لعب أطفال

أظن أنه دار حديث في منزلنا عما حدث، بعد ذلك.

قالت أمي: «كم هذا محزن! كم هو بشع!»

وقال أبي: «كان يجب أن يكون هناك إشراف. أين كانت المرشدات؟»

•••

وكلما مررنا أمام البيت الأصفر، تقول أمي: «تذكرين؟ هل تذكرين كم كنت تخافين منها؟ المسكينة.»

لدى أمي عادة التعلق بطرائف طفولتي البعيدة بل والاعتزاز بها.

•••

حين تكون طفلًا تصبح شخصًا مختلفًا مع كل عام يمر عليك. يحدث هذا في الخريف عادةً، حين ترجع المدرسة من جديد، وتحتل مكانًا في صف دراسي أعلى، وتترك وراءك كسل وفوضى الإجازة الصيفية، فحينئذٍ تلاحظ التغير أكثر ما تلاحظ. بعد ذلك، لا تكون متأكدًا من الشهر أو العام لكن التغيرات تستمر على المنوال نفسه. وعبر زمن طويل يتساقط ماضيك بعيدًا عنك بسهولة وبتلقائية، كما ينبغي. لا تختفي مشاهده بقدر ما تنقطع صلتك بها، ثم فجأة، تقابل طريقًا متعرجًا يُرْجِعُكَ إلى ما انتهى وكاد يطويه النسيان؛ ليطل برأسه من جديد مطالبًا بانتباهك، بل وبأن تفعل شيئًا ما بصدده، مع أنه من الواضح أن فعل أي شيء قد أصبح مستحيلًا.

•••

مارلين وشارلين. اعتقد الناس أننا توءمان. سادت في تلك الأيام موضة تسمية التوءمين بأسماء مسجوعة. بوني وكوني. رونالد ودونالد. وبالطبع كان لدينا — شارلين وأنا — قبعات متماثلة. قبعات الخادمات، هكذا كانت تسمى؛ وهي عبارة عن أقماع عريضة مسطحة من القش المغزول تُرتدى عبر نوع من الرباط أو المطاط يُثبت تحت الذقن. وقد أصبحت مألوفة فيما بعد في ذلك القرن، من المشاهد التليفزيونية عن الحرب في فيتنام. يلبسها رجال يسوقون دراجات في شارع من شوارع سايجون، أو نساء يمشين في طريق خلفيته قرية مقصوفة بالقنابل.

كان ممكنًا في ذلك الوقت؛ أعني حين كنت أنا وشارلين في المعسكر، أن نقول خادمة دون أن نعتبرها إهانة على الإطلاق؛ أو نستخدم كلمة زنجي، أو نتحدَّث عن المساومة في الثمن على الطريقة اليهودية. أعتقد أني لم أربط تلك الكلمات بدلالاتها المهينة إلا في مراهقتي.

وهكذا كنا نحمل تلك الأسماء ونلبس تلك القبعات، ومع أول نداء على الأسماء في المعسكر أشارت إلينا المرشدة — مافيس الظريفة التي أحببناها، مع أننا لم نحبها بقدر الجميلة بولين — ونادت: «التوءمان». ومضت تنادي على الأسماء الأخرى قبل أن يتسع لنا الوقت لننكر هذا.

وحتى قبل هذا، فلا بد أننا لاحظنا القبعات وتقبَّل بعضنا البعض. وإلا كنا خلعنا تلك القبعات الجديدة، ودفعناها دون تردد تحت سرير الكابينة، معلنين أن والدتينا أجبرتانا على ارتدائها، وأننا نكرهها، إلى آخره.

ربما تقبَّلت شارلين؛ لكني لم أعرف كيف أصاحبها. إن البنات في التاسعة أو العاشرة — كان هذا نطاق العمر العام لهذه المجموعة مع أنه كان هناك من هن أكبر عمرًا قليلًا — لا يخترن أصدقاء أو يتصادقن بنفس سهولة بنات السادسة أو السابعة. كنت قد اتبعت ببساطة عند دخولي المعسكر بعض الفتيات من بلدتي — لم يكن أيٌّ منهن صديقة مقربة لي — إلى واحدة من تلك الكبائن التي بها بعض الأسرَّة التي لم تَزَل شاغرة؛ حيث أفرغت أغراضي على البطانية البُنِّيَّة، عندها سمعت صوتًا خلفي يقول: «هل يمكن أن آخذ السرير المجاور لأختي التوءم؟»

لقد كانت شارلين تتحدث إلى فتاةٍ ما لا أعرفها. تضم كابينة النوم دستتين من الفتيات. قالت الفتاة التي كانت تتحدث إليها «بالتأكيد.» وابتعدتْ.

استخدمت شارلين نبرة خاصة، متملقة، ممازحة، ساخرة من نفسها، يشوبها مرح جذاب، تشبه رنين الأجراس. كان واضحًا جدًّا أنها تتمتع بثقة بنفسها أكبر مني. وهي ليست ببساطة ثقة في أن الفتاة الأخرى سوف تبتعد ولن تقول بصلابة: «قد جئت هنا أولًا.» (أو ربما تقول — لو أنها رُبِّيت تربية فظة والبعض كن كذلك؛ إذ دفع لهن ثمن الإقامة في المعسكر نادي ليونز أو الكنيسة وليس عائلتهن: «اغربي عن وجهي؛ لن أتحرك من هنا») لا، كان لدى شارلين ثقة في أن أي شخص سيرغب في أن ينفذ طلباتها، لا أن يوافق فحسب على تنفيذها. وقد خاطرت معي كذلك، ألم يكن باستطاعتي أن أقول: «لا أريد أن أكون توءمك» ثم أعود لترتيب أغراضي. لكني لم أفعل هذا بالطبع. لقد شعرت بالزهو، كما توقعت هي، وراقبتها تُفرغ محتويات حقيبتها بسيماء احتفالي حتى إن بعض الأشياء وقعت على الأرض.

كل ما استطعت قوله لها هو: «لقد اكتسبت سُمرة بالفعل.»

فردت قائلة: «دائمًا ما أكتسب السُّمرة بسهولة.»

كان ذلك أول الاختلافات بيننا. وقد بدأنا نبذل جهدًا لتعلُّمها. هي تكتسب بشرتها سُمرة بينما يمتلئ وجهي بالنمش. شعْرنا بُنِّيٌّ لكن شعرها أكثر دكنة. شعرها مموج؛ شعري كثيف. كنت أطول بنصف بوصة، وكان لديها رسغان وكاحلان أعرض. عيناها تميلان إلى اللون الأخضر بينما تميل عيناي إلى الأزرق. لم نَمَلَّ من التفتيش والتصنيف فلم نترك حتى الشامات والنمش على ظَهَرَيْنَا، وطول إصبع السبَّابة في قَدَمَيْنا (كان إصبع السبَّابة لدي أطول من الإبهام، بينما كانت سبَّابتها هي أقصر)، أو سرد قائمة الأمراض والحوادث التي أصابتنا حتى الآن، إلى جانب الإصلاحات والإزالات التي جرت على جَسَدَيْنا. كلٌّ منا اسْتُئْصِلَتْ لَوْزَتاها — وهو إجراء احتياطي عادي في تلك الأيام — وكل منا أصيبت بالحَصْباء والسُّعال الديكيِّ لكن لم نُصَبْ بالنُّكاف. خلعت سُنَّة من أسناني لأنها كانت تنمو فوق أسناني الأخرى، وكان ظُفر إبهامها على شكل نصف قمر ناقص لأن نافذة أُغْلِقَتْ عليه.

وما إنْ عرفنا دقائق جَسَدَيْنا وتاريخَيْهِما حتى انتقلنا إلى قصص عائلَتَيْنا؛ المآسي أو ما يشبه المآسي أو الاختلافات لدى كل عائلة. كانت الابنةَ الصغرى والفتاة الوحيدة لعائلتها وكنت أنا طفلة وحيدة. كان لديَّ عمة ماتت بشلل الأطفال أثناء دراستها في المدرسة الثانوية، وكان لدى شارلين أخ أكبر في البحرية. ولأننا كنا في وقت الحرب، كنا نختار في نشاط الغناء حول نار المعسكر أغانيَ «ستظل إنجلترا باقية» و«قلوب البلوط» و«فلْتحكم بريطانيا» وفي بعض الأحيان «تحيا أوراق القيقب إلى الأبد». كانت الغارات الجوية والمعارك والسفن الغارقة هي الخلفية الدائمة، وإن كانت البعيدة، لحَيَواتنا. وأحيانًا تَقْتَحِم تلك الخلفية حياتنا على نحو مخيف لكن مهيب ومثير، كأن يُقْتَلَ شابٌّ من بلدتنا أو من شارعنا في الحرب، ويكتسب البيت الذي كان يعيش فيه وزنًا خاصًّا داخلَه، حتى دون أن يضع إكليلًا أو ستائر سوداء؛ كأنه قد حقق قدرًا كتب عليه وبدأ يسحبه إلى أسفل، رغم أنه لا يحمل خصوصية ما داخله على الإطلاق، ربما تقف سيارة لا تخص ساكنيه بموازاة الرصيف أمامه، ما يدل على أن بعض الأقارب أو قسًّا ما جاءوا ليجلسوا مع العائلة المنكوبة.

واحدة من مرشدات المعسكر فقدت خطيبها في الحرب وكانت ترتدي ساعته، كنا نعتقد أنها ساعته، مثبتة بدبوس إلى قميصها. كنا نود أن نحزن من أجلها ونهتم بها، لكنها كانت حادَّة الصوت ومتسلطة بل وتحمل اسمًا كريهًا: أرفا.

كانت الخلفية الأخرى لحَيَواتنا التي من المفترض التوكيد عليها في المعسكر هي الدِّين. لكن بما أن الكنائس الكندية المتحدة كانت مسئولة رسميًّا عن المعسكر فلم يكن هناك إلحاح كبير على هذا الموضوع كما كان المعمدانيون أو الإنجيليون سيفعلون، أو تعبير رسمي كبير عنه كما كان الكاثوليكيون أو حتى الإنجليكانيون سيفعلون. كانت الغالبية من آبائنا ينتمون إلى الكنيسة المتحدة (على الرغم من أن بعض البنات اللواتي دفعتُ تكلفةَ المعسكر لهن ربما لم ينتمين إلى أية كنيسة على الإطلاق)، وقد تعودنا على أسلوبها العلماني الودود، حتى إننا لم نكن ندرك أننا كنا نتقبل بسهولة صلوات المساء وأدعية الشكر قبل الوجبات والحديث الخاص الذي يستغرق نصف ساعة، كان يسمى دردشة، بعد الإفطار. حتى «الدردشة» نفسها كانت خالية نسبيًّا من الإشارات إلى الله أو المسيح، وكانت تدور أكثر عن الصدق والطيبة والمحبة والأفكار الفاضلة في حَيَواتنا اليومية، والتعهد بعدم شرب الخمر أو التدخين أبدًا حين نكبر. لم يعترض أحد منا على هذا الكلام أو حاول أن يهرب من الحضور؛ لأن هذا ما تعودنا عليه؛ ولأنه كان ممتعًا أن نجلس على المقعد الطويل أمام الشاطئ في الشمس الدافئة بينما لايزال الجو باردًا على القفز في المياه.

