سعادة مفرطة

كثيرون ممن لم يدرسوا علم الرياضيات يخلطون بينه وبين علم الحساب، ويعتبرونه علمًا جافًّا ومملًّا. لكن، وفي الواقع، يتطلب هذا العلم خيالًا عظيمًا.

صوفيا كوفالفسكي

١

في اليوم الأول من شهر يناير من عام ١٨٩١، تمشي امرأة صغيرة الحجم ورجل ضخم في المقابر القديمة في جنوة. كان كلاهما في حوالي الأربعين من العمر. كان للمرأة رأس طفوليٌّ كبير، تغطيها أجمة من شعر مموج داكن؛ ويعكس وجهها تعبير لهفة ومسحة توسل شاحبة. بدأ وجهها في الذُّبول. أما الرجل فقد كان ضخمًا؛ كان يزن ٢٨٥ باوندًا، مُوزَّعةً على هيكل ضخم؛ ولأنه روسيٌّ، يُشار إليه غالبًا بالدُّبِّ والقوقازي أيضًا. كان هناك منحنيًا فوق شاهِدِ قَبْر، منخرطًا في تدوين شيء في دفتر ملاحظاته، كان ينقل النقوش من شواهد القبور، محاولًا فهم الاختصارات التي لا تتضح له على الفور، رغم أنه يتكلم الروسية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية ويفهم اللاتينية الكلاسيكية ولاتينية القرون الوسطى. تتسع معرفته اتساع حجمه الضخم، مع أن تخصصه هو القانون الحكومي، فهو قادر على إلقاء محاضرات في تطوير المؤسسات السياسية المعاصرة في أمريكا، وخصائص المجتمع في روسيا والغرب وقوانين الإمبراطوريات القديمة وممارساتها، لكنه ليس مُدَّعيًا، إنه ماهر ومحبوب، يتمتع بالرفاهة على عدة مستويات وقادرٌ على عيش حياة مريحة جدًّا؛ بسبب أملاكه بالقرب من خاركوف. ومع ذلك، فقد حُرِمَ من تولي منصب أكاديمي في روسيا لأنه ليبرالي.

اسمه يناسبه؛ ماكسيم، ماكسيم ماكسيموفيتش كوفالفسكي.

وكانت المرأة التي في صُحبته تحمل لقب كوفالفسكي أيضًا. كانت متزوجة من قريب بعيد له لكنها أرملة الآن.

تتحدث إليه ممازحة إياه:

«تعرف أن واحدًا منَّا سيموت، واحد منَّا سيموت هذا العام.»

يسألها وهو يسمعها بنصف أذن: «ولَمَ هذا؟»

«لأننا مشينا وسط المقابر في أول أيام السنة الجديدة.»

«حقًّا!»

تقول بأسلوبها الحيوي المشوب بالقلق: «هناك أشياء لم تعرفها بعد؛ عرفت هذا قبل أن أصل إلى الثامنة من عمري.»

قال: «تقضي الفتيات وقتًا أطول مع خادمات المطبخ، فيما يقضي الفتيان أوقاتهم في الإسطبلات؛ أظن هذا هو السبب.»

– «ألا يسمع الفتيان في الإسطبلات عن الموت؟»

– «ليس كثيرًا؛ يركزون على أشياء أخرى.»

كانت الثلوج تتساقط ذلك اليوم لكنها كانت ثلوجًا ناعمة. تركا وراءهما آثار أقدام ذائبة وسوداء حيث مشيَا.

•••

التقتْه لأول مرة في عام ١٨٨٨. جاء إلى استوكهولم ليقدم مشوراته بخصوص تأسيس كلية علوم اجتماعية. كانت جنسيتهما المشتركة، التي تصل إلى حد اسم العائلة المشترك، ستجمعهما حتى لو لم يحدث انجذاب خاص. كانت ستأخذ على عاتقها مهمة الترفيه عن زميل ليبرالي غير مرحب به في الوطن، ورعايته عامة.

لكن تبين أن هذا ليس واجبًا على الإطلاق؛ فقد أقبل أحدهما على الآخر كما لو أنهما قريبان ضلا الطريق أحدهما عن الآخر طويلًا. تبع لقاءهما وابلٌ من المزاح والأسئلة، وتفاهم فوريٌّ، وثرثرة تُهيمن عليها الروسية، كما لو أن لغات أوروبا الغربية أقفاص رسمية رديئة، طالما انحبسا داخلها، أو بدائل رديئة عن الكلام البشري الحقيقي. سريعًا ما تجاوز سلوكهما أيضًا آداب سلوكيات استوكهولم؛ فقد بقي حتى وقت متأخر من الليل في شقتها، وذهبت لتناول الغداء معه في فندقه وَحْدَهما. حين أصاب ساقه في حادث على الثلج، ساعدته على نقعها وارتداء ملابسه؛ والأكثر من هذا، وأخبرت الناس عن هذا. كتبت وصفًا عنه إلى صديق، مقتبسةً عن دي موسيه.

إنه مرح جدًّا وكئيب جدًّا في الوقت نفسه
جارٌ مزعجٌ ورفيق ممتاز
أرعن لأقصى الحدود، ومع ذلك شديد التكلف جدًّا
ساذج سذاجة تثير السخط، ومع ذلك بالغ اللامبالاة
مخلص إخلاصًا شديدًا، وبالغ المكر في الوقت ذاته.

وختمت وصفها قائلةً: «روسي أصيل، علاوة على كل ما سبق.»

أطلقت عليه حينئذٍ ماكسيم السمين.

«لم أشعر قطُّ بإغراء كتابة روايات الحب بالقدر الذي شعرت به أثناء وجودي مع ماكسيم السمين.»

و«إنه يحتل مساحة كبيرة جدًّا، سواء على الأريكة أو في عقل الشخص. ببساطة، من المستحيل بالنسبة لي، في حضوره، أن أفكر في أي شيء آخر غيره.»

حدث هذا في الوقت نفسه الذي كان يجب عليها فيه أن تعمل ليلًا ونهارًا؛ تستعد لاشتراكها في جائزة بوردين. «إني لا أهمل دوالِّي فقط، بل معادلاتي في التكامل الناقص والأجسام الصلبة كذلك.» قالت مازحةً مع زميلتها أستاذ الرياضيات ميتاج لفلر، التي أقنعت ماكسيم بأن الوقت قد حان لكي يذهبَ ويحاضر في إبسالا لفترة من الوقت. انتزعت نفسها من التفكير فيه؛ من أحلام اليقظة؛ لتعود إلى حركة الأجسام الصلبة، وحل ما يسمى بمسألة عروس البحر باستخدام دوالِّ ثيتا مع مُتَغيرين مستقلين. عَمِلت باستماته ولكنها كانت سعيدة؛ لأنه ظل هناك متربعًا في خلفية عقلها. حين عاد، كانت مرهقة لكنها مبتهجة بالنصر. نصران؛ بحثها جاهز للمسات الأخيرة ثم تقديمه دون كتابة اسمها عليه، وعودة حبيبها متذمرًا، لكن منشرحًا ومتلهفًا من مَنْفَاهُ، وكل لمحة منه تدل، حسبما اعتقدت، على أنه نوى أن يجعلها امرأة عمره.

•••

كانت جائزة بوردين هي ما أفسد عليهما سعادتهما. هكذا تؤمن صوفيا. أسَرَتها هي نفسها في البداية، انبهرت بكل الثريات والشمبانيا. غطت المجاملات التي تدير الرأس وكلمات الإعجاب وتقبيل اليد بطبقة سميكة على بعض الحقائق المزعجة والصامتة أيضًا. إنهم لن يمنحوها وظيفة تستأهل موهبتها، حتى إنها لتكون محظوظة لو وجدت نفسها تُدرِّس في مدرسة ثانوية محلية للبنات. أثناء ما كانت تنعم بكل هذا، هرب ماكسيم، وطبعًا، لم يترك كلمة واحدة بتاتًا عن السبب الحقيقي لهروبه؛ الورقة التي اضْطُرَّ إلى أن يكتبَها لم يتحدث فيها سوى عن حاجته إلى العيش في سلام قرية بوليو وهدوئها.

•••

لقد شعر أنه مُهمَل. رجل لم يتعود أن يُهمل، لم يحدث أنْ كان في صالون قطُّ، أو في أي حفل استقبال منذ أن غدَا رجلًا ولم يَحْظَ بالاهتمام. ولم يكن هذا هو الحال في باريس كذلك. لم تكن المشكلة هي خُفُوته بالمقارنة بشُهرة صوفيا، بقدر ما كانت اعتباره نموذجًا عاديًّا من الرجال. رجل ذو قيمة راسخة وسُمعة معروفة ووجاهة وذكاء، إلى جانب خفة ظله المرِحة، وجاذبيته الرُّجولية اللبِقة. في حين أنها فريدة عصرها، امرأة محبوبة غريبة الأطوار؛ امرأة ذات مواهب في علم الرياضيات وخجل أنثوي، فاتنة لكن تملك تحت تموجات شعرها عقلًا مؤسَّسًا تأسيسًا غير تقليدي.

كتب اعتذاراتِه الباردةَ والمتجهمةَ من بوليو، بعد أن رفض عرضها بأن تزورَه ما إنْ تنتهِ فورةُ نشاطاتها الكثيرة. قال إن لديه سيدةً تُقيم معه لا يستطيع أن يُعَرِّفَها عليها. كانت هذه السيدة في مِحْنة وتحتاج لتركيزه حاليًّا. قال إن صوفيا يجب أن تكونَ في طريقها إلى السويد؛ يجب أن تكون سعيدة حيث ينتظرها أصدقاؤها. وسيكون تلاميذها في حاجة إليها، وكذلك ابنتها الصغيرة. (أكانت تلك وكزة منه؛ تلميحًا مألوفًا لها لأمومتها المنقوصة؟)

ختم رسالته بجملة واحدة قاسية.

– «لو أحببتُكِ، لاختلفتْ كلماتي إليكِ.»

•••

كانت تلك نهاية كل شيء. عادت من باريس مع جائزتها وشهرتها البراقة الغريبة؛ عادت إلى أصدقائها الذين شعرت فجأة أنهم أصدقاء للتسلية وتمضية الوقت لا أكثر. عادت إلى تلاميذها الذين كانت تحمل لهم تقديرًا أكبر، لكن ذلك حين تقف أمامهم فقط حيث تتحول إلى ذاتها الرياضية، التي لا تزال، للغرابة، موجودة. وعادت إلى صغيرتها فوفو التي يفترض الجميع أنها لا تحظى برعاية كافية من أمها، صغيرتها ذات الروح المرحة التي تثير ذُهول الجميع.

كل شيء في استوكهولم ذكَّرها به.

جلست في الغرفة ذاتها، مع الأثاث الذي أحضرتْه بتلك النفقة السفيهة عبر بحر البلطيق. أمامها الأريكة ذاتها التي حملت جسده مؤخرًا بأناقة؛ بالإضافة إلى جسدها حين كان يضمها ببراعة بين ذراعَيْهِ؛ فبالرغم من حجمه لم يكن أخرق في ممارسة الحب.

هذا القماش الحريريُّ الأحمر نفسه الذي جلس عليه ضيوف مميزون وغير مميزين في بيتها القديم الضائع. ربما جلس فيودور دوستويفسكي في حالته العصبية البائسة، منبهرًا بأخت صوفيا، أنيتا. وبالتأكيد كانت صوفيا نفسها تمارس الإزعاج كالعادة كونها طفلة أمها المتذمرة.

الصِّوان القديم ذاته الذي أحضرتْهُ أيضًا من بيتها في باليبينو، يحمل صور أجدادها المرسومة بالبورسلين.

الجَدَّان شوبرت، لا يبدو عليهما أي ارتياح، هو في زيه الرسمي، وهي في فستان سهرة، يبدو عليهما تعبيرُ رضًا سخيف عن نفسَيْهِمَا. لقد حصلا على كل شيء يرغبان فيه — أو هكذا افترضتْ صوفيا — ولم يكن لديهما سوى مشاعر الاحتقار لكل امرئٍ ما لم يكن متآمرًا جدًّا أو محظوظًا جدًّا.

قالت لماكسيم: «هل تعرف أن جزءًا مني ألمانيٌّ؟»

– «بالطبع؛ وإلا فكيف يمكنك أن تكوني معجزة كبيرة لو اختلف الحال؟ وأن تملكي رأسًا مليئًا بأرقام خرافية؟»

لو أحببتك.

أحضرت فوفو لها المربى في طبق، وطلبت منها أن تلعب معها إحدى العاب الورق الخاصة بالأطفال.

– «اتركيني وَحْدِي، ألَا يمكنك أن تدعيني وَحْدِي؟»

لكنها راحت تذرف دموعًا بعد ذلك وطلبت المعذرة من الطفلة.

•••

لكن في النهاية صوفيا ليست الشخص الذي يكتئب للأبد. ابتلعت كبرياءها وحشدت قدراتها، وكتبت رسائل مرحة ربما تكون أراحتْه بما فيها من مُتَع تافهة: تزلجها على الجليد، ركوبها الخيل وتركيزها على السياسات الروسية والفرنسية، وربما تكفي حتى لتشعره بأن تحذيره كان وحشيًّا وغير ضروري. نجحت في أن تنتزع دعوة أخرى منه، وانطلقت إلى قرية بوليو في الصيف ما إن انتهت محاضراتها.

قضت أوقاتًا ممتعةً تخللها بعض من حالات «سوء التفاهم» على حد قولها، (غيرت هذا التعبير، في وقت من الأوقات، إلى «أحاديث») ونوبات برود، انفصالات، انفصالات وشيكة، ثم لُطف مفاجئ. خاضا رحلة متخبطة حول أوروبا، قدما نفسيهما عاشقين، بصراحة فاضحة.

تتساءل أحيانًا إذا كان على علاقة بنساء أُخريات. هي نفسها كانت تتلهى بفكرة الزواج من ألماني غازلها، لكن الألماني كان شديد التدقيق، فاسترابت في أنه يريد ربة منزل، كما أنها لم تكن تحبه. كانت الدم يتجمد في عروقها بينما ينطق هو بكلمات الحب بألمانية متأنقة.

قال ماكسيم — ما إن سمع عن هذا التودد ذي القصد الشريف — أن تتزوجَه أفضل. بشرط أن تتمكن من الشُّعور بالارتياح لما يعرضه عليها. ادعى أنه يتحدَّث عن المال، حين قال هذا. أن تشعر بالارتياح لما يتمتع به من ثروة كان مزحةً بالطبع. أما أنْ تشعرَ بالارتياح مع عطاء المشاعر الفاترة والمهذبة، بعد استبعاد خيبات الأمل والأحداث التي أثيرت تقريبًا بسببها؛ فهذه مسألة أخرى كُلِّيَّة.

لجأت إلى المزاح؛ إذ جعلته يتصور أنها تراه غير جادٍّ، وكذلك غير حازم، لكن حين عادت إلى استوكهولم رأت نفسها حمقاء. وهكذا كتبت إلى جوليا، قبل أن تتجه إلى الجنوب في عطلة عيد الميلاد، بأنها لا تعرف ما إذا كانت ذاهبة إلى السعادة أم إلى الحزن. كانت تقصد أنها ستعلن عن موقفها بجدية وتكتشف إذا كان جادًّا. واستعدت لتلقي أقصى درجات خيبة الأمل إهانةً.

وفَّر عليها كل هذا؛ في النهاية، كان ماكسيم رجلًا نبيلًا والتزم بكلمته؛ سوف يتزوجان في الربيع. ما إن قرَّرا هذا، حتى أصبحا يشعران براحة أكبر معًا منذ بدايتهما الأولى. أحسنت صوفيا التصرف، بدون عُبوس أو ثورات غضب. توقع منها بعضًا من آداب السلوك اللائق، لكن ليس سلوكيات ربَّة بيت. لن يعترض أبدًا — مثلما قد يفعل أي زوج سويدي — على تدخينها السجائر وشُربها المتواصل للشاي رُدود أفعالها الغاضبة إزاء القضايا السياسية. ولم تشعر بالإزعاج حين رأتْ أنه قد يغدو غير عقلاني وسريع الغضب ويشعر بالرثاء على نفسه، مثلها، حين يضايقه النقرس. في النهاية، كانا ابْنَيْ بلد واحد. وكانت تشعر بضجَر يشوبه الإحساس بالذنب مع السويديين العقلانيين الذين كانوا الشعب الوحيد في أوروبا المستعد لتعيين أستاذ رياضيات أنثى في جامعته الجديدة. كانت مدينتهم نظيفة جدًّا ومنظمة، وعاداتهم في غاية الاتِّساق، وحفلاتهم في منتهى التأدب. ما إنْ يقرروا مسارًا صحيحًا يتوجهون إليه مباشرة ويسلكونه، دون قضاء ليالٍ صاخبة وربما خَطِرة في الجدالات التي قد تستمر إلى الأبد في بيترسبرج أو باريس.

لم يتدخل ماكسيم في عملها الحقيقي، الذي كان البحث وليس التدريس، لعله يشعر بالسعادة لأن لديها شيئًا ما يستحوذ على اهتمامها، مع أنها شكَّت في أنه، وإن لم يكن يرى الرياضيات علمًا تافهًا، فإنه يراه علمًا غير مهم. وكيف يمكن لأستاذ في القانون والسوسيولوجي أن يفكر بنحو غير ذلك؟

•••

كان الجو أدفأ في نيس، بعد عدة أيام، حين كان يصطحبها لتستقلَّ قطارها.

قالت: «كيف يمكن أن أذهب، كيف يمكنني أن أترك هذا الجو اللطيف؟»

– «آه، لكن مكتبك ومعادلاتك التفاضلية في انتظارك. في الربيع لن تقدري على انتزاع نفسك.»

– «أتعتقد هذا؟»

لا يجب أن تفكر؛ لا يجب أن تفكر أنها طريقة غير مباشرة ليقول إنه تمنى ألَّا يتزوجا في الربيع.

