الفصل الأول

الفلاح في آخر عهد المماليك

إذا تقرر أن سعادة مصر وأهليها مرتبطة بالحكومة التي تسوسهم؛ تقرر بالنتيجة أن تسلُّط المماليك كان عهد بَوارٍ وبؤس شديد.

قال مسيو لوكروا في كتابه «أحمد الجزار» ما نصه: «وُجد ٢٤ أو ٢٥ ألف مملوك يحكمون مصر وقتئذٍ، وكان أولئك الفرسان المتحكمون لفيفًا من العبيد تختلف رُتبهم وألقابهم بين البكوات وعامة الجند، ولا يختلفون في كونهم كلهم مماليك خارجين من سوق النخاسة يؤلفون بيئة خاصة لا شبيه لها في التاريخ بلا مراء، تتباين عن البيئات الأُخر بأنها لا وطن لها ولا أسرة، ولا تقيم شعائر دين ما وإن انتمت ظاهرًا إلى الإسلام، كل علمها منحصر في ركوب الخيل وتقليب الأسنَّة، عيشتها عيشة انتباذ لكل قانون أو نظام أو عرف.

كان النخاسون يجلبونهم من بلاد الفرس وملدافيا والأفلاخ والقوقاس واليونان، ويجلبون معهم أطفالًا يسرقون أو يشترون بثمن بخس من آبائهم البائسين. هؤلاء الأطفال، والسواد الأعظم منهم مسيحيو الأصل، كانوا يُساقون إلى مستودعات بالإسكندرية ومصر يُعنى فيها عمالٌ بغسلهم وتزيينهم وتهيئتهم للبيع بعد تعليمهم قواعد الدين الإسلامي.

وجدير بالذكر في أمرهم أن النخاسين كانوا يختارونهم صباح الوجوه، متممي الخلق، شداد البنية، ظاهري الفطنة، صالحين للفروسية والتسلط.

فمن أسواق النخاسة يخرجون إلى منازل البكوات؛ فيصبحون حشمهم وجنودهم، وأحيانًا ورثتهم.

هذه العيشة الغريبة كانت تجعل المماليك خلائق خارجة عن المألوف، مسلمة بحكم الضرورة، ليس لها يقين بدين، ولا تعتاض عن الدين بمبادئ فلسفة ما، ومن أجل أنها ربيت بعيدًا عن ذويها بين الجيوش وعتادها، لم يكن لها شعور إلا شعور الانحياز العسكري، وكانوا لا يخالطون غيرهم من الناس، ولا يعبئون بمصر إلا لسلبها وإرهاقها.

الثورة كانت حالة عادية من حالاتهم ولا بدع؛ فإن ذلك الشمل المجموع عرضًا من أشتات الأمم، الغريب عن البلد الذي توطنه، المنغمس في حمأة شهواته، المتهتك منذ الطفولة، كانت به ظمأة لا تروى إلى الطلاقة والفوضى، ولم تكن أيامهم إلا معارك متصلة، ومذابح ومناحر فيما بينهم لا تنقطع؛ إما لتخاطف السلطة، أو لتخاطف الجواري الحسان، فالمعركة تلي المعركة، وحملة الفرسان تعقب الحملة، حتى كان يخيل إلى الناظر من بعيد أن حكومة مصر ميدان برجاس.»

وهذه صورة أخرى لتلك الفئة صورها «فولناي»، الذي زار مصر في سنة ١٧٨٥، قال: «ليس معظم المماليك — وهم من مواليد الديانة الإغريقية يختنون وقت شرائهم — إلا ملحدين لا عقيدة لهم ولا يقين، حتى في نظر الأتراك. هم غرباء بعضهم عن بعض، لا تصلهم رحم كما تصل سائر الخلق، لا أقارب لهم ولا ولد. لم يحسن إليهم الماضي فلم يقدموا عملًا صالحًا بين يدي المستقبل. الجهل غالب عليهم، والخرافات مالكة عقولهم بحكم التربية، القتل يردهم وحشيين، والصخب والهياج يدفعهم إلى الثورة، عندهم ما عندهم من المكر السيئ بسبب الائتمار الخفي، لا يأنفون من كتمان ما بهم، فهم في هذا جبناء، يرتكبون أنواع المفاسد والمفاسق. تلك هي الفئة التي تقبض على أزمة الأمر في مصر الآن.»

ولما كان كل همهم منصرفًا إلى الإثراء غير عابئين بالثروة العامة، لم يكن ليخطر على بالهم الشروع في الأعمال النافعة للجمهور، ومن ثم كان ما يزرع على ضفتي النيل يكفي كل الكفاية لملء أهرائهم وجيوبهم، وكانوا يرون من العبث استخراج الخير من الأقاليم البعيدة عن مجرى النيل.