تفعل النساء الناضجات الأشياء نفسها التي فعلتها شارلين وأنا. ربما لا يحصين عدد الشامات على ظهر كل واحدة منهن ولا يقارِنَّ طول أصابع القدم، لكن حين يتقابلن ويشعرن بتعاطف خاصٍّ فيما بينهن، يشعرن كذلك بالحاجة إلى تبادل المعلومات الهامة؛ الأحداث الكبرى سواء العلنية أو السرية، ثم المضي في ملء الفجوات بينها. لو شعرن بهذا الدفء والتَّوْق، فمن المستحيل تقريبًا أن تَمَلَّ إحداهما الأخرى. سوف يَضْحَكْنَ على تفاهة ما يَحْكِينَهُ وسخفه، أو عند الكشف عن أنانية مرَوِّعة أو خداع أو دناءة أو شرٍّ خالص.

لا بد أن توجد ثقة عظيمة بينهما بالطبع، لكن تلك الثقة يمكن أن تترسخ فورًا في لحظة واحدة.

كنت قد لاحظت هذه الظاهرة. من المفترض أنها قد بدأت في تلك الفترات الطويلة التي جلس النساء أثناءها حول نار المخيم يقلبن عصيدة من جذور الكاسافا أو أية أكلة أخرى بينما يكون الرجال في الأحراش محرومين من الحديث لأنه سوف يبعد الحيوانات البرِّية (أنا متخصصة في علم الإنسان).

لاحظت … لكني لم أشارك قطُّ في هذه العلاقات الأنثوية. ليس فعليًّا. تظاهرت أحيانًا بهذا لأنه بدا مطلوبًا، لكن النساء اللاتي كان من المفترض أن أصادقهن كن دومًا ما يدركن تظاهري بذلك فيرتبكن ويصبحن حذرات.

بوجه عام شعرت بتحفظ أقل مع الرجال؛ فهم لا يتوقعون هذه التفاعلات، ونادرًا ما يهتمون بها حقًّا.

هذه الحميمية التي أتحدَّث عنها — مع النساء — ليست ذات طابع شهواني أو ما قبل شهواني؛ تلك ظاهرة أخرى خبَرتها أيضًا، قبل البلوغ. في هذه الحالة أيضًا توجد ثقة بين الطرفين وأكاذيب، على الأرجح ربما تؤدي إلى ألعاب. هي حالة من الإثارة المؤقتة، ربما تصحبها مداعبة للأعضاء التناسلية وربما لا. يعقبها شعور سقيم، وإنكار واشمئزاز.

حكت لي شارلين عن أخيها، لكن بنفور حقيقي. الأخ المجند في البحرية الآن. كانت قد ذهبت إلى غرفته تبحث عن قطتها ورأته «يفعلها» مع حبيبته. لم يعرفا قطُّ أنها رأتهما.

قالت: كانا يلتطمان بينما كان يصعد ويهبط.

قلت: تقصدين يلتطمان بالسرير.

قالت: لا، كانا يلتطمان حين كان عضوه يدخل ويخرج. كان شيئًا مقرفًا، مقززًا.

وكانت مؤخرته البيضاء العارية مليئة بالبثور، مقززة.

أخبرتها عن فيرنا.

•••

حتى بلوغي السابعة من عمري كان والداي يعيشان فيما يسمى منزلًا مزدوجًا. لم تكن كلمة «دوبلكس» شائعة في ذلك الوقت، وعلى كل لم يكن البيت مقسمًا قسمة متساوية. أجَّرت جدة فيرنا الغرف الخلفية وأجَّرنا نحن الغرف الأمامية. كان البيت طويلًا وعاريًا من الأثاث وقبيحًا، ومدهونًا بالأصفر. كانت البلدة التي عشنا بها أصغر من أن تحتوي على وحدات سكنية لائقة، لكني أعتقد فيما يخص الوحدات القائمة، كان ذلك المنزل يقع على الحدود الفاصلة بين اللائق والمتهالك. أتحدث ها هنا عن الوضع قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، مع نهاية الكساد الكبير (أعتقد أن هذا المصطلح لم يكن معروفًا لنا وقتها).

بما أن أبي كان مدرسًا فقد كان لديه عمل منتظم لكن براتب ضئيل. كان الشارع يتلاشى خلفنا بين منازل هؤلاء الذين لم يكن لديهم أي عمل أو مال. لا بد أن جدة فيرنا كان لديها القليل من المال لأنها تكلمت باحتقار عن الناس الذين يعيشون على الإعانات الاجتماعية. أعتقد أن أمي تجادلت معها، دون أن تنجح في إقناعها، زاعمةً أنهم غير مسئولين عن وضعهم. لم تكن المرآتان صديقتين على وجه الخصوص، لكنهما كانتا ودودتين فيما يتعلق بتنظيم استخدام حبل الغسيل.

كان اسم الجدة السيدة هوم. كان يأتي رجل ليزورها من وقت لآخر، وكانت أمي تتحدَّث عنه باعتباره صديق السيدة هوم.

«لا يجب أن تتحدثي مع صديق السيدة هوم.»

في الحقيقة لم يكن مسموحًا لي حتى باللعب في الخارج حين يأتي؛ لهذا لم تتوفر لي فرصة كبيرة للتحدث إليه. لا أتذكَّر حتى شكله، مع أني أتذكَّر سيارته، التي كانت زرقاء داكنة من طراز فورد في-٨. كنت أهتم كثيرًا بالسيارات، على الأرجح لأنه لم يكن لدينا سيارة.

ثم جاءت فيرنا.

تحدثت عنها السيدة هوم باعتبارها حفيدتها ولم يكن هناك مبرر لافتراض كذب زعمها، لكن لم توجد أية علامات على وجود ابن أو ابنة للسيدة هوم. لا أعرف إذا ما كانت السيدة هوم سافرت ثم عادت بها، أم أحضرها الصديق صاحب السيارة الفورد. ظهرت فيرنا في فصل الصيف السابق لالتحاقي الأول بالمدرسة. لا أتذكَّرها تخبرني باسمها؛ فهي لم تكن اجتماعية بالطريقة العادية، ولا أعتقد أني سألتها. منذ البداية شعرت بنفور تجاهها يفوق ما شعرتُ به تجاه أي شخص آخر حتى الآن. قلت إني أكرهها، وقالت أمي: «لماذا، ماذا فعلتْ لك؟»

«يا للفتاة المسكينة!»

يستخدم الأطفال كلمة «كُره» ليعبروا عن مشاعر متنوعة؛ فقد تعني أنهم خائفون. لا لأنهم يشعرون بالخطر من أن يهاجمَهم أحد؛ كما شعرت، على سبيل المثال، تجاه بعض الصبية الكبار الذين كانوا يحبون قطع طريقي بدراجاتهم بينما أسير على الرصيف وهم يصيحون صيحات مخيفة. وليس الخوف من الأذى الجسدي هو ما شعرت بها حيال فيرنا بقدر ما كان خوفًا من لعنة ما أو نية أذًى. إنه شعور يمكن أن تحسه عندما تكون في سن صغيرة جدًّا تجاه واجهات منازل معينة أو تجاه بعض جذوع الأشجار، وقد يتعاظم هذا الخوف لاسيما حيال الأقبية الرطبة أو الدواليب العميقة.

كانت أطول مني بكثير، ولا أعرف بكم سنة تكبرني عمرًا؛ سنتين، ثلاث سنوات؟ كانت نحيلة، وذات بنية ضئيلة جدًّا حقًّا ورأس صغير جدًّا ذكَّرني بالثعابين. يرتخي شعر أسود جميل على هذا الرأس وينسدل فوق جبينها. بدت بشرة وجهها لي بليدة مثل باب خيمتنا القديمة الخيشية، وكانت وَجْنتاها تنتفخان مثلما ينتفخ باب الخيمة مع هُبوب الريح، كانت حَوْلاء دائمًا.

لكن أعتقد أنه لم يكن بهيئتها شيء باعث على النُّفور في أعين الآخرين، وبالتأكيد وصفتها أمي بأنها جميلة، أو تقريبًا جميلة (كقولها: «هي ليست قبيحة جدًّا، يمكن اعتبارها جميلة»). لا يشوب سُلوكها ما يمكن الاعتراض عليه كذلك كما ترى أمي. و«هي صغيرة جدًّا بالنسبة لعمرها». وتلك عبارة ملتوية وقاصرة لقول إن فيرنا لم تتعلم القراءة أو الكتابة أو نَطَّ الحبل أو لعب الكرة، وإن صوتها أجش ونشاز، وكلماتها تخرج منفصلة انفصالًا غريبًا كما لو أنها قطع غليظة من اللغة عالقة في حلقها.

كان أسلوبها في التطفل عليَّ وإفساد ألعابي الفردية أسلوب بنت أكبر سنًّا وليس أصغر. لكن بنت أكبر لا تتمتع بالمهارة اللازمة أو حق فعل هذا، ولا تتمتع سوى بتصميم عنيد وعجز عن فهم أنه غير مرحَّب بها.

بطبيعة الحال يكون الأطفال محافظين إلى أقصى درجة، وينفرون من كل ما هو مختل ومنفلت وخارج عن المعتاد. ولأني كنت طفلة وحيدة دُلِّلت دلالًا كبيرًا (ووُبِّخْتُ كذلك). كنت خجولًا وصَعْبة الْمِراس، وأكبر من سني، وكان لديَّ الكثير من الطُّقوس الخاصة بي والكثير من الكراهية. كرهت حتى مشابك الشعر التي كانت تنزلق باستمرار من شعر فيرنا، وحَلْوَى النعناع ذات الخطوط الحمراء أو الخضراء التي كانت تعرضها عليَّ باستمرار. في الحقيقة كانت تفعل أكثر من عرضها عليَّ، كانت تحاول أن تُمْسِكَ بي وتدفعَ هذه الحلوَى إلى فمي، وهي تضحك طول الوقت بطريقتها المتقطعة. أكره مَذاق النعناع إلى اليوم، واسم فيرنا، أكرهه أيضًا. بالنسبة لي لا يعبر الاسم عن الربيع أو العشب الأخضر أو أكاليل الورود أو البنات في فساتين هَفْهَافَة، قَدْر ما يعبر عن ممر من النعناع المتيبس والوَحْل الأخضر.

لا أعتقد أن أمي أحبت فيرنا حقًّا هي الأخرى. لكن بسبب بعض النفاق في طبيعتها، في رأيي، وبسبب قرارٍ ما اتخذته — لإغاظتي على ما يبدو — تظاهرت أنها تشفق عليها. طلبت مني أن أكون طيبة معها. في البداية، قالت إن فيرنا لن تبقى طويلًا، ومع نهاية إجازة الصيف سوف تعود إليَّ أينما كانت من قبل. ثم، حين أصبح واضحًا أنه لا مكان آخر لدى فيرنا لتعود إليه، تحولت أمي إلى استرضائي بقول إننا أنفسنا سوف ننتقل قريبًا إلى منزل آخر، وعليَّ أن أكون طيبة لوقت أطول قليلًا فحَسْبُ (في الحقيقة لم ننتقل إلا بعد عام كامل). وأخيرًا، بعدما نفد صبرها، قالت إني خيبت أملها، وأنها لم تعتقد قطُّ أن طبيعتي دنيئة إلى هذا الحد.

– «كيف تلومين شخصًا على أنه وُلِدَ على هذا النحو؟ ما خطؤها؟»

لم يَبْدُ لي هذا منطقيًّا. لو كنتُ أكثر مهارة في الجدال لقلت إني لا ألوم فيرنا، أنا لا أريدها أن تقترب مني فحَسْبُ. لكني كنت قطعًا ألوم فيرنا. لم يراوِدْني شكٌّ في أن حالَها هو خطؤها بطريقة أو بأخرى. وفي هذه المسألة بالذات، بغضِّ النظر عن أيٍّ مما قد تقوله أمي، كنت متفقة بدرجة ما مع الحكم العامِّ غير المفصح عنه لدى الناس في الزمن والمكان اللذين عشت بهما؛ فحتى الكبار كانوا يبتسمون بطريقة معينة، وكانوا يُبْدُونَ قدرًا لا يمكن كَبْحُهُ من الرضا عن الذات ومن الاستعلاء المقبول في طريقة تحدثهم عن الناس «البسيطة» أو «محدودة القدرات.» وكان بوسعي ملاحظة ذلك. وأعتقد أن أمي كانت حقًّا مثلهم في دخيلتها.