كانت قد كتبت فعليًّا لجوليا، قالت إنها ستحظى بالسعادة في النهاية؛ السعادة.

•••

على رصيف محطة القطار عبرت قطة سوداء أمامَهما في مسار مائل. تكره القطط بخاصة السوداء، لكنها لا تقول شيئًا وتكبح رجفتها. وكما لو أنه يكافئها على سيطرتها على نفسها يعلن أنه سوف يصاحبها حتى مدينة كان، إذا لم تمانع. لم تستطع أن تجيبَه، تشعر بالامتنان. والدموع تضغط على عينيها ضغطًا مؤلمًا. يرى أن النحيب علنًا فعل مهين (يعتقد أنه لا يجب أن يتحملَه صاغرا في مكان خاص كذلك).

تنجح في ابتلاع دُموعها، وحين يصلان إلى كان، يضمها ضمنًا إلى ملابسه الأنيقة الواسعة ذات الرائحة الرجولية؛ مزيج من فرو وتبغ غالٍ. يقبِّلها باحتشام لكن بنقرة صغيرة بلسانه على شفتيها، تذكرة بالشهوات الخاصة.

بالطبع، لم تذكِّره أن عملها كان على نظرية المعادلات التفاضلية (الجزئية)، وأنها انتهت منه منذ مدة طويلة. تقضي الساعة الأولى — أو نحوًا من ذلك — من رحلتها المنفردة كما تقضي عادة بعض الوقت الذي يلي افتراقها عنه؛ توازن بين علامات الحب والتبرم، وبين اللامبالاة والعاطفة المحدودة.

قالت لها صديقتها ماري مندلسن: «تذكَّري دائمًا أن الرجل عندما يخرج من الغرفة، فإنه يترك كل شيء خلفه فيها، وحين تخرج المرأة تحمل كل شيء حدث في الغرفة معها.»

على الأقل لديها وقت الآن لتكتشف أنها تعاني من التهاب في الحلْق. تمنَّت ألَّا يشكَّ فيها لو كان التقطه منها؛ فلأنه عازب بصحة متينة يرى أن أي عدوى مرضية بسيطة تصيبه إهانة، والتهوية السيئة والنفَس الفاسد هجوم شخصي عليه؛ إنه مدلل لحد الإفساد في نواحٍ معينة.

بل إنه مدلل وحَقُود في الحقيقة. منذ فترة كتب لها أن كتابات معينة له بدأت تنسب لها بسبب تشابه الأسماء؛ تلقَّى رسالة من مؤسسة أدبية في باريس، بدأت بتوجيه الكلام إليه بسيدتي العزيزة.

للأسف نسي — كما قال — أنها روائية إلى جانب أنها أستاذ رياضيات. أي إحباط أصاب الباريسيين حين علموا أنه لم يكن أيًّا من هذا، مجرد أستاذ جامعة، ورجل.

مزحة كبيرة فعلًا.

٢

تنام قبل أن تضاءَ أضواء القطار. كانت أفكار يقظتها الأخيرة أفكارًا مزعجة عن فيكتور جاكلارد، زوج أختها المتوفاة، الذي تخطط لرؤيته في باريس. فعليًّا، هي تتلهف على رؤية ابن أختها يوري، لكن الولد يعيش مع أبيه. تتصور يوري دائمًا في عقلها حين كان في حوالي الخامسة أو السادسة، فهو يتمتع ببشرة شقراء ملائكية، عذب وبريء، لكن لا يشبه في مزاجه أمه أنيتا كثيرًا.

تجد نفسها في حُلم مُشوَّش عن أنيتا، لكنها أنيتا قبل أن يدخل يوري وجاكلارد إلى المشهد بفترة طويلة. جاءتها أنيتا في الحُلم غير متزوجة، وبشعر ذهبي جميل وطباع سيئة، في مقاطعة العائلة في باليبينو، حيث تُزيِّن غرفتها العالية بأيقونات أرثوذكسية، وتشتكي من أنها ليست الأعمال الفنية الدينية اللائقة بأوروبا في القرون الوسطى. كانت تقرأ رواية لبولوير لايتون، وتُدني على جسدها خمارًا، فكانت خير تجسيد لإديث الجميلة، عشيقة هارولد الثاني. تخطط لتكتب روايتها عن إديث، وكتبت فعليًّا عدة صفحات تصف المشهد الذي كان على البطلة أن تتعرف فيه على جسد حبيبها الممزق من علامات معينة لا يعرفها غيرها.

وها هي قد تمكنت بطريقة ما من الوصول إلى هذا القطار، تقرأ تلك الصفحات على صوفيا التي لا تستطيع أن تَحْمِلَ نفسها على أن تشرحَ لها كم تغيرت الأمور، وما حدث منذ تلك الأيام في الغرفة العالية.

حين استيقظت صوفيا، فكرت كمْ كان كل ذلك حقيقيًّا — هوس أنيتا بالقُرون الوسطى وخاصة التاريخ الإنجليزي — وكيف اختفى هذا في يوم من الأيام؛ الحجاب وكل شيء، كما لو لم يكن أي شيء منها موجودًا قبل ذلك، وبدلًا من هذا أصبحت أنيتا جادَّة ومعاصرة تكتب عن فتاة شابة ترفض — بسبب إلحاح والديها ولأسباب تقليدية — باحثًا شابًّا، يموت؛ فتدرك بعد موته أنها تحبه، فلا يعود أمامها خيار سوى اللحاق به.

قدَّمت هذه القصة سرًّا إلى مجلة يحررها فيودور دوستويفسكي، ونُشِرَت.

فاستشاط أبوها غضبًا.

«الآن تبيعين قصصك، فكم من الوقت سيمضي قبل أن تبيعي نفسك؟»

ظهر فيودور نفسُه على الساحة في خِضَمِّ هذا الاضطراب؛ إذ لم يُحسن التصرف في إحدى الحفلات لكنه هدَّأ من رَوْع والدة أنيتا في مكالمة خاصة، أنهاها بعرض زواج. وبما أن والدها يعارض هذا تمامًا فقد أغرى موقفه أنيتا بأن تقبلَ وأنْ تَفِرَّ معه. لكنها — في النهاية — كانت مغرمة بالأضواء وربما أطلعها حدس داخلي كيف سوف تضحِّي بهذه الأضواء مع فيودور؛ لهذا رفضتْه. ضمها في روايته (الأبله) في شخصية أجليا، وتزوجت من كاتب اختزال شاب.

تنعس صوفيا مرة ثانية؛ فتنجرف إلى حُلم آخر حيث كانت هي وأنيتا صغيرتين لكن ليس في عمرهما في بالبينو، وهما معًا في باريس، وقد حل جاكلارد حبيب أنيتا — لم يكن قد تزوجها بعد — محل هارولد الثاني وفيودور الروائي بطلًا لروايتها، وجاكلارد بطل أصيل مع أنه غير مهذب (يتألق في أصوله القروية) وغير مخلص منذ البداية. كان يحارب في مكان ما خارج باريس، وأنيتا تخاف من أن يقتلَ لأنه شجاع جدًّا. والآن في حُلم صوفيا ذهبت أنيتا تبحث عنه، لكن الشوارع التي كانت تجول فيها منتحبةً ومناديةً اسمه، كانت في بيترسبرج وليست في باريس، وتركت صوفيا في مستشفى باريسي ضخم مليء بالجنود الموتى، والمواطنين الجرحى، وكان زوجها فلاديمير من بين الموتى. تهرب من كل هؤلاء الجرحى، تبحث عن ماكسيم، الآمن من القتال، في فندق سبليندد. ماكسيم سيُخرجها من كل هذا.

تستيقظ، ترى الأمطار تتساقط في الخارج، والجو مُعْتِم؛ ليست وحيدة في المقصورة. تجلس إلى جانب الباب امرأة شابة غير مُهَنْدَمَة، تحمل محفظة رسم. تخشى صوفيا أن تكون قد صرخت في حُلمها، لكنها لم تفعل على الأرجح؛ لأن الفتاة تنام في هدوء.

بفرض أن الفتاة كانت مستيقظة، كانت صوفيا ستقول لها: «سامحيني؛ كنت أحلم بعام ١٨٧١. كنت هناك في باريس، وكانت أختي تحب أحد أفراد كومونة باريس. قُبض عليه وكان يمكن أن يُقْتَلَ بالرَّصاص أو أن يُرسلَ إلى نيوكايدونيا لكننا استطعنا أن نحرِّرَه. زوجي فعل هذا. لم يكن زوجي فلاديمير من أعضاء الكومونة إطلاقًا، بل لم يكن يريد سوى أن يشاهد الحفريات في جاردن دي بلانتس.»

قد تشعر الفتاة بالملل. قد تتصرف بتهذيب لكنها كانت سوف تنقل إليها مع ذلك إحساسها بأن كل هذه الأحداث، في رأيها، حدثت قبل طرد آدم وحواء؛ فلربما هي ليست فرنسية حتى. إن الفتيات الفرنسيات اللواتي يستطعن تحمل تكاليف السفر في الدرجة الثانية لا يسافِرْن وَحْدَهُنَّ في الغالب، فهل تكون الفتاة أمريكية؟

كان صحيحًا — للغرابة — أن فلاديمير استطاع أن يقضيَ بعضًا من تلك الأيام في جاردن دي بلانتس، لكنه لم يُقتَل؛ ففي خضم الاضطراب، كان يُرْسِي أُسَس مهنته الحقيقية الوحيدة، عالم حفريات. وصحيح أن أنيتا اصطحبت صوفيا إلى مستشفى حيث طُرِدَتْ كل الممرضات المحترفات؛ فقد كنَّ يُعْتَبَرْنَ معادياتٍ للثورة، ومن ثم استُبْدِلْنَ بزوجاتٍ ورفيقاتٍ من الكومونة. لُعِنَ النساء العاديات البديلات لأنهن لم يكنَّ يَعْرِفْنَ حتى كيف يُضَمِّدْنَ جرحًا، ومات الجرحى، لكن معظمهم كان ميتًا على كل حال. كان لا بد من معالجة المرض الذي انتشر، إلى جانب جروح المعركة، وكان يُقال إن العامَّة كانوا يأكلون الكلاب والفئران.

حارب جاكلارد والثوار عشرة أسابيع. بعد الهزيمة حُبسَ في سجن فرساي في زنزانة تحت الأرض، وقُتل عدة رجال رَمْيًا بالرَّصاص عن اعتقاد خاطئ أنهم جاكلارد؛ أو هكذا انتقل الخبر.

وفي ذلك الوقت، وصل — الجنرال — والد أنيتا وصوفيا من روسيا. نُقِلَت إلى هايدلبرج حيث استرخت في فراشها. عادت صوفيا إلى برلين وإلى دراسة الرياضيات، وبَقِيَ فلاديمير، حيث ترك ثدييات العصر الثالث ليتعاون مع الجنرال في إطلاق سراح جاكلارد. نجحا في هذا بالرشوة والإقدام؛ فقد كان من المخطط أن يُنقَل جاكلارد من محبسه إلى محبس آخر في باريس تحت حراسة جندي واحد، وسَلَكَا شارعًا معينًا يكون مزدحمًا بسبب معرض فني. وكانت الخطة أن يخطفه فلاديمير بينما ينظر الحارس إلى الجهة الأخرى؛ فقد حصل على مبلغ من المال في مقابل القيام بذلك. وسوف يشق جاكلارد — تحت إرشاد فلاديمير — طريقَه عبر الحُشود إلى غرفة يجد فيها بذلة مدنية، ثم يصطحبه فلاديمير إلى محطة السكة الحديدية، ويعطيه جواز سفر فلاديمير، حتى يستطيع الهرب إلى سويسرا.

تمت المهمة بنجاح.

لم يُكلف جاكلارد نفسه أن يُرجع جواز السفر بريديًّا حتى التحقت به أنيتا، وأعادته هي. لم يسدد ما عليه من مال قطُّ.

•••

أرسلت صوفيا رسائل قصيرة من فندقها في باريس إلى ماري ماندلسون وجوليس بوانكاريه. ردت خادمة ماري بأن سيدتها في بولندا. أرسلت صوفيا رسالة قصيرة أخرى لتقول إنها قد تطلب مساعدة صديقتها، في الربيع القادم، في «اختيار الزي الذي سوف يناسب الحدث الذي يعتبره العالم أهم حدث في حياة المرأة.» وأضافت: إنها وعالم الأزياء ليسا على وفاق إطلاقًا.

جاء بوانكاريه في ساعة مبكرة جدًّا من الصباح، مشتكيًا من فوره سلوك عالم الرياضيات فايرشتراس، مشرف صوفيا القديم، الذي كان أحد المحكِّمين في مسابقة جائزة ملك السويد للرياضيات الأخيرة. كان بوانكاريه قد حصد الجائزة بالفعل، لكن فايرشتراس قرر أن يُعلَن أنه كان من المحتمل أن توجد أخطاء في عمل بوانكاريه، الذي لم يحصل — أي فايرشتراس — على الوقت الكافي للتدقيق فيه. أرسل خطابًا يقدم فيه تساؤلاته الملحقة بالرسالة إلى ملك السويد؛ كما لو أن شخصية مثل هذه ستفهم ما يتحدَّث عنه، وكتب تصريحًا عن بوانكاريه الذي سوف تنبثق قيمته في المستقبل من النواحي السلبية في عمله أكثر من الإيجابية.

هدأته صوفيا؛ إذ قالت له إنها سترى فايرشتراس بعد قليل، وستناقش معه هذه المسألة. تظاهرت بأنها لم تسمع بأي شيء عن الأمر، مع أنها كتبت فعليًّا رسالة مازحة لأستاذها القديم بخصوصها.

«أعتقد أن الملك عانَى من اضطراب في نومه الملكي منذ أن وصلته معلوماتك. تصور كيف أزعجت العقل الملكي الذي كان حتى تلك اللحظة منعمًا في جهله بالرياضيات. احذر من أن تجعله يندم على كرمه …»

قالت لجوليس: «في النهاية؛ في النهاية أنت لديك الجائزة وستظل لديك للأبد.»

وافق جوليس، مضيفًا أن اسمه سيبرق بينما يذهب اسم فايرشتراس في طيِّ النسيان.

سوف نُنسى جميعًا، فكرت صوفيا لكنها لم تَقُلْ هذا بسبب الحساسية المرهفة لدى الرجال — خاصة الشباب منهم — إزاء هذه النقطة.

ودَّعَتْهُ في الظهيرة؛ وذهبت لترى جاكلارد ويوري. كانا يعيشان في القسم الفقير من المدينة. اضْطُرَّتْ إلى عُبور فناء نُشِرت فيه ملابس مغسولة. كان المطر توقف، لكن النهار ظل معتمًا. صعدت درجًا طويلًا وزلقًا إلى حد ما. صاح جاكلارد أن الباب غير موصد، فدخلت لتجدَه جالسًا فوق صندوق مقلوب، يُلمِّع زوجين من حذاء طويل الرقبة. لم يقف ليحَيِّيَها، وحين همَّت بخلع ردائها قال: «من الأفضل ألَّا تفعلي؛ المدفأة لن تعمل قبل المساء.» أشار لها لتجلس على الكرسيِّ الوحيد الموجود في المكان، وكان ملوثًا، ملوثًا بالشحوم. هذا أسوأ مما توقعت. لم يكن يوري هنا، لم ينتظر ليراها.

كانت تريد معرفة أَمْرَيْنِ عن يوري: هل كان أقرب شبهًا بأنيتا والجانب الروسي من عائلته؟ وهل كان يزداد طوله؟ في الخامسة عشرة، العام الماضي في أوديسا، كان يبدو وكأنه لم يَتَعَدَّ الثانية عشرة.

سرعان ما اكتشفت أن الأمور اتخذت منعطفًا باتت معه تلك الشواغل أقل شأنًا.

قالت: «أين يوري؟»

– «في الخارج.»

– «في المدرسة؟»

– «ربما. لا أعرف الكثير عنه. وكلما عرفت عنه شيئًا، قل اكتراثي له.»

فكرت أن تهدئه وتتناول المسألة فيما بعد. سألته عن صحته؛ أي جاكلارد؛ فقال إن رئتيه في حالة سيئة. قال إنه لم يُشْفَ من آثار عام ١٨٧١؛ الجوع وليالي النوم في العراء. لم تتذكر صوفيا أن المقاتلين كادوا يموتون جوعًا — كان من واجبهم أن يأكلوا لكي يتمكنوا من القتال — لكنها قالت موافقةً إنها كانت تفكر توًّا في تلك الأوقات، في القطار. قالت إنها كانت تفكر في فلاديمير وعملية الإنقاذ التي كانت تبدو وكأنها إحدى مشاهد أوبرا كوميدية.

قال إن الأمر لم يكن كوميديًّا، ولم يكن مشهدًا من أوبرا، لكنه أضحى أكثر حركة وهو يتحدَّث عنه. تحدَّث عن رجال قُتلوا رميًا بالرَّصاص خطأً؛ إذ شُبِّه كل منهم لمن قتلوه أنه جاكلارد؛ تحدَّث عن القتال المستميت الذي دار بين العشرين والثلاثين من مايو. وحين قُبِضَ عليه أخيرًا، كانت الإعدامات بإجراءات موجزة قد انتهت، لكنه كان لا يزال يتوقع أن يموت بعد محاكمتهم الهزلية. كيف نجح في الهرب؟ الله وَحْدَهُ يعلم. لا يعني هذا أنه يؤمن بالله، أضاف ذلك، كما يفعل كل مرة.

كل مرة، وكل مرة يحكي القصة، يغدو دور فلاديمير — والدور الذي لعبته أموال الجنرال — أصغر. ولا يأتي على ذكر جواز السفر كذلك، فقط شجاعة فلاديمير وإقدامه هما اللاعبان الأساسيان، لكن بدا أكثر توددًا لجمهوره وهو يتحدث.

لا يزال اسمه في الذاكرة، ولا تزال حكايته تُروى.

