الخاتمة

حاولنا أن نصور الفلاح المصري فيما هو عليه اليوم من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية صورة صادقة، ولإدراك هذه الغاية اضطررنا أحيانًا إلى التبسط في مسائل هي أدنى إلى الاتصال بحالة القطر العامة من الوجهتين المالية والسياسية، ولكن ذلك التبسط كان مما لا غنى عنه فيما اعتقدناه؛ إذ تسنى لنا أن نجلو بنوره وجه موضوعنا جلاءً تامًّا: أليست الحالتان الاقتصادية والاجتماعية لكل شعب مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا بحالة البلد الذي يعيش فيه؟ أوليس تقدم الشعب ذا صلة بأنظمته السياسية وإقباله المالي؟

إن ارتباك الخزانة المصرية في عهد إسماعيل قد نجم عنه تعس الفلاح الذي سلب وعذب في نهاية من الشدة، مع ذلك لا يجوز القول بأن أمير البلد وقتئذٍ أراد بشعبه السوء، ولكن ابتغاء سد العجز الذي انفغر في الخزانة هو الذي تسبب عنه اغتصاب جني كده وإن قل بوسائل القوة والعنف.

فإذا جلنا بنظرنا جولة عامة فيما كتبناه عن مصر وفلاحيها من قبل أن يتولى محمد علي الحكم إلى الآن؛ بهرَنا التقدم العجيب الذي عم جميع المرافق، وكان يخيل للمفكر أنه يستحيل على البلاد أن تفيق من السُّبات الذي أوقعها فيه ظلم المماليك وطغيانهم، ولكن الأمم لا تموت كما يموت الأفراد، وإنه بالرغم من علائم التحلل التي قد تبدو عليها وتهدد حياتها يظل فيها نشاط مستكن، وحيوية لا يهدمها هادم؛ لذلك كفى أن يقوم رجل فذ ويستخدم نبوغه وقوة إرادته في إنهاض مصر أن تنهض من فورها، وتندفع اندفاعها السريع في سبيل الرقي.

أما اليوم فيصح القول: إن هذه البلاد على ما فيها من اختلاط الأجناس الذي يقف حجر عثرة في سبيل الإصلاحات، وعلى شذوذ حالتها من الوجهة الدولية بحيث لا يعلم بالضبط أين المركز الحقيقي للسيادة. إن هذه البلاد برغم هذه العوائق القوية قد بلغت درجة عالية من المدنية، وما من رجل الآن غنيًّا كان أو معدمًا إلا متمتع بالحرية الشخصية والسلم الاجتماعي، وهما أمران كان في الماضي لا يجوز له حتى التفكير فيهما.

غير أن الطبقات الفقيرة لم تنل من الرفاهة القدر الذي يوجبه لها كدها، وتدعو إليه حاجات الرجل المدني؛ فلا العامل الزراعي ولا المالك الصغير يجنيان ثمرة نَصَبهما، وخصوصًا العمال؛ فإنهم يعيشون عيشة شظفة جدًّا.

بينَّا كل ذلك، ودعمنا قولنا بآراء النزهاء غير ذوي الأغراض كلما ظفرنا بشيء منها، وإذا كانت الشواهد والوثائق التي أخذنا بها ليست وافية بالقدر الذي نتمناه، فما ذلك إلا لأن الفلاح لم يعن به الكاتبون إلا ليصفوا مسكنه وملبسه ومأكله، ونوع معيشته، وليقصُّوا عنه غرائب الأقاصيص، من مثل استعداده الطبيعي لتحمل الجلد كما قال دوق دركور في كتابه «مصر والمصريون».

على أننا قد اجتهدنا أن لا ندون على صفحات هذا الكتاب إلا الحقائق الراسخة، والوقائع الثابتة التي مكنتنا الإقامة في الريف من تحققها بنفسنا.

فإن كنا قد أصبنا الهدف كما نرجو، وجب أن نستخلص من كل ما قدمناه أن الضرورة قاضية بمداواة عللنا الاقتصادية والاجتماعية التي يئن منها فقراء القرى والمدن على السواء مداواة عاجلة ناجعة.

