بيان

للطبعة العربية

خمسة وعشرون عامًا في حياة أمة آخذة بأسباب الحضارة، ناهجة مناهج الرقي، في بلد هو بحكم موقعه الجغرافي ملتقى المدنيتين الشرقية والغربية، يحتك بهما جميعًا، وتنعكس فيه أشعة العرفان المنبعثة من نواحيهما.

خمسة وعشرون عامًا تقضت منذ ظهر هذا الكتاب باللغة الفرنسوية كانت كافية لإنفاذ أجل الإصلاحات الاجتماعية، وأعظمها خطورة وجسامة بالبلاد المصرية.

ألم تستطع أمم أخرى في أقل من هذه المدة أن تأتي في التجديد الاقتصادي والاجتماعي بالآيات البينات؟

لما خاطبني صديقي القديم خليل مطران في جمع الأشتات من كتاباتي ونشرها مع تعريب الإفرنسية منها، وبدأنا معًا نعيد النظر في هذا الكتاب، تنقلت بنا الصفحات ونحن نقلبها من دهشة إلى دهشة؛ إذ بدا لنا أن حالة الفلاح التي وصفتها ما زالت كما كانت من ربع قرن مضى؛ لذلك أفلح خليل مطران في إقناعي بأن توجيه نظر المفكرين مرة ثانية إلى ذلك العامل المهضوم الجانب مع كون البلاد مدينة له بقوام ثروتها أمر من أوجب الواجب، وأن تعريب هذا الكتاب قد يساعد على إصلاح شيء من شأنه الجدير بكل اهتمام.

مرت على مصر وفلاحها في أثناء الخمس والعشرين السنة المنصرمة حوادث متنوعات، بل مرت على العالم كوارث لم يشهد التاريخ أمثالها، وكانت مصر من بضعة البلدان التي أسعدها الحظ بأنها لم تخض غمار الحرب العالمية الكبرى، فماذا جنت من حيدتها؟ وماذا جنى فلاحها؟ أأثرى ثراء المحايدين؟ كلا.

لم يفت القابضين على أزمة الأمر في البلاد أن الفلاح المصري مخلوق مقضي عليه بأن يُستغل، وبأن يرهق لمصلحة غيره؛ فأرسلوه وهو أعزل إلى مقدمة خطوط النار على الطريقة التي أسماها الشعب بحقٍّ «التطوع الإجباري»، وأخذوا منه حاصلات أرضه قمحًا وشعيرًا وتبنًا وبرسيمًا، كما أخذوا مواشيه من جمال وحمير وبغال أخذ العزيز المقتدر، وجرَّدوه مما كان بين يديه من الذهب الذي أرسل إلى الحجاز لشراء معاونة العرب، ثم ابتدعوا بدعة شراء القطن بثمن لم يبلغ النصف من قيمته، فتحمل من الحرب الكبرى كل غرمها، ولم يصب أدنى شيء من غنمها إلا وعدًا باستقلال وطنه، ولم يشهد له إلى اليوم تحقيقًا.

مضت تلك الأعوام، وتعاقبت تلك الحوادث، والفلاح في بؤسهِ وشقائهِ، انظر إليه في معيشته البيتية تجده لا يزال ساكنًا تلك الأكواخ الحقيرة التي لا ينفذ إليها هواء ولا شمس، يحصد الموت أطفاله فيها حصدًا دون أن توجه إليهم عناية صحية جديرة بالذكر، وتراه لا يزال يقتات أدنى القوت، ويشرب الماء الرنق، ويكتسي الأطمار البالية، سوى أن تعاسته اليوم أشد عليه وطأة؛ لأنه أصبح أكثر تفهمًا لها، وهو غير مستطيع لنفسه مخلصًا منها، ولا واجد من حكومته ولا من سراة قومه معينًا على تخفيفها.

ثم انظر إليه في أهله تجد أنه لم يتغير شأن من شئونه في بيته ولا في نظام أسرته؛ لأن المشرع المصري قد أهمل هذا الأمر الذي له خطورته لدى جميع الأمم.