التحقت بالمدرسة، وكذلك فيرنا. وضعوها في صف خاص في مبنى خاص يقع في ركن من ساحة المدرسة. كان هذا المبنى هو مبنى المدرسة الأصلي، لكن أحدًا لم يهتمَّ بالتاريخ المحلي وقتها، وبعد بضع سنوات جرى هدمُه. كان هناك ركن مسيَّج حيث يقضي طلاب ذلك المبنى فترة الاستراحة بين الحصص الدراسية. كانوا يذهبون إلى المدرسة بَعْدَنا بنصف ساعة في الصباح ويخرجون قبلَنا بنصف ساعة بعد الظهر. كان من المفروض ألَّا يتحرشَ بهم أحد في الاستراحة، لكن بما أنهم كانوا يتعلقون غالبًا في السياج يراقبون ما يحدث في ساحة المدرسة العادية، كان بقية الطلاب أحيانًا يندفعون ناحيتَهم صائحين أو مُلَوِّحينَ بالعِصِيِّ في محاولة لإخافتهم. لم أقترب قطُّ من ذلك الركن، ولم أَرَ فيرنا قطُّ. لكن كان لزامًا عليَّ أن أتعامل معها في المنزل.

كانت في البداية تقف عند زاوية البيت الأصفر، تراقبني، وكنت أتظاهر أني لا ألاحظ وجودها. بعد ذلك كانت تتمشى إلى الحديقة الأمامية حيث تقف على سلالم مدخل الجزء الخاص بعائلتي من المنزل. لو أردت أن أدخل إلى البيت، لكي أدخل الحمَّام أو لأني كنت أشعر بالبرد، كان يجب عليَّ أن أقترب منها حتى ألمسها وأن أخاطر بأن تلمسني.

كان بوُسعها الوقوف في مكان واحد أطول من أي شخص عرفته، تحَدِّق في شيء واحد فقط؛ عادة فيَّ.

كان لديَّ أرجوحةٌ معلقة في شجرة قيقب، يمكنني التأرجح عليها بحيث أرى المنزل أو الشارع؛ ما يعني أنه كان عليَّ أن أراها أو أن أعلم أنها تحدِّق بظهري، وربما تأتي لكي تدفع الأرجوحة. بعد فترة من مراقبتي على الأرجوحة، كانت تقرر فعل ذلك، ودائمًا ما كانت تدفعني على نحو مُلْتَوٍ، لكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر. كان الأسوأ هو أصابعها التي تنغرز في ظهري. عبر معطفي، عبر ملابسي الأخرى؛ أصابعها مثل الخراطيم الباردة. كان أحد أنشطتي الأخرى بناء منزل من أوراق الشجر. كنت أمشط الحديقة وأحمل كومة من الأوراق المتساقطة من شجرة القيقب التي تحمل الأرجوحة، وأُفْرِغ تلك الأوراق وأرَتِّبها في نموذج ورقي لمنزل؛ هنا غرفة المعيشة، هنا المطبخ، هنا كومة ناعمة كبيرة للسرير في غرفة النوم وهكذا. لم يكن هذا النشاط من ابتكاري، كانت ملاعب الفتيات بالمدارس تمتلئ في الفسحة ببُيوت أوراق شجر أكبر وأوسع نطاقًا مما كنت أبنيه، كانت بشكل تشبه أثاث ساحة الملعب إلى أن يأتيَ الحارس في النهاية ليجمعها كلها ويحرقها.

في البداية كانت فيرنا تراقب ما كنت أفعله فقط، يعلو وجهها ذا العينين الْمُحْوَلَّتَيْنِ تعبيرٌ بَدَا لي حيرة متعالية (كيف تجرؤ على أن ترى نفسها أعلى مني؟!) يلي ذلك اقترابها وهي تحمل ملء ذراعيها أوراق شجر تساقطت منها بسبب ترددها أو حماقتها. وهي أوراق لم تأخذها من كومة الأوراق الاحتياطية بل من أوراق حائط منزلي ذاته. كانت تلتقط الأوراق الساقطة ثم تحملها مسافة صغيرة مُلْقِيَة إياها وسط أحد غرفي المرتبة.

صِحْت فيها أن تتوقف، لكنها انحنت لكي تلتقط حمولتها المتبعثرة مرة ثانية، ولم تكن قادرة على الاحتفاظ بها، فبعثرتها في كل مكان، وحين أصبحت كلها على الأرض بدأت في رَكْلها بحماقة هنا وهناك. كنت لا أزال أصيح فيها أن تتوقف لكن لم يكن لذلك أي تأثير عليها أو لعلها اعتبرتْه تشجيعًا؛ فخفضت رأسي وجَرَيْتُ تجاهها ونطحتها في بطنها. لم أكن أرتدي قبعة؛ لهذا لمس شعر رأسي المعطف الصوفي أو الجاكيت الذي كانت ترتديه، وبدا لي أني لمست فعليًّا شعرًا شائكًا على جلد بطن صلب ومقرف. ركضت إلى المنزل أصرخ متذمرة، وحين سمعت أمي القصة فاقمَتْ غضبي بقولها: «إنها تريد أن تلعب ليس إلا. هي لا تعرف كيف تلعب.»

مع حُلول الخريف كنا قد انتقلنا إلى بيت جديد من طابق واحد ولم أُضْطَرَّ قَطُّ إلى المرور بالمنزل الأصفر الذي كان يذكِّرني كثيرًا بفيرنا، كما لو أنه اكتسب مَكرها المجرد من الذكاء، أو حَوَل عينها المنذر بالخطر. بدا الدهان الأصفر نفسه لونًا يعبر عن الإهانة ذاتها، وأضاف الباب الأمامي الذي لم يكن في منتصف البيت بالضبط، لمسة من التشوه.

كان البيت الجديد على بُعد ثلاثة مربعات سكنية فقط من المنزل الأصفر، وكان قريبًا من المدرسة. لكن تصوري عن حجم البلدة وتشابك شوارعها كان كبيرًا بحيث بدا لي أني هربت من فيرنا كليةً. فيما بعد أدركت أن هذا ليس صحيحًا، ليس صحيحًا تمامًا، حين التقيت أنا وزميلة لي في أحد الأيام بفيرنا على الطريق الرئيس. لا بد أن واحدة من أمهاتنا أرسلتنا في مهمة ما. لم أرفع عيني لأنظر إليها لكني أعتقد أني سمعت ضحكة تحية أو صيحة تعارف بينما مررنا من جوارها.

قالت زميلتي شيئًا مروعًا لي.

– «كنت أعتقد أنها أختك.»

– «ماذا؟»

– «كنتما تسكننان المنزل نفسه لهذا اعتقدت أنكما بالتأكيد أقارب، بنات عم مثلًا. على كلٍّ، أهذا صحيح؟ أأنتما بنات عم؟»

– «لا.»

•••

أعلن أن المبنى القديم حيث توجد الصفوف الخاصة أصبح غير آمن، وعليه فقد انتقل تلاميذه إلى مبنى الكنيسة الإنجيلية، الذي تؤجره البلدة الآن أسبوعيًّا. يقع مبنًى في الناحية المقابلة من البيت الذي نسكن فيه أنا وأمي وأبي الآن. كان هناك أكثر من طريق يؤدي بفيرنا إلى المدرسة، لكنها اختارت الطريق الذي يمر ببيتنا. ويقع بيتنا على بُعد أقدام قليلة من الرصيف، ما يعني إذن أن ظلَّها قد يسقط بالفعل على سلالم منزلنا. ولو رغبت فإنها تستطيع أن تركل بعض الحصى إلى حديقتنا، وإذا لم تكن الستائر منسدلة تستطيع أن تَسْتَرِقَ النظر إلى صالتنا وإلى الغرفة الأمامية.

تغيرت مواعيد الحصص الخاصة بحيث تزامنتْ مع ساعات المدرسة العادية، على الأقل في الصباح؛ ظل التلاميذ ذوو الحالات الخاصة يذهبون لمنازلهم في وقت أبكر بعد الظهيرة. لا بد أنه بعدما انتقلوا إلى مبنى الكنيسة ساد شعور بأنه لا داعي لفصلهم عنا في الطريق إلى المدرسة. كان هذا يعني أني قد ألتقي فيرنا صدفةً على الرصيف. تعودت أن أنظرَ دائمًا إلى الاتجاه الذي يمكن أن تأتيَ منه، وإذا رأيتها أحني رأسي عائدة إلى المنزل متعَلِّلة بأني نسيت شيئًا ما أو أن فردة حذائي كانت تحك كعبي وأحتاج إلى أن أضعَ ضمادة طبية عليه، أو أن شريط شعري قد انحلَّ. أصبحت الآن أذكى من أن أخطئ وأذكر فيرنا كي أسمع أمي تقول: «ما المشكلة، مِمَّ تخافين، هل تظنُّين أنها ستأكلك؟»

ما المشكلة يا ترى؟ أكنت أخاف أن تصيبَني بمرض، عَدوى ما؟ كانت فيرنا نظيفة بالقدر المعقول وبصحة جيدة. وكان من المستبعد أن تهاجمَني وتلكمَني أو تشدَّني من شعري، لكن الكبار فقط هم من يصور لهم غباؤهم أنها لا تملك قوة. إن لديها قوة، قوة موجهة لي تحديدًا. كنت أنا من تترصده، أو هذا ما اعتقدته. كما لو أن هناك صلة ما بيننا لا يمكن وصفها ولا يمكن محوها. صلة لا يمكن التخلص منها، على غرار الحب، مع أنه من ناحيتي بدا أنه كُره مطلق.

أعتقد أني كرهتها كما يكره بعض الناس الثعابين أو الديدان أو الفئران أو البزقات، دون سبب منطقي، لا لأنها قد تتسبب في أذًى ما، بل لأنها قادرة على إثارة الغثيان وجعلك تشمئز من الحياة.

•••

حين حكيت لشارلين عنها كنا قد وصلنا إلى مستويات أعمق من حوارنا؛ ذلك الحوار الذي لم ينقطع إلا إذا كنا نسبح أو نائمين. لم تكن فيرنا قصة مثيرة بما يكفي لتوطيد علاقتي مع شارلين، فهي لم تكن مقززة تقززًا جليًّا، مثل مؤخرة أخيها المليئة بالبثور، وأتذكَّر أني قلت إنها كريهة على نحو لا يسعني وصفه. رغم ذلك كنت قد وصفتها ووصفتُ مشاعري تجاهها، ولا بد أني أتقنت هذا؛ لأنه مع اقتراب انتهاء أسبوعَي المعسكر فوجئت بشارلين تُهْرَع إليَّ في صالة الطعام في منتصف النهار، ووجهها يشع رعبًا وسعادة غريبة.

– «إنها هنا، إنها هنا، تلك الفتاة، الفتاة الكريهة؛ فيرنا، إنها هنا في المعسكر.»

