطاعت في بعض الأحيان أن تصيبه بالرعب بجنونها، بأن تنتحب وتولول، بل وتضرب رأسها في الأرض، وهي تردِّد: «ليس صحيحًا، ليس صحيحًا، ليس صحيحًا» مرة بعد مرة. أخيرًا كان يتراجع. كان يقول: «حسن، حسن. سأصدِّقك. اهدئي يا عزيزتي. فكِّري في الأطفال. سوف أصدقك، حقًّا. فقط توقَّفي.»

لكنها هذه الليلة تمالكت نفسها في اللحظة التي كانت على وشك أن تبدأ فيها هذا الأداء. ارتدت مِعْطَفها وخرجت من الباب وهو يناديها: «لا تفعلي هذا. أحذِّرك.»

ذهب زوج ماجي إلى السرير، وهو لا يبدو سعيدًا بالأمر، بينما ظلت دوري تقول: «أنا آسفة، آسفة جدًّا أن أزعجكم في هذه الساعة من الليل.»

قالت ماجي في نبرة عملية: «أوه! اسكتي. هل ترغبين في كأس نبيذ؟»

– «أنا لا أشرب.»

«إذن من الأفضل ألَّا تبدئي الآن. سوف أُحضر لك بعض الشاي. إنه مهدئ جدًّا. بابونج مع التوت. لا يتعلق الأمر بالأطفال، أليس كذلك؟»

– «بلى.»

أخذت ماجي مِعْطَفها، وأعطتها ربطة من المناديل لتمسح عينيها وأنفها، وقالت: «لا تخبريني بأي شيء الآن. سوف تهدئين بسرعة.»

حتى حين هدأت جزئيًّا، لم ترغب دوري في أن تُفشيَ الحقيقة كلها فتعرف ماجي أنها لُبُّ المشكلة. علاوة على هذا، لم ترغب في أن تضطر إلى شرح سُلوكيات لويد. فمهما كانت درجة الإرهاق التي تعانيها معه، فلا يزال أقرب شخص لها في العالم، وشعرت أن كل شيء سوف ينهار إذا انتهى بها الحال إلى أن تخبر أي أحد عن طبيعته؛ إذا أصبحت غير وفية.

قالت إنها تجادلت معه بشأن أمر قديم، وإنها شعرت بالإرهاق والتعب، وكل ما رغبت فيه هو أن تخرج. لكنها سوف تتجاوز الأمر. سوف يتجاوزانِهِ.

قالت ماجي: «يحدث هذا مع كل الأزواج في وقت من الأوقات.»

رَنَّ التليفون حينئذٍ وردَّت ماجي.

– «نعم، إنها بخير. أرادت فقط أن تُنَفِّسَ عن ضيقها. حسن. حسنًا إذن، سوف أوصلها إلى البيت في الصباح. لا توجد مشكلة. حسن. طاب مساؤك.»

قالت: «كان هو. أعتقد أنكِ سمعتِ.»

– «كيف كان؟ هل كان طبيعيًّا؟»

ضحكتْ ماجي قائلة: «حسنًا … لا أعرفه حين يكون طبيعيًّا، كيف لي أن أعرف؟ لم يَبْدُ مخمورًا.»

– «هو لا يشرب كذلك. ليس لدينا قهوة حتى في البيت.»

– «هل تريدين بعض الخبز المحَمَّص؟»

•••

في الصباح الباكر، أخذتها ماجي إلى البيت. لم يكن زوج ماجي قد ذهب إلى عمله بَعْدُ، وجلس مع الطفلين.

كانت ماجي مستعجلة في العودة، لهذا اكتفت بالقول: «مع السلامة. اتصلي بي إذا أردتِ التحدث» وهي تستدير بشاحنتها الصغيرة في الفناء.

كان صباحًا باردًا في بواكير الربيع؛ ولا يزال الجليد على الأرض، لكن لويد كان يجلس على الدَّرَج بدون جاكيت.

– «صباح الخير»؛ قالها بصوت مرتفع ونبرة مهذبة على نحو ساخر. وردَّت هي: «صباح الخير» بنبرة حاولت أن تتظاهر بها أنها لم تلاحظ سخريته.

لم يتنحَّ جانبًا لكي يترك لها مجالًا لتصعد الدَّرَج.

قال: «لا يمكنك الدخول.»

قررت أن تأخذ هذا باستخفاف.

قالت: «حتى لو قلت من فضلك؟ من فضلك.»

نظر إليها لكن لم يُجِبْهَا. ضَحِكَ بِشَفَتَيْنِ مضمومتين.

قالت: «لويد! لويد!»

– «من الأفضل ألَّا تدخلي.»

– «لم أَقُلْ لها أي شيء يا لويد. أعتذر لأني غادرت. احتجت فقط متنفَّسًا … على ما أظن.»

– «من الأفضل ألَّا تدخلي.»

– «ما بك! أين الأطفال؟»

هز رأسه، كما يفعل حين تقول شيئًا لا يحب أن يسمعه. شيء وقح نسبيًّا مثل «هراء».

– «لويد! أين الأطفال؟»

تنحى قليلًا جدًّا حتى تستطيع أن تمر إذا شاءت. ديميتري ساكن في سَرِيره يرقد على جانبه. باربرا آن على الأرض بجانب سريرها، كما لو أنها وقعت أو سَحَبَهَا أحدُهم. ساشا ملقًى إلى جانب باب المطبخ؛ إذ كان قد حاول الهرب. كان الوحيد الذي تحيط رقبته كدمات زرقاء. تكفلت الوسادة بالآخرَيْنِ.