وتبعت تلك قصص أخرى، مألوفة أيضًا. نهض وأحضر خزانة حديدية صغيرة من تحت الفراش. كانت الخزانة تحتوي على تلك الورقة الخطيرة، الورقة التي طردته من روسيا حين كان في بيترسبرج مع أنيتا بعد انقضاء أيام الكومونة. لا بد أن يقرأها كلها.

«السيد الفاضل، قنسطنطين بيتروفتش، أضع بين يَدَيْكَ على وجه السرعة المسألة التالية: إن الفرنسي جاكلارد، عضو الكومونة السابقة خلال إقامته في باريس كان على اتصال دائم بممثلي الحزب البروليتاري الثوري البولندي، واليهودي كارل مندلسون، ومن خلال اتصالاته الروسية بوساطة زوجته، تورَّط في نقل رسائل مندلسون إلى وارسو. وهو كذلك صديق للعديد من الراديكاليين الفرنسيين البارزين. ومن بيترسبرج، أرسل جاكلارد أخبارًا مزيفة ومضرة إلى باريس عن الشئون السياسية الروسية، وبعد الأول من مارس ومحاولة الانقلاب ضد القيصر، تجاوزت هذه المعلومات كل حدود الصبر؛ لهذا وبإلحاح مني قرر الوزير أن يرسله إلى خارج حدود إمبراطوريتنا.»

عادت البهجة له بينما يقرأ، وتذكرت صوفيا كم اعتاد المزاح والمرح، وكيف كانت هي، بل وفلاديمير كذلك يتشرفان إلى حد ما بأنه يلاحظ وجودهما، ولو باعتبارهما جمهورًا له ليس إلا.

قال: «آه، يا له من شيء سيئ جدًّا، سيئ جدًّا أن المعلومات ليست كاملة. لم يذكر قطُّ أن الماركسيين الأمميين في ليون اختاروني لأمثِّلهم في باريس.»

في تلك اللحظة دخل يوري، لكن والده واصل حديثه قائلًا: «كان هذا سرًّا بالطبع. عينوني رسميًّا في لجنة الأمان العام لليون.» كان يقطع المكان جيئةً وذهابًا الآن في جديةٍ ثائرةٍ فرحةٍ؛ «كنا في ليون حين سمعنا أن نابليون الثالث وقع في الأسر، وطَلَوْهُ كالعاهرات.»

أومأ يوري لخالته، وخلع كنزته — لا يشعر بالبرد بالتأكيد — وجلس على الصندوق، وتولى مهمة أبيه في تلميع الحذاء طويل الرقبة.

حقًّا؛ كان يشبه أنيتا، لكنه يحمل ملامح أنيتا في أواخر أيامها: الترهل المتجهم المرهِق للجفنين، والاعوجاج الذي ينم عن الارتياب — الاستهزاء في حالته — في الشفتين الممتلئتين. لا علامة على الفتاة ذات الشعر الذهبي بنهمها للخطر، للمجد الأخلاقي، ونوبات الإهانة الجارحة. في هذا المخلوق يوري، لم تَبْقَ ذكرى سوى ذكرى امرأةٍ مريضةٍ سقيمةٍ، تعاني من الربو والسرطان، لا تَكُفُّ عن التعبير عن لهفتها على الموت.

أحبها جاكلارد في البداية، ربما بقدر ما يستطيع أن يحب أي شخص. لاحظ حبها له. في رسالته الساذجة — وربما المغرورة — لوالدها؛ إذ يشرح قراره بالزواج منها، كتب يقول إنه ليس من العدل أن يهجر امرأة متعلقة به إلى هذا الحد. لم يتخلَّ قطُّ عن نساء أخريات، حتى في بداية العلاقة حين كانت أنيتا محمومة باكتشافها إياه، وبالتأكيد لم يفعل خلال زواجهما. اعتقدت صوفيا أنه لا يزال جذابًا في عيون النساء، مع أن لحيته شعثاء رَمادية، وكان حين يتحدث يتحمس في بعض الأحيان إلى حد أن كلماته تخرج في بصقات. بطل أنهكته صراعاته، بطل ضحى بشبابه؛ هكذا ربما يقدِّم نفسه، دون أن يخلوَ هذا من المؤثرات. وهذا حقيقي، على نحو ما. كان شجاعًا جسديًّا، وكانت لديه مُثُل، وُلِد فلاحًا يعرف معنى أن يكون المرء مُحتَقَرًا.

وكذلك هي؛ كانت تحتقره، الآن فقط.

كانت مظهر الحجرة باليًا، لكن حين تنظر إليها بتمعن ترى أنها في أنظف حالٍ ممكنةٍ. تتدلَّى بعض أواني الطبخ من مسامير في الحائط. كان الموقد نظيفًا، وكذلك قاع تلك الأواني. خطر على بالها أن هناك امرأة معه حتى في الوقت الحاليِّ.

كان يتحدَّث عن كليمينسو، قائلًا إنهما كانا على علاقة طيبة. كان مستعدًّا الآن أن يتحدث بزَهْو عن صداقة مع رجل توقعت أن يتهمه بأنه كان يعمل لحساب الخارجية البريطانية (مع أنها نفسها كانت مقتنعة بأن هذه تهمة باطلة).

زاغت منه مُثنِيةً على نظام الشقة.

نظر حوله، مذهولًا من تغييرها الموضوع، ثم ابتسم ببطء، وبرغبة جديدة في الانتقام.

«إني متزوج من امرأة ترعى شئوني، إنها فرنسية؛ ويسعدني أن أقول إنها ليست ثرثارة وكسولة مثل الروسيات. متعلمة، وكانت مربية أطفال لكنها طُردت بسبب مُيولها السياسية. أخشى أني لا أستطيع أن أعَرِّفَك عليها. إنها فقيرة لكن محترمة ولا تزال تحترم سمعتها.»

قالت صوفيا بينما تنهض: «آه، كنت أنوي أن أخبرك بأني سأتزوج مرة أخرى من سيد روسي.»

– «سمعت أنك على علاقة بماكسيم ماكسيموفتش. لم أسمع أي شيء عن الزواج.»

كانت صوفيا ترتجف من طول جلوسها في البرد. تحدثت إلى يوري، بقدر ما تستطيع من بهجةٍ.

– «هل تمشي مع خالتك العجوز إلى المحطة؟ لم تُتَحْ لي فرصة لأتحدث معك.»

قال جاكلارد في خبث شديد: «أتمنى ألَّا أكونَ قد أسأت إليك؛ أنا أومن دائمًا بقول الحقيقة.»

– «إطلاقًا.»

ارتدى يوري الجاكت، التي رأت أنه متسع عليه. ربما اشتراه من سوق للملابس المستعملة. نما لكن لم يكن أطول من صوفيا نفسها. ربما لم يتناول الطعام الصحيح في الفترات المهمة من حياته. كانت والدته فارعة الطول وكذلك كان جاكلارد.

ومع أنه بدا غير متحمس لمرافقتها، فقد بادر بالحديث قبل أن يصلا إلى نهاية السلالم، وحمل عنها حقيبتها من فوره دون أن تطلبَ منه ذلك.

قال: «إنه شحيح لدرجة أنه حتى لم يشعل لك النار. هناك حطب في الصندوق، هي أحضرته هذا الصباح. إنها قبيحة قبح فأر المجارير، لذا لم يرغب في أن تلتقيَ بها.»

– «لا يجب أن تتحدثَ بهذه الطريقة عن أي امرأة.»

– «لِمَ لا ما دُمْنَ يُرِدْنَ المساواة؟»

– «أعتقد أني يجب أن أقولَ ألا تتحدَّث عن الناس بهذه الطريقة، لكني لا أريد أن أتحدث عنها أو عن والدك. أريد أن أتحدَّث عنك. كيف حالك مع موادِّك الدراسية؟»

– «أكرهها.»

– «لا يمكن أن تكرهَها كلها.»

– «لِمَ لا؟ ليس من الصعب عليَّ أن أكرهَها كلها.»

– «هل تستطيع التحدث بالروسية معي؟»

– «إنها لغة بربرية، لِمَ لا تتحدثين بفرنسية أفضل؟ يقول إن لُكنتك بربرية. يقول إن لُكنة أمي كانت بربرية أيضًا. الروس بربريون.»

– «هل يقول هذا أيضًا؟»

– «إني أكوِّن رأيي بنفسي.»

مَشَيَا فترة في صمت.

قالت صوفيا: «هذا الوقت من العام كئيبٌ في باريس. هل تتذكر الوقت الجميل الذي قضيناهُ ذلك الصيف في سيفر؟ تكلمنا عن كل شيء. لا تزال فوفو تتذكرك وتتحدَّث عنك. تتذكر كم كنت ترغب في أن تأتيَ وتعيشَ معنا.»

– «كانت تلك رغبة طفولية. لم أفكر بواقعية في ذلك الوقت.»

– «إذن هل تفكر بواقعية الآن؟ هل فكرت في مهنة لك.»

– «نعم.»

ونظرًا لنبرة الرضا الهازئة التي استشعرَتْها في صوته وهو يقول كلمته الأخيرة هذه. لكنه أخبرها على أية حال.

– «سوف أعمل مُناديَ حافلة، أُعْلِنُ عن المحطات. حصلت على هذه الوظيفة حين هربت في وقت احتفالات عيد الميلاد، لكنه جاء وأعادني، لكن بعد عيد ميلادي المقبل لن يستطيع أن يفعل ذلك.»

– «قد لا يسعدك دومًا الإعلان عن المحطات.»

– «لِمَ لا؟ إنه مفيد جدًّا. إنها ضرورة دائمة، وبحسب ما أرى، ليس من الضرورة أن يكون المرءُ عالمَ رياضيات.»

لزمت صوفيا الصمت.

قال: «لن أستطيع احترام نفسي، إذا أصبحت عالم رياضيات.»

كانا يصعدان إلى رصيف المحطة.

«كل ما أفعله هو حصد الجوائز وجمع المال عن أشياء لا يفهمها أي أحد ولا يهتم بها ولا تُقدِّم فائدةً لأحد.»

ردت صوفيا: «شكرًا لحملك الحقيبة عني.»

أعطَتْهُ بعض المال مع أنه ليس بالقدْر الذي كانت تنويه. أخذه بابتسامة عريضة مزعجة، ولسان حاله يقول: تعتقدين أني سأكون أَبِيًّا؟ ثم شكرها بعجلة كما لو أن الأمر لم يكن بإرادته.

راقبتْه بينما يذهب، مفكرةً أنها لن تراه مرة ثانية أبدًا على الأرجح. طفل أنيتا. وعلى أية حال، كم كان يشبه أنيتا. كانت أنيتا تُفسد كل تجمع عائليٍّ على الطعام في باليبينو بخطبها التوبيخية المتغطرسة. كانت أنيتا تذرع ممرات الحديقة ساخطةً على حياتها، ومؤمنةً بمصيرها الذي سيأخذها إلى عالم جديد وعادل لا يعرف الرحمة.

ربما يغير يوري مساره؛ لا أحد يعرف. ربما حتى يُولَعَ بخالته صوفيا، مع أن ذلك لن يحدث قبل أن يصل إلى عمرها الآن، وتكون هي قد ماتت منذ زمنٍ بعيد.

٣

وصلت صوفيا قبل موعد قطارها بنصف ساعة. أرادت أن تحتسيَ قدحًا من الشاي، وتتناولَ قرص استحلابٍ لحلْقها، لكنها لم تستطع تحمُّل الانتظار في صف والتحدث بالفرنسية. مهما بلغ نجاحك في تدبر الأمور حين تكون بصحة جيدة، فإن انخفاض معنوياتك أو إحساسك المسبق بالمرض كافيان لتلوذ بالفرار إلى حمى لغتك الأم. جلست على مَقْعَد وتركت رأسها يسقط. تستطيع أن تنامَ للحظة.

امتدَّتِ اللحظةُ؛ مر خمس عشرة دقيقة بحَسَب ما تعلنه ساعة المحطة. تجمَّع حشدٌ كبير الآن، وكان هناك قدرٌ كبير من الضجة حولَها، ونشطت حركةُ عرَبات الحقائب.

بينما كانت تُسْرِعُ الخُطَى إلى قطارها، رأت رجلًا يرتدي قبعةً من الفراء مثل تلك التي يرتديها ماكسيم، رجلًا ضخمًا في معطف داكن. لم تستطع أن ترى وجهَه. كان يتحرك في اتجاه بعيد عنها، لكن كتفيه العريضتين، ودماثته، بل وطريقته الحاسمة في شق طريقه، ذكَّرتها بماكسيم بشدة.

مرت عربة مكدَّسة بالحقائب بينهما، واختفى الرجل.

بالطبع لا يمكن أن يكونَ ماكسيم. ما الذي يمكن أن يفعله في باريس؟ أي قطار أو موعد يُهْرَعَ إليه؟ بدأ قلبها يخفق في انزعاج بينما تتجه إلى قطارها، ووجدت مقعدها إلى جانب النافذة. كان من المنطقيِّ أن في حياة ماكسيم نساء أخريات. كان هناك، على سبيل المثال، المرأة التي لم يستطع أن يُعَرِّفَ صوفيا عليها، حين رفض أن يدعوها إلى بوليو. لكنها اعتقدتْ أنه ليس نوعَ الرجل الذي يَمِيلُ إلى التعقيدات الرخيصة؛ ناهيكَ عن نوبات الغيرة ودموع النساء والفضائح. أشار في تلك الحادثة التي وقعت في البداية إلى أنْ لا حقوق ولا قيود لها عليه.

هذا يعني أنه بات يعتبر أن لها حقًّا عليه الآن إلى حدٍّ ما، وقد يشعر بأن خداعه إياها مهينًا لكرامته.

وحين ظنت أنها رأته كانت قد استيقظت توًّا من نوم غير صحي وغير طبيعي؛ كانت تهلوس.

راح القطار يغادر المحطة ببطء مطلِقًا صَخَبه وجَلَبته المعتادة.

لطالما أحبت باريس. لم تُحِبَّ باريس في ظل حكم الكومونة؛ حيث كانت طوعًا لأوامر أنيتا المبهَمة، بل أحبت باريس التي زارتها مؤخرًا، في سنوات اكتمال نضجها، مع تعرُّفها على علماء الرياضيات والمفكرين السياسيين. وقد أعلنت في كل مكان أنه لا ضجر أو تعاليَ أو خداعَ في باريس.

•••

فقد منحوها جائزة بوردين، وقبَّلوا يدَها، وقدموا لها الخُطَب والورود في أكثر الغرف أناقةً وسخاءً في الإنارة. لكن حين تعلَّق الأمر بمنحها وظيفة، أغلقوا أبوابهم دونَها. لن تتجاوز رؤيتهم لهذه المسألة إلى أكثر من توظيف أنثى شمبانزي متعلمة. فضلت زوجات العلماء العظماء ألَّا يقابِلْنَها أو يدْعونها إلى بُيوتهن.

كانت الزوجات هنَّ حراس المتاريس، الجيش العنيد غير المرئيِّ. يهز الأزواج أكتافهم بحزن بسبب الحظر المفروض عليهم، لكنهم يمتثلون في النهاية. كان الرجالُ أصحابُ العقول التي تُشرذِم المفاهيم القديمة لا يزالون خاضعين لسيطرة نساء لا يملأ عقولهن سوى ضرورة ارتداء المشد الضيق وإرسال بطاقات الزيارات، والأحاديث التي تملأ حلقك بنوع من الضباب المعطر.

لا بد أن تكف عن جلسات استحضار كل ما يثير استياءها. دعتها زوجات علماء استوكهولم إلى بيوتهن، إلى أهم الحفلات وولائم العشاء الحميمية. أثْنَيْنَ عليها، وتباهَيْنَ بها، ورحَّبْنَ بطفلتها. ربما كانت شاذَّة هناك، لكنهن وافقن على هذا الحضور الشاذ بينهن؛ شيء ما مثل ببغاء متعدد اللغات أو من هؤلاء الأطفال العباقرة الذين يستطيعون أن يقولوا لك بدون تردد أو فترة تفكير واضحة إن تاريخًا محددًا في القرن الرابع عشر وافق يوم ثلاثاء.

لا، لم يكن ذلك عادلًا. كنَّ يُكننَّ الاحترام لإنجازاتها، وآمنت عديدات منهن أنه يجب على مزيدٍ من النساء أن يَقُمْنَ بأعمال مثل هذه، وأنهن سيفعلْنَ في يوم من الأيام. لماذا إذن أصابها شيء من الضجر منهن، واشتاقت إلى السهرات المتأخرة والحديث المسرف. لماذا أتعبت نفسها بالتفكير فيما إذا كن يرتدين ملابسَ أشبه بأَرْدِيَة زوجات القساوسة البروتستانت أو ملابسَ تشبه ملابس الغَجَر؟

كانت مصدومة؛ وكان ذلك بسبب جاكلارد ويوري، وتلك المرأة المحترمة التي لم تستطع التعرف عليها، وحلقها المحتقن، وارتعاشها؛ بالتأكيد ستصيبها نزلة برد شديدة.

وعلى أية حال ستصبح هي نفسها زوجة؛ بل وزوجة لرجل غني وذكي، وعلاوة على ذلك، متفوق.

•••

جاءت عربة الشاي، سيفيد هذا الشاي حلقها بالتأكيد، مع أنها تتمنى لو كان شايًا روسيًّا. بدأ المطر يتساقط بعد أن غادر القطار باريس بفترة قصيرة، وها هو المطر تحول إلى ثلوج، ومثل كل روسيٍّ، كانت تُفضِّل الثلج على المطر؛ تلك الحقول البيضاء على الأرض الداكنة المبللة، وحين تثلج يعترف الجميع بالشتاء ويتخذون إجراءات شديدة لحفظ الدفء في بيوتهم. تفكر في بيت فايرشتراس حيث ستنام الليلة. لن يسمح البروفيسور وأختاه لها بالمبيت في فندق.