كان الغذاء قد انتهى. كنا ننظف ونضع أطباقنا وأكوابنا على رف المطبخ لتسحبها الفتيات المسئولات عن المطبخ في ذلك اليوم وتغسلها، ثم نصطف لنذهب إلى متجر الحلوى، الذي يفتح يوميًّا في الواحدة بعد الظهر. كانت شارلين قد أسرعت إلى المهجع لتُحضر بعض النقود. فبما أنها كانت تنتمي لأسرة ثرية — إذ يعمل أبوها حانوتيًّا — فقد كانت مستهترة نوعًا ما، وتحتفظ بنقودها في كيس مخدتها، بينما كنت أحتفظ بنقودي معي دائمًا، باستثناء وقت السباحة. كان من يستطيع منا تحمُّل نفقة الذهاب إلى المتجر بعد الغداء يذهب ليشتري ما يزيل مذاق أصناف حلوى المطعم التي كرهناها؛ لكننا دائمًا ما نجربها لا لسبب سوى التأكد من أنها مقرفة بقدر ما توقعنا؛ أصناف مثل بودنج التبيوكة، تفاح مخبوز طري، كاسترد لزج. حين رأيت لأول وهلة التعبير على وجه شارلين، اعتقدت أن نقودها قد سُرقت، لكن فكرت بعد ذلك أن كارثة كتلك لن تقلب وجهها على هذا النحو، كانت الصدمة على وجهها تشع بهجة.

فيرنا؟! كيف يمكن أن تكون فيرنا هنا؟! لا بد من وجود خطأ ما.

لا بد أنه كان يوم الجمعة. لم يتبقَّ سوى يومين في المعسكر، يومان ثم نرحل. وكما اتضح حضر إلى هنا فريق من ذوي الحالات الخاصة — هنا أيضًا كانوا يُسَمَّوْنَ هكذا — ليقضوا معنا إجازة نهاية الأسبوع الأخير. لم يكونوا عددًا كبيرًا، كانوا عشرين إجمالًا، ولم يكن جميعهم من بلدتي بل من بلدات أخرى مجاورة. في الحقيقة، بينما كانت شارلين تحاول إبلاغي بالأخبار انطلقت صَفَّارة وقفزت المرشدة أرفا فوق المقعد لتخاطبنا.

قالت إنها تعلم أننا سنبذل أقصى جهد لنرحب بهؤلاء الزائرين، المخَيِّمين الجدُد، وأنهم أحضروا معهم خيامهم الخاصة ومرشدتهم، لكنهم سوف يأكلون ويسبحون ويلعبون ويحضرون دردشة الصباح معنا. قالت، بنبرة التحذير أو التوبيخ المألوفة في صوتها، إنها متأكدة أننا سوف نرى هذا فرصة لتكوين صداقات جديدة.

استغرق هؤلاء القادمون الجدد وقتًا طويلًا في نصب خيامهم وترتيب أغراضهم. بعضهم لم يُبَالِ بتلك العملية وبدءوا يَهِيمون على وجوههم، فأخذ المشرفون ينادون عليهم ويذهبون لإحضارهم. وبما أن الوقت كان وقت فراغنا أو استراحتنا، فقد اشترينا ألواح الشوكولاتة أو عصا العرقسوس أو حلوى التوفي الهشة، من متجر الحلوى، وذهبنا نستلقي على أسرَّتنا ونستمتع بتناولها.

ظلت شارلين تقول: «تخيَّلي. تخيَّلي. إنها هنا. لا أستطيع أن أصدق هذا. هل تعتقدين أنها تلاحقك؟»

قلت: «على الأرجح.»

– «هل تعتقدين أني أستطيع أن أخبئك دومًا هكذا؟»

حين وقفنا في الصف أمام متجر الحلوى خفضت رأسي، وجعلت شارلين تقف بيني وبين الحالات الخاصة، أثناء مرورهم. ألقيت نظرة واحدة على جمعهم وتعرفت على فيرنا من الخلف، من رأسها الثعبانية المتهدلة.

«لا بد أن نفكر في طريقة ما لتغيير شكلك.»

يبدو أن شارلين اعتقدتْ من كلامي أن فيرنا تحرشت بي بقوة. وكنت أعتقد أن هذا هو ما حدث بالفعل، باستثناء أن التحرش كان أكثر مهارة وأقل وضوحًا مما قدرت على وصفه. ووقتها، تركت شارلين تعتقد ما تريد لأن ذلك كان أكثر إثارة لي.

لم تجدْني فيرنا على الفور؛ بسبب المراوغات المعقدة التي كنا نقوم بها: شارلين وأنا، وربما لأنها كانت مذهولة قليلًا مثلما بدا معظم الحالات الخاصة؛ إذ كانوا يحاولون فهم ماذا كانوا يفعلون هنا. وسريعًا ما أخذوهم إلى حصة السباحة عند نهاية شاطئ البحيرة.

وفي وقت العشاء كانوا يدخلون إلى صالة الطعام بينما نغني:

كلما تجمعنا معًا، معًا، معًا
نقترب من بعضنا أكثر
وتصبح سعادتنا أكبر.

بعد ذلك جرى تفريقهم عمدًا وتوزيعهم بيننا. كانوا جميعهم يحملون بطاقات عليها أسماؤهم. جلست أمامي فتاة اسمها ماري ألان، لا أتذكَّر اسم عائلتها، لم تكن من بلدتي، لم أَكَدْ أسعد بهذا حين رأيت فيرنا تجلس إلى المائدة المجاورة، كانت أطول مِمَّنْ حولَها، لكنها — والحمد لله — كانت تواجه الناحية التي أواجهها فلم تستطع أن تراني خلال الوجبة.

كانت الأطول بينهم، ومع ذلك لم تكن فارعة الطُّول، ليس إلى درجة تجذب الانتباه كما كنت أتذكَّرها عندما سكنَّا في المنزل نفسه. كان السبب على الأرجح هو طفرة النُّمو التي مررت بها خلال العام الماضي، بينما ربما توقفت هي عن النمو كليةً.

بعد العشاء، حين وقفنا وجمعنا أطباقنا، أبقيت رأسي مَحْنِيًّا، لم أنظر قطُّ إلى ناحيتها، ومع ذلك أدركت حين وقعت عيناها عليَّ، حين تعرفت عليَّ، وحين ابتسمت ابتسامتها الصغيرة المتهدلة أو ضحكت ضحكتها الغريبة المحشورة في حلقها.

قالت شارلين: «لقد رأتْك، لا تنظري، لا تنظري، سوف أقف بينك وبينها. تحركي، واصلي التحرك، استمري.»

– «هل هي قادمة إلى هذا الاتجاه؟»

– «لا، إنها تقف هناك فقط. إنها تنظر إليكِ فقط.»

– «تبتسم؟»

– «نوعًا ما.»

– «لا أستطيع أن أنظر إليها؛ سوف أتقيأ.»

كم مرة «اضطهدتني» فيرنا خلال اليوم والنصف المتبقيَيْن؟ اعتدنا أن نستخدم: شارلين وأنا، كلمة «اضطهاد» باستمرار، مع أن فيرنا لم تقترب منا قطُّ في الحقيقة. كانت كلمة تنتمي لعالم الكبار وذات دلالات قانونية. كنا في حالة ترقب دائم كما لو أني مطاردة. حاولنا أن نقتفيَ مسار جولات فيرنا، وتبلغني شارلين عن موقفها أو تعبيرها. خاطرت بالنظر إليها مرتين، حين كانت شارلين تقول: «لا بأس. لن تلاحظ الآن.»

في تلك المرات بدت فيرنا مكتئبة قليلًا أو حزينة أو مرتبكة، كما لو أنها — مثل معظم الحالات الخاصة — تائهة ولا تستوعب كليةً أين كانت أو ماذا كانت تفعل هنا. تسبب بعضهم، لم تكن فيرنا منهم، في اضطراب حين تجولوا بعيدًا في غابات الصَّنَوْبَر والأرز والحور على الجرف خلف الشاطئ، أو على الشاطئ الرملي الطويل الذي ينتهي إلى الطريق السريع. بعد ذلك عُقد اجتماع وطُلب منا أن ننتبه لأصدقائنا الجدد، الذين لا يألفون المكان مثلنا. نخزتني شارلين في أضلاعي في تلك اللحظة. لم تكن تعي بالطبع أيَّ تغير، أو أي اختفاء للثقة، أو حتى صغر الحجم الجسدي في فيرنا هذه، ودائمًا تبلغني بمكرها وتعبيرها الشرير؛ ونظرة التهديد على وجهها. وربما كانت على حق؛ ربما رأت فيرنا في شارلين؛ هذه الصديقة الجديدة أو حارستي الخاصة؛ هذه الغريبة، علامة ما على تغير كل شيء بيننا، وهذا جعلها متجهمة مع أني لم أَرَ هذا.

قالت شارلين: «لم تخبريني قطُّ عن يديها.»

– «ماذا عنهما؟»

– «لديها أطول أصابع رأيتها في حياتي. تستطيع أن تلفَّها حول رقبتكِ وتخنقكِ فقط. تستطيع بالفعل. تخيلي أن تكوني معها في الخيمة ليلًا، ألن يكون ذلك فظيعًا؟»

قلت: صحيح، سيكون فظيعًا.

– «لكن هؤلاء الآخرين في خيمتها أكثر حماقة من أن يلاحظوا هذا.»

حدث تغير ما في نهاية ذلك الأسبوع الأخير؛ ساد شعور مختلف تمامًا في المعسكر. لم تحدث أية تغيرات جذرية. كانوا يعلنون عن الوجبات بجرس غرفة الطعام في المواعيد العادية ولم يتحسن الطعام المقدم ولم يتدهور. ظلت أوقات الراحة واللعب والسباحة كما هي. فتح متجر الحلوى أبوابه كالمعتاد، وكان المرشدات يجمعننا كما هي العادة لنحضر الدردشة الصباحية. لكن نما شعور من التململ واللامبالاة. تستطيع أن تستشعره حتى في المرشدات، اللاتي لم تَعُدْ كلمات التوبيخ أو التشجيع نفسها على أطراف ألسنتهن، وكنَّ ينظرن إلينا مطولًا كأنما يحاولن تذكُّر ماذا كنَّ يقلن عادة. ويبدو أن هذا كله بدأ مع وصول الحالات الخاصة. غيَّر حضورهم المعسكر. كان هناك معسكر حقًّا قبل مجيئهم، بكل قوانينه وحرمانه ومتعه المفروضة الحتمية كما في المدرسة أو في أي جزء من حياة الطفل، ثم بدأ يتداعى، يكشف عن أنه شيء مؤقت، مجرد ادعاء.

أَلأننا نظرنا إلى الحالات الخاصة وفكرنا لو أنهم يستطيعون أن يكونوا كشافة، فلا يوجد إذن كشافة حقيقيون؟ ربما كان ذلك أحد الأسباب، لكن ذلك يرجع أيضًا إلى قرب الوقت الذي ينتهي فيه كل هذا وينكسر النظام اليومي، ويأتي آباؤنا لاصطحابنا إلى حياتنا القديمة، ويعود المرشدون أناسًا عاديين، ليسوا مدرسين حتى. كنا نعيش في ديكور مسرح على وشك أن يتفكك مع كل صداقاته وعداواته ومنافساته التي ازدهرت في الأسبوعين الماضيين. من يصدق أنهما أسبوعان فقط؟

لم يعرف أحد كيف يتحدَّث عن هذا، لكن التراخي انتشر بين صفوفنا؛ وساد مِزاج معتل ضجِر، بل وعكس الطقس هذا الشعور. لم يكن كل يوم مر علينا خلال الأسبوعين الماضيين مشمسًا وحارًّا، لم يكن ذلك حقيقيًّا على الأرجح لكن بالتأكيد سوف يغادر معظمنا حاملين هذا الانطباع. والآن، في صباح ذلك الأحد الأخير، كان هناك تغير. بينما كنا نؤدي صلواتنا الخارجية (هذا ما كنا نؤديه في أيام الآحاد بدل الدردشة) غيمت السماء. لم يحدث تغير في حرارة الجو، ربما زادت درجة الحرارة حتى، لكن كان هناك ما يسميه بعض الناس رائحة عاصفة. رغم ذلك خيَّم سكون هائل. تطلَّع المرشدون — وحتى القس الذي كان يأتي في أيام الآحاد من أقرب بلدة — إلى السماء بين الحين والآخر بقلق.