قال لويد: «حين اتصلت ليلة أمس؟ حين اتصلت، كان ما حدث قد حدث. هذا ما جَنَيْتِهِ على نفسِك.»

•••

صدر الحكم أنه مجنون ولا يمكن محاكمته. كان مجنونًا على نحو إجرامي؛ يجب أن يوضع في مؤسسة صحية آمنة.

ركضت دوري من المنزل، وتعثَّرت في الساحة وهي تلف مَعِدَتها بذراعيها بقوة كما لو أنها مشقوقة وتحاول أن تحتفظ بها بالداخل. كان هذا هو المشهد الذي رأته ماجي حين عادت. حَدَسَتْ شيئًا ما، فاستدارت عائدة بشاحنتها الصغيرة على الطريق. كانت أول فكرة خطرت لها حين رأت المشهد أن زوج دوري ضربها أو ركلها في مَعِدَتها. لم تفهم أي شيء من ضجيج دوري. لكن لويد الذي كان لا يزال جالسًا على الدَّرَج، تنحَّى جانبًا بتهذيب لها بدون أن ينطق بكلمة واحدة، ودخلت إلى المنزل ووجدت ما توقَّعت أن تجده. اتصلت بالشرطة.

ظلت دوري لفترة تحشو فمَها بكل ما تستطيع الوصول إليه. بعد التراب والحشيش، حشت فمَها بالفوط أو بملابسها. بَدَتْ وكأنها لا تحاول أن تكتم العَوِيل فقط بل تكتم المشهد كله في رأسها. أصبحت تأخذ حقنةً ما بانتظام لتهدئتها، وكان لها مفعول. في الحقيقة، أصبحت هادئة جدًّا، لكن لم تُصَبْ بالتبَلُّد. كان يقال إنها في حالة مستقرة. حين خرجت من المستشفى، وجاءت بها موظفة الشئون الاجتماعية لهذا المكان الجديد، تولت السيدة ساندس الأمر ووجدت لها مكانًا لتسكن فيه، ووجدت لها وظيفة، ورسخت عادة أن تتحدث إليها مرة في الأسبوع. أرادت ماجي أن تزورها، لكنها كانت الشخص الوحيد الذي لم تَحْتَمِلْ دوري رؤيته. قالت السيدة دوري إن هذا الشعور طبيعي؛ إنه تداعي الأفكار. قالت إن ماجي سوف تفهم.

قالت السيدة ساندس إن استمرار دوري في زيارة لويد هو أمر يعود إليها. قالت: «أنا لست هنا لكي أوافق أو أرفض. هل تشعرين بشعور جيد إذا رأيته؟ أم سيئ؟»

– «لا أعرف.»

لم تستطع دوري أن تشرح أن من رأتْه ليس هو حقًّا. وكأنها كانت ترى شبحًا تقريبًا. كان شاحبًا جدًّا. ملابس فَضْفاضة باهتة عليه، حذاء لا يُصْدِر صوتًا — ربما خُفٌّ — في قَدَمَيْهِ. تعتقد أن بعضًا من شعره قد سقط. شعره الكثيف والمموَّج والعسلي. لم تَبْدُ كتفاه عريضتين، لم تَرَ التجويف عند عظْمة تَرْقُوَتِهِ حيث اعتادت أن تريح رأسها.

كان ما قاله بعد ذلك للشرطة — وذكرته الصحف — هو: «فعلت هذا لأجِنِّبَهم المعاناة.»

أي معاناة؟

قال: «معاناة أن يعرفوا أن أمهم تخلَّت عنهم.»

حُفِرَ هذا في عقل دوري، وربما حين قررت أن تحاول أن تراه، كان بدافع أن يتراجع عنه. أن تجعله يرى، ويعترف، كيف سارت الأمور حقًّا.

– «قلتِ لي أن أتوقف عن معارضتك أو أخرج من البيت؛ لذا خرجت من المنزل.»

«ذهبت إلى ماجي لليلة واحدة فقط. كانت لديَّ نية حقيقية أن أعود. لم أتخلَّ عن أحد.»

كانت تتذكر بوضوح كيف بدأ الشِّجار. اشترت عُلبة اسباجتي بها انبعاج بسيط جدًّا. ولهذا كان عليها تخفيض في السعر، وأسعدها أن توفِّر بعض المال. اعتقدت أنها تقوم بعمل ذكي. لكنها لم تَقُلْ له هذا، ما إن بدأ يستجوبها عن العُلبة. لسبب ما اعتقدت أنه من الأفضل أن تدَّعيَ أنها لم تلاحظ الانبعاج.

قال إن أي شخص سيراه بوضوح. كان يمكن أن نتسمَّم كلنا. ماذا دهاها؟ أم أن هذا ما كانت تفكِّر فيه؟ هل كانت تخطط لتجرِبته على الأطفال أم عليه؟

قالت له ألَّا يكونَ مجنونًا.

قال إنه ليس هو المجنون. من يشتري سمًّا لعائلته غير امرأة مجنونة؟

كان الأطفال يشاهدون هذا عند مدخل غرفة المعيشة. كانت هذه آخر مرة رأتهم بها أحياء.

إذن هل هذا ما كانت تفكر به؛ أن تجبره على أن يرى مَنِ المجنون في النهاية؟

•••

حين أدركت ما تفكر به، كان يجب أن تترك الحافلة. كان يمكن أن تغادرها حتى عند البوابات، مع النساء الأخريات اللواتي نزلْنَ. كان يمكن أن تعبُر الطريق وتنتظر الحافلة العائدة إلى المدينة. بعض الناس فعل هذا على الأرجح. كانوا ينوون القيام بالزيارة ثم قرروا ألا يفعلوا هذا. يفعل الناس هذا طول الوقت على الأرجح.