إن بيتهم مريح دائمًا بسجاجيده الداكنة وستائره المهدبة ومقاعده الوثيرة. تتبع الحياة هناك طقسًا؛ حياةٌ مكرسة للدراسة، بل لدراسة الرياضيات على الأخص. عادةً ما يمر طلاب ذكور خجِلون غير حَسَنِي الهندام بوجه عام، عبر غرفة الجلوس إلى غرفة المكتب واحدًا بعد الآخر. تحيِّيهم أختا البروفيسور غير المتزوجتين بلطف بينما يمرُّون، لكنهما لا تنتظران إجابة؛ فهما مشغولتان بالحياكة أو الرَّتْق أو غزل البِساط. إنهما تعرفان أن أخاهما يتمتع بعقل رائع، وأنه رجل عظيم لكنهما تعرفان أنه يجب أن يتناول جرعة محددة من الخوخ المجفف كلَّ يوم؛ بسبب مهنته التي تتطلب الجلوس لفترات طويلة، وأنه لا يستطيع أن يرتديَ حتى أنعم أنواع الصوف على جلده مباشرةً لأنه يسبب له الحُكَاك، وأن مشاعرَه تتأذَّى حين يخفق زميل في ذكره في مقال منشور (مع أنه يتظاهر بأنه لم يلاحظ ذلك، في حديثه وكتابته على السواء؛ إذ يثني بدقة قصوى على الشخص ذاته الذي تجاهله).

أجفلتْ هاتان الأختان — كلارا وإليسا — في أول يوم دخلت فيه صوفيا إلى غرفة الجلوس في طريقها إلى غرفة المكتب. لم تتدرب الخادمة التي سمحت لها بالدخول على أن تكون انتقائية؛ ذلك أن أهل البيت لا يعملون على الإطلاق؛ ولأن الطلاب الذين يأتون غالبًا ما يكونون مجهولين ولا يُحسنون التصرف؛ لهذا لم يطبق المنزل معايير أكثر المنازل احترامًا. ومع هذا، عَكَس صوت الخادمة ترددًا من نوعٍ ما، قبل أن تسمح لهذه المرأة الصغيرة بالدخول — هذه المرأة التي تختفي ملامحها تقريبًا تحت قَلَنْسُوَة داكنة، وتتحرك في خوف مثل متسول خجول. عجزت الأختان عن تحديد عمرها لكنهما استنتجا — بعد أن سُمِح لها بالدُّخول إلى غرفة المكتب — أنها والدة الطلاب، أتت تساوم أو تتوسل بشأن أجر الدرس.

قالت كلارا التي كانت توقعاتها أكثر واقعية: «يا إلهي! قلنا، من لدينا هنا؛ هل تكون تشارلوت كورداي؟»

كل هذا قيل لصوفيا فيما بعد حين أصبحت صديقتهما، وأضافت إليسا في جفاء: «لحسن الحظ لم يكن أخونا في الحمام؛ إذ لم نكن نستطيع أن ننهض لنحميَه ونحن ملفوفتان بكل هذه الكوفيات.»

كانتا تغزلان كوفيات للجنود على الجبهة. كان ذلك عام ١٨٧٠، قبل أن يقوم كلٌّ من صوفيا وفلاديمير برحلة إلى باريس بقصد أن تكون رحلة دراسية. كانتا غارقتين في أبعادٍ أخرى، قرون ماضية؛ ونادرًا ما كانتا تُولِيانِ أي اهتمام إلى العالم الذي عاشتا فيه، حتى إنهما لم تسمعا عن حربٍ معاصرة.

ولم يكن فايرشتراس بأعلمَ من أختَيْهِ عن عمر صوفيا أو ما تفعله. قال لها بعد ذلك إنه ظنها مربية أطفال مخادعة أرادت أن تستخدم اسمه بادعاء دراستها للرياضيات في أوراق مؤهلاتها. كان يفكر أنه يجب أن يوبخ الخادمة وأختيه لأنهن سمحن لها باقتحام مكتبه، لكنه كان رجلًا كَيِّسًا لطيفًا؛ لذا فبدلًا من أن يصرَفها على الفور، أوضح لها أنه لا يقبل إلا الطلاب المتقدمين علميًّا والحاصلين على درجات مميزة، وأنه في ذلك الوقت لديه منهم العدد الذي يستطيع توليه. ثم تذكَّر — بينما ظلت واقفة، ترتجف أمامه، بتلك القلنسوة السخيفة التي تخبئ وجهها، ويداها تقبضان على شالها بشدة — ذلك الأسلوب، أو الحيلة، الذي استخدمه مرة أو مرتين من قَبْلُ لتثبيط هِمَّة طالب غير كفء.

«ما أستطيع فعله في حالتك هو أن أعطيك مجموعةً من المعادلات وأطلب منك حلها وإعادتها لي خلال أسبوع من الآن، وإذا نالت رضاي فسوف نتحدث مرة ثانية.»

كان قد نَسِيَ كل شيء عنها بعد أسبوع من ذلك اليوم؛ وبالطبع توقع ألَّا يراها مرة ثانية أبدًا. حين جاءت إلى غرفة مكتبه، لم يتعرف عليها؛ ربما لأنها خلعت المعطف الذي كان يُخفي جسدها النحيل، وربما لأنها شعرت بشجاعة أكبر أو ربما لأن الطقس قد تغير. لم يتذكر القبعة — أختاه تذكرتاها — لكنه لا ينتبه كثيرًا لأشياء من قبيل إكسسوارات النساء. لكنها حين سحبت الأوراق من حقيبتها ووضعتها أمامه على المكتب، تذكَّر وتنهد وارتدى نظارته.

كانت دهشته عظيمة — قال هذا فيما بعد أيضًا — أن يرى أن كل المسائل قد حُلَّت بطريقة عبقرية تمامًا. لكنه ظل يشك فيها، ظانًّا حينئذٍ أن هذا العمل لا بد أنه لشخص آخر، أخٍ أو حبيب مختبئ لأسباب سياسية.

فقال: «اجلسي! والآن اشرحي لي كلًّا من تلك الحُلول، وكل خطوة اتخذتِها في حلها.»

بدأت تتكلم، منحنية إلى الأمام، وسقطت القبعة الخفيفة على عينيها، فخلعتها وتركتها تقع على الأرض. انكشفت تموجات شعرها، وعيناها اللامعتان وشبابها وحماسها الذي يجعلها ترتجف.

قال: «نعم، نعم، نعم، نعم.» تكلم باهتمام متثاقل؛ إذ خبأ بقدر ما يستطيع اندهاشه القوي، خاصة إزاء الحلول التي حادت بأقصى ما يكون من عبقرية عن حُلوله.

كانت صدمة بالنسبة له من عدة نواحٍ. كانت ضئيلة الحجم وصغيرة السن وبالغة الحماس. شعر أنه يجب أن يهدِّئَ من روعها، ويتعامل معها بعناية، ويعلمها كيف تتعامل مع حالاتها المزاجية الحادة.

طوال حياته، كان يقول هذا بصعوبة — كما اعترف — لأنه يحذر دائمًا من الحماس المفرط؛ طوال حياته كان ينتظر طالبًا مثلها يدخل إلى غرفته، طالبًا يتحداه تمامًا، وليس قادرًا فحَسْبُ على اتِّباع محاولات عقل أستاذه، بل ربما يحلِّق إلى آفاقٍ أبعد. كان عليه أن يكون حريصًا في قول ما يؤمن به حقًّا؛ هناك شيء ما شبيه بالحدس في العقل الرياضياتي الممتاز، شعلة مضيئة تكشف الغطاء عما كان هناك منذ الأزل. بالطبع لا بد أن يكون حازمًا ودقيقًا، لكن على الشاعر العظيم أن يكون هكذا أيضًا.

حين حمل نفسه أخيرًا على إخبار صوفيا، قال لها إن هناك من سيشعرون بالإهانة لربط الشعر بالعلوم الرياضياتية، وقال إن آخرين سوف يهاجمون الفكرة بسهولة شديدة للدفاع عن تشوش تفكيرهم وتهلهله.

•••

وكما توقعت، كانت طبقات الجليد تزداد سُمكًا خارج نوافذ القطار بينما يتوجهون شرقًا. كانت في قطار الدرجة الثانية؛ لذا كان متقشفًا تمامًا مقارنة بالقطار الذي استقلته من مدينة كان. لم يكن به عربة طعام، بل كعك بارد — البعض منه محشوٌّ بنقانق حارَّة متنوعة — قدمته عربة الشاي. اشترت كعكة محشوة بالجبن في نصف حجم حذاء طويل الرقبة، واعتقدت أنها لن تُنْهِيَها أبدًا، لكنها فعلَتْ، ثم أخرجت مجلدها الصغير لأعمال هاينريش هاينه؛ لمساعدة عقلها على إخراج الألمانية إلى سطحه.

وفي كل مرة كانت ترفع عينيها إلى النافذة يبدو لها أن الثلج يسقط بكثافة أكبر، وفي بعض الأحيان، يبطئ القطار، بل يكاد يتوقف. سيكونون محظوظين مع هذه السرعة لو وصلوا إلى برلين مع منتصف الليل. تمنَّت لو أنها لم تسمح بإثنائها عن فكرة المبيت في فندق، بدلًا من المبيت في البيت الواقع في شارع بوتسدام.

«سوف تقدِّمين لكارل المسكين صنيعًا كبيرًا بأن تقضي فقط ليلة واحدة تحت السقف نفسه. لا يزال يراك الفتاة الصغيرة الواقفة على أعتاب منزلنا، بالرغم من تقديره إنجازاتك تقديرًا عظيمًا وفخره بنجاحك العظيم.»

•••

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل حين ضغطت على زر الجرس. جاءت كلارا، متدثرة بوشاحها؛ إذ كانت صَرَفت الخادمة لتنام، وقالت لصوفيا بصوت نصف هامس إن أخاها استيقظ على ضجة التاكسي، فذهبت إليه إليسا تُهَدِّئُهُ وتُطَمْئِنُهُ أنه سيرى صوفيا في الصباح.

بدت كلمة «تهدأ» شؤمًا لصوفيا. لم تذكر رسائل الأختين أكثر من بعض الإرهاق، ولم تَحْتَوِ رسائل فايرشتراس الخاصة أخبارًا شخصية، بل ضجت بالكلام عن بوانكاريه وواجبه (أي فايرشتراس) نحو الرياضيات بأن يجعلَ المسائل أوضح لملك السويد.

وإذ تسمع الآن صوت المرأة العجوز يتهَدَّج قليلًا في ورع أو خوف وهي تذكر أخاها؛ وإذ تشم روائح هذا البيت — التي كانت يومًا مألوفة لها ومطمئنة، لكنها الليلة عتيقة وقابضة — شعرت صوفيا أن الممازحة لن تكون ملائمةً كثيرًا كما كانت من قبل، وأنها لم تجلب معها هواءً باردًا نقيًّا فقط، بل شيئًا من الجلبة المفعَمَة بالنجاح وحالة نشاط محموم لم تكن واعية بهما تمامًا، وربما كان ذلك مَهِيبًا ومزعجًا؛ فهي التي اعتادت أن تَلقى استقبالًا بالأحضان والسعادة البالغة (فكانت إحدى الصفات التي أدهشتها في الأختين مدى قدرتهما على أن تكونا ظريفتين بينما تراعيان القواعد التقليدية)، استقبلت بالأحضان هذه المرة أيضًا، لكنها أحضان بأذرع عجوز مرتعشة صاحبتْها دُموع تلتمع في عيونهما المطفأة.

لكن كان هناك ماء دافئ في غرفتها، وكان هناك خبز وزبد على مائدتها الليلية.

استطاعت أن تسمع همسًا محتدًّا خفيضًا يأتي من الصالة العُلوية بينما تغير ملابسها. لعله كان عن حالة الأخ أو عنها أو عن عدم تغطية الخبز والزبد، وعدم ملاحظة ذلك حتى أرشدتها كلارا إلى غرفتها.

•••

حين كانت صوفيا تعمل مع فايرشتراس، كانت تقيم معظم الوقت في شقة معتمة صغيرة مع صديقتها جوليا التي كانت تدرس الكيمياء. لم تذهبا إلى حفلات موسيقية أو مسرحيات؛ إذ كانت أموالهما محدودة وكانت دراستهما مستولية عليهما تمامًا. عملت جوليا في معمل خاص حيث حصلت على مميزات من الصعب على امرأة أن تحصل عليها. وقضت صوفيا الأيام، فيومًا بعد يوم تجلس إلى مائدة عملها، وأحيانًا لم تكن تقوم عن كرسيِّها إلا عند ضرورة إضاءة المصباح؛ حينَئذٍ تشد عضلاتها وتمشي، مسرعة الخطى، عبر الشقة — مسافة قصيرة كافية — وأحيانًا ما تجري وتتحدث بصوت مرتفع، وتنفجر في حالة من اللامنطقية؛ حتى إن أي شخص لا يعرفها جيدًا مثلما تعرفها جوليا كان سيشك في قواها العقلية.

كان تفكير فايرشتراس وتفكيرها مشغولين بالدوالِّ الإهليجية والأبيلية، ونظرية الدوالِّ التحليلية التي يرتكن تمثيلها إلى أنها متسلسلة لا نهائية. إن النظرية التي سُمِّيَتْ باسمه تزعم أن كلَّ متتابِعة لا نهائية محددة من الأرقام الحقيقية لها متسلسلة متقاربة. وفي ذلك، حَذَتْ حَذْوَهُ ثم تَحَدَّتْهُ فيما بَعْدُ، بل وسبقته في وقت من الأوقات، وهكذا تقدما من أستاذ وتلميذ إلى زميلين في علم الرياضيات؛ كانت هي المحفز لأبحاثه، لكن هذه العلاقة أخذت وقتًا للتطور، وفي عشاء أيام الآحاد — التي كانت تُدْعَى إليها بالفعل لأنه كرس لها وقت ما بعد الظهيرة من كل يوم أَحَد — كانت تبدو وكأنها شابَّة من أقربائهم، تلميذة أو مُريدة متحمسة.

وحين جاءت جوليا، دُعيت أيضًا؛ أكلت الفتاتان لحمًا مقدَّدًا وبطاطا مخفوقة وبودنج لذيذًا خفيفًا قلَب أفكارهما عن الطهي الألماني رأسًا على عَقِب. بعد الفراغ من الطعام، جلسوا جميعًا حول النار واستمعْنَ إلى إليسا التي راحت تقرأ بصوت جهوري. قرأت بعضًا من قصص الكاتب السويسري كونراد فرديناند ماير بحماس كبير وصوت تعبيري. كان الأدب هو المتعة الأسبوعية بعد كل ما يَقُمْنَ به من الحياكة والرَّتْق.

في أعياد الميلاد، أحضروا شجرةً لصوفيا وجوليا، مع أن آل فايرشتراس أنفسهم لم يهتموا لسنوات لشراء واحدة لأنفسهم. كان هناك بونبون في ورق لامع وكعكة فواكه وتفاح مشوي؛ كل ذلك للطفلتين، حسبما قالوا.

لكن سرعان ما وقعت مفاجأة مزعجة.

•••

كانت المفاجأة أن صوفيا — التي بَدَتْ أيقونة للشابة الخجولة عديمة الخبرة — يجب أن تتزوج. في الأسابيع الأولى من دروسها، قبل أن تصل جوليا، كانت تستقل سيارة مع شاب في إحدى ليالي الأحد من أمام بيتهم، لم تُعرِّف عائلة فايرشتراس عليه؛ مما دفع بالعائلة إلى الاعتقاد أنه خادم. كان طويلًا، يخلو وجهُه من أي جاذبية، له لحية خفيفة حمراء وأنف ضخم وملابس غير مهندمة. في الحقيقة، لو كانت لآل فايرشتراس خبرة أكبر بالحياة، لأدركوا أن عائلة نبيلة محترمة — لأنهم علموا أن عائلة صوفيا من هذا النوع من العائلات — لم تكن لتعين خادمًا أشعث مثل هذا، ومِنْ ثَمَّ كانوا سيدركون أنه صديق.

ثم جاءت جوليا واختفى الشاب.

لم تصرِّح صوفيا عن المعلومات إلا بعد مرور فترة من الوقت؛ أخبرتهم أن اسمه فلاديمير كوفالفسكي، وأنها تزوجته. كان يدرس في فيينا وباريس مع أنه حاصل على شهادة جامعية في الحقوق، وكان يحاول أن يشق طريقه كناشر في روسيا، وكان يكبر صوفيا بعدة سنوات.

الأمر الآخر المثير لذات القدْر من الدهشة تقريبًا هو أن صوفيا صرحت لفايرشتراس، وليس للأختين، بهذه الأخبار؛ فمن ناحية إدارة البيت، كانت الأختان هما من تتعاملان مع بعض أوجه الحياة؛ وإن كان عبر حَيَوات خدمتهما، وقراءة بعض الروايات المعاصرة ليس إلا. لكن صوفيا لم تكن الابنة المفضلة لدى أمها أو مربيتها، ولم تَلْقَ مفاوضاتها مع الجنرال النجاح دائمًا، لكنها كانت تُكِنُّ له الاحترام، وظنت أنه أيضًا كان يبادلها هذا الاحترام؛ لهذا كان فايرشتراس، رجل البيت، هو من اتجهت إليه بثقة كبيرة.

أدركتْ أنه لا بد أن فايرشتراس شعر بالإحراج؛ ليس حين كانت تتحدث إليه، بل حين اضْطُرَّ أن يخبرَ أختيه، فالأمر لم يكن يقتصر على خبر زواج صوفيا؛ ذلك أنها كانت متزوجة زواجًا صحيحًا وقانونيًّا، لكنه كان زواجًا غير مكتمل — شيء لم يسمع عنه قطُّ، ولا حتى أختاه. زوج وزوجة؛ لا يعيشان معًا في المكان نفسه، بل لم يعيشا معًا على الإطلاق، لم يتزوجا للأسباب الكونية المعروفة للزواج، بل كانا مقيدين بوعدهما السري ألا يعيشا أبدًا بهذه الطريقة؛ ألا …

«يقيما علاقة زوجية مكتملة؟» ربما كلارا هي التي قالت هذا، بعجل، بل وبضجر، لتجاوز اللحظة.