سقطت قطرات مطر قليلة ليس إلا. انتهت الصلاة ولم تَهُبَّ أي عاصفة. أصبحت السماء أكثر صفاءً إلى حد ما، لا إلى الحد المبشِّر بطلوع الشمس، لكن بما يكفي لكي لا تلغى سباحتنا الأخيرة. بعد ذلك لن نتناول الغذاء؛ فقد أُغْلِقَ المطبخ بعد وجبة الإفطار، ولن يَفتح محل الحلوى أبوابه. سوف تبدأ عائلتنا في الوصول بعد الظهر مباشرة ليصطحبونا إلى البيت، وسوف تأتي الحافلة لتصطحب الحالات الخاصة. حزمنا معظم أغراضنا، وخلعنا المُلاءات وطوينا البطاطين البُنِّيَّة الخشنة التي كانت دائمًا ندية عند قدم السرير.

حتى حينما كنا نثرثر ونرتدي ثوب السباحة، بدت كابينة النوم مؤقتة وكئيبة.

كان الحال نفسه مع الشاطئ. بدت صخوره أكثر ورماله أقل، وبدا الموجود منها رَماديًّا. بدت المياه باردة، مع أنها كانت دافئة إلى حدٍّ كبير؛ ومع ذلك ذَوَى حماسنا للسباحة، وكان معظمنا يخوض في المياه الضحلة دون هدف. واضطرت مرشدتا السباحة — بولين وامرأة متوسطة العمر مسئولة عن الحالات الخاصة — أن تصفق لنا هاتفة:

– «أسرعوا، ماذا تنتظرون؟ إنها فرصة السباحة الأخيرة في هذا الصيف.»

كان هناك بيننا سباحون ماهرون يندفعون عادة فورًا نحو الطوف، وكلُّ مَن صُنِّف على أنه سباح معقول، من بينهم شارلين وأنا، عليه أن يسبح حتى الطوف مرة على الأقل ويعود من أجل أن يُثبت أنه يستطيع أن يسبحَ ياردتين على الأقل في مياه تعلو رأسه. عادة تسبح بولين إلى هناك مباشرة، وتبقى في المياه العميقة تراقب إذا ما وقع أي شخص في مشكلة، وتتأكد كذلك أن كل من عليه أن يسبح قد أدى واجبه. مع ذلك، في ذلك اليوم انطلق عدد أقل من السباحين أقل من المعتاد إلى هناك، وبولين نفسها بعد صيحات التشجيع والتوبيخ الأولى؛ كي ينزل الجميع إلى الماء، كانت تسبح بتراخٍ حول الطوف وتضحك، وتمازح السباحين الماهرين المخلصين. كانت بقيتنا لا تزال تسبح في المياه السطحية، كنا نسبح مسافة أقدام أو ياردات قليلة، ثم نقف على القاع ويرش بعضنا بعضًا بالمياه، أو ننقلب على ظهورنا متظاهرين بأننا جثة ميت عائمة، كما لو أن السباحة أصبحت نشاطًا لم يَعُدْ أحد يهتم بممارسته. كانت المرأة المسئولة عن الحالات الخاصة تقف حيث تصل المياه بالكاد إلى خَصْرها — لم يتجاوز معظم ذوي الحالات الخاصة أنفسهم مستوى مياه أعلى من رُكَبِهم — والجزء العلوي من ثوب سباحتها المشجَّر ذي التنورة لم يَبْتَلَّ حتى. كانت تنحني وترش قليلًا من المياه عليهم بينما تضحك هاتفة: «أليس هذا ممتعًا.»

كنت أنا وشارلين نقف عند مستوًى من المياه لم يتجاوز صدرينا على الأرجح. كنا ضمن فئة السباحين الكسالَى، نلعب لعبة الرجل الميت، نتقافز في المياه سابحين على ظهرينا أو صدرينا دون أن يأمرنا أحد بالتوقف عن اللهو. كنا نحاول أن نرى كم من الوقت يمكن أن نحتفظ بأعيننا مفتوحة تحت الماء، وكنا نتسلل وتقفز إحدانا على ظهر الأخرى. كان حولنا الكثير ممن يصيحون ويصرخون مازحين بينما يفعلون الشيء نفسه.

وصل، أثناء هذا، بعض الآباء أو أفراد قادمون لاصطحاب ذويهم من المعسكر، وأوضحوا أنه ليس لديهم وقت يضيعونه؛ ومن ثَمَّ استُدعي الكشافة الذين يجب أن يرحلوا من المياه؛ ما سبَّب مزيدًا من الصياح والارتباك.

صاحت شارلين: «انظري. انظري»؛ أو بالأحرى بصقت الكلام مع المياه لأني في الحقيقة كنت قد دفعتها إلى الأسفل، وكانت قد خرجت لتَوِّها تبصق المياه التي بَلَّلَتْها تمامًا.

نظرت لأجد فيرنا تشق طريقها نحوَنا، ترتدي قبعة سباحة مطاطية ذات لون أزرق باهت، تلطم المياه بيديها الطويلتين وتبتسم كما لو أنها استعادت حقوقها عليَّ فجأة.

•••

لم أحتفظ بعلاقتي مع شارلين. لا أتذكَّر حتى كيف ودَّعت إحدانا الأخرى، إن كنا قد فعلنا ذلك. أتصور أن كلًّا من عائلتَيْنا وصلتا في الوقت نفسه تقريبًا، وأننا اندفعنا إلى سيارات منفصلة واستسلمنا — ماذا يمكن أن نفعلَ غير هذا؟! — إلى حياتنا القديمة. بالتأكيد لم تكن سيارة عائلة شارلين رديئة النوع ولم تكن مزعجة ولا يُعتمد عليها مثل سيارة عائلتي، لكن حتى لو اختلف الوضع لم يكن ليخطر على بالنا أن نعرِّفَ العائلتين إحداهما على الأخرى. كان الجميع — ونحن أنفسنا — متعجلين على الرحيل، على ترك الضوضاء المثارة حول ممتلكات ضائعة أو حول مَنْ قابل عائلته، ومن لا يزال ينتظر، ومن استقل الحافلة.

رأيت بعدها بسنوات صدفةً صورة زفاف شارلين. كان هذا زمن حيث كانت صور الزفاف لا تزال تُنشر في الصحف، ليس في صحف البلدات الصغيرة فقط، بل صحف المدن كذلك. رأيتها في صحيفة تصدر في تورنتو، كنت أتصفحها بينما أنتظر صديقًا في مقهى في شارع بلور.

أقيم الزفاف في مدينة جويلف. كان العريس من أهل تورنتو وخريج كلية حقوق أوسجيد هول. كان فارع الطول أو ربما كانت شارلين قصيرة جدًّا؛ فهي بالكاد تصل إلى كتفه، حتى مع تسريحة شعرها العالية اللامعة والتي كانت موضة وقتها. جعل شعرُها وجهَها يبدو مطموسًا وغيَّب ملامحه، لكن عينيها تركتا لديَّ انطباعًا بأنهما محددتان تحديدًا ثقيلًا؛ على غرار عيني كليوباترا، وشفتاها شاحبتان. قد يبدو منظرها غريبًا ومنفِّرًا لكنه كان الشكل المحبب في تلك الأيام. كل ما ذكَّرني بها في طفولتها هو النتوء الصغير المثير للضحك في ذقنها.

تخرَّجَتِ العروس في كلية سانت هيلدا بتورونتو.

إذن لا بد أنها كانت هنا في تورنتو، تدرس في سانت هيلدا بينما كنت في المدينة ذاتها، أدرس في جامعة تورنتو. ربما كنا نسير في الوقت نفسه في الشوارع أو الطرق نفسها حولَ حَرَم الجامعة. ولم نتقابل قطُّ. لا أعتقد أنها رأتني وتجنبت الحديث معي. ولم أكن لأتجنب الحديث معها. بالطبع كنت سوف أعتبر نفسي طالبة أكثر جدية حالما أدرك أنها التحقت بسانت هيلدا. كنت أنا وأصدقائي نعتبر سانت هيلدا كلية لِرَبَّات البُيوت.

كنت في ذلك الوقت خريجة متخصصة في علم الإنسان. قررت ألَّا أتزوجَ أبدًا، مع أني لم أستثنِ علاقات الحب. شعري طويل ومسترسل؛ إذ كنا أصدقائي وأنا نتبع موضة الهيبز الوليدة. كانت ذكرياتي عن الطفولة بعيدة عني ومنزوية وغير مهمة أكثر مما هي عليه اليوم.

كان يمكن أن أكتب لشارلين على عنوان والِدَيْها في الصحيفة. لكن لم أفعل هذا. كنت أعتقد أن تهنئة أي امرأة على زواجها تمثل ذروة النفاق.

•••

لكنها كتبت لي — بعد خمسة عشر عامًا ربما — كتبت على عنوان ناشِرِيَّ:

«صديقتي القديمة مارلين، كم أنا مبتهجة وسعيدة أن أرى اسمك في مجلة ماكلين. وكم تذهلني فكرة أنكِ ألَّفْتِ كتابًا. لم أشْتَرِهِ بَعْدُ لأننا كنا خارجَ البلد نقضي إجازتنا لكن أنوي أن أشتريَه، وأقرأَه كذلك، في أسرع وقت. كنت أتفحَّص المجلات التي تراكمت أثناء غيابنا؛ فرأيت صورتك البارزة والمقالة النقدية الشيقة عن الكتاب. وفكرت أني لا بد أن أكتب وأهنئك.

لعلكِ متزوجة لكن تستخدمين اسم عائلتك على كُتُبك؟ ربما لديك عائلة؟ اكتبي وأخبريني كل شيء عنكِ. للأسف ليس لديَّ أطفال لكني أشغل نفسي بالعمل التطوُّعي وزراعة الحديقة والإبحار مع كيت (زوجي). هناك دائمًا الكثير لإنجازه. أنا حاليًّا عضوٌ في مجلس إدارة المكتبة، وسوف أقنعهم بشراء كتابك إذا لم يكونوا قد بعثوا في طلبه بعد.

تهانيَّ مرة ثانية. لا بد أن أقول إني لم أندهش كليًّا من إنجازك لأني توقعت دائمًا أنك قد تفعلين شيئًا ما خاصًّا.»

لم أتواصل معها في تلك المرة كذلك. بدا أنه لا نفع من هذا. في البداية لم أنتبه لكلمة «خاصًّا» في ختام الخطاب، لكنها هزتني قليلًا عندما فكرت فيها بعد ذلك. مع ذلك، قلت لنفسي — ولا زلت أعتقد هذا — إنها لم تَعْنِ بها أي شيء.

كان الكتاب الذي تشير إليه قد انبثقت فكرته من أطروحة دكتوراه لم أَلْقَ تشجيعًا على كتابتها؛ لذا تركتها وكتبت أطروحة أخرى؛ لكني عدت إلى الأولى كمشروع خاص بي حين أُتِيحَ لي الوقت. شاركت في كتابين منذ ذلك الحين، كما كان متوقعًا مني، لكن ذلك الكتاب الذي ألَّفته بنفسي هو الوحيد الذي حقق لي ضجة صغيرة في العالم الخارجي (وبعض الاعتراض من زملائي بالطبع). نفدت طبعات الكتاب الآن. كان عنوانه «حمقَى وآلهة»؛ عنوان كان سيسبب لي المشكلات اليوم، وحتى حينئذٍ أثار توتر ناشِرِيَّ مع أنهم اعترفوا أنه جاذب.