لكن ربما كان من الأفضل أنها استمرت، ورأته غريبًا جدًّا وضائعًا. شخص لا يستحق اللَّوْم على أي شيء. ليس شخصًا أصلًا. كان أشبه بشخصية في حلم.

كانت تراودها بعض الأحلام. في أحد أحلامها، هربت من المنزل بعد أن وجدتهم، وبدأ لويد يضحك بطريقته القديمة العَفْوية، ثم سمعت ساشا يضحك خلفها، وبدا لها — على نحو رائع — أنهم جميعًا يمزحون معًا.

•••

– «سألتِني هل تُشْعِرُكِ رؤيته بشعور جيد أم سيئ؟ سألتِني هذا السؤال آخر مرة، أليس كذلك؟»

قالت السيدة ساندس: «بلى، سألتك.»

– «كان يجب أن أفكر في هذا.»

– «نعم.»

– «لقد حسمت أمري. إن رؤيته تُشعرني بالسوء؛ لذا لن أذهب ثانية.»

كان صعبًا أن تعرف ما الذي تفكر به السيدة ساندس، لكن الإيماءة التي أعطتْها بَدَا أنها تعبر عن شيء من الرضا أو الموافقة.

لهذا حين قررت دوري أن تذهب مرة ثانية، في النهاية، اعتقدَتْ أنه من الأفضل ألَّا تذكرَ هذا. وبما أنه من الصعب ألَّا تقول كل ما يحدث معها؛ حيث كان قليلًا جدًّا في معظم الوقت، اتصلت وألغت موعدها. قالت إنها سوف تأخذ إجازة. كان الصيف على الأبواب، والإجازات مسألة اعتيادية. قالت: سأذهب مع صديقة.

•••

– «لا ترتدين الجاكيت الذي كنت ترتدينه الأسبوع الماضي.»

– «لم يكن هذا في الأسبوع الماضي.»

– «حقًّا؟»

– «كان منذ ثلاثة أسابيع. الجو حارٌّ الآن. هذا أخف، لكني لا أحتاجه حقًّا. لا أحتاج إلى جاكيت على الإطلاق.»

سأل عن رحلتها، عن الحافلات التي تستقلها من مايل ماي.

أخبرته أنها لم تَعُدْ تعيش هناك. أخبرته أين تعيش وعن الحافلات الثلاث.

– «هذه رحلة طويلة وشاقَّة عليك. هل تحبين العيش في مكان أكبر؟»

– «من الأسهل الحصول على وظيفة هناك.»

– «إذن أنتِ تعملين؟»

كانت قد أخبرته المرة الماضية أين تعيش، وعن الحافلات، وأين تعمل.

قالت: «أنظِّف الغرف في نُزُل صغير. أخبرتك مِنْ قَبْلُ.»

– «نعم، نعم، نسيت. معذرة. هل تفكرين في العودة إلى الدراسة؟ مدرسة ليلية؟»

قالت إنها فكرت لكن ليس بالجدية الكافية أبدًا لتقوم بخطوة ما. قالت إن التنظيف لا يزعجها.

ثم بدا وكأنما لا يجدان شيئًا آخر يتحدثان عنه.

تنهد قائلًا: «آسف، معذرة. أعتقد أني لست معتادًا على المحادثات.»

– «إذن، ماذا تفعل طوال الوقت؟»

– «أعتقد أني أقرأ كثيرًا. نوع من التأمل. على نحو ما.»

– «أوه!»

– «أقدِّر مجيئك لزيارتي. إنها تعني لي الكثير. لكن لا تعتقدي أنك يجب أن تواظبي على ذلك. أعني، تعالَيْ فقط حين تريدين. إذا جَدَّ شيء أو حين ترغبين؛ ما أحاول قوله هو أن حقيقة أنك استطعت المجيء، أنك جئت ولو مرة واحدة، هي مكافأة لي. هل تفهمين ما أعني؟»

قالت إنها تعتقد أنها تفهم.

قال إنه لا يريد أن يتدخل في حياتها.

قالت: «إنك لا تفعل.»

قال: «هل هذا ما كنت ستقولينه؟ ظننت أنك ستقولين شيئًا آخر.»

وفي الحقيقة، لقد كادت تقول: أي حياة؟

قالت: «لا، لا شيء آخر.»

– «هذا جيد.»

•••

بعد ثلاثة أسابيع أخرى، تلقَّت مكالمة هاتفية. كانت السيدة ساندس بنفسها، وليست واحدة من النساء في المكتب.

قالت السيدة ساندس: «أوه دوري، اعتقدت أنك لم ترجعي بعدُ من إجازتك. إذن فقد عُدْتِ؟»

قالت دوري — وهي تحاول أن تفكر أين يمكن أن تكون قضت إجازتها: «نعم.»

– «لكنك لم تحددي موعدًا آخر؟»

– «لا ليس بعد.»

– «لا بأس. كنت أطمئن فحَسْبُ؛ هل أنت بخير؟»

– «أنا على ما يُرام.»

– «حسنًا، تعرفين مكاني إذا احتجت إليَّ. إذا أردتِ فقط أن تتحدثي في أي وقت.»

– «نعم.»

– «اعتنِ بنفسِك إذن.»