كتب «لينان دي بلفون باشا» معززًا قولنا هذا: «لم يعرف أَمر واحد يثبت أن ترعًا للري الصيفي أنشئت قبل محمد علي في المناطق النائية عن النيل.»

أضف إلى ذلك أن الارتباك والفوضى في الإدارة كانا حائلين حصينين دون إحداث الأعمال النافعة؛ فإن كل إقليم كان تحت شياخة زعيم من المماليك، وعلى رأس كل قرية قائم مقام يستخدم لاحتفار الترع وإقامة الجسور؛ لفائدة الأطيان التي كان يستأثر بريعها، فلا يهتم البتة بما إذا كانت تلك الأعمال تفيد أو تضر القرى المجاورة. ومن ذلك كانت تثور الخصومات التي تفضي إلى معارك بالسلاح لأجل إرواء أرض قرية، أو تصريف مياهها. «اقرأ مذكرات لينان باشا».

هذا ما كان من شأن المماليك إزاء الأعمال العامة النافعة، فلننظر الآن في كيف كانوا يعاملون الفلاح.

مِصر يومئذٍ كانت أشبه بإقطاعات النبلاء في القرون الوسطى، وكان الفلاحون أتعس حالًا بما لا يقاس من «أحلاس الأرض»١ في القرون الوسطى، بل من الأرقاء المستعبدين في القرون الأولى.

على أن الرقيق فيما نعلم من نظام الأسرة قديمًا كان يراعى إما إنسانيةً، أو توخيًا لمصلحة، أو حذرًا وخشية. كان لسيده نفع ظاهر في تلك المراعاة باعتباره من متاعه الصناعي، وباعتداده رأْس مال لا ينبغي أن يدركه التلف، بل يتعين أن ينتفع به نهاية المستطاع.

وفي سياسة أرسطاطاليس تشبيه جلي للرقيق بالأداة من أدوات الإنتاج، ورأيه أن المهنة البيتية كسائر المهن تحتاج إلى آلات، منها الجامد ومنها الحي، والآلات الحية هي البهائم والعبيد.

ويلاحظ أرسطاطاليس أن الرقيق هو خير الآلات؛ لأنه ذكي وقادر على التكامل، وإليك ما قاله في الصفحة الرابعة من الفصل الثاني من الكتاب الأول — ترجمة «تيرو» إلى الفرنسوية: «إذا كان لا بد لمختلف الصناعات من أدوات خاصة يتم بها صنعها؛ فإن علم الاقتصاد البيتي لا يستغني هو أيضًا عن أدوات خاصة، ومن تلك الأدوات ما هو جامد، ومنها ما هو حي. مثال ذلك: إن السكان للنوتي هو الأداة الجامدة، والملاح الذي يقوم على مؤخر السفينة هو الأداة الحية؛ إذ إن العامل في المهن معدود من الآلات، كذلك حق الملكية هو أداة ضرورية للحياة، والثروة هي اجتماع أدوات متعددة، والرقيق هو الملك الحي، سوى أن العامل هو باعتباره آلة مقدم على غيره.»

وسواء من قبيل الانتفاع أم من قبيل الشفقة، فقد أجمع فلاسفة القدم على الإيصاء بالعدل والرأْفة والكرم نحو الأرقاء، وبالنصفة في توزيع حصصهم من جني أعمالهم، حضًّا لهم بذلك على مزيد الإنتاج.

قال كسينوفون: «إن أمل الرقيق في هذا التوزيع العادل هو المحرك الوحيد لنشاطه في العمل، أما الإكراه فإنه غير مُجدٍ، بل خطر، والآلهة تلعن السادة٢ الذين يجترحونه.»

وقد نصح «سينيك» للسادة في كتاب حكيم بإنصاف أرقائهم، ومعاملتهم بالحسنى، على أن السادة كانوا بالبداهة يفهمون هذا الغرض، ويندفعون إليه بعامل الخوف اندفاعهم بعامل الاستفادة، فإن أعجز الأرقاء أن ينتصفوا بطريق القانون لم يعجزهم الانتصاف بطريق البطش، وتاريخ الإغريق والرومان مملوء بوقائع ثوراتهم الدموية.