ما حاولت اكتشافه في الكتاب هو موقف الناس في ثقافات مختلفة — لا يجرؤ المرء على وصفها بالثقافات البدائية — تجاه الناس المتفردين عقليًّا أو جسديًّا. إن صفات مثل «عاجز» و«معاق» و«متخلف» أصبحت بالية، لا لأنها قد تعكس موقفًا متعاليًا وقسوة مألوفة بل لأنها لا تصف هؤلاء الأشخاص بدقة ليس إلا. تُنَحِّي تلك الكلمات جانبًا كبيرًا مميزًا بل ورائعًا — أو على أي حال قويًّا إلى حدٍّ استثنائي — في أولئك الأشخاص. وما كان شيقًا هو اكتشاف وجود قدر معين من التبجيل، إلى جانب الاضطهاد، في معاملة الناس لأولئك الاشخاص، ونسبة قدر كبير من القدرات لهم، ليست كلها غير دقيقة، يُنظر إليها على أنها مقدسة وسحرية وخطرة أو ذات قيمة. بذلت أقصى ما في وسعي في البحث التاريخي والمعاصر، وأخذت في اعتباري الشعر والأدب الروائي والعادات الدينية بالطبع. وبالطبع انتقدت في مجالي؛ لأني كنت أدبية جدًّا في أسلوبي ولأني جمعت كل معلوماتي من الكتب، لكني لم أستطع في ذلك الوقت التحول حول العالم حينئذٍ؛ لم أستطع الحصول على منحة.

أستطيع بالطبع أن أرى صلة؛ صلة اعتقدت أن شارلين يمكن أن تكون رأتْها أيضًا. كانت هذه الأحداث بعيدة وغير مهمة بشكل غريب، مجرد نقطة بداية. كما بدا لي كل شيء في طفولتي حينئذٍ؛ بسبب الرحلة التي اجتزْتُها منذ ذلك الحين، والإنجاز الذي حققته في سنوات نُضجي؛ الأمان.

كتبت شارلين: «اسم عائلتك» كان هذا تعبيرًا لم أسمعه منذ فترة زمنية طويلة. يمت بصلة قُرْبَى لتعبير سيدة عذراء، يحمل دلالات الطهارة والحزن، وغير مناسب تمامًا في حالتي؛ فحتى حين نظرت إلى صورة زفاف شارلين لم أكن عذراء، مع أني أعتقد أنها هي الأخرى لم تكن عذراء. لا يعني هذا أنه كان لديَّ حشد من العشاق، ومعظمهم لا ينطبق عليهم هذا الوصف. لكني مثل معظم النساء في فئتي العمرية اللواتي لم يَعِشْنَ في علاقة زواج أُحادية، أعرف عدد «عُشَّاقي»: ستة عشر. أنا على يقين أن نساءً أصغر مني وصلوا إلى هذا العدد قبل أن ينتهيَ عقدهن الثالث أو قبل انتهاء سنوات مراهقتهن (بالطبع، حين تلقيت رسالة شارلين كان العدد أقل. لا يهمني الآن، حقًّا لا يهمني، تحديد الرقم الصحيح). لعب ثلاثة منهم دورًا مهمًّا في حياتي، والثلاثة كانوا يقعون بالترتيب الزمني ضمن العشاق الستة الأوائل. ما أعنيه ﺑ «دور مهم» أنه مع هؤلاء الثلاثة — بل اثنين فقط؛ كانت مشاعري حيال الثالث أكبر كثيرًا من مشاعره تجاهي — أتت اللحظة التي تريد فيها أن تفتح قلبك وتسلم ما هو أكثر من جسدك، وتترك حياتك كلها، شاعرًا بالأمان؛ لتمتزج بحياته.

منعت نفسي عن هذا؛ بالكاد.

يبدو أني لم أكن مقتنعة بهذا الأمان اقتناعًا كاملًا.

•••

تلقيت رسالة أخرى من فترة ليست بعيدة. أعادت الكلية التي كنت أدرِّس بها قبل تقاعدي إرسالها إليَّ على عنوان المنزل. وجدتها تنتظر حين عدت من رحلة إلى باتاجونيا (أصبحت مسافرة جريئة الآن). كان عمرها شهرًا.

رسالة مطبوعة؛ وهي الحقيقة التي يعتذر عنها كاتبها فورًا.

«خط يدي في الكتابة سيئ للغاية» وشرع يقدم نفسه بأنه زوج «رفيقة طفولتك القديمة شارلين.» قال إنه آسف، آسف جدًّا لأنه يرسل لي أخبارًا سيئة. شارلين كانت في مستشفى الأميرة مارجريت في تورنتو. بدأ مرض السرطان لديها في الرئتين ثم انتشر إلى الكبد. كانت للأسف مدخنة طوال حياتها. أمامها وقت قليل جدًّا تعيشه. لم تتكلم عني كثيرًا، لكن حين تكلمت، عبر السنوات، كان تتحدث بسعادة عن إنجازاتي الرائعة. كان يعرف مدى تقديرها لي، والآن في نهاية حياتها تبدو شغوفة جدًّا لرؤيتي. طلبتْ منه أن يبحث عني، مضيفًا أنه ربما تعني ذكريات الطفولة لها كل شيء؛ فمشاعر الطفولة هي الأقوى دون نزاع.

حسنًا. لعلها ماتت، هكذا فكرت.

لكن لو أنها ماتت — هكذا حسبت المسألة — لو أنها ميتة، فلا مخاطرة في أن أذهب إلى المستشفى وأستفسر عنها. ومِنْ ثَمَّ سوف يرتاح ضميري أو أيًّا ما تريد أن تسمِّيَه. أستطيع أن أكتبَ له رسالة قصيرة أذكر فيها أني كنت مسافرة للأسف، لكني سوف أحضر في أقرب وقت ممكن.

لا، من الأفضل ألَّا أكتبَ رسالة. ربما يظهر في حياتي ويشكرني. إن كلمة «رفيقة» أشعرتْني بعدم الراحة. كذلك أشعرتْني عبارة «إنجازاتك الرائعة» لكن على نحو مختلف.

•••

يبعد مستشفى الأميرة مارجريت عدة مربعات سكنية عن المبنى الذي أسكن فيه. وفي يوم ربيعيٍّ مُشْمِس سِرْتُ إلى هناك. لا أعلم لماذا لم أتصل هاتفيًّا. ربما أردت أن أعتقد أني بذلت أقصى جهدي.

في مكتب الاستقبال اكتشفت أن شارلين ما زالت حية، حين سُئِلْتُ إذا كنت أرغب في رؤيتها لم أستطع أن أقول لا.

صَعِدْتُ في المصعد بينما أفكر أنه لا يزال بوُسعي المغادرة قبل أن أصل إلى مكتب الممرضات في طابقها؛ أو ربما أن أستدير عائدة، وأستقل المصعد التالي إلى الأسفل. لن تلاحظ موظفة الاستقبال مغادرتي أبدًا. وفي الحقيقة هي لم تلاحظ أني غادرت في اللحظة التي أعطت انتباهها للشخص التالي في الصف، وحتى إذا لاحظت فماذا في هذا؟

ربما كنت سأشعر بالعار، ليس لأني فاقدة الحس بقدر ما أفتقد إلى الشجاعة.

توقفت عند غرفة الممرضات، وأعطينني رقم الغرفة.

كانت غرفة خاصة، صغيرة جدًّا بدون أجهزة ضخمة أو زهور أو بالونات. في البداية لم أستطع أن أرى شارلين. كانت الممرضة تنحني فوق السرير الذي بدا أنه يحمل كومة من المُلاءات بدون شخص واضح تحتها. إنه الكبد المتضخم، كما أدركت، وتمنيت لو أني هربت حينما استطعت.

اعتدلت الممرضة واستدارت وابتسمت لي. كانت امرأة ممتلئة الجسم سمراء البشرة تتحدث بصوت جذاب، ربما دل على أنها من جُزر الهند الغربية.

قالت: «أنتِ مارلين.»

شيء ما في اسمي أبهجها على ما يبدو.

«كانت تتلهف على حضورك، يمكن أن تقتربي.»

أطعتها ونظرت إلى الجسد المنتفخ والوجه التالف الحاد، والعنق الذي يشبه رقبة الدجاجة يبرز من رداء المستشفى المهلهل، وشعرها المجعد، الذي لا يزال بُنِّيًّا، ولا يزيد طوله عن طول رقبتها ربع بوصة حول جمجمتها. لم أجد أثرًا لشارلين.

لقد رأيت وُجوه محتضَرين مِنْ قَبْلُ؛ وجه أمي وأبي، حتى وجه الرجل الذي كنت أخشى من حبه. لم أُفاجأ.

قالت الممرضة: «هي نائمة الآن، كانت تأمل جدًّا أن تحضري.»

– «هي ليست في غيبوبة؟»

– «نعم، بل نائمة.»

عندها بدأت أرى أثر بقية من شارلين القديمة. ماذا كان؟ ربما اختلاجة؛ تلك الثنية الهازِلة الواثقة في زاوية فمها.

كانت الممرضة تتحدث إليَّ بنبرتها السعيدة الخافتة: «لا أعرف إذا كانت سوف تميزك. لكنها تمنت أن تحضري … لقد تركت لكِ شيئًا.»

– «هل ستستيقظ؟»

هزت كتفها قائلة: «يجب أن نحقنها مرارًا بسبب الألم.»

كانت تفتح درج الطاولة المجاورة.

«تفضلي، قالت لي أن أعطيك إياه لو وصلَتْ إلى مرحلة متأخرة جدًّا من المرض. لم ترغب في أن يعطيَكِ إياه زوجها، وبما أنك جئتِ بنفسك، سوف يجعلها ذلك سعيدة.»

أعطتني مظروفًا مغلقًا كُتِبَ عليه اسمي بحروف كبيرة مرتعشة.

لمع بريق في عين الممرضة إذ تقول: «لم ترغب في أن يعطيه لك زوجها» ثم ابتسمت ابتسامة عريضة. هل شكَّت في وجود شيء ما غير شرعي؛ سرٍّ نسائيٍّ؛ حبٍّ قديمٍ؟

قالت: «عودي غدًا، من يعرف؟ سأخبرها لو أمكنني هذا.»

قرأت الرسالة ما إن وصلت إلى البهو. نجحت شارلين في أن تكتب بخط عادي تقريبًا، ليس ببربرية مثل الحروف المبعثرة على المظروف. طبعًا لعلها كتبت الرسالة أولًا ووضعتها في المظروف، ثم أغلقت المظروف ووضعته جانبًا إذ اعتقدت أنها سوف تسلمني إياه بنفسها. لكن أدركت فيما بعد أنها تحتاج إلى أن تضع اسمي عليه.

مارلين. أكتب هذا في حالةِ إن وصلت إلى مرحلة متدهورة تمنعني عن الكلام. من فضلك افعلي ما أطلبه منك. من فضلك اذهبي إلى جويلف وتوجهي إلى الكاتدرائية واسألي عن الأب هوفسترادر. كاتدرائية سيدة المعونة الدائمة، إنها كبيرة جدًّا، لا تحتاجين إلى ذكر اسمها. الأب هوفسترادر يعلم ما يجب أن يفعله. لا أستطيع أن أطلب هذا من «ك» ولا أريده أن يعرف أبدًا. الأب «ﻫ» يعلم، وسألته وقال إنه من الممكن أن يساعدني. مارلين، بوركتِ افعلي هذا أرجوكِ. لا شيء عنك.