نعم، والشباب — أو الشابات على وجه التحديد — الذين يريدون الدراسة في الخارج يُجبَرون على اقتراف هذه الخديعة؛ لأنه محظور على الفتيات الروسيات مغادرة البلاد دون موافقة والِدَيْهنَّ. كان والدا جوليا متنوِّرَيْنِ بما يكفي ليسمحا لها بالذهاب، لكن ليس هذا هو حال والدَي صوفيا.

يا له من قانون همجي!

نعم، هؤلاء هم الروس. لكن بعض النساء الْتَفَفْنَ على ذلك بمساعدة شباب في منتهى المثالية والتعاطف، ربما يكونون أناركيين كذلك، من يعرف؟

كانت أخت صوفيا الكبرى هي من عثرت على واحد من هؤلاء الشباب، ورتبت مع صديق من أصدقائها لقاءً معه. ربما كانت أسبابهم سياسية أكثر منها فكرية. الله وحده يعلم الأسباب التي جعلتهم يصطحبون صوفيا معهم؛ فهي لم تكن تميل إلى السياسة ولا تعتقد أنها مستعدة لمغامرة من هذا النوع. تجاهل الشاب الأختين الكبريين — لم تستطع الأخت المدعوة بأنيتا أن تخفيَ جمالها وراء جدار الجدية — وقال: لا، لا، لا أرغب أن أُبْرِمَ هذا العقد مع أيٍّ من السيدتين الشابتين الموقرتين، لكني أوافق على أن أفعلَ هذا مع أختكما الصغرى.

«ربما أعتقد أن الأختين الكبريين يمكن أن تكونا مثيرتين للمشكلات» ربما إليسا هي مَنْ قالت هذا، بخبرتها مع الروايات؛ «خاصة بسبب الجمال؛ لذا وقع في غرام صغيرتنا صوفيا.»

لا ينبغي أن يدخل الحب في هذا، ربما كانت كلارا هي من ذكرت ذلك.

تَقبل صوفيا طلب الزواج. يزور فلاديمير الجنرال؛ ليطلب يد ابنته الصغرى للزواج. الجنرال مهذب، ويدرك أن الشاب ينحدر من عائلة طيبة، مع أنه لم يحقق كثيرًا من الإنجازات حتى الآن في العالم. يقول، لكن صوفيا صغيرة جدًّا. هل تعرف حتى نواياك؟

وافقت صوفيا، وقالت إنها تحبه.

قال الجنرال: إنهما لا يجب أن يتصرفا بناءً على مشاعرهما فورًا، بل لا بد أن يقضيا بعض الوقت؛ بعض الوقت الكثير جدًّا، حتى يتعارفا في باليبينو (كانوا في بيترسبرج حاليًّا).

كانت الأمور راكدة. لن يترك فلاديمير انطباعًا جيدًا أبدًا. لم يحاول جاهدًا بما يكفي لكي يخفيَ آراءه الراديكالية، ولم يكن يُحسن انتقاء ملابسه. كان الجنرال واثقًا أن صوفيا سوف تخبو رغبتها في الزواج من هذا الخاطب كلما عرفتْه أكثر.

من ناحية أخرى، كان لدى صوفيا خُططها الخاصة.

جاء يوم كانت عائلتها تقيم فيه حفل عشاء مهم، وكان المدعوون إلى الحفل دبلوماسيين وأساتذة جامعيين ورفاقًا عسكريين للجنرال من الكلية العسكرية. استطاعت صوفيا وسط كل هذا الهرْج أن تهرب.

خرجت وحيدةً إلى شوارع بيترسبرج؛ حيث لم يسبق لها أن سارت دون خادم أو دون أختيها. ذهبت إلى محل إقامة فلاديمير في دائرة من المدينة يسكنها طلاب فقراء. انفتح لها الباب فورًا، وما إن دخلت وجلست، حتى خطَّت رسالة إلى والدها:

«أبي العزيز، ذهبت إلى فلاديمير وسوف أبقى هنا. أتوسل إليك ألَّا تعارضَ زواجنا أكثر من هذا.»

كان الجميع جالسين إلى المائدة قبل أن ينتبه أحد إلى غياب صوفيا. وجد أحد الخدم غرفتها خالية. سُئِلَت أنيتا عن أختها، فاحمَّر وجهها وهي تجيب بأنها لا تعرف أي شيء، ولكي تخفيَ وجهها أسقطت منديلها.

تسلَّم الجنرال رسالة، استأذن وخرج من الغرفة، وسرعان ما سمع كلٌّ من صوفيا وفلاديمير خطواته الغاضبة خارجَ بابهما. أخبر ابنته، التي عرَّضت نفسها للفضيحة، والرجل، الذي كانت على استعداد أن تخسر سمعتها من أجله، أن يأتيَا معه على الفور. ركبوا جميعًا متوجهين إلى البيت، ثلاثتهم بدون كلمة، وعلى مائدة العشاء قال: «اسمحوا لي أن أقدِّمَ لكم زوج ابنتي المستقبلي فلاديمير كوفالفسكي.»

وهكذا تم الزواج. كانت صوفيا تشعر بسعادة بالغة، ليس لأنها تزوجت من فلاديمير فعليًّا، بل لأنها أسعدت أنيتا بتعزيز قضية تحرير النساء الروسيات. عُقِدَ زواج تقليدي ورائع في باليبينو، وانطلق العروسان للعيش تحت سقف واحد في بيترسبرج.

وما إن اتضح طريقهما، حتى سافرا ولم يَعُودا يعيشان تحت سقف واحد. سافرت صوفيا من هايدلبرج ومنها إلى برلين، وسافر فلاديمير إلى ميونخ. كان يزور هايدلبرج كلما استطاع، لكن بعد أن انضمت أنيتا وصديقتها زانا وجوليا إليها — كانت النساء الأربع تحت حمايته صوريًّا — ولم تَعُدْ هناك مساحة كافية له.

لم يكشف فايرشتراس للنساء أنه كان يتبادل الرسائل مع زوجة الجنرال. كتب لها حين عادت صوفيا من سويسرا (من باريس في الواقع) مُرهقةً وضعيفةً؛ فشعر بالقلق على صحتها. ردت المرأة برسالة، مخبرة إياه أن الأجواء في باريس هي التي سببت لابنتها تلك الحالة، لكنها لم تَبْدُ منزعجةً من الفَوَران السياسي الذي عاشتْه ابنتُها بقدْر انزعاجها من اكتشافها أن ابنتها العزباء تعيش علنًا مع رجل، والأخرى المتزوجة لا تعيش فعليًّا مع زوجها على الإطلاق. وهكذا أصبح — رغمًا عن إرادته نسبيًّا — محل ثقة الأم قبل حتى أن يصبحَ محل ثقة للابنة، وفعليًّا لم يخبر صوفيا أي شيء عن هذا حتى توفيت الأم.

لكن حين أخبرها أخيرًا، قال لها كذلك إن كلارا وإليسا سألَتَاهُ فورًا عمَّا ينبغي فعلُه.

كما قال إنه يبدو أن من عادة النساء أن يفترضن أنه ينبغي أن يفعل شيئًا ما.

ومن ثم أجاب بحِدَّةٍ بالغة: «لا شيء.»

•••

في الصباح، أخذت صوفيا من حقيبتها فستانًا نظيفًا مجعَّدًا — فهي لم تتعلم قطُّ كيفية ترتيب حقيبتها — ومشَّطتْ شعرها المجعَّد بقدر ما تستطيع؛ لتخفي بعض الخصلات الرَّمادية، ونزلت درجات السلم على صوت جلبة الأعمال المنزلية التي بدأت فعليًّا. كان مكانها على مائدة الطعام هو الوحيد الذي لا يزال مرتبًا. أحضرت إليسا القهوة وأول فطور ألماني تتناوله صوفيا في هذا المنزل؛ شريحة من اللحم البارد وجبن وخبز مدهون بطبقة سميكة من الزبد. قالت إن كلارا في الدور العُلْوِيِّ تجهز أخاها ليلتقيَ صوفيا.

قالت إليسا: «في البداية كنا نُحضر الحلاق إلى هنا، لكن كلارا تعلمت فيما بعد أن تفعل هذا جيدًا؛ اتضح أنها الشخص الذي يتمتع بمهارات الممرضة؛ إن المرأة المحظوظة هي التي تتمتع بمواصفات الممرضة.»

حتى قبل أن تقول هذا، شعرت صوفيا أنهم يمرون بضائقة مالية. باتت طبقة داكنة على الستائر المصنوعة من القماش الدِّمَقْسِي والستائر الشبكية تعلوها طبقة من الغُبار، ومرت مدة طويلة على آخر مرة شَحَذَتْ فيها السكِّين الفضيَّ، وصَقَلَتِ الشوكة الفضية اللتين استخدمتهما. عبر الباب المفتوح الذي يؤدي إلى غرفة الجلوس، رأت فتاة شابة خشنة المظهر؛ خادمتهم الحالية، تنظف المدفأة وتثير سُحُبًا من الغبار. نظرت إليسا إليها كما لو أنها تطلب منها أن تغلقَ الباب، ثم نهضت وفعلتْ هذا بنفسها. عادت إلى المائدة بوجه مُحْمَرٍّ وكئيب، وسألت صوفيا بتسرُّع — وإن كان بلهجة تخلو من التأدب نسبيًّا — عن مرض السيد فايرشتراس.

قالت إليسا خافضة صوتها لكن بالصراحة التي تُعرف بها المرأة الألمانية: «قلبه الضعيف من ناحية، والالتهاب الرِّئَوِيُّ الذي أصابه في الخريف الذي لا يستطيع أن يتجاوزَه على ما يبدو، كما أن لديه تورمًا في أعضائه التناسلية.»

ظهرت كلارا على الباب.

قالت: «إنه ينتظرك.»

صعدت صوفيا السلالم لا تفكر في الأستاذ، بل في الأختين اللتين جعلتا منه محور حياتَيْهِمَا. غزْل الكوفيات، ورَتْق الشراشف، وإعداد البودنج والْمُرَبَّى؛ تلك الأعمال التي لم تثقا في أن تعهدا بها إلى خادمة قطُّ. احترام الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مثل أخيهما — دين بارد ممل في رأي صوفيا — وكل هذا بدون لحظة تمرد كما ترى، أو أي طرْفة عين تنم عن الاستياء.

كانت ستفقد عقلها، لو كانت مكانهما.

فكرت في نفسها؛ يمكن أن تجَنَّ حتى لو كانت أستاذة جامعية. يمتلك الطلاب عقولًا عادية عمومًا، لا تؤثر فيها إلا النماذج الواضحة العادية.

لم تكن تجرؤ على الاعتراف بهذا لنفسها قبل أن تقابلَ ماكسيم.

دخلت الغرفة تبتسم لحسن حظها، ولحريتها المرتقبة، ولزوجها المستقبلي.

قال فايرشتراس: «آه، ها أنت هنا أخيرًا.» كان فايرشتراس يتحدث بصوت خفيض ومرهق نوعًا ما؛ «ها هي الطفلة الشقية، اعتقدنا أنها هجرتنا. هل أنت في طريقك إلى باريس مرة ثانية؛ لترفهي عن نفسك؟»

– «أنا في طريق عودتي من باريس، عائدة إلى استوكهولم. لم تكن رحلتي لباريس من أجل الترفيه إطلاقًا بل كانت في منتهى الكآبة.» أعطتْه يديها ليقبلهما الواحدة بعد الأخرى.

– «هل أختك أنيتا مريضة إذن؟»

– «أنيتا قد توفيت أستاذي الحبيب.»

– «هل توفيت في السجن؟»

– «لا، لا. كان هذا منذ فترة طويلة. لم تكن في السجن حينئذٍ. زوجها هو من كان في السجن. ماتت من الالتهاب الرئوي لكنها عانت فترة طويلة من عدة نواحٍ أخرى.»

– «أوه، الالتهاب الرئوي، أُصبت به أيضًا، لا يزال هذا الأمر يحزنك.»

– «لن يُشفى قلبي أبدًا، لكنْ لدي خبرٌ جيدٌ أُخبرك به، خبر سعيد؛ سوف أتزوج في الربيع.»

– «هل حصلت على الطلاق من الجيولوجي؟ لا عجب في ذلك، كان يجب أن تفعلي هذا منذ فترة طويلة، ومع ذلك فالطلاق أمر مزعج.»

– «لقد تُوفي هو الآخر، وكان متخصصًا في الحفريات، إنه علم جديد، شيِّق جدًّا، يكتشفون أشياءَ ويتعلمونها من الحفريات.»

– «نعم، أتذكَّر الآن، سمعت عن هذا العلم. مات شابًّا إذن. لم أكن أريده أن يكون عائقًا في طريقك، لكني لم أرغب في موته حقًّا. هل مرض فترة طويلة؟»

– «تستطيع أن تقولَ هذا، تتذكر بالتأكيد كيف تركته، وأنك أوصيت ميتاج ليفلر بي؟»

– «في استوكهولم، أليس كذلك؟ تركتِه. حسنًا، كان لا بد من ذلك.»

– «نعم، لكنه انتهى الآن وسوف أتزوج رجلًا يحمل اسم عائلتي، لكننا لسنا أقارب من الدرجة الأولى؛ وهو نوع مختلف تمامًا من الرجال.»

– «روسي إذن؟ هل يدرس الحفريات أيضًا؟»

– «إطلاقًا، إنه أستاذ قانون، إنه نشيط وظريف جدًّا، إلا حينما يكون مكتئبًا، سوف أحضره ليراكِ، وسوف تَرَين بنفسك.»

قال فايرشتراس في أسف: «يسعدنا أن نستضيفه، سيضع هذا نهاية لعملك.»

– «إطلاقًا، إطلاقًا؛ إنه لا يريد ذلك، لكني لن أُدرِّس بعد ذلك؛ سوف أكون حرة، وسوف أعيش في جو مبهج في جنوب فرنسا، وسأكون في صحة جيدة هناك طول الوقت، وأُنجز قدرًا من العمل يفوق ما أُنجزه الآن.»

– «سنرى!»

– «حبيبي؛ إني آمرك، آمرك أن تَسْعَدَ من أجلي.»

قال: «لا بد أني أبدو طاعنًا في السن، وعشت حياة رزينة. لا أتمتع بجوانبَ عديدةٍ في طبيعتي مثلكِ. لقد اندهشتُ من أنك تكتبين روايات أيضًا.»

– «لكنك لم تحبَّ الفكرة.»

– «مخطئة. لقد أحببت مذكراتك، واستمتعت بقراءتها.»

– «ذلك الكتاب ليس رواية بالمعنى الفعلي. لن تحب الكتاب الذي كتبته الآن؛ أحيانًا حتى أنا نفسي لا أحبه. إن أحداثه تدور بالكامل حول فتاة تهتم بالسياسة أكثر مما تهتم بالحب. لا يهم، لن تُضْطَرَّ إلى قراءته. سوف تمنع الرقابة الروسية نشره، ولن يريده العالم في الخارج لأنه يتناول شأنًا روسيًّا صِرْفًا.»

«أنا لست مغرمًا بالروايات بوجه عام.»

– «أتعتبرها موجهة للنساء فحسب؟»

«حقًّا أنسى أحيانًا أنك امرأة. أعتبرك … أعتبرك …»

– «ماذا تعتبرني؟»

– «أعتبرك هديةً لي، هدية لي وَحْدِي.»

انحنتْ صوفيا وقبلت جبينه الأبيض. حبست دموعها حتى ودعت الأختين وغادرت المنزل.

فكرت أنها لن تراه مرة ثانية.

فكرت في وجهه الأبيض بياض الوسائد المنشَّاة التي لا بد أن كلارا وضعتها خلف رأسه هذا الصباح فقط. لعلها أبعدتها فعليًّا؛ لتسمح له بأن يرقد على الوسادة التي تحتها، الأنعم والأكثر رثاثة. لعله نام على الفور تَعِبًا من حوارهما. سيفكر أن ذلك ربما كان آخر لقاء بينهما، وسيعرف أن الفكرة خطرت في بالها أيضًا، لكنه لن يعرف. كان ذلك مثار مشاعر الخزي لديها، كان ذلك سرها. كم شعرت بأنها خفيفة وحرة، وكانت تشعر في ذلك الحين — بالرغم من دموعها — بمزيد من الحرية مع كل خطوة تخطوها بعيدًا عن هذا المنزل.

فكرت فيما إذا كان التفكر في حياته سيكون أكثر إرضاءً من تأمل حياة أختيه؟

لن يبقى اسمه مترددًا في الكتب الدراسية وفي أوساط الرياضيين سوى لفترة وجيزة. كان يمكن أن يدوم طويلًا لو أنه كان أكثر تحمسًا لترسيخ سمعته، والبقاء في مقدمة دائرة النخبة المجتهدة. أولى لعمله عنايةً أكبر مما أولى لاسمه، في الوقت الذي أولى فيه العديد من زملائه العناية لكليهما على السواء.

•••

كان يجب ألا تذكرَ كتابتها؛ إنها في نظره ليست سوى ضَرْبٍ من العبث. كتبت ذكرياتها عن حياتها في باليبينو في إشراقة حب لكل شيء فقدته؛ لأشياءَ فقدت فيها الأمل يومًا، وأشياء كانت عزيزة عليها يومًا. كتبتها بعيدًا عن وطنها في وقتٍ ضاع فيه الوطن حاملًا معه أختها. وخرجت رواية «فتاة عدمية» من رَحِم الألم على بلدها؛ نوبة وطنية وربما شعور بأنها لم تُعْطَ ما يكفي من الانتباه لها مع دراستها للرياضيات واضطرابات الحياة.