لم تذكر لويد، لم تسأل ما إذا كانت مستمرة في زيارته. نعم، بالطبع؛ فقد قالت دوري إنها لن تستمر في زيارته. لكن السيدة ساندس كانت بارعة عادة في الإحساس بما يحدث. وبارعة جدًّا كذلك في الإحجام، حين تفهم أن سؤالها لن يفيد. لم تكن دوري تعرف ماذا كانت ستقول لو سألت؛ هل كانت ستُخلف وعدها وتكذب أم ستقول الحقيقة. لقد عادت في الحقيقة في الأحد التالي مباشرة بعد أن أخبرها تقريبًا أنه لا يهم سواء ذهبت لزيارته أم لم تذهب.

كان مصابًا بالبرد. لا يعرف كيف أصيب به.

قال إنه ربما كان مصابًا به في المرة السابقة التي رآها فيها، ولهذا كان شكسًا جدًّا.

«شكس»، إنها تكاد لا تعرف أحدًا يستخدم كلمة كهذه في الوقت الحالي، وبدت الكلمة غريبة عليها. لكنه طالما كان لديه عادة استخدام هذه الكلمات، وبالطبع لم تصدمها تلك الكلمات في الماضي كما الآن.

سألها: «هل أبدو لكِ شخصًا مختلفًا؟»

قالت بحَذَر: «حسنًا، تبدو مختلفًا. وماذا عني؟ هل أبدو مختلفة؟»

قال بحزن: «تبدين جميلة.»

شيء ما رقَّ بداخلها. لكنها قاومتْه.

سألها: «هل تشعرين أنك مختلفة؟ هل تشعرين أنك شخص مختلف؟»

قالت إنها لا تعرف. «هل تشعر أنت بذلك؟»

قال: «تمامًا.»

•••

في نهاية الأسبوع تسلمت ظرفًا كبيرًا في عملها. كان موجهًا لعنايتها. احتوى عدة أوراق مكتوبة على الوجهين. لم تتصور في البداية أن الظرف منه؛ فقد اعتقدت أنه غير مسموح للسجناء بكتابة الرسائل. لكنه، بالطبع، نوع مختلف من المساجين. لم يكن مجرمًا؛ كان مجنونًا على نحو إجرامي.

لم يَحْتَوِ الورق تاريخًا، ولا حتى عبارة «عزيزتي دوري». بدأ فقط بالحديث إليها بأسلوب رأت أنه نوع من الدعوة الدينية:

يفتش الناس عن الحل. كَلَّ عقلُهم (من البحث). أشياء كثيرة تصطدم بهم وتؤذيهم. يمكن أن نرى على وجوههم كل كدماتهم وآلامهم. هم يعانون. يتدافعون. عليهم أن يتسوقوا ويذهبوا إلى المغسلة ويقصوا شعرهم ويكسبوا لقمة العيش أو يذهبوا للحُصول على شيكات الرعاية الاجتماعية. على الفقراء أن يفعلوا هذا وعلى الأغنياء أن يجتهدوا في إيجاد سُبل لإنفاق أموالهم. هذا يصح أيضًا. عليهم أن يشيدوا المنازل بحنفيات ذهبية من أجل مياههم الحارَّة والباردة. سياراتهم الأودي وفرشات أسنانهم السحرية وكل البدع الممكنة ثم أجهزة الإنذار لحمايتهم من الذبح، وكلهم لا يتمتع بأي سلام داخلي، لا الفقير ولا الغني. كنت سوف أكتب كلمةً بدلًا من أخرى في العبارة السابقة. ترى لماذا؟ ليس لديَّ أي جيران هنا. وقد تجاوز الناس هنا قَدْرًا كبيرًا من الارتباك. إنهم يعرفون ما يمتلكونه وسوف يمتلكونه دائمًا، وليس عليهم أن يشتروا أو يطبخوا طعامهم، أو حتى أن يختاروه. لقد استُبعدت الاختيارات.

كل ما نستطيع جميعنا الحصول عليه هنا هو ما نستطيع استخراجه من عُقولنا.

في البداية، كان كل ما في عقلي قد تشوش. كانت هناك عاصفة أبدية، كنت أخبط رأسي بالحائط أملًا في التخلص منها، مُنْهِيًا حياتي ومعاناتي. ثم وزعوا العقاب. رَشُّوني بخُرطوم المياه وربطوني وحقنوا أدوية في عُروقي. لا أشكو كذلك لأني تعلمت أنْ لا جدوى من هذا. ولا الأمر يختلف فيما يسمى العالم الحقيقي، حيث يشرب الناس ويستمرون ويرتكبون الجرائم لمحو أفكارهم المؤلمة. وغالبًا ينسحبون ويسجنون لكن ليس طويلًا بما يكفي لكي يخرجوا من الجانب الآخر. وما هذا الجانب الآخر؟ إنه إما جنون كامل أو سلام كامل.

السلام. لقد وصلت إلى السلام، ولا زلت عاقلًا. أتصور أنك قد تظنين — بينما تقرئين هذه الكلمات — أني سوف أقول شيئًا ما عن الرب المسيح أو بوذا، كما لو أن الحال انتهى بي إلى اهتداء ديني. لا، إني لا أغلق عيني وأرتفع بأي قوة عُليا. في الحقيقة لا أعرف ما المقصود بأي من هذا. ما أفعله هو أن أعرف نفسي. «اعرف نفسك» هو نوع من الوصايا النابعة من مصدر ما، على الأرجح من الكتاب المقدس؛ لذا فإني تابع للمسيحية، على الأقل في هذا الجانب. كذلك: «كن صادقًا مع نفسك»؛ ولقد بحثت عنها أيضًا في الكتاب المقدس. إنها عبارة لا تحدد جانب النفس — الشرير أم الطيب — الذي يجب أن تكون صادقًا معه؛ لذا ليس المقصود منها أن تكون مرشدًا للأخلاق. كذلك لا تتعلق عبارة «اعرف نفسك» بالأخلاق كما نعرفها بالسُّلوك. لكن السلوك ليس ما يشغلني حقًّا لأني قد حُكم عليَّ حكمًا صحيحًا تمامًا بأني شخصٌ لا يمكن الوثوق في حكمه على الكيفية التي يجب أن يتصرف بها، وهذا هو سبب وُجودي هنا في المقام الأول.