وأول ما يتحتم هو تنوير أذهان هذه الطبقات بالمعارف، فيتاح لها بذلك أن تساعد نفسها أكبر مساعدة مستطاعة على إصلاح شأنها، ومتى أحرز الشعب نصيبًا وافيًا من العلم؛ تسنى للحكومة التخلي عن وصاية ثقيلة على عاتقها لا يسعها التخلي عنها ما دام الشعب كالقاصر لا يحسن السير وحده في الحياة، إلى ذلك الحين تفرض على الحكومة التزامات لا تشبيه بينها وبين التزامات الحكومات التي تدير شئون أمم متنورة تزعجها كل وصاية لأولي الأمر عليها.

وعلى الحكومة المصرية أيضًا منع الربا بتاتًا؛ لأنه إذا طال به الأمد حال دون التقدم الاقتصادي في البلد، ولقد أشرنا إلى الوسائل التي اتخذت لهذا الغرض، غير أنها لم تكف للوصول إليه، ولا بد من تأسيس مصارف للاعتماد الزراعي، وتوسيع نطاق أشغالها من غير اكتفاء بتلك التجربات التي عرقلها الحذر، فلم تنجم عنها فوائد مذكورة، وما كان لها أن تنفع نفعًا جليلًا عاجلًا.

إن الطبقات العاملة لجديرة بعناية خاصة من قبل الحكومة، ولم يخشَ المشرعون في أرقى الأمم حضارة من التدخل بين الصانع والمستصنع لتخفيف الجور الواقع فعلًا في العقد بين صاحب المال والأجير، مثل هذا التدخل أوجب عندنا منه عند سوانا؛ إذ لا توجد في هذه البلاد نقابات للعمال تقف في وجه مطامع أصحاب الأموال.

وختامًا نقول: لا بد للعزائم الفردية التي أنتجت نتائج حسنة حتى الآن أن تستمر في المؤازرة على إنهاض الفلاح. وهذا ولي الأمر بقدوته الشريفة وإخلاصه للمصلحة العامة في سبيل الصغار والفقراء قد أنشأ مدارس على نفقته الخاصة لتثقيف الشبان، وهو يهتم أيضًا كل الاهتمام بالتقدم الزراعي، ويبذل جهده بصفته مالكًا لتفاتيش واسعة في تحسين أحوال العمال المتعددين الذين يخدمون مزارعه.

وقد أشرنا في هذا الكتاب إلى الجمعية الزراعية التي أسسها سمو الأمير حسين عم الجناب العالي الخديوي، والتي من أغراضها تحسين نظم الزراعة وأدواتها، ومساعدة صغار الفلاحين بإقراضهم التقاوي الضرورية؛ ففي المعرض الزراعي الأخير الذي أقامته تلك الجمعية في ٢٦ يناير سنة ١٩٠١ قد ثبت أن الزراعة المصرية أخذت تتمشى في طريق الفلاح. وإليك ما جاء في جريدة «البورص إجيبسيان»، عدد ٢٦ يناير سنة ١٩٠١، في هذا المعنى: «أخذ فلاحونا يقلعون عن عاداتهم القديمة، ويقبلون النظم الحديثة الظاهرة مزيتها على غيرها. وها الآلات والسكك الحديدية الزراعية يمتد استعمالها، ومن ثَمَّ كان المقام الأول لهذا الضرب من الصناعة في ذلك المعرض الذي يمثل النجاح السنوي الذي تحرزه الزراعة.»

ولا ريب في النتائج الحسنة التي ستنتجها في المستقبل القريب المجهودات التي تبذل في هذا السبيل، والقدوة الجميلة التي يقدمها ذوو المعرفة والمقدرة، كما لا مشاحة في أن الفلاح بمعاونة الجميع له سيحصل على رفاهة وافية، ويصيب جزاء أعدل لتعبه اليومي، ومتى أتيح هذا تسنى عندئذٍ للتربة المصرية الخصيبة وهي تزرع باجتهاد وذكاء أن تعطي النتائج الاقتصادية العجيبة التي هي خليقة بإعطائها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