نعم، كانت متألمةً على بلدها؛ لكنها من ناحيةٍ ما كتبت هذه القصة تكريمًا لذكرى أنيتا. كانت قصة امرأة شابة تخلَّت عن كل احتمالية لعيش حياةٍ طبيعية من أجل أن تتزوجَ من سجين سياسي نُفِيَ إلى سيبريا. بتلك الطريقة ضَمِنَتْ أن تُصبح حياته وعقوبته مخففة إلى حد ما — كأن يُنفى إلى جنوب سيبريا بدلًا من شمال سيبريا — حسبما كانت تنص القاعدة الخاصة بالرجال الذين تصاحبهم زوجاتهم. ستلقى القصة استحسان هؤلاء الروس المنفيين الذين قد ينجحون في قراءة مخطوطة الرواية؛ بل يكفي أن يُحْظَرَ نشر الكتاب في روسيا لكي يتولد هذا الاستحسان بين صُفوف المنفيين السياسيين كما تعرف صوفيا جيدًا. كانت أكثر فرحةً ﺑ «الأخوات رايفسكي» — المذكرات — مع أن الرقابة أجازته ورفضه بعض النقاد باعتباره يعكس حالة نوستالجيا.

٤

خَذَلَت فايرشتراس مرةً من قبل، خذلته حين حققت نجاحًا مبكرًا. هذا حقيقي، مع أنه لم يذكره قطُّ. أدارت ظهرها له وللرياضيات معًا؛ لم تَرُدَّ حتى على رسائله. عادت إلى وطنها في باليبينو في صيف ١٨٧٤ منتصرة، بشهادتها الجامعية المحفوظة في حقيبة مخملية، ثم خزنتها بعد ذلك في صندوق لتظل هناك منسيةً لشهورٍ، أو سنوات.

أسكرتْها رائحة حقول القش وغابات الصَّنَوْبَر وأيام الصيف الحارَّة التي صبغها ضوء الشمس باللون الذهبي، والأمسيات المضيئة الطويلة في شمال روسيا. كانت هناك النزهات الخلوية وألعاب الهُواة، وحفلات الرقص وأعياد الميلاد والترحيب بأصدقاء قدامى ووجود أنيتا، التي كانت سعيدة بابنها ذي العام الواحد. كان فلاديمير موجودًا كذلك، وفي الجو الصيفي السهل مع الدفء والنبيذ وولائم العشاء الطويلة المفعمة بالبهجة والرقص والغناء، كان من الطبيعي أن تُسلم إليه، وأن تتحقق بعد كل هذا الوقت من أنه ليس زوجها فقط، بل حبيبها.

لم يحدث هذا لأنها وقعت في غرامه. كانت تشعر بالامتنان له، وأقنعت نفسها بأن شعورًا مثل الحب لا يحدث في الحياة الواقعية. اعتقدت أن موافقتها على ما أراد سوف تُسعدهما على السواء، وقد كان ذلك لمدة من الزمن.

في الخريف ذهبوا إلى بيترسبرج، واستمرت حياة المتعة الكبيرة؛ ولائم غداء وألعاب وحفلات استقبال، وكل الصحف والدوريات التي يمكن قراءتها، التافهة منها والجادة. توسل فايرشتراس لصوفيا في رسالة ألَّا تهجرَ عَالَم الرياضيات. حَرِصَ على نشر أُطروحتها في دورية كِرِل للرياضيات. بالكاد نظرت إليها. طلب منها أن تقضيَ أسبوعًا — مجرد أسبوع — في صقل عملها عن حلقات زُحَل؛ حتى يمكن نشره كذلك. لم تتكبد العناء. كانت مشغولة جدًّا، كانت منخرطةً في احتفالٍ دائمٍ إلى حد ما. احتفال بالأعياد الدينية وحفلات البلاط الإمبراطوري والأوبرا الجديدة وعروض الباليه، لكن كل ذلك في الواقع يبدو احتفالًا بالحياة نفسها.

كانت تتعلم، متأخرًا جدًّا، ما يبدو أن عديدًا من الناس حولَها يعرفونه منذ طفولتهم؛ يمكن أن تكون الحياة مرضية لأقصى حد دون إنجازاتٍ كبرى، يمكن أن تكون مفعمةً بانشغالات لا ترهقك حتى النخاع. بعد أن تحصل على ما تحتاج إليه من أجل عيش حياةٍ كاملةٍ مريحةٍ، ثم تأسيس حياةٍ اجتماعيةٍ وعامةٍ مليئة بالمتعة، يقيك ذلك الشعورَ بالملل أو الكسل، وفي النهاية ستشعر أنك فعلت كل ما يرضي الجميع؛ فلا مجال للألم.

باستثناء مسألة الحصول على المال.

أنعش فلاديمير عمله في النشر. استعارا المال من أينما استطاعا، ولم يَمُرَّ وقتٌ طويل قبل أن يُتَوَفَّى والدا صوفيا، فاستثمرت إرثَها في بناء حمَّامات ملحقة بصوبات زراعية ومخبز ومِغْسَلَة تنظيف ملابس بالبخار. كانت لديهما مشاريعُ عظيمةٌ؛ لكن حدث أن الطقس في بيترسبرج صار أبردَ من المعتاد ولم تَعُدْ حمَّامات البخار تُغري الناس. غشهم البَنَّاءون وأُناسٌ آخرون، وأصبحت السوق غير مستقرة، وعِوَضًا عن أن يتدَبَّرَا أساسًا قويًّا لحياتهما، راحا يغوصانِ أعمقَ وأعمقَ في الدُّيون.

وحينَ تصَرَّفا مِثْلَ كلِّ زوجين، أثمرت علاقتهما ثمرةً غاليةً. أنجبت صوفيا طفلة. سُمِّيَتِ الرضيعة على اسم والدتها لكنهم نادَوْها بفوفو. كان لدى فوفو ممرضة ومرضعة وجناحها الخاص. وظفت العائلة طاهيًا وخادمة أيضًا. اشترى فلاديمير ملابسَ جديدةً أنيقة لصوفيا وهدايا رائعة لابنته. حصل على شهادته الجامعية من جينا، ونجح في أن يصبح مساعد أستاذ في بيترسبرج، لكن ذلك لم يَعُدْ كافيًا. كانت دار النشر تنهار تقريبًا.

ثم اغْتِيلَ القيصر وأصبح الجو السياسيُّ مضطربًا، وعاش فلاديمير فترةً من السوداوية العميقة فلم يكن يستطيع العمل أو التفكير.

عرف فايرشتراس بموت والِدَيْ صوفيا، ولكي يخففَ من حزنها قليلًا، كما قال، أرسل إليها معلومات عن نظامه الجديد الممتاز في التكامل، ولكن عوضًا عن الرُّجوع إلى الرياضيات توجهت إلى كتابة النقد المسرحي والمقالات العلمية المبسطة للصحف. كان ذلك توظيفًا لموهبة أكثر تجارية وأقل إزعاجًا للآخرين أو إرهاقًا لها مثل الرياضيات.

انتقلت عائلة كوفالفسكي إلى موسكو، آملةً في أن يتغيرَ حظُّها.

تعافى فلاديمير، لكنه لم يشعر بالقدرة الكافية على العودة إلى التدريس. وجد فرصة جديدة للمجازفة؛ إذ عُرِضَت عليه وظيفة في شركة تستخلص النفط من آبار البترول. كانت الشركة مِلْك الأخوين راجوزين، اللذَيْنِ يمتلكانِ مِصْفاةً وقلعة حديثة في فولجا. اعتمدت الوظيفة على استثمار فلاديمير جزءًا من المال نجح في استدانته.

لكن صوفيا شعرت هذه المرة بالمشاكل القادمة. لم يُحِبَّهَا آل راجوزين ولم تُحِبَّهُمْ. تزايد نفوذُهم على فلاديمير. حدثها فلاديمير عن أن هؤلاء هم الرجال الجُدُد، وأنْ لا مجالَ للهُراء لديهم. أصبح متحفظًا واتخذ سِيماء فَظَّة ومتعالية. قال: اذكري لي امرأة واحدة مهمة حقًّا، واحدة صنعت فارقًا حقيقيًّا في هذا العالم، إلا بإغراء الرجال وقَتْلهم، هن متخلفات بالفِطرة ومُتَمَحْوِرات حولَ ذاتهن، ولو امتلكن أي فكرة، أي فكرة محترمة، يُكَرِّسْنَ أنفسهن لها، يصبحن هستيريات ويُفْسِدْنَهَا بإحساسهن بالأهمية.

قالت صوفيا: هذا هو رأي آل راجوزين.

عندئذٍ استأنفت مراسلاتها مع فايرشتراس. تركت فوفو مع صديقتها القديمة جوليا ورحلت إلى ألمانيا. كتبت إلى ألكسندر أخي فلاديمير أن الأخير الْتَقَطَ طُعم الأخوين راجوزين بسهولة حتى كأنه كان يغري القدَر ليرسلَ له كارثة أخرى، ومع ذلك كتبت لزوجها تعرض عليه العودة. لم يَرُدَّ ردًّا إيجابيًّا.

تقابلا مرة واحدة أخرى في باريس. كانت تعيش هناك حياةً متقشفةً بينما يحاول فايرشتراس أن يحصل على وظيفة لها. عادت إلى الانغماس في المسائل الرياضية، وكذلك كان الأشخاص الذين تعرفهم. بدأ فلاديمير يشك في الأخوين راجوزين، لكنه ورَّط نفسه إلى الحد الذي لم يَعُدْ يمكنه أن ينسحب معه. ومع ذلك، ذكر شيئًا عن السفر إلى الولايات المتحدة، وسافر إلى هناك بالفعل، لكنه عاد ثانيةً.

كتب لأخيه في خريف عام ١٨٨٢ أنه أدرك الآن أنه كان شخصًا تافهًا تمامًا. في نوفمبر، أُبلِغ عن إفلاس راجوزين. كان خائفًا من أن يحاولوا توريطه في إجراءات إجرامية محددة. رأى فوفو في عيد الميلاد، وكانت في أوديسا مع عائلة شقيقة. كان سعيدًا بأنها تذكرته، وبصحتها الجيدة وذكائها. بعد ذلك جهز رسائل وداع لجوليا وأخيه وأصدقاء آخرين معينين لكن لم تكن صوفيا مِنْ ضِمْنِهِمْ. كتب كذلك رسالة للمحكمة يشرح فيها بعض الأعمال التي قام بها فيما يتعلق بشأن الأخوين راجوزين.

أجَّل إرسالها فترة أطول، وانتظر حتى أبريل، فربط كيسًا حول رأسه واستنشق الكلوروفورم.

رفضت صوفيا — وكانت في باريس — تناول الطعام ولم تخرج من غرفتها. ركزت كل تفكيرها على رفض الطعام؛ حتى لا تشعر بما كانت تشعر به.

في النهاية أُجبِرَت على تناول الطعام ونامت. حين استيقظت كانت تشعر بخجل عميق من هذا السلوك. طلبت ورقة وقلمَ رَصاص؛ لأنها قد تواصل عملها على مسألة رياضية.

•••

لم يترك مالًا. كتب إليها فايرشتراس يطلب منها أن تأتيَ للإقامة بينهم لتكونَ أختًا أخرى. لكنه استمر في استعمال نفوذه سرًّا، ونجح أخيرًا مع تلميذه السابق وصديقه ميتاج ليفلر في السويد. وافقت جامعة استوكهولم الجديدة على أن تكون الجامعة الأولى في أوروبا التي تُعَيِّن أستاذة للرياضيات.

استعادت صوفيا ابنتها في أوديسا وأخذتها لتعيش مع جوليا. كانت غاضبة من الأخوين راجوزين. كتبت لأخي فلاديمير تصفهم ﺑ «أوغاد ماكرين قاتلين.» أقنعت قاضيَ الاستماع أن يُعْلِنَ أن كل الأدلة تُبين أن فلاديمير كان يَسْهُلُ خداعُه لكنه كان صادقًا.

ثم أخذت قطارًا مرة أخرى من موسكو إلى بيترسبرج مسافرةً للحصول على وظيفتها الجديدة المرموقة — وبالتأكيد الأكثر إثارة للاستنكار — في السويد. شرعت في رحلتها من بيترسبرج بحرًا. انطلق القارب بينما ضوء الغروب يغمر الكون من حولها. جال في خاطرها أن الحياة ستخلو من الحُمق منذ ذلك الحين؛ سوف أبني حياةً محترمة الآن.

لم تكن قابلت ماكسيم حينئذٍ أو فازت بجائزة بوردين.

٥

تركت برلين أول ما بعد الظهيرة بعدَ أن ودَّعت فايرشتراس ذلك الوداع الأخير والتحرري كذلك. كان القطار قديمًا وبطيئًا، ومع ذلك كان نظيفًا جيدَ التدفئة كما تتوقع من أي قطار ألماني.

في منتصف الرحلة تقريبًا فتح رجل يجلس أمامَها صحيفة، بعد أن عرض عليها أي قسم منها قد تحب أن تقرأَه.

شكرته رافضةً العرض.

أومأ برأسه تِجاه النافذة، إلى الثلج الناعم المتساقط.

قال: «آه حسنًا، ما الذي يتوقعه الشخص منا؟»

ردت صوفيا: «فعلًا.»

– «هل تسافرين إلى ما بعد روستوك؟»

لعله لاحظ لُكْنة لم تَكُنْ ألمانية. لم تَهْتَمَّ بحديثه معها أو تتوصلْ إلى هذه النتيجة عن نفسها. كان أصغرَ منها بسنوات عِدَّةٍ، حَسَنَ الْهِنْدام، يتعامل نوعًا ما بشيء من الاحترام والمراعاة. شعرت أنها قابلته أو رأته من قبل؛ لكن هذا عادةً ما يحدث حينما يكون المرء مسافرًا.

قالت: «إلى كوبنهاجن، ثم إلى استوكهولم. بالنسبة إليَّ سيزداد سُمك الثلج.»

قال: «سوف أتركك عند روستوك.» ربما قالها ليُطَمْئِنَها أنها لن تتورطَ في حوارٍ طويل؛ «هل أنتِ سعيدة في استوكهولم؟»

– «أَمْقُتُ استوكهولم في هذا الوقت من السنة، أكرهها.»

كانت مندهشة من نفسها، لكنه ابتسم في بهجةٍ وبدأ الحديث بالروسية.

قال: «أرجو المعذرة، كنت محقًّا؛ الآن أنا من أتحدث مثل الأجنبي، لكني في وقت ما كنت أدرس في روسيا، في بيترسبرج.»

– «هل لاحظت لكنتي الروسية؟»

– «ليس بشكل مؤكد، حتى قلت ما قلته عن استوكهولم.»

– «هل كل الروس يكرهون استوكهولم؟»

– «لا، لا. لكن يقولون إنهم يكرهونها، يكرهون، يحبون.»

– «لم يكن ينبغي أن أقول ذلك؛ السويديون طيبون جدًّا معي، يعلمونك أمورًا …»

عند هذه النقطة هز رأسه ضاحكًا.

قالت: «حقًّا؛ لقد علموني التزلُّج …»

– «فعلًا! لم تتعلمي التزلُّج في روسيا؟!»

– «الروسيون لا يصرون جدًّا … جدًّا على تعليمك أشياء مثل السويديين.»

– «ولا في بورنهولم. أعيش الآن في بورنهولم. الدانماركيون لا يصرون جدًّا؛ هذه هي الكلمة، لكن طبعًا في بورنهولم، نحن لسنا حتى دانماركيين، ونعلن أننا لسنا كذلك.»

كان طبيبًا في جزيرة بورنهولم، تساءلت هل لو طلبت منه أن يفحصَ حَلْقها — الذي بات شديد الاحتقان — سيكون خروجًا عن حُدود اللياقة، وقررت أنه سيكون كذلك.

قال إن أمامه سفرًا طويلًا وربما شاقًّا لا يزال عليه أن يقطعَه، بعد أن عبَرا الحُدود الدانماركية.

لا يرى شعب بورنهولم أنفسهم دانماركيين، حَسْبَما يقول؛ لأنهم يَرَوْنَ أنفسهم من الفايكنج احتلَّتْهم الرابطة الهانزية في القرن السادس عشر. يملكون تاريخًا عنيفًا، وكانوا يأخذون أسرى. هل سبق لها أن سمعت عن إيرل بوثويل الشرير؟ يقول بعض الناس إنه مات في بورنهولم مع أن شعب زيلاند يقول إنه مات هناك.

قال: «لقد قَتَلَ زوجَ ملكة اسكتلندا وتزَوَّجها هو، لكنه مات في الأغلال، مات مجنونًا.»

قالت: «ماري ملكة اسكتلندا! لقد سمعت بذلك.» وبالفعل سمعت بذلك؛ لأن ملكة اسكتلندا كانت إحدى أوائل البطلات اللاتي أَسَرْنَ خيال أنيتا.

– «أوه، سامحيني، أنا أُثَرْثِرُ.»

قالت صوفيا: «أسامحك؟! ما الذي اقترفتَه لأسامحَك عليه؟»

احْمَرَّ وجهه. وقال: «إني أعرف مَنْ تكونين.»

قال إنه لم يكن يعرف في البداية، لكن حين تحدثت بالروسية، تأكد.

– «أنت تلك السيدة التي عملت أستاذةً في الجامعة، قرأت عنكِ في الجريدة. كان بها صورة لكِ كذلك، لكنك كنت تبدين أكبر سنًّا مما أنت فعليًّا. أعتذر أني تطفلتُ عليك لكني لم أستطع أن أمنع نفسي.»

– «بَدَوْتُ شديدة الصرامة في الصورة لأني اعتقدت أن الناس لن تَثِقَ فيَّ لو ابتسمتُ، ألا ينطبق الأمر نفسه على الأطباء؟»

– «ربما، لم أتعودْ على أن تُلتَقَط لي الصور.»

والآن نشأ حاجز بسيط بينهما، وكان عليها أن تزيحَه. كان الوضع أفضل قبل أن يقولَ لها إنه يعرفها. عادت إلى قضية بورنهولم. قال: إنها كانت جريئة وعاصفة، وليست لطيفة وذات تضاريس منبسطة مثل الدنمارك. يأتي الناس إلى هناك طلبًا للسكينة والهواء الصافي. أخبرها بأنها إن رغبت في أي وقت أن تأتيَ، فسيشرفه أن يصاحبها في التجول في أنحاء الجزيرة.