عودة إلى جزء المعرفة من عبارة «اعرف نفسك»، بوسعي أن أقول بوعي تامٍّ إني أعرف نفسي، وأعرف أسوأ ما أنا قادر على فعله وأعرف أني فعلته. حكم عليَّ العالم وحشًا، ولا خلاف على هذا، على الرغم من أني قد أقول بشكل عارض إن الناس الذين يُلقون القنابل كالمطر ويحرقون المدن أو يجوِّعون مئات الآلاف من البشر أو يقتلونهم لا يعتبرهم العالم عمومًا وُحوشًا، بل تنهمر عليهم الميداليات والتكريم، في حين يعتبر الأفعال الموجهة إلى أعداد صغيرة صادمة وشريرة. لم أقصد من هذا التبرير، بل هو مَحْض ملاحظة.

ما أعرفه في نفسي هو شَرِّي. هذا هو سر راحتي. أعني أني أعرف أسوأ ما فيَّ. ربما أسوأ من أسوأ ما لدى آخرين، لكن في الحقيقة ليس عليَّ أن أفكر في هذا أو أقلق منه. لا مبررات. أنا في سلام. هل أنا وحش؟ يقول العالم هذا، وإذا كان يقول هذا فأنا أوافق، لكنني أقول حينئذٍ، لا يمثل العالم لي أي معنًى. أنا نفسي، ولا خيار لديَّ لأكون أي نفس أخرى. يمكن أن أقول إني كنت مجنونًا حينذاك لكن ما فائدة هذا؟ مجنون، عاقل، أنا هو أنا. لم أستطع تغيير أنا حينذاك ولا أستطيع تغييرها الآن.

دوري، لو أنك واصلتِ القراءة حتى هذه المرحلة، لديَّ شيء خاصٌّ أريد أن أُخبرك إياه، لكن لا يمكن أن أكتبه هنا. لو فكرتِ يومًا أن تعودي إلى هنا، ربما حينئذٍ أستطيع أن أخبرك عنه. لا تتصوري أني بلا قلب. ليست المسألة أني لن أغيِّر شيئًا أنا قادر على تغييره، بل أنا لا أستطيع. لو كنت أستطيع لغيرت الأشياء؛ لكني لا أستطيع.

سوف أرسل هذا إلى مكان عملك الذي أتذكَّره واسم البلدة؛ لذا فإن عقلي يعمل جيدًا في بعض النواحي.

تصورتْ أنهما سوف يناقشان هذه الرسالة في لقائهما التالي وقرأتْها عدة مرات، لكن لم يخطر لها أي شيء لتقوله عنها. إنَّ ما أرادت أن تتحدَّث عنه فعليًّا هو ما قال إنه من المستحيل كتابته. لكن عندما رأته مرة ثانية، تصرَّف كأنه لم يكتب لها تلك الرسالة مطلقًا. بحثت عن موضوع وأخبرته عن مغنٍّ شعبي كان مشهورًا في حينه أقام في النُّزُل ذلك الأسبوع. ولدهشتها كان يعرف عن الحياة المهنية للمغني أكثر منها. اتضح أن لديه تليفزيونًا، أو على الأقل يتاح له مشاهدته، وأنه شاهد بعض العروض والأخبار بانتظام. أعطاهما هذا مجالًا أكبر قليلًا ليتحدثا حتى لم تستطع أن تتمالك نفسها.

– «ما الأمر الذي لم تستطع أن تخبرني إياه إلا شخصيًّا؟»

قال إنه كان يتمنى لو أنها لم تسأل. لم يعرف ما إذا كانا مستعِدَّيْنِ لمناقشته.

حينها خشيت أن يكون شيئًا لا تستطيع التعامل معه فعلًا، شيئًا لا تستطيع احتماله؛ مثل أنه لا يزال يحبها، فكلمة «حب» كلمة لم تَعُدْ تَحْتَمِل أن تسمعَها.

قالت: «حسنًا، ربما لسنا مستعِدَّيْنِ.»

ثم قالت: «ومع ذلك، من الأفضل أن تخبرَني. لو غادرت وصدمتني سيارة، فلن أعرف أبدًا، ولن تتاح لك الفرصة أبدًا، فرصة أخرى لتخبرني.»

قال: «هذا صحيح.»

– «ما الأمر إذن؟»

– «المرة القادمة، المرة القادمة. في بعض الأحيان، لا أستطيع أن أتحدث أكثر. أرغب في الحديث، لكن يجف الكلام داخلي.»

ظللت أفكر بك يا دوري منذ أن غادرتِ وندمتُ لأني خذلتُكِ. حين تجلسين أمامي، تموج بداخلي مشاعرُ أكثر مما أُبدي ربما. ليس من حقي أن أُظهرَ مشاعري أمامَكِ؛ لأنك أنت تملكين هذا الحق ومع ذلك تسيطرين على مشاعرك دائمًا؛ لذا سوف أتراجع عمَّا قلتُه مِنْ قَبْلُ لأني توصلت إلى أني أستطيع أن أكتبه أفضل من أن أقولَه.