«ك»، لا بد أن هذا زوجها. لا يعرف، بالطبع لا يعرف.

الأب هوفسترادر.

لا شيء عني.

كان بإمكاني تكوير هذه الرسالة ورميها ما إن أخرج إلى الشارع. وهو ما فعلته، رميت المظروف بعيدًا وتركت الريح تجرفه إلى بالوعة في شارع الجامعة. ثم أدركت أن الرسالة لم تكن في المظروف؛ كانت لا تزال في جيبي.

لن أذهب إلى المستشفى مرة ثانية. لن أذهب أبدًا إلى جويلف.

كان اسم زوجها كيت، تذكرت الآن. ذهبا للإبحار. كريستوفر. كيت. كريستوفر. ك.

حين عدت إلى بناية سكني وجدت نفسي أستقل المصعد نزولًا إلى الجراج وليس صعودًا إلى شقتي. دخلت سيارتي بالملابس التي كنت أرتديها، وقُدتها إلى الشارع، وبدأت أتوجه إلى طريق جاردنير السريع.

طريق جاردنير السريع، الطريق السريع ٤٢٧، الطريق السريع ٤٠١. كانت ساعة الذروة؛ توقيت سيئ للخروج من المدينة. أكره القيادة في هذا الوقت. لا أمارسها كثيرًا؛ فلست واثقة من تمكُّني منها. كانت السيارة بها أقل من نصف جالون بنزين، وعلاوة على ذلك كنت أحتاج إلى استعمال الحمام. فكرت، يمكن أن أخرج من الطريق السريع عندما أصل إلى ميلتون وأزود السيارة بالوقود، وأستخدم الحمام وأعيد النظر في المسألة. في الوقت الحاليِّ ليس بوسعي إلا الاستمرار في طريقي، التوجه شمالًا، ثم غربًا.

لم أخرج من الطريق السريع. تجاوزت مخرج ميسيسوجا، ومخرج ميلتون. رأيت علامة من علامات الطريق السريع تُعْلِمُنِي بعدد الكيلومترات المتبقية حتى جويلف، وترجمتها إلى أميال تقريبية في رأسي، كما تعودت أن أفعل، واكتشفت أن البنزين سوف يكفي. كان المبرر الذي قدمته لنفسي عن عدم توقفي هو أن الشمس سوف تنخفض أكثر؛ وهذا يعني مزيدًا من المشقة، بما أني أمرُّ الآن عبر الضباب الخفيف الذي يرقد فوق المدينة حتى في أصفَى الأيام.

ركنت السيارة عند أول محطة بعدما أخذت مخرج جويلف، وتوجهت إلى حمَّام السيدات بساقين مرتجفتين متيبستين. ملأت خزان الوقود بعد ذلك وسألت، حين كنت أدفع النقود عن الاتجاهات إلى الكاتدرائية. لم تكن الاتجاهات واضحة جدًّا لكن علمت أنها تقع فوق تلة كبيرة ويمكن أن أصل إليها من أي مكان في قلب البلدة.

بالطبع لم يكن هذا حقيقيًّا، مع أني استطعت أن أراها من أي مكان تقريبًا. كانت مجموعة من القمم المستدقَّة دقيقة التصميم تبرز من بين أربعة أبراج جميلة. كان مبنًى جميلًا مع أني توقعت مبنًى فخمًا فقط. كان فخمًا كذلك؛ بالطبع، كانت كاتدرائية فخمة وكبيرة الحجم بالنسبة إلى مدينة صغيرة نسبيًّا (مع أن شخصًا ما قال لي فيما بعد إنها ليست كاتدرائية حقًّا).

أتكون شارلين تزوجت هنا؟

لا، بالطبع لا. لقد أرسلها أهلها إلى معسكر تابع لكنيسة المسيح المتحدة، ولم يكن به بنات كاثوليكيات، مع أنه كان يضم تنوعًا هائلًا من البروتستانتيات. هذا إلى جانب رغبتها في ألا يعلم «ك» بأمر هذه الزيارة.

ربما حولت مذهبها سرًّا، منذ ذلك الحين.

وجدت طريقي إلى ساحة ركن سيارات الكاتدرائية، وجلست هناك أتساءل ما الذي يجب أن أفعله. كنت أرتدي بنطالًا فضفاضًا وسترة. كانت فكرتي عمَّا هو مطلوب ارتداؤه في كنيسة كاثوليكية، كاتدرائية كاثوليكية عتيقة جدًّا، حتى إني لم أكن متأكدة مما إذا كانت هيئتي مناسبة. حاولت أن أسترجع زياراتي إلى الكنائس العظيمة في أوروبا. هل يجب تغطية الذراعين؟ وضع غطاء للرأس؟ أو ارتداء تنورات؟

يا للصمت الكثيف الذي ساد فوق هذه التلة. كنا في شهر أبريل؛ لم تنبت ورقة واحدة بعدُ على الأشجار، لكن مع ذلك لا تزال الشمس تضيء السماء. كان هناك مجرى منخفض من الثلج رَمادي اللون يشبه لون الرصيف في باحة وقوف السيارات التابعة للكنيسة.

كانت السترة التي أرتديها أخف من أن تقيني برد المساء أو ربما كان الجو أبرد هنا، والريح أقوى من تورنتو.

ربما يكون المبنى مغلقًا فعلًا في هذا الوقت، مغلقًا وفارغًا.

بدت الأبواب الضخمة الأمامية هكذا. لم أكلف نفسي مشقة صعود السلالم لأجرِّب؛ لأني قررت أن أتبع زوجًا من النساء العجائز، العجائز مثلي، أتيتا توًّا من رحلة طويلة من الشارع، وتجنبتا تلك السلالم تمامًا؛ إذ توجهتا إلى مدخل أسهل يقع في جانب المبنى.

كان بالداخل ناس أكثر، ربما دستتان أو ثلاث، لكن لم يبدُ أنهم اجتمعوا للصلاة. كانوا متفرقين هنا وهناك في المقاعد الخشبية الطويلة، البعض راكع والبعض يتبادل الحديث. غمست المرأتان أمامي يديهما في حوض التعميد الرخامي بدون أن تنظرا إلى ما تفعلانه، وألقتا التحية، بالكاد خافضتان صوتيهما، على رجل كان يرصُّ سلَّات على مائدة.

قالت إحداهما: «الجو أدفأ بكثير في الخارج من هنا.» فقال الرجل إن الرياح شديدة اليوم.

لاحظت مقصورات الاعتراف؛ مثل أكواخ صغيرة متفرقة أو بيوت لعب ضخمة للأطفال على الطراز القوطي، بنقوش خشبية داكنة اللون وستائر بنية غامقة. باستثناء ذلك كان كل شيء يضيء ويتلألأ. كان السقف المقوس العالي أزرق سماويًّا، والتقوسات الأدنى من السقف، تلك التي تلتقي بالحيطان، مزينة بصور دينية في رصائع ذهبية اللون. تحولت النوافذ الزجاجية الملونة التي تضربها الشمس في هذا الوقت من اليوم إلى صُفوف من الحَلْي المتلألئ. مشيت في أحد الممرات بتمهل؛ إذ كنت أحاول أن ألقيَ نظرة على المذبح لكن لأن المحراب كان ناحية الحائط الغربي فمنعني ضوء الشمس الساطع من أن أراه جيدًا. ومع ذلك رأيت رسومًا لملائكة فوق النوافذ لأفواج من الملائكة، نضِرة وشفَّافة ونقية مثل النور.

كان أكثر الأماكن التي تفرض حضورها لكن لم يَبْدُ أنَّ أحدًا يستحوذ عليه هذا الحضور. ظلت السيدات المتحدثات يتحدثن بنعومة لكن ليس همسًا. وانحنى البعض الآخر على ركبتيه بعد أن أَوْمَئوا برءوسهم، ورسموا إشارة الصليب على صدورهم سريعًا، وشرعوا في أداء أعمالهم الروتينية.

عليَّ أنا أيضًا البدء في مهمتي. بحثت عن قسيس لكني لم أرَ أحدًا؛ لا بد أن القساوسة مثل غيرهم يعملون ساعات العمل اليومية المعتادة. لا بد أنهم يقودون سياراتهم إلى بيوتهم ويدخلون إلى غرفة المعيشة أو المكتب أو غرفهم الخاصة، ويشغلون التلفزيون ويفكون ياقاتهم. يحضِّرون مشروبًا ويتساءلون ماذا سيتناولون في وجبة العشاء؟ حين يحضُرون إلى الكنيسة يحضُرون في هيئة رسمية، في بذَّاتهم جاهزون لأداء طقس ما، قداس مثلًا؟ أو لسماع الاعترافات. لكن مع ذلك لا يعرف المرء أبدًا متى يوجدون، هل يدخلون ويغادرون مقصورات الاعتراف ذات القضبان الخشبية من باب خاص؟

كان يجب أن أسأل شخصًا ما. بدا أن الرجل الذي يوزع السِّلال موجود لأسباب ليست خاصة به تمامًا، مع أنه لم يَبْدُ أنه حاجب الكنيسة. لا يحتاج أحد إلى حاجب؛ فالناس يختارون المكان الذي يريدون أن يجلسوا، أو يركعوا فيه، وأحيانًا يقررون أن ينهضوا ويختاروا مكانًا آخر؛ ربما لأن وهج الشمس المتلألئ أزعجهم. حين تحدثت إليه همسْتُ، كما اعتدْتُ قديمًا عند الوجود في الكنائس، وأُضْطرَّ أن يطلبَ مني أن أتحدث ثانية. ثم أومأ برأسه في تردد، نابعًا من حيرة أو ارتباك، إلى واحدة من مقصورات الاعتراف. كان عليَّ أن أكون محددة جدًّا ومقنعة.

– «لا، لا. أريد أن أتحدث إلى قس. أُرْسِلْتُ إلى هنا للتحدث إلى قس، قس اسمه الأب هوفسترادر.»

اختفى رجل السِّلال في ممر أبعدَ، وعاد في فترة قصيرة مع قس شابٍّ ممتلئ قوي البنية يتحرك بحيوية في الزي الأسود العادي.

وجهني إلى غرفة لم ألاحظها، ليست غرفة فعليًّا؛ إذ اجتزنا مدخلًا مقوسًا — لا بابًا — في القسم الخلفي من الكنيسة.

قال القس: «يمكننا التحدث هنا» وسحب لي كرسيًّا.

– «أيها الأب هوفسترادر …»

– «أوه، لا، أنا لست الأب هوفسترادر، الأب هوفسترادر ليس هنا؛ هو في إجازة.»

للحظة لم أعرف كيف أتابع.

– «سأبذل قصارى جهدي لأساعدك.»

قلت: «هناك امرأة، امرأة تُحْتَضَرُ في مستشفى الأميرة مارجريت في تورنتو …»

– «نعم، نعم، نعرف مستشفى الأميرة مارجريت.»

– «تطلب مني، لديَّ رسالة منها، تريد أن ترى الأب هوفسترادر.»

– «هل هي عضو في الأبرشية؟»

– «لا أعرف، لا أعرف إذا كانت كاثوليكية أم لا. إنها من هنا. من جويلف. هي صديقة لم أَرَها منذ زمن طويل.»

– «متى تحدثت معها؟»

اضْطُرِرْتُ أن أشرحَ له أني لم أتحدث معها، كانت نائمة، لكنها تركت لي رسالة.