قال: «لدينا أَنْدَر نوع من الحَجَر الأزرق ويُسمى الْمَرْمَر الأزرق، يُكْسَر ويُصْقَل لترتديه النساء حول رِقابهن، إذا رغبت في الحُصول على واحد في أي وقت …»

كان يتحدث بحماقة لأنه كان يريد أن يقول شيئًا ولا يستطيع البَوْح به، كان بإمكانها أن ترى ذلك.

كان القطار يقترب من روستوك؛ فزاد توتره. كانت تخشى من أن يطلبَ منها أن تُوَقِّعَ اسمها على ورقة أو على كتاب معه. نادرًا ما يفعل أحد ذلك، لكن الأمر يُحزنها، لم تستطع أن تعرف السبب.

قال: «أرجوكِ أَصْغِي إليَّ، لا بد أن أقولَ لك شيئًا ما. ليس من المفترض أن أفصح عنه. أرجوكِ. في طريقك إلى السويد، من فضلك، لا تذهبي عبر كوبنهاجن. لا تخافي، أنا في كامل قُوَايَ العقلية.»

قالت: «لستُ خائفة.» رغم أنها كانت خائفةً قليلًا.

– «اذهبي عبر الطريق الآخَر، عبر الجُزر الدنماركية، بَدِّلي تذكرتك من المحطة.»

– «هل لي أن أسأل لماذا؟ هل توجد لعنة في كوبنهاجن؟»

باتت متأكدة فجأة أنه سيخبرها بمؤامرة أو قنبلة.

هل هو من الأناركيين؟

«هناك وباء حصبة في كوبنهاجن، وباء. غادر العديد من الناس المدينة لكن السلطات تحاول التكتم على الأمر؛ يَخْشَوْنَ أن يسودَ الرعب أو أن يحرق البعضُ المبانيَ الحكومية. والمشكلة هي الفنلنديون. يقول الناس إن الفنلنديين جَلَبُوها إلى كوبنهاجن؛ لا يريدون أن يثور الناس على اللاجئين الفنلنديين، أو ضد الحكومة لأنها سمحت لهم بالدخول.»

توقف القطار ووقفت صوفيا تتفقد حقائبها.

– «عِدِيني، لا ترحلي قبل أن تعديني.»

قالت صوفيا: «حسنًا أعِدُك.»

– «سوف تستقلِّين الْمُعَدِّية إلى جتسر، سوف أذهب معك لتبديل التذكرة لكن يجب أن أواصل إلى رتجن.»

– «أعِدُك.»

هل ذَكَّرها بفلاديمير؟ فلاديمير في الأيام الأولى. لم تكن ملامحه هي التي ذَكَّرَتْها بفلاديمير بل رعايته لها التي تنطوي على شيء من التضرع، تواضعه الهادئ وعناده ورعايته المتضرعة.

بسط يده وأعطتْه يدَها ليتصافحا، لكن لم تكن هذه نيته، وضع في كفها حَبَّة دواء صغيرة قائلًا: «هذه ستمنحك بعض الراحة إذا أرهقَتْكِ الرحلة.»

قررت أنه سيكون عليها التحدث إلى أي مسئول عن وباء الحصبة هذا، هكذا قررتْ.

•••

لكنها لم تفعل هذا. انزعج الرجل الذي بدل تذكرتها لأنه اضْطُرَّ أن يقوم بأمر معقد جدًّا وسوف يغضب أكثر لو غيرت رأيها. في البداية، بدا أنه لن يجيب على أي كلام إلا لو كان باللغة الدنماركية، كما تحدث إليه المسافرون الآخرون، لكن حين أنهى تبديل التذكرة لها قال بالألمانية إن هذه الرحلة تستغرق وقتًا أطول الآن، إذا كانت لا تدرك ذلك، ثم أدركت أنهم لا يزالون في ألمانيا، وأنه ربما لا يعرف أي شيء عن كوبنهاجن؛ ما الذي كانت تظنه؟

أضاف بكآبة أن الثلوج تتساقط على الجزر. كانت الْمُعَدِّيَة الصغيرة إلى جتسر جيدة التدفئة على الرغم من عدم وُجود خيار سوى الجلوس، الجلوس على مقاعد خشبية قاسية. كانت على وشك أن تتناولَ الحبة؛ إذ اعتقدت أن ما كان يعنيه حين تحدَّث عن رحلة شاقة هو الجلوس كمقاعد مثل هذه، ثم قررت أن توفرها في حال أُصيبت بدوار البحر.

كان بالقطار المحلي الذي استقلتْه مقاعد درجة ثانية عادية مع أنها بالية. من ناحية أخرى، كان الجو باردًا في القطار حتى مع وُجود الموقد الدُّخَاني غير المفيد تقريبًا في نهاية العربة.

كان المحصل أكثر ودًّا من بائع التذاكر، ولم يكن في عَجلة من أمره. وإذ أدركت أنهم في الأراضي الدنماركية فعلًا سألته بالسويدية — التي اعتقدتْ أنها قد تكون أقرب إلى الدنماركية من الألمانية — عما إذا كان هناك وباء في كوبنهاجن بالفعل. أجاب بلا، إن القطار الذي تستقله لن يذهب إلى كوبنهاجن.

بدا أن كلمتي «قطار» و«كوبنهاجن» هما كل ما يعرفه من اللغة السويدية.

لم تكن بهذا القطار مقصورات بالطبع، كانت هناك عربتان بمقاعدهما الخشبية فقط. أحضر بعض المسافرين معهم وسائدهم الخاصة وأغطيتهم ومعاطفهم ليَلْتَحِفُوا بها. لم ينظروا إلى صوفيا، ولم يحاولوا أن يتحدثوا إليها على الإطلاق. أي فائدة ستجنيها لو فعلوا؟ لن تستطيع أن تفهمَهم أو تجيبَهم.

ليس هناك عربة شاي كذلك. انفتحت لفافات مغلفة في ورق مُزَيَّت وخرجت شطائر باردة. شرائح سميكة من الخبز والجبن ذي الرائحة النفاذة؛ وقِطَع من لحم الخنزير المطهوِّ البارد؛ وفاحت رائحة رنجة من مكان ما. أخرجت امرأة شوكة من جيبها في طيات ملابسها وأكلت كرنبًا مُخَلَّلًا من برطمان. كل ذلك أثار في صوفيا ذكريات الوطن؛ روسيا.

لكن هؤلاء ليسوا فلاحين روسيين، وليس من بينهم من يثرثر أو يثمل أو يضحك، هم يابسون مثل الألواح. حتى الشحم الذي يكسو عظام بعضهم شحم يابس، شحم لوثري يحترم ذاته. لا تعرف عنهم أي شيء.

لكن ماذا تعرف عن الفلاحين الروس بحق، الفلاحين في باليبينو، حين يأتي ذكرهم؟ إنهم غالبًا ما يتَزَلَّفون لكل من يَعْلُونهم منزلةً.

باستثناء المرة الواحدة، ربما، في يوم الأحد حين يجب على كل الخدم ومرءوسيهم الذهاب إلى الكنيسة لسماع الكِرازة. انهارت معنويات والدة صوفيا تمامًا بعدها وراحت تبكي وتنتحب؛ وكانت تقول «ما الذي سيحل بِنَا؟ ما الذي سيحل بأطفالي المساكين؟» أخذها الجنرال إلى غرفة مكتبه ليهدئها. جلست أنيتا تقرأ في أحد كتبها، وراح أخوهم الصغير فيودور يلعب بمكعباته. تتجول صوفيا في الأنحاء وتتجه إلى المطبخ حيث يأكل خدم المنزلِ والحقلِ الفطائرَ المقلية ويحتفلون؛ لكنه كان احتفالًا مكتَنفًا بالوقار نوعًا ما كما لو أنه عيد أحد القديسين. يضحك رجل كبير في السن كانت مهمته مقتصرة على تنظيف الساحة، مناديًا عليها بالسيدة الصغيرة: «ها هي السيدة الصغيرة آتيةً تتمنى لنا الخير.» ثم يهلل لها البعض. تفكر كم هم لطفاء مع أنها تفهم أن الهُتاف لها نوع ما من المزاح.

ثم سرعان ما تظهر المربية بوجه مثل السحابة السوداء وتأخذها بعيدًا.

بعد ذلك تمضي الأشياء كالمعتاد إلى حد كبير.

كان جاكلارد يخبر أنيتا بأنها لا يمكن أن تكون ثائرةً حقيقية، هي فقط ماهرة في استخلاص المال من والدَيْهَا المجرِمَيْنِ. بالنسبة لصوفيا وفلاديمير (فلاديمير الذي انتزعه انتزاعًا من قبضة الشرطة)؛ فهما طفيليان متأنقان يَجْتَرَّانِ دراساتهما العقيمة.

•••

تصيبها رائحة الكرنب والرنجة بالغثيان قليلًا.

توقف القطار عند نقطة لاحقة وطلب منهم أن يخرجوا جميعًا من العربة. على الأقل هذا ما افترضَتْه من صياح المحصل فيهم، ونُهوض الأجساد اللامبالية المطيعة أيضًا. وجدوا أنفسهم مغروسين في الثلج حتى ركبهم، ولا أثر لبلدة أو رصيف على مَدِّ أبصارهم، كل ما يلوح أمامَهم عبر الثلج المتساقط خفيفًا تلال بيضاء سهلة تحيط بهم. يجرف بعض الرجال الثلج الذي تجمع قاطعًا السكة الحديدية أمام مقدمة القطار. تحركت صوفيا لتحميَ قدميها من التجمد في حذائها الخفيف طويل الرقبة الذي يناسب شوارع المدينة لكن ليس هنا. وقف المسافرون الآخرون ساكنين ولم يعلقوا على الوضع.

بعد نصف ساعة، أو ربما خمس عشرة دقيقة فقط، أصبح المسار سالكًا وصعد المسافرون إلى القطار مرة أخرى. لا بد أن سبب اضطرارهم للنزول من القطار في المقام الأول عِوضًا عن الانتظار في مقاعدهم — غامض عليهم جميعًا وعلى صوفيا أيضًا، لكن أحدًا لم يتذمر. يتقدمون ويتقدمون في الظلام وشيء آخر غير الثلج يصطدم بالنوافذ. صوت شرير خادش. مطر جليدي.

ثم لاحت أمامهم مصابيحُ معتمة لإحدى القرى، ونهض بعض المسافرين، يجمعون أنفسهم ويلتقطون حقائبهم وحُزَمهم بانتظام ويهبطون من القطار ويختفون. تستمر الرحلة، لكن بعد وقت قصير يُطلب منهم النزول من القطار مرة ثانية. ولم يكن ذلك بسبب تكدس الثلوج. إنهم يتوجهون إلى قارب، مُعَدِّيَّة صغيرة أخرى، تأخذهم في مياه سوداء. وصل احتقان حَلْق صوفيا إلى حد أنها لم تكن تستطيع أن تتحدثَ لو اضْطُرَّت إلى هذا.

لم تكن تعرف المدة التي يستغرقها هذا العُبور. حين رَسَتِ العبَّارة، كان على الجميع الدُّخول إلى سقيفة ذات ثلاثة جدران، لم تتسع للجميع ولم تكن تحتوي على مقاعد. وصل قطار بعد مدة من الانتظار لم تستطع أن تحسبها. وحين أتى هذا القطار، كم كانت تشعر بالامتنان، مع أنه لم يكن أدفأ، ويحتوي المقاعد الخشبية نفسها التي كانت في القطار الأول. يبدو أن امتنان المرء لوسائل الراحة الضئيلة يعتمد على ماهية المأساة التي مر بها قبل الحصول على تلك الوسائل. كانت تريد أن تسأل شخصًا ما؛ أليست هذه عِبرَة كئيبة محزنة؟

بعد مدة توقفوا في بلدة أكبر يوجد مَقْصِف في محطتها. ومع ذلك، كانت مرهقة جدًّا لدرجة تمنعها من أن تنهضَ وتمشيَ إليها كما فعل بعض المسافرين الذين عادوا بأكواب قهوة يتصاعد منها البخار. ولكن المرأة التي أكلت الكرنب أقبلت حاملة في يديها كوبين، واتضح أن أحدهما لصوفيا. ابتسمت صوفيا وبذلت ما في وسعها لتعبر لها عن امتنانها. أومأت المرأة برأسها كما لو أن هذا الهَرْج غير ضروري، بل حتى غير لائق. لكنها ظلت واقفة هناك حتى أخرجت صوفيا العملات الدنماركية التي أخذتها من موظف التذاكر، فأخذت المرأة اثنتين منها بأصابعها الرطبة العارية، بينما تزفر في ضيق. وكان ذلك ثمن القهوة على الأرجح؛ وليس مقابل اهتمامها وشرائها وحملها. ودون أن تَنْبِس بِبِنْتِ شَفَة عادت المرأة إلى مَقْعدها مرة أخرى.

صعد إلى القطار بعض ركاب جُدُد؛ امرأة مع طفل في الرابعة تقريبًا، يغطي أحد جانِبَيْ وجهه ضِمَادَة طبية وإحدى ذراعيه معلَّقة. ربما تعرَّض لحادث، وذاهب إلى مستشفى البلدة. عبر فتحة في الضمادة ظهرت عينٌ داكنة حزينة. وضع الطفل وَجْنَتَهُ السليمة على حِجْر أمه فبسطت الأم على جسده جزءًا من شالِها. فعلت هذا بنحوٍ يخلو من الرِّقَّة أو المبالاة على الأخص، بل بنحو آليٍّ إلى حد ما. لا بد أن شيئًا سيِّئًا قد حدث، مزيدًا من الرعاية أُلقِيَتْ على عاتقها، هذا كل شيء. ثَمَّة أطفال ينتظرون في البيت، وربما هناك طفل في رَحِمها.

تفكر صوفيا كم هذا رهيب. كم هو رهيب حظ النساء. وما الذي قد تقوله هذه المرأة لو أخبرتها صوفيا عن النضالات الجديدة ومعركة المرأة لكسب حق التصويت وأماكن في الجامعات؟ لعلها تقول لكن هذه ليست مشيئة الرب. وإذا جادلَتْها صوفيا لتتخلص من هذا الرب ولتصقل عقلها، ألن تنظر إليها — صوفيا — بشفقة عنيدة وإنهاك وتقول: كيف إذن سنمضي في هذه الحياة من دون الرب؟

عبروا المياه السوداء مرة أخرى، هذه المرة فوق جسر طويل، ويتوقفون في قرية أخرى حيث غادرت المرأة والطفل القطار. تفقد صوفيا اهتمامها، ولا تنظر لترى إذا كان هناك شخص ما ينتظرهما، حاولت أن ترى ساعة المحطة التي ينيرها ضوء القطار، تتوقع أن يكون الليل قد انتصف، لكن الساعة قد تجاوزت العاشرة بقليلٍ.

فكرت في ماكسيم. هل استقل ماكسيم في حياته قطارًا مثل هذا؟ تخيلت رأسها مستلقيًا في استرخاء فوق كتفه العريضة؛ مع أن الحقيقة أنه لن يهتم بهذا أمام الناس. معطفه المصنوع من قماش فاخر غالي الثمن، تفوح منه رائحة المال والرفاهية. تلك الأشياء الجيدة التي يؤمن أن له الحق في أن يأمل فيها وعليه واجب الحفاظ عليها حتى مع كونه ليبراليًّا غير مرحب به في وطنه. تلك الثقة الرائعة التي يتمتع بها، تلك الثقة التي كانت لأبيها، تستطيع أن تشعر بها وأنت طفل صغير تستكين بين ذراعَيْ أبيك، وترغب في أن تظل أسيرًا لهذا الشعور طوال حياتك. وسيكون الأمر أكثر إثارةً للبهجة لو أنهم يحبونك، لكنه مريح حتى لو كان مجرد نوع من المواثيق أبرموه منذ الأزل؛ عهد وقعوا عليه، من منطلق الضرورة حتى إن لم يكن من منطلق الحماس، من أجل حمايتك.

قد يستاءون لو وصفهم شخص ما بالسلاسة ولِين الجانب، مع أنهم هكذا على نحو ما. إنهم يُخضعون أنفسهم للسُّلوك الرجولي. يخضعون أنفسهم للسلوك الرجولي بكل مخاطره وقسوته وأعبائه المعقدة وتحايلاته المتعمدة. قواعده، التي تستفيدين منها في بعض الحالات، كامرأة، ثم لا تستفيدين منها في بعض الحالات الأخرى.

الآن ترى في مخيلتها صورته؛ ماكسيم، لا يحميها على الإطلاق، بل يُهَرْوِل في محطة باريس كما يلائم رجلًا له حياة خاصة.

غطاء رأسه البارز، ثقته الدمثة في نفسه.

هذا لم يحدث. لم يكن ماكسيم. بالتأكيد لم يكن هو.

•••

لم يكن فلاديمير جبانًا — انظري كيف أنقذ جاكلارد — لكنه لم يتمتع باليقينيات الرجولية؛ لهذا استطاع أن يمنحَها بعض النِّدِّيَّة لم يستطع الآخرون مَنْحها إياها؛ ولهذا لم يستطع قطُّ أن يحيطَها بذلك الدفء والأمان، ثم مع اقتراب النهاية حين كان تحت تأثير الأخوين راجوزين، وغيَّر نبرته — في حالته البائسة ومع اعتقاده بأنه قد ينجو بنفسه بتقليد الآخرين — تحول إلى معاملتها بأسلوب غير لائق، بل وسخيف ومتكبر. لقد منحها إذن مبررًا لمقته، لكن لربما كانت تمقته طوال الوقت؛ سواء احترمها أم أهانها كان من المستحيل أن تحبَّه.

مثلما أحبت أنيتا جاكلارد؛ كان جاكلارد أنانيًّا ووقحًا وخائنًا، وحتى حين كرهَتْه كانت تحبه.