والآن من أين أبدأ.

الجنة موجودة.

هذه طريقة للبَدْء، لكنها ليست صحيحة؛ لأني لم أومن بالجنة والجحيم وما إلى ذلك. في رأيي أن هذا كومة من الكراكيب؛ لذا لا بد أنه يبدو لكِ غريبًا جدًّا أن أُثير موضوعًا كهذا الآن.

سأقول ما أريد قوله فحَسْبُ إذن: لقد رأيت الأطفال.

رأيتهم وتحدثت معهم.

تُرى ما الذي تفكرين فيه الآن؟ تفكرين في أني مختلٌّ فعلًا؛ أو أنه حُلْم، وهو لا يستطيع أن يميز الحلم والواقع، لا يعرف الفرق بين الحلم واليقظة. لكني أريد أن أخبركِ أني أعرف الفرق، وما أعرفه هو أنهم موجودون. أقول موجودون، ليس بمعنى أنهم أحياءٌ، لأن أحياء تعني أنهم موجودون في بُعدنا الخاص، ولا أقول إنهم فيه. في الحقيقة أعتقد أنهم ليسوا فيه. لكنهم موجودون، ولا بد أن هناك بُعدًا آخر أو ربما أبعادًا لا حصر لها، لكن ما أعرفه هو أني عبرت للبُعد الذي هم فيه. ربما توصلت إلى هذا لأني اعتمدت على نفسي كثيرًا جدًّا وفكرت وفكرت في هذا الذي اضْطُرِرْتُ للتفكير فيه؛ لذا، فبعد هذه المعاناة والعزلة، توجد رحمة سماوية رأت الوسيلة التي تكافئني بها؛ أنا الشخص عينُه الذي يرى العالَمُ بطريقته في التفكير أني أقل من يستحقها.

حسنًا، لو كنتِ واصلتِ القراءة إلى هذا الحد ولم تمزقي الرسالة، فلا بد أنك ترغبين في أن تعرفي شيئًا ما. كيف حالهم مثلًا.

إنهم بخير. سعداء وأذكياء حقًّا. لا يبدو أنهم يحملون ذكرى أي شيء سيئ. ربما أكبر عمرًا بقليل، لكن من الصعب تحديد هذا. يبدو أنهم يفهمون على مستويات مختلفة. نعم، يمكن أن تلاحظي أن ديميتري تعلم الكلام الذي لم يكن قادرًا عليه. هم في غرفة أستطيع التعرف عليها جزئيًّا. إنها مثل منزلنا لكنها أكثر وسعًا ولطيفة. سألتهم من يرعاهم فضحكوا من سؤالي وقالوا شيئًا من قبيل أنهم قادرون على رعاية أنفسهم. أعتقد أن ساشا هو من قال هذا. يتحدثون في بعض الأحيان منفردين، أو على الأقل أستطيع تمييز أصواتهم، لكن هُوِيَّتهم واضحة جدًّا، وأعلن أنهم مبتهجون.

من فضلِكِ لا تستنتجي أني مجنون. هذا هو ما خَشِيتُهُ وجعلني لا أريد أن أخبرك بالأمر. كنت مجنونًا في وقت من الأوقات، لكنْ صدِّقيني لقد أسقطت كل جنوني القديم مثل الدُّبِّ الذي يطرح فِراءَهُ القديم، أو لعلِّي أقول الثعبان الذي يسلخ جلده. أعرف أني لو لم أكن فعلت هذا لَمَا كانت ستتاح لي هذه القدرة على التواصل ثانية مع ساشا وباربرا آن وديميتري. أتمنى أن تنالي هذه الفرصة كذلك؛ لأنها لو كانت مسألة استحقاق، فأنتِ أحق مني كثيرًا بذلك. ربما كان من الأصعب عليكِ أن تنالي هذه الفرصة لأنك أكثر اتصالًا بالعالم مني بكثير، لكن على الأقل يمكنني أن أمنحَكِ هذه المعلومة — الحقيقة — وإذْ أُخبرك أني رأيتهم، أتمنى أن يُبْهِجَ هذا قلبك.

تساءلتْ دوري ما الذي يمكن أن تقوله السيدة ساندس أو تفكر فيه إذا قرأت هذه الرسالة. ستكون حَذِرَة طبعًا. ستكون حذرة ألَّا تطلقَ حكمًا صريحًا بالجنون، لكنها سوف توجه دوري، بحذر وبلطف، للتفكير في هذا الاتجاه.

أو ربما لا تفعل ذلك؛ ربما تزيل الارتباك فحَسْبُ حتى تواجه دوري ما سيبدو أنه استنتاجها الشخصي طوال الوقت. سيكون عليها أن تُخَلِّصَ عقلَها من كل الهُراء الخطير؛ حَسَبَ المصطلحات التي تستخدمها السيدة ساندس.

لهذا كانت دوري تتجنبها.

لم تعتقد دوري أنه مجنون. وما كتبه في تلك الأوراق بدا أنه يحمل أثرًا من تبجُّحه القديم. لم تَرُدَّ على رسالته. مرت أيام وأسابيع. لم تغير رأيها، لكنها ظلت متمسكة بما كتبه، وكأنه سرٌّ. ومن حين لآخر، حين تكون منهمكة في تلميع مرآة أو ترتيب مُلاءة، كان يطغى عليها شعور ما. لمدة عامين تقريبًا لم تبالِ بالأشياء التي تُسعد الناس عامة، مثل طقس معتدل أو ورود مزدهرة أو رائحة مخبز ما. لا تزال تفتقد الحس العَفْوي بالسعادة، بالضبط، لكنها تتذكر كيف كان. لا يتعلق ذلك الشعور بالطقس أو الورود. لقد كانت فكرةُ أن الأطفال فيما أسماه بُعدهم هي التي تسللت إليها بهذه الطريقة، ولأول مرة، أثارت لديها شعورًا بالبهجة وليس بالألم.