أما الفلاح في المجتمع فلم يبرح ذلك الأمي الذي لم يُعنَ أحد من قبل بتعليمه، حتى لقد أصبح من أكبر الوصمات التي توصم بها الإدارة الإنجليزية في مصر كون عدد المتعلمين بعد مضي أربع وأربعين سنة على احتلالها للبلاد لم يربُ على ثمانية في المائة، فإذا قصرنا الإحصاء على القرويين دون سكان المدن نزلت هذه النسبة نزولًا مخجلًا، ناهيك بتقصير الحكومة عن بث روح التعاون بين طبقات الفلاحين. والتعاون هو أكبر أداة لرقي تلك الطبقات اجتماعيًّا، كما هو أكبر أداة لإصلاح حالها اقتصاديًّا؛ لذلك يمكننا أن نعيد اليوم ما قلناه من ربع قرن في الفصل الثاني من هذا الكتاب الذي عنوانه «التقدم العام في مصر وشقاء الفلاح»، فإنه ما زال ينطبق عليه اليوم انطباقه بالأمْس.

فإذا استقرينا حال الفلاح مالكًا صغيرًا نتبين أنه لم يُعمَل إلى الآن شيء لحماية ملكيته، اللهم إلا قانون الخمسة الأفدنة الذي أجمعت الآراء على أن ضرره جاء أكثر من نفعه؛ ولهذا أصبح في حكم الملغى.

غير أن أمورًا كثيرة استحدثت للتضييق على هذا المالك الصغير وإعناته، فإن الفكرة التي مدارها استغلال الفلاح في كل حالاته، واستنزاف معين كسبه ما زالت رائد الحكومة الحاضرة كما كانت رائد الحكومات في العصور الغابرة؛ زيدت التكاليف التي يتحملها ذلك المالك زيادة لا تناسب ما زاد من أرباحه، في حين أن كل الموارد الأخرى للنشاط الاقتصادي في البلاد معفاة من كل تكليف.

وليس من غرضنا أن نعدد الإتاوات المتنوعة التي حملها، بل نكتفي بأن نذكر على سبيل الاستشهاد رسوم مجالس المديريات، أو رسوم المجالس البلدية والمحلية، وضريبة القطن، وضريبة الخفر، وزيادة رسم تصدير القطن إلخ إلخ.

يضاعف هذا الإرهاق أنه لم يُعمَل شيءٌ لحماية حاصلات الفلاح، وأخصها القطن الذي تنتابه الأزمات وتلعب بأسعاره أيدي التجار والغزالين، فتنزلها إلى حد يتوافر لهم منه الربح الطائل، ويقع منه الحيف الفادح على المنتج المغبون.

وسيمر بك في الأجزاء الآتية من هذه المجموعة تفصيل ذلك الجهاد العنيف المتواصل الذي جاهدته بانفراد، أو بمعاونة النقابة الزراعية المصرية العامة حين قيض الله وجودها للبلاد، في سبيل القطن وإصلاح بورصته بما كنا نبتغيه من تأسيس إصلاحات جوهرية ثابتة الدعائم لكل ما يتعلق بذلك الحاصل الذي ترتكز عليه ثروة الأمة وحكومتها؛ إذ لا بد للقيام بأمثال هذه الإصلاحات من حكومة تقوى على الوقوف في وجه التجارة الأجنبية التي ترى مصلحتها في دوام الحالة الحاضرة.

ولا علاج في الحقيقة ونفس الأمر إلا بإيجاد النقابات الزراعية التي بدأنا نطالب بها من سنة ١٩٠١، وما زلنا نطالب بلا انقطاع؛ فهي التي تحمي الحاصلات، وتوفر الاعتمادات الزراعية، وتنشر بين الناس مبادئ التضامن التي تأتي بالمعجزات، ولعلنا نفوز في النهاية بتحقيق هذه الأمنية التي يكون تحقيقها فاتحة عهد جديد من السعادة والرفاهية للبلاد.

