جواب كريم

تفضَّل به حضرة صاحب السعادة الأستاذ الأكبر عبد العزيز فهمي باشا على ناشر هذا الكتاب، وقد التمس منه تبيين رأيه فيه قبل نشره.

سيدي خليل بك مطران

كتاب يضعه يوسف نحاس، وتُعنى أنت بنشره لخليقٌ بأن يجتذب الناس طرًّا لقراءته. إني قرأته الآن في صيغته العربية فجدد لي أحسن الذكرى، وأعلَقها بخاطري: ذكرى اطلاعي عليه في الأصل الفرنسي من خمسة وعشرين عامًا، وإكباري لما حواه من الآيات البينات، وما كان لذلك بعد من أثر في حياتي الخاصة والعامة. لا تعجب إنه الواقع، كنت إذ ذاك وكيلًا لقلم الاستشارة القضائية بديوان الأوقاف العمومية، وكانت لي صلة بصديقي الأستاذ الكبير عزيز منسي، الذي كان متوليًا مع المرحوم الأستاذ بارت ديجان قضايا الأوقاف في المحاكم المختلطة، فاتفق أن جاء صديقي منسي ذات يوم مركز الديوان ومعه شاب ظريف الشمائل، حسن المخائل، لا يكاد يتجاوز العشرين، وتفضل فعرفني أنه يوسف نحاس، وأنه حاز الليسانس في العلوم الحقوقية، وجاز امتحان الدكتوراه فيها، ولم يبقَ عليه إلا رسالة سيضعها للحصول نهائيًّا على تلك الدرجة، وأنه يعتزم مزاولة صناعة المحاماة.

حادثت يوسف فوجدت الأدب والعلم والذكاء، كل أولئك يتفجر من خلال بيانه، فوقع في نفسي إجلاله وإغلاء قيمته، ثم استوعدته الرسالة، فلما أتم وضعها وبعث بها إليَّ واستوعبت ما فيها، أدركت أني عثرت على عقل ناضج، وعلم واسع، وغيرة وطنية نادرة في أدب تام، ونفس سمحة، وظرف باهر؛ شخصية هي نهزة مبتغي المصادقة.

منذ ذلك اصطفيت نحاسًا أخًا قرنته إلى النفر الذين اصطفيتهم من خيرة إخواني الأوفياء — والإخوانُ الصحاحُ قليلٌ — ولقد دام لي وداده إلى اليوم لم تُرَنِّقْهُ أكدار الحدثان، وكان لي عونًا أرجع إليه في كثير من شئوني خاصها وعامها.

أرأيت يا سيدي كيف أن الكتاب الذي تنشره الآن بين أهل العربية يثير عندي أثبت الذكرى بما استتبع من ذلك الإخاء ذي الأثر الكبير في تكييف ميولي في الحياة، وإذن أرأيت كم أنا مغتبط بعملك — وأنت من أنت — لما فيه من دواعي رضاي عن نفسي؛ أنها من خمس وعشرين سنة لم تخدع في تقديرها كفاءة يوسف نحاس، وقيمة إخاء يوسف نحاس.

وماذا عساي أن أكتب لك به غير شكرك على ذلك الصنيع، الذي يطمئنني على أني في هذا الصدد لم أعدُ الخبير في الماضي والحاضر؟! أتريد أن أبين لك قيمة الكتاب، وكيف أنه مع صغر حجمهِ قد استوفى صاحبنا فيه الموضوع من كافة أطرافه، بحيث أخرجهُ — على طريقته — آية، خليقًا بكل من يتصدى لمثل هذه المواضع أن يتخذها مثالًا يحتذيه؟

وهل بك يا سيدي حاجة لمثل هذا البيان وأنت قد شغلك الكتاب — كمثلي — مرتين: مرة عند ظهوره في سنة ١٩٠١، فقرظته في الصحف السيارة، وهذه المرة الثانية إذ شاركت في نقله إلى العربية، آخذًا على نفسك نشره تعميمًا لفائدته بين الناس، أأهدي الشعر والأدب لخليل مطران؟ أأبين له ما اشتغل عقله الكبير مرتين بتبينه؟ إني إذن لمن الظالمين.

على أني لا بد لي أن أقول كلمة في هذا الكتاب، ولكن ما هي بالموجهة إليك؛ بل ولا بالموجهة إلى القراء الذين يكفيهم أن تكون أنت الناشر، وأن يكون المؤلف يوسف نحاسًا، إنما الشأن فيها أنها محاكاة الصدى يفيض بها القلم طبيعة، سواء أردت الكتابة أم لم أرد.

عهدنا إلى الآن فيمن يتقدمون لنيل درجة الدكتورية أن يعمد الرجل منهم غالبًا إلى فرع من فروع العلم الحقوقي أو الاقتصادي، بل إلى مسألة واحدة من مسائل الفرع فيتوسع في دراستها، ويتخذها موضوعًا لرسالته، ولكن يوسف نحاسًا لم يفعل هذا، بل سمت نفسه إلى التطلع إلى لب الوجود المصري وقوامه، ومبعث الحياة والحركة والثراء فيه: إلى الفلاح خدين التربة وماء النيل، وعشيرهما وطبيبهما النطاسي الذي يقلب التربة بقدر، ويجري الماء بقدر، فلا تلبث الأرض العارية أن تتراءى — بفضل جهاده — وقد أخذت زخرفها وازَّينت، فملأت العيون بهجة، والدار ميرة، والجيوب ذهبًا. عمد إليه فاتخذه موضوعًا لبحثه. وهنا يُعرف مبلغ الفرق بين الباحث القدير والباحث المتعثر المرتبك.

ألقِ نظرة إجمالية على الكتاب تجد طريقته فيه عقلية علمية محضة؛ إنه ابتدأ فعرفنا من هو الفلاح؟ وما حليته؟ وما مميزات نفسه؟ وما أثر الماضي فيه؟ حتى إذا شخصه للقارئ على ما هو عليه خلقًا وخُلقًا، وأثبت استعداده التام للرقي، مدحضًا ما يتقوله عليه بعض الواهمين من شذاذ الكتَّاب، وبيَّن فضله على العالم المصري، ووجوب معاملته بالإنصاف، ومكافأته على مقدار أهميته، دخل في بيان ما يحيط به من الملابسات في طوره الأخير، فبين الحالة العامة للبيئة المصرية من جهاتها الاقتصادية المختلفة، ثم فصَّل أحواله العملية في تلك البيئة، فتكلم عليه مالكًا، وبيَّن ماذا يلاقي حين يعوزه النقد فيضطر للاستدانة؟ وكيف يعامله المرابون؟ وماذا يجب إجراؤه للأخذ بيده في مثل هذه الضائقة؟

ثم تكلم عليه مستأجرًا وأجيرًا، ثم بين علاقته بحاكميه، وموقفه إزاء الأشغال العامة، وموقفه إزاء القانون وأمام المحاكم، وماذا يجب النظر فيه من قواعد التشريع لتحسين حالته المادية والأدبية؟

بين كل ذلك في نهاية من الإيجاز والاستيفاء، فكان كتابه خفيف الحمل، جم الفائدة، جديرًا بأن يحتذيه كل متطلع لمثل هذا البحث، فأنت إن عنيت اليوم بنشر هذا الكتاب فما رأيك إلا سديدًا، وما صنعك إلا حميدًا.

والسلام عليك من أخيك عارف فضلك.

مصر الجديدة في ١٨ فبراير سنة ١٩٢٦
عبد العزيز فهمي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