في كل الأوقات منذ حدث ما حدث، كانت أي فكرة تخطر لها عن الأطفال بمثابة شيء يجب عليها أن تتخلص منه؛ تسحبه فورًا مثلما تسحب سكينًا في رقبتها. لم تستطع أن تفكر في أسمائهم، وإذا سمعت اسمًا يشبه اسمًا من أسمائهم كان عليها أن تسحبه أيضًا. حتى أصوات الأطفال وصيحاتهم وضربات أقدامهم وهم يَجْرُونَ من حمام سباحة النُّزُل وإليه، كان يجب أن تبعد عنها بصَفْعِ بابٍ ما قُرْبَ أُذنيها. ما كان مختلفًا الآن أن لديها ملاذًا تستطيع اللجوء إليه ما إنْ تظهر هذه الأخطار في أي مكان حولَها.

ومن الذي منحها إياه؟ ليست السيدة ساندس؛ هذا أكيد. ليس خلال كل تلك الساعات التي جلست فيها إلى المكتب مع عُلبة مناديل في متناول يدها.

منحها لويد هذا. ذلك الشخص الفظيع، الشخص المعزول والمجنون.

قد يكون مجنونًا إن شئت أن تسميه كذلك. لكن أليس من المحتمل أن ما يقوله صادق؛ أنه وصل إلى الجانب الآخر؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن رؤى شخص ارتكب فعلته وقام بتلك الرحلة لا تعني شيئًا؟

تسلَّلت هذه الفكرة إلى ذهنها واستقرت.

ورافق تلك الفكرة فكرة أن لويد، من دون الناس جميعًا، ربما هو الشخص الذي يجب أن تكون معه الآن. أي فائدة أخرى يمكن أن تكون لوجودها في هذا العالم — بَدَا لها أنها تقول هذا لشخصٍ ما، السيدة ساندس على الأرجح — ما هدف وجودها إن لم يكن الإنصات إليه على الأقل؟

قالت للسيدة ساندس في ذهنها: لم أقل «أسامح». ما كنت لأقول هذا أبدًا. لم أكن لأفعله أبدًا.

ستقول لها، فكِّري فحسب. ألم يعزلني ما حدث مثلما عزله تمامًا عن العالم؟ لن يرغب أي شخص يعرف بالأمر أن أكون قريبة منه. كل ما أستطيع أن أفعله أن أذكِّر الناس بما لا يطيق أحد منهم تذكُّره.

لم يكن التنكر نافعًا حقًّا. إن هالة المعاناة والعذاب التي تحيط بي لشيء مقزز.

•••

هكذا وجدَتْ نفسها تستقل الحافلة مرة أخرى متجهة إلى الطريق السريع. تذكَّرت تلك الليالي عقب موت أمها مباشرة، حين كانت تتسلل لتقابل لويد، بعد أن تكذب على صديقة أمها، المرأة التي كانت تقيم معها، بخصوص المكان الذي سوف تذهب إليه. تذكرت اسم الصديقة، اسم صديقة أمها، لوري.

من سوى لويد سوف يتذكر أسماء الأطفال، أو لون عيونهم. حين كانت تضطر السيدة ساندس إلى ذكرهم، لم تسمِّهم حتى أطفالًا، بل «عائلتك»، حيث تضعهم في سلة واحدة معًا.

لم تشعر بالذنب حين كانت تذهب للقاء لويد في تلك الأيام، بعد أن تكذب على لوري، بل شعرت بأن ذلك قدرها، بالإذعان فقط. لقد شعرت أنها لم توجد على الأرض إلا لتكون معه فقط وتحاول أن تفهمه.

حسنًا، لم تَعُدْ تشعر بهذا الآن. لقد تغير شعورها.

كانت تجلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق. كان المشهد واضحًا أمامها عبر الزجاج الأمامي؛ بذا كانت هي المسافر الوحيد في الحافلة، الشخص الوحيد بخلاف السائق، الذي رأى شاحنة تخرج من جانب الطريق بدون أن تبطئ من سرعتها؛ الشخص الوحيد الذي رآها تتأرجح عبر الطريق السريع الذي خلا من السيارات في صباح الأحد أمامهما وتقتحم الخندق على جانبه. بل ورأت شيئًا أكثر غرابة: سائق الشاحنة يطير في الهواء بطريقة بدت خاطفة وبطيئة على السواء، سخيفة ورشيقة. ورأته يهبط على الحصى على حافَة الرصيف.

لم يفهم بقية المسافرين لماذا فرمل السائق وعرَّضهم لتوقف مفاجئ غير مريح. وكل ما استطاعت أن تفكر به في البداية، كيف خرج من السيارة؟ الشاب أو الولد الذي لا بد أنه نام وهو يقود سيارته. كيف طار من الحافلة وانطلق في الهواء بهذه الرشاقة؟

رد السائق على المسافرين قائلًا: «إنه رجل قطع الطريق أمامنا مباشرة.» كان يحاول أن يتحدث بصوت مرتفع وهادئ، لكن كان يشوب صوته مسحة دهشة؛ شيء من الرهبة. ثم أردف: «قطع الطريقَ واقتحم الخندق على جانبه. سوف نواصل ما إن نستطيع، وأثناء ذلك، لا تخرجوا من الحافلة من فضلكم.»