يضاف إلى ما تقدم أن إهمالًا شديدًا في مرافق البلاد الحيوية يهدد الثروة القومية بالنقصان، فإنه مع تكوين المقادير الطائلة من الأموال في خزائن الحكومة لم توجه عناية تذكر إلى تحسين الصرف والري، ولا إلى تسهيل النقل وتعميم وسائله التي هي من الهيكل الاقتصادي بمنزلة الشرايين.

وحسبك لتتبين مبلغ التقصير عندنا أن تعلم أن امتداد الخطوط الحديدية في هذا القطر لا يجاوز ثلاثة آلاف كيلومتر، فهو أقرب شيء إلى ما كان قبل الاحتلال، على حين أن امتداد الخطوط الحديدية في فرنسا مثلًا يجاوز الآن أربعين ألف كيلو متر، على أن مساحة القطر المصري تزيد على مساحة فرنسا نحو الضعفين.

ومثل هذا التفريط واقع أيضًا في سككها الزراعية، وفي الملاحة النيلية إلخ إلخ، وفي ذلك ما فيه من شل الحركة الاقتصادية في البلاد وتعطيل التقدم والعمران.

أما الفلاح كعامل زراعي فهو مغبون مستباح، سواء أكان يعمل بأجر مالي أم بحصة، ولا يتأتى إصلاح شأنه إلا بتشريع حكيم يحفظ حقوقه المقدسة، فيقي بلادنا شر الاشتراكية المتطرفة التي تهدد أقطارًا كثيرة بسيلها الجارف، وما دام العقد بين المالك والأجير لا يقوم على مبادئ النزاهة والعدل، فإن تعاليم الاشتراكية تجد لا محالة منفذًا إلى عقول أولئك السذج الذين إذا فهموا الظلم الواقع عليهم لم يلبثوا أن يطلبوا الخروج منه بكل وسيلة غير متبصرين بالعواقب، ولا مدركين أخطارها.

وما قيل عن الفلاح عاملًا في المزارع يقال عنه أجيرًا في الأشغال العامة.

بقي أنه من جانب آخر لم يُعمَل إصلاح يستحق الذكر لتسهيل المقاضاة على الفلاحين، ولا لحمايتهم بالقدر الكافي ممن يتَّجرون بسذاجتهم، ولا لتنقية القوانين من الشوائب التي تسهل عليهم الاحتيال والتفنن في أساليب الخديعة.

نعم، إن الغرض الذي أنشئت من أجله محاكم الأخطاط كان لتسهيل المقاضاة على القرويين، وخصوصًا لإنهاء ما بينهم من المنازعات صلحًا، ولكنها لم تحقق شيئًا يذكر من هذين الغرضين إلى الآن.

وعلى الجملة نرى أنه قد حان الوقت الذي يتحتم فيه على جميع المفكرين في هذا البلد، حاكمين كانوا أو محكومين، أن يواجهوا الحقيقة الراسخة، وهي أن الفلاح المصري هو أولى سكان القطر بالعناية والرعاية؛ لأنه العامل الذي يشيد ثروة مصر بكد لا ينقطع، فإذا جاء اليوم الذي يعطى فيه حقه كاملًا من المؤازرة والإنصاف تمتعت البلاد بالأمن والرخاء، ورتعت في بحبوحة السلام الاجتماعي، أما إذا بقي أمره مهملًا، واستمر الحاكمون والمحكومون على تحقيره وازدرائه، ظانين أنه في وسعهم أن يسوموه أنواع المظالم، ويجرعوه المرارات من سوء المعاملة، فإنهم يهيئون لأبنائهم أخطارًا ومعضلات اجتماعية نعيذ البلاد من شرها وويلاتها.

وقبل أن أختم هذا البيان أشكر لصديقيَّ الحميمين، بل أخويَّ الكريمين: عبد العزيز فهمي باشا، وخليل بك مطران، ما ألبسا كتابي من جدة ورونق بما زاناه به من جميل التنويه، الذي أملاه عليهما شرف الطبع وصدق الإخاء. جزاهما الله عني أوفى الجزاء.

مصر في ٢٢ فبراير سنة ١٩٢٦
يوسف نحاس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