أي أفكار قبيحة وضارَّة يمكن أن تطفوَ إذا لم تحبسها في سراديب عقلك.

حين أغلقت عينيها ظنت أنها رأتْه — أي فلاديمير — يجلس على المقعد أمامَها، لكن لم يكن فلاديمير، كان الطبيب من بورنهولم، إنها ذكراها عن الطبيب من بورنهولم ليس إلا؛ ملحاح وقلق، يُقحم نفسه في حياتها بذلك الأسلوب المتواضع المريب.

•••

وحان الوقت — في منتصف الليل بالتأكيد — الذي كان عليهم فيه مغادرة القطار نهائيًّا. وصلوا إلى حدود الدانمارك. هيلسينكور. على الأقل، بلغوا الحدود؛ وكانت تَفْتَرض أن الحدود الحقيقية تقع في مكان ما في كاتيجات.

كانت الْمُعَدِّية الأخيرة بانتظارهم، وكانت ضخمة ومبهجة بأضوائها الكثيرة المتلألئة. أقبل عليها حمَّال ليحمل حقائبها إلى السطح، ويشكرها على عملاتها الدنماركية ويسرع بعيدًا. ثم أظهرتْ تذكرتَها لضابط الحدود الذي تحدث إليها بالسويدية. طمأنها أنهم سيقومون بالاتصال بالجانب الآخر بالقطار المتجه إلى استوكهولم. لن تُضْطَرَّ إلى قضاء الليل في غرفة انتظار.

قالت للضابط: «أشعر أني عدت إلى المدنية.» فنظر إليها في شيء من الارتياب. كان صوتها نعيبًا، مع أن القهوة ساعدت حلقها. فكرت؛ لأنه سويدي ليس إلا. ليس من الضروري الابتسام أو إبداء الملاحظات بين السويديين. يمكن الحفاظ على المدنية بدون هذا.

لم يكن العبور سهلًا تمامًا هذه المرة، لكن لم تُصَبْ بدَوَار البحر. تذكرت حبة الدواء لكنها لم تَحْتَجْ إليها. ولا بد أن القارب كان دافئًا لأن بعض الناس خلعوا طبقة الملابس العليا من ملابسهم الشتوية، لكنها ظلت ترتعش. لعله من الضروري أن ترتعش؛ فقد اختزنت بردًا كثيرًا في جسدها خلال رحلتها عبر الدنمارك. لقد تكدس البرد بداخلها، وبهذه الرعشة فقط تستطيع أن تنفضه عنها.

•••

كان القطار المتجه إلى استوكهولم منتظرًا، كما وعدها الضابط، في محطة هيلسينكبرج المزدحمة، كانت المحطة أكثر حيوية وأضخم من تلك الأخرى المسماة بذات الاسم على الجهة المقابلة من المياه. ربما لا يبتسم لك السويديون لكن المعلومات التي يعطونك إياها صحيحة. جاءها حمَّال ليأخذَ حقائبها بينما كانت تبحث في حقيبتها عن بعض العملات. أخذت عددًا وفيرًا ووضعته في يده، معتقدة أنها دنماركية؛ فلن تحتاج لها بعد الآن.

كانت دنماركية. أرجعها لها قائلًا: «لن يصلحوا.»

صاحت: «هذا كل ما لديَّ.» لتدرك مع صيحتها أمرين: لقد تحسَّن حلقها، وأنْ لا نقود سويدية لديها.

وضع حقائبها على الأرض ومضى مبتعدًا.

كان معها نقود فرنسية، ونقود ألمانية، ونقود دانماركية، لقد نسيت السويدية.

كان القطار ينفث دُخَانه، والمسافرون بداخله، بينما وقفت هناك في وَرْطتها. لا تستطيع حمل حقائبها. لكن لو لم تستطع، فسوف تتركها خلفها.

قبضت على حاملات الحقائب المختلفة وبدأت تجري. جرت تتمايل وتلهث والألم يدق في صدرها إلى ما تحت ذراعيها، والحقائب ترتطم بساقيها. كانت هناك سلالم. لو توقفت لتلتقط أنفاسها ستتأخر جدًّا. صعدتها، وبدموع شَفِقَة على نفسها تملأ عينيها توسلت للقطار ألَّا يتحركَ.

ولم يتحرك، لم يتحرك حتى أمسك المحصل — الذي انحنى ليوصد الباب — ذراعها، ثم نجح على نحوٍ ما في الإمساك بحقائبها وسحبها إلى القطار.

ما إنْ نَجَتْ حتى بدأت تسعل. كانت تحاول أن تطرد شيئًا ما إلى خارج صدرها؛ الألم، كانت تطرده من صدرها. تطرد الألم وضيق النفس إلى خارج حلْقها، لكنها اضْطُرَّتْ أن تتبع المحصل إلى مقصورتها، وكانت تضحك بانتصار بين نوبات السعال. نظر المحصل في مقصورة كانت مليئة بالركاب فعليًّا، فاصطحبها إلى واحدة فارغة.

•••

قالت له في إشراق: «كنت محقًّا، سأكون مصدرًا للإزعاج لو أجلستني حيث لا يمكن أن أجلس.» «ليس معي نقود، سويدية، معي كل العملات الأخرى إلا السويدية. اضْطُرِرْتُ أن أجري؛ لم أعتقد قطُّ أني أستطيع …»

طلب منها أن تجلس وتوفر أنفاسها. ذهب وعاد سريعًا بكوب من الماء. فكرت في الحبة وهي تشربه وتناولتها مع آخر جرعة من الماء. هدأ السعال.

قال: «لا يجب أن تفعلي هذا ثانية، صدرك مضطرب. يصعد ويهبط.»

إن السويديين صرحاء جدًّا، ومحافظون ودقيقون جدًّا.

قالت: «انتظر.»

كان هناك شيء آخر تريد أن تتأكدَ منه، تقريبًا كما لو أن القطار لن يوصلها إلى المكان الصحيح إن لم تتأكد.

«انتظر لحظة، هل سمعت عن …؟ هل سمعت عن وجود وباء الحصبة؟ في كوبنهاجن؟»

– «لا أعتقد.» قال ذلك ثم حَيَّاها بإيماءة حادة من رأسه، وإن كانت مهذبة، ثم تركها.

قالت وهي تلاحقه: «شكرًا لك، شكرًا لك.»

•••

لم تثمل صوفيا في حياتها قطُّ، وأي دواء تناولته، يمكن أن يشوش تفكيرها، يُنعسها قبل أن يحدث هذا، ومِن ثَمَّ ليس لديها الخبرة التي تجعلها تقارن ذلك الشعور الاستثنائي — حالة تغير الإدراك — الذي يتسلل إليها الآن بها. في البداية، ربما لم يكن هناك سوى شعور الارتياح، إحساس رائع، وإن كان سخيفًا؛ لأنها نجحت في حمل حقائبها وصعدت درجات السلم ركضًا ووصلت إلى القطار، ثم إنها نَجَتْ من نوبة السعال وشعور الاعتصار في قلبها، واستطاعت على نحو ما أن تتجاهل حَلْقها.

•••

لكن كان هناك المزيد، كما لو أن قلبَها يتمدد ويستعيد حالته العادية ويواصل العمل بعد ذلك؛ فيصبح منشرحًا ومنتعشًا، يطرد المتاعب — بمرح على الأغلب — بعيدًا عن طريقها. حتى وجود الوباء في كوبنهاجن يمكن أن يصبح الآن شيئًا مثل الطاعون في قصة شعبية، جزء من قصة قديمة. وعلى ما كانت عليه حياتها؛ تحولت صداماتها ومراراتها إلى أوهام. تتخذ الأحداث والأشكال شكلًا جديدًا الآن؛ إذ تراها من خلال طبقات من الألمعية الصافية؛ عبر منشور زجاجي.

•••

عاشت تجرِبة ذات مرة ذكَّرتها بحالتها الحالية. كانت أول زَلَّة لها في علم المثلثات، حين كانت في الثانية عشرة من عمرها. ترك لهم البروفيسور تيرتوف، جارها في باليبينو، الكتابَ الجديد الذي ألفه. اعتقد أنه قد يثير اهتمام والدها الجنرال؛ بسبب معرفته بالمدفعية. عثرت عليه في غرفة المكتب وفتحتْه بالصدفة على الفصل الأول الذي تناول البصريات. بدأت تقرؤه وتدرس الرسومات البيانية، واقتنعت أنها خلال وقت قصير ستكون قادرة على فهمها. لم تسمع قطُّ من قبلُ عن الجَيْب وجَيْب التَّمَام، لكن بإحلال الجَيْب محل قيمة وَتَر الدائرة، وللصدفة السعيدة فإنهما يتطابقان تقريبًا في الزوايا الصغيرة؛ هكذا استطاعت أن تفك شفرة هذه اللغة الجديدة المبهجة.

لم تندهش حينئذٍ مع أنها كانت سعيدة سعادة بالغة.

يمكن أن تحدث هذه الاكتشافات. إن الرياضيات هبة طبيعية، مثل ظاهرة الشفق القطبي. إنها لا تختلط بأي شيء آخر في العالم، لا تختلط بالأبحاث ولا بالجوائز والزملاء والشهادات.

أيقظها المحصل قبيل بلوغ القطار استوكهولم. قالت: «أي يوم من أيام الأسبوع هذا؟»

– «الجمعة.»

– «جيد، جيد. أستطيع أن ألقيَ محاضرتي.»

– «اهتمِّي بصحتك سيدتي.»

•••

عند الثانية بعد الظهر، كانت وراءَ منصة المدرج، وألقت محاضرتها باقتدار وتماسك، بدون أن تشعرَ بأي ألم أو سعال. لم تؤثِّر السخونة البسيطة — التي تسري في جسدها، كما يسري التيار في السلك — على صوتها. وبدا أن حلْقها شُفِيَ مِنْ تِلْقَاء نفسه. حين انتهت توجهت إلى البيت وبدلت ملابسها واستقلت سيارة أجرة إلى حفل استقبال كانت مدعوةً إليه في بيت آل جولدنس. كانت معنوياتها جيدة، تتحدث بإشراق عن انطباعاتها عن إيطاليا وجنوب فرنسا، لكنها لم تتحدَّث عن رحلة عودتها إلى السويد، ثم تركت الغرفة بدون أن تستأذن وتوجهت إلى الخارج. كان عقلها ينضح بأفكار مضيئة واستثنائية لدرجة جعلتها تعزف عن التحدث إلى الناس أكثر من هذا.

حل الظلام، وراحت الثلوج تتساقط بدون رياح، وكبرت مصابيح الشارع مثل كرات الزينة في أعياد الميلاد. بحثت عن سيارة أجرة لكنها لم تَرَ واحدة. كانت هناك حافلة نقل ركاب صغيرة مارَّة، فأشارت إليها. أبلغها السائق أنه خارج أوقات العمل.

قالت بدون اكتراث: «لكنك توقفت.»

لم تعرف شوارع استوكهولم جيدًا إطلاقًا؛ لهذا مرت مدة حتى أدركت أنها لم تكن في الطريق الصحيح إلى منزلها. ضحكت وهي تشرح هذا للسائق، وتركها لكي تمشيَ إلى بيتها في الثلج في فستان السهرة وردائها الخفيف وحذائها المفتوح. كان الرصيف ساكنًا وأبيض. كان عليها أن تمشيَ مسافة مِيل، لكنها سعدت حين اكتشفت أنها تعرف الطريق على أية حال. غاصت قدماها في الثلوج لكنها لم تكن تشعر بالبرد. فكرت أن سبب هذا هو عدم وجود رياح، والسحر الذي يجوب عقلها وجسدها والذي لم تَعِهِ قطُّ مِنْ قَبْلُ، ولكنها تستطيع الاعتماد عليه بالتأكيد من الآن فصاعدًا. ربما يبدو قولًا مكررًا أن تقول هذا؛ لكن المدينة كانت تبدو وكأنها مدينة في إحدى حكايات الأطفال الخيالية.

•••

لازمت الفراش في اليوم التالي؛ وأرسلت إلى زميلها ميتاج ليفلر رسالة قصيرة تطلب منه أن يُحضر لها طبيبًا لأنه ليس لديها واحد. جاء بنفسه أيضًا، وخلال الزيارة الطويلة تكلمت معه بحماس عظيم عن عملها الذي تخطط له في الرياضيات. كان عملًا أكثر طموحًا وأهميةً وجمالًا من أي شيء آخر خطر على بالها حتى ذلك الوقت.

اعتقد الطبيب أن المشكلة كانت بِكُلْيَتَيْهَا وترك لها بعض الأدوية.

قالت صوفيا حين رحل: «نسيت أن أسأله؟»

قال ميتاج ليفلر: «تسألينه عن ماذا؟»

– «هل هناك وباء في كوبنهاجن؟»

قال ميتاج ليفلر بلطف: «أنت تحلمين، من قال لك هذا؟»

– «رجل أعمى.» ثم قالت: «لا، أعني طيبًا. رجل طيب.» حركت يديها في الهواء كأنها تحاول أن ترسم شكلًا ما أكثر ملائمةً من الكلمات. قالت «إنها لغتي السويدية.»

– «لا تتكلمي إلى أن تتحسن حالتك.»

ابتسمت ثم بدت حزينة، وقالت مشددة على كلماتها: «زوجي.»

– «تعنين خطيبك؟ إنه ليس زوجك بعد. إني أمازحك فحسب، هل تريدينه أن يأتي؟»

لكنها هزت رأسها. قالت: «ليس هو. بوثويل.»

قالت بسرعة: «لا، لا، لا، الآخر.»

– «يجب أن ترتاحي.»

•••

حضرت تيريسا جولدن وابنتها إليسا، وكذلك إيلين كي. كن يتناوبن على تمريضها. بعد أن غادر ميتاج ليفلر نامت قليلًا. حين استيقظت، كانت تثرثر مرة أخرى لكنها لم تتحدَّث عن أي زوج. تحدثت عن روايتها وعن كتاب ذكريات شبابها في باليبينو. قالت إنها تستطيع أن تفعل شيئًا أفضل كثيرًا الآن، وبدأت تصف فكرتها لقصة جديدة. أصبحت مشوشة، وضحكت لأنها لم تكن حتى واضحة في تشوشها. قالت: هناك حركة بندولية؛ هناك نبض في الحياة. كان أملها أن تكتشف في هذه القطعة الأدبية ما يحدث. شيء ما تحت السطح، مبتكر لكنه ليس كذلك.

ضحكت، ما الذي تعنيه بهذا؟

كانت تموج بأفكار ذات اتساع جديد كليةً، وأهمية ومع ذلك طبيعية جدًّا وبديهية حتى إنها لا تستطيع أن تمنعَ نفسها عن الضحك.

•••

ساءت حالتها يوم الأحد. بالكاد تستطيع أن تتحدثَ لكنها أصرت على أن ترى فوفو في فستان كانت سترتديه في حفلة أطفال.

كان مُفَصَّلًا على الطراز الغَجَرِيِّ؛ وراحت فوفو ترقص في فستانها حول سرير أمها.

•••

طلبت صوفيا يوم الإثنين من تريسا جولدن أن تتولى رعاية فوفو.

في ذلك المساء شعرت بتحسن، وجاءت ممرضة لتعطي فرصة لتريسا وإلين أن تنالا قسطًا من الراحة.

استيقظت صوفيا في الساعات الأولى من الصباح. كانت تريسا وإلين مستيقظتين وأيقظتا فوفو لكي ترى الطفلة أمها حية لمرة أخيرة. لم تستطع صوفيا أن تتكلم إلا قليلًا.

اعتقدت تريسا أنها سمعتها تقول: «هذه سعادة مفرطةٌ.»

•••

ماتت حوالي الرابعة بعد الظهر. بَيَّن التشريح أن الالتهاب الرِّئوي أتلف رئتيها تمامًا، وقلبها يعاني من مشكلة تعود إلى سنوات عدة. وكان مخها — كما توقع الجميع — ضخمًا.

•••

عرف طبيب بورنهولم عن وفاتها من الجريدة، ولم يندهش لذلك. كان يأتيه حدس أحيانًا، مزعج لشخص يمتهن مهنته، وليس بالضرورة صادقًا. فكَّر أن تَجَنُّبَهَا كوبنهاجن يمكن أن يحميَها. تساءل إذا كانت تناولت الدواء الذي أعطاه إياها، وما إذا منحها السلوان، كما منحه إياه عند الضرورة.

•••

دُفنت صوفيا كوفالفسكي فيما كان يُطلق عليه حينها المقابر الجديدة في استوكهولم، عند الثالثة من بعد الظهيرة في يوم بارد ساكن حيث تعلقت أنفاس الحزانى والمتفرجين في شكل سُحُبٍ في الهواء المجمد.

•••

جاءها إكليل غار من فايرشتراس. قال لأختَيْهِ إنه عرف أنه لن يراها مرة ثانية.

عاش ست سنوات أخرى.

•••

وصل ماكسيم من بوليو بناءً على برقية من ميتاج ليفلر استدعاه فيها قبل موتها. وصل في الوقت المناسب لكي يتحدثَ في الجنازة بالفرنسية، متحدثًا عن صوفيا على أنها أستاذة من معارفه، وشكر الأمة السويدية نيابة عن الأمة الروسية على منحها فرصة لكسب العيش (أن تستخدم علمها في الرياضيات بطريقة مفيدة، حسبما قال) كأستاذٍ للرياضيات.

•••

لم يتزوج ماكسيم. سُمِحَ له بعد فترة بالعودة إلى مسقط رأسه، وأن يحاضر في بيترسبرج. وأسس حزب الإصلاح الديمقراطي في روسيا، مدافعًا عن الملَكية الدستورية. اعتبره القيصريون ليبراليًّا جدًّا. من ناحية أخرى، اتهمه لينين بالرجعية.

•••

اشتغلت فوفو بالطب في الاتحاد السوفييتي، وتُوفيت في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين. لم يكن لديها اهتمام بالرياضيات، هكذا قالت.

•••

أُطلِقَ اسم صوفيا على فوهة بركان في القمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