– «لكنك لا تعرفين إذا كانت كاثوليكية؟»

كان مصابًا ببثرة متقرحة في زاوية فمه. لا بد أن التحدث كان مؤلمًا له.

– «أعتقد أنها كذلك، لكن زوجها ليس كاثوليكيًّا ولا يعرف أنها كذلك، لا تريد أن يعرف.»

قلت هذا أملًا في أن أجعل الأمور أوضح، مع أني لم أعرف يقينًا إذا كانت حتى حقيقية. خطر لي أن هذا القس ربما يفقد اهتمامه بالمسألة تمامًا في وقت قصير. قلت: «لا بد أن الأب هوفسترادر على علم بكل هذا.»

– «لَمْ تتحدثي معها؟»

قلت إنها كانت تحت تأثير العلاج لكن ليس هذا هو الوضع طول الوقت وإني متأكدة أنها تمر بفترات وعي كامل. شدَّدت على هذا أيضًا لأني اعتقدت أنه ضروري.

– «لو كانت ترغب في الاعتراف، فهناك قساوسة في مستشفى الأميرة مارجريت.»

لم يَتَفَتَّقْ ذِهْني عن شيء آخر أقوله. أخرجت الرسالة، وفردت الورقة، وأعطيته إياها. رأيت أن الخط ليس جيدًا بقدر ما اعتقدت. كان يبدو مقروءًا عند مقارنته بالحروف التي على الظرف فحَسْبُ. ظهر على وجهه تعبير اضطراب.

– «من ك؟»

– «زوجها.» كنت قلقة من أن يسأل على اسم الزوج، لكي يتصل به، لكن بدلًا عن هذا سأل عن اسم شارلين. «اسم تلك المرأة» كما قال.

– «شارلين سوليفان». كان عجيبًا أني تذكرت كنيتها. وشعرت بالاطمئنان للحظة لأنه كان اسمًا يبدو كاثوليكيًّا. بالطبع قد يظن القس أنها كنية الزوج، وأنه هو الكاثوليكي، لكنه قد يستنتج أنه قد ارتد، وهذا سوف يُضفي على كتمان شارلين مزيدًا من الوضوح وعلى رسالتها مزيدًا من الإلحاح.

– «لماذا تحتاج إلى الأب هوفسترادر؟»

– «أعتقد أنه أمر خاص على الأرجح.»

– «كل الاعترافات هي أمور خاصة.»

قام بحركة ليقوم لكني بقيت في مكاني. جلس ثانية.

– «الأب هوفسترادر في إجازة لكنه ليس خارج البلدة. يمكنني أن أهاتفَه وأسأله عن هذا؛ إنْ كنتِ تُصرِّين.»

– «نعم، من فضلك.»

– «لا أحب أن أزعجَه؛ هو يعاني من وعكة صحية.»

قلت: إذا لم يكن بصحة تمكِّنه من قيادة السيارة بنفسه إلى تورنتو يمكن أن أصطحبه.

– «نستطيع أن نتولى مسألة نقله عند الضرورة.»

نظر حوله ولم يَرَ ما يريده، وخلع غطاء قلم أخرجه من جيبه، ثم قرر أن المساحة الفارغة من الرسالة صالحة ليكتب عليها.

– «إذا تكرمت بإعطائي الاسم. تشارلوت …»

– «شارلين.»

•••

ألم تُغْوِني فكرة الاعتراف طَوَال هذه الثرثرة؟ ولو مرة واحدة؟ أن أنهار وأبوح بما بداخلي، لمصلحتي ليس إلا، تحت مظلة هذا الغفران الواسع، المخادع رغم ذلك. لكن لا، لست أنا. ما حدث قد انتهى. وأفواج الملائكة ودموع الدم على وجوه التماثيل لن تُغير شيئًا منه.

•••

جلست في السيارة بدون أن أفكر في تشغيل الموتور، مع أني كنت أتجمد من البرد مع حُلول هذا الوقت. لم أعرف ماذا أفعل بعد ذلك. كنت أعرف ماذا بوسعي أن أفعل. التوجه نحو الطريق السريع واللحاق بسرب السيارات الدائم اللامع المتجه إلى تورنتو، أو أجد مكانًا لأقضي الليلة، إذا ما رأيت أن لا قوة لديَّ على القيادة. توفر معظم الأماكن لك فرشاة أسنان، أو توجهك لآلة تستطيع أن تحصل منها على واحدة. عرفت ما كان من الضروري ومن الممكن فعله، لكنه كان يفوق طاقتي في تلك اللحظة.

•••

كان من المفترض أن تظل القوارب البخارية على مسافة كبيرة من الشاطئ، وخاصة من منطقة مخيمنا، بحيث لا تزعج الأمواج المرتفعة سباحتنا. لكن في ذلك الصباح الأخير، صباح الأحد، بدأ قاربان منها في التسابق والدوران قريبًا؛ ليس قريبًا إلى حدود الطوف، بالطبع، لكن قريبًا بما يكفي لخلق أمواج. كان الطوف يتأرجح وارتفع صوت بولين في صياح توبيخي وجزع. لكن كان يصدر عن القوارب البعيدة ضجة عالية منعت قائديها عن سماعها، وعلى كل فقد خلقا موجة كبيرة اندفعت تجاه الشاطئ، وتسببت في جعل معظمنا في المياه السطحية إما أن يقفزوا معها أو أن يسقطوا في المياه.

فقدنا — شارلين وأنا — موقع أقدامنا. كنا نعطي ظهرينا إلى الطوف؛ لأننا كنا نراقب فيرنا قادمة إلينا. كنا نقف في مياه تصل إلى آباطنا، وبدا أننا ارتفعنا وهوينا في اللحظة نفسها التي سمعنا فيها صياح بولين. ربما صحنا كما فعل العديد؛ خوفًا في البداية ثم بهجة حين وقفنا مجددًا على أقدامنا وتجاوزتنا تلك الموجة. وتبين أن الأمواج التي تلتها ليست قوية، فاستطعنا أن نتماسك في مواجهتها.

في تلك اللحظة التي سقطنا فيها، كانت فيرنا تنحدر نحونا. حين طفونا، ووجهانا مبللان وأذرعنا تخفق، رأينا جسدها يمتد تحت سطح الماء. سادت جلبة من الصراخ والصياح في كل مكان، وتزايدت مع وصول الموجات الأقل شدة، ومن فوَّت الهجمة الأولى ادعى أن الثانية ارتطمت به وأسقطته. لم ينغمس رأس فيرنا في الماء، لكنها الآن لم تكن واقفة في جمود بل كانت تدور باسترخاء، بخفة مثل قناديل البحر. وضعنا — شارلين وأنا — أيدينا عليها، على قبعتها المطاطية.

يمكن أن يكون هذا حادثًا. كما لو أننا — إذ كنا نحاول أن نستعيد توازننا — تشبثنا بهذا الشيء المطاطي الضخم القريب منا، دون أن ندرك ما هو أو ما نفعل. لقد فكرت في جميع الاحتمالات. أعتقد أنه كان سيُغفر لنا. فلسنا سوى أطفال صغار؛ مرعبين.

نعم، بالتأكيد. طفلتان لم تدركا ما كانتا تفعلان.

أهذا صحيح، من ناحية ما؟ إنه صحيح من حيث إننا لم نقرر أي شيء، في البداية. لم تنظر إحدانا إلى الأخرى وقررنا أن نفعل ما فعلنا بوعي فيما بعد. بوعي؛ لأن أعيننا تلاقت بالفعل بينما رأس فيرنا يحاول الصعود إلى سطح المياه. كان رأسها مصممًا على الخروج، مثل قطعة الزلابية التي تُقلى على نار هادئة. بقية جسمها كان يتحرك تحت المياه حركات ضعيفة بلا هدف، لكن رأسها عرف ما يجب عليه فعله.

كان يمكن أن تنزلق قبضتانا من على الرأس المطاطي، القبعة المطاطية، لولا أن الرسومات البارزة عليها جعلتها أقل زلاقة. أتذكَّر لون القبعة جيدًا، الأزرق الفاتح الكالح، لكني لم أستطع معرفة كُنْه الرسومات — أكانت سمكة، عروس بحر، زهرة؟ — التي كانت أطرفها البارزة تحتك بكفي.

ظللت — أنا وشارلين — ينظر بعضنا لبعض، بدلًا من النظر إلى الأسفل، إلى ما كانت تفعله أيدينا. كانت عيناها واسعتان تتلألآن جزلًا، مثل عينيَّ كذلك على ما أظن. لا أعتقد أننا شعرنا بأننا شريرتان، ننتصر بشرِّنا، بل شعرنا أكثر كما لو أننا نفعل، لدواعي الذهول، ما هو مطلوب منا؛ كما لو أن هذه هي أهم لحظة، لحظة الذروة، في حياتنا؛ ذروة تحققنا.

يمكن أن تقول إننا تجاوزنا مرحلة العودة. لم يَعُدْ لدينا خيارٌ، لكني أقسم أن هذا الخيار لم يخطر على بالنا، لم يخطر قَطُّ على بالنا.

لم يستغرق الأمر كله أكثر من دقيقتين؛ ثلاثة؟ أم دقيقة ونصف؟

يبدو من المبالغ فيه أن أقول إن السُّحب الكئيبة انقشعت في ذلك الوقت تمامًا، لكن في مرحلة ما — ربما مع خرق القوارب البخارية للقواعد، أو حين صرخت بولين، أو حين ضربت الموجة الأولى، أو حين توقف الجسم المطاطي تحت أكفِّنا عن أن تكون له إرادته الخاصة به — أشرقت الشمس، وظهر مزيد من الآباء على الشاطئ، وتتالت النداءات علينا جميعًا بأن نتوقف عن العبث ونخرج من المياه. انتهت السباحة. انتهت في هذا الصيف بالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون بعيدًا عن البحيرة أو حمامات السباحة البلدية. كانت حمامات السباحة الخاصة في مجلات السينما فقط.

كما قلت، تخونني ذاكرتي عند محاولة تذكُّر لحظة الانفصال عن شارلين، وركوب سيارة والدي؛ لأنها لم تكن لحظة مهمة. في ذلك السن، كانت الأشياء تنتهي. كنا تتوقع نهاية للأشياء.

أنا متأكدة أننا لم نَقُلْ أي شيء تافه أو مهين أو غير ضروري مثل «لا تقولي لأحد».

أستطيع أن أتخيل بداية القلق، الذي كان يمكن أن ينتشر بسرعة كبيرة لولا الاضطراب الذي ساد المشهد؛ فقد طفل صندله، طفلة من الأطفال الصغار تصرخ أن رملًا دخل عينها من الأمواج. بالتأكيد كان أحد الأطفال يتقيأ؛ بسبب الإثارة التي حدثت في المياه أو إثارة وصول العائلات أو الإفراط في أكل الحلوى.

بعد وقت قصير، لكن ليس على الفور، تحوَّل مسار القلق إلى هذا: هناك شخص مفقود.

– «مَنْ؟»

– «حالة من الحالات الخاصة.»

– «أوه لا. كان هذا متوقعًا للأسف.»

كانت المرأة المسئولة عن الأطفال من الحالات الخاصة تجري في كل مكان، لا تزال في ثوب سباحتها المشجَّر، يترجرج لحم ذراعيها وساقيها. صوتها غاضب ومليء بالدموع.

يذهب شخص ما للبحث في الغابة، يصعد ممرها الوعر، ينادي اسمها.

– «ما اسمها؟»

– «فيرنا.»

– «انتظري.»

– «ماذا؟»

– «ما هذا الذي يطفو على الماء؟»

•••

لكن أعتقد أننا كنا قد رحلنا حينئذٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