كما لو أنها لم تسمعه، أو كأنما تتمتع بحق خاص في أن تكون مفيدة، خرجت دوري من ورائه. ولم يوبِّخْها.

قال — وهو يعبر الطريق: «أحمقُ لَعِين»، ولم يكن في صوته الآن إلا الغضب والحَنَق. «فتًى أحمقُ لَعِين. هل تصدقين ما حدث؟»

كان الفتى يرقد على ظهره وقد تمددت ذراعاه وساقاه، وكأنه شخص يؤدي دور مَلَاك في الثلج. الفرق أن ما كان حولَه هو حصًى وليس ثلجًا. لم تكن عيناه مغلقتين تمامًا. كان صغيرَ السن جدًّا؛ طفلًا طالت قامته قبل حتى أن يبدأ حلاقة ذقنه، وربما لا يحمل رخصة قيادة.

كان السائق يتحدث عبر هاتفه.

– «مِيل أو أكثر جنوب بايفيلد، عند واحد وعشرين، الجانب الشرقي من الطريق.»

سالت قطرات من رَغْوَةٍ وَرْدِيَّة من تحت رأس الفتى، بالقرب من أذنه. لم يبدُ دمًا إطلاقًا، وإنما مثل المادة التي تنزعها عن ثمرات الفراولة حين تصنع مُرَبَّى.

جلست دوري إلى جانبه؛ ووضعت يدًا فوق صدره. كان ساكنًا. مالت بأذنها بالقرب منه. شخص ما كَوَى قميصه حديثًا؛ تفوح منه تلك الرائحة.

لا يوجد نفَس.

لكن أصابعها الموضوعة على رقبته الناعمة عثرت على نبض.

تذكرتْ شيئًا كان أحدهم قد قاله لها — كان لويد هو من قال لها هذا، في حال تعرض أحد الأطفال إلى حادثٍ ولم يكن هو موجودًا — اللسان. يمكن لِلَّسان أن يسد التنفس إذا سقط في المنطقة الخلفية من الحلْق. وضعت أصابع إحدى يديها على جَبين الفتى ووضعت أصبعين من يدها الأخرى تحت ذقنه. ضغطت الجبين لأسفل وضغطت على الذقن لأعلى لتسليك مجرى التنفس. إمالة خفيفة لكن حازمة.

لو ظل لا يتنفس، سيكون عليها أن تعطيَه تنفسًا صناعيًّا.

تقبض على فتحتي أنفه، وتأخذ نفسًا عميقًا، وتغلق فمه بشفتيها وتتنفس. نَفَسَانِ وفَحْص، نَفَسَانِ وفَحْص.

انبعث صوت رجل آخر؛ ليس للسائق. لا بد أن سائقًا آخر توقَّف. قال: «هل تريدين هذه البطانية تحت رأسه؟» هزت رأسها نفيًا بخفة؛ لقد تذكَّرَتْ شيئًا آخر عن عدم تحريك المصاب، حتى لا تؤذِيَ العمود الفِقْري. أحاطت فمه. ضغطت على جلده الدافئ الغض، وتنفست، وانتظرت. ويبدو أن نداوة خفيفة لفحت وجهها.

قال السائق شيئًا ما لكنها لم تستطع أن ترفع رأسها. ثم شعرت به بشكل مؤكد؛ إنه نفَس الفتى. بسطت يدها على جلد صدره، وفي البداية لم تستطع أن تعرف ما إذا كان يرتفع ويهبط بسبب رجفتها.

نعم، نعم.

كان نفسًا حقيقيًّا. كان مَجْرَى الهواء مفتوحًا. كان يتنفس وَحْدَهُ. كان يتنفس.

قالت للرجل الذي يحمل البطانية: «ضعها فوقَه فحَسْبُ؛ لكي يظل دافئًا.»

قال السائق وهو ينحني: «هل هو حيٌّ؟»

أومأت برأسها إيجابًا. بحثت أناملها على النبض مرة ثانية. لم تواصل المادةُ الوردية الشنيعة تدفُّقَها. ربما ليست شيئًا خطيرًا. ليست من مخه.

قال السائق: «لا أستطيع أن أؤخر الحافلة من أجلِك … لقد تأخرنا فعليًّا.»

قال السائق الآخر: «لا بأس. أستطيع تولي الأمر.»

أرادت أن تقول لهم: اصمتوا، اصمتوا. بَدَا لها أن الصمت ضروري؛ أن كل شيء في العالم خارج جسد الصبي يجب أن يركز، ويساعده على ألا يتشتَّت عن واجب التنفس.

أصبحت أنفاسه ضعيفة لكنها ثابتة الآن، صدره يعلو ويهبط في طاعة، فلتستمر في التنفس، استمر.

قال السائق: «هل سمعتِ ما قاله؟ هذا الرجل يقول إنه سوف يبقى ويرعاه. سيارة الإسعاف قادمة بأسرع ما يمكن.»

أجابته دوري: «اذهب أنت. سوف أركب في إحدى السيارات التي تمر على الطريق إلى البلدة معهم وألحق بك في طريق عودتك الليلة.»

كان عليه أن ينحنيَ ليسمعها. تحدثتْ بنبرة ازدراء دون أن ترفع رأسها كما لو أنها الشخص الذي كان تنفسه عزيزًا.

قال: «هل أنت متأكدة؟»

ردت بالإيجاب.

– «ألا يجب أن تذهبي إلى لندن؟»

– «كلا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