أما الفلاح في عهد المماليك فلم يلجأ إلى وسائل العنف لتلطيف حاله التاعسة، وما كان له أن يرجو تلطيفها من طريق القانون؛ فإن إخلاده بطبعه إلى السكينة، وجلده الذي لا ينفد، وتحمله العجيب كان يعينه على احتمال أشد المكاره، وغني عن البيان أنه كان خليقًا بأن يغبط — وهو رجل حر — أولئك الأرقاء في الأزمنة الأولى، أليست الحرية سخرية مفظعة إذا لم تخول صاحبها سوى حق التألم والتضور؟

كان الرقيق وإن لم يمنحه الشرع حق التملك، باعتبار أنه هو نفسه متاع في حوزة سيده، يستطيع بحكم التقاليد التي أدخلها العرف منذ البداءة إحراز مال، وله حق التمتع التام بهذا المال، وأن يتجر به، وأن ينميه بما يدخره، وربما وُجد ضمن ماله أرقاء آخرون من الذين أطلق عليهم اسم «فيكاربي».

نعم إن السيد يبقى — قانونًا — صاحب الحق الأوحد في مال عبده، وله أن يسترده منه حين يشاء، غير أن ذلك كان نادر الوقوع، فإذا حرر الرقيق اعتبر أن السيد قد وهب له ما يملك، اللهم إلا إذا ارتجعه منه بالتعيين (راجع مؤلف أوجين بتي في القانون الروماني، طبعة سنة ١٨٩٢، ص٦٤).

أما الفلاح الذي كان له الحق في تملك المال والعبيد فكان يضرب حتى يؤدي آخر درهم من كسبه إلى سادته الشرهين.

ومما يذكر فوق ذلك أن المشرع كان يتدخل بين السيد ورقيقه ليضع حدًّا للقسوة وسوء التصرف في السلطة؛ ففي رومة مثلًا: شرع القياصرة قلوديوس، وهدريان، وأنطونين التقي في إقرار هذه السُّنَّة، وبمقتضاها كان السيد الذي يقتل عبده يجازى جزاء القاتل، وكان للقاضي أن يجبر السيد على تحرير عبده إذا تمادى في القسوة عليه (راجع مؤلف أوجين بتي السالف الذكر).

وبالبداهة ما كان للمماليك الذين أرهقوا الفلاح جد الإرهاق أن يعاقبوا أنفسهم بوضع قوانين مماثلة للقوانين الرومانية.

ولا ننسَ أخيرًا أن أولئك الزعماء البطاشين حكموا مصر في زمن انتشرت فيه مبادئ الاستقلال في كل مكان، وصارت الحرية لجميع الأمم المتمدينة حقًّا مقدسًا غير متزعزع، أما الاستعباد الذي كان أساس الحالة الاجتماعية في القدم فقد كان معدودًا فيها أمرًا طبيعيًّا، وكان الفلاسفة أنفسهم يجهدون قرائحهم في تسويغه.

فلننتقل إلى المقارنة بين الفلاح في عهد المماليك وبين الزارع في القرون الوسطى، وهي مقارنة يسهلها فرط التشابه بين الأنظمة الإقطاعية في الغرب وبين أمثالها بمصر في العهد الذي نبحث فيه الآن.

إن النظام الإقطاعي الذي وصفه مسيو «اسمان»، في مؤلفه «تاريخ القانون الفرنسوي، ص١٧٥»، بأنه أحد النماذج العامة التي تتجه المجتمعات الإنسانية بداهة إلى التشكل بشكلها في بيئات معينة قد وجد في مصر أيام المماليك، ونما فيها بلا عائق بفضل ذلك المبدأ الذي يرجع إلى أقدم تاريخ في هذه البلاد، وهو أن ملكية الأراضي لولي الأمر.

قال «برتلمي سنتيلير»: «إن هذا المبدأ يرجع إلى يوسف بن يعقوب؛ أي إلى ألفي سنة ونيف قبل الميلاد، واستمر على توالي القرون إلى أن جاء الإسلام فوجده علماؤه منطبقًا على التعاليم القرآنية فأقرُّوه، كما أقره بعدهم المماليك، وما كان أخلقهم بذلك، محتفظين لولي الأمر؛ أي السلطان، بملكية الأرض كما كانت في القرون الوسطى لولي أمر المملكة، وبهذا الاعتبار كان السلطان يجبي الضرائب العقارية باسم الميري.»

قال مسيو «مريو»، في كتابه «مصر الحديثة سنة ١٨٤٠–١٨٥٧»: إن الميري من محدثات السلطان سليم.

وكان يلي السلطان في هذا الترتيب الإقطاعي «الباشا» الذي يقوم مقامه ويحكم ولاية مصر، ثم يأتي الملتزمون، وهم ملاك الأرض الذين كانوا يقتنونها بالطريقة الآتية: يطرح الباشا في المزايدة العلنية القرى المصرية، فمن دفع فيها أعلى عطاء رست عليه، وكان هو الملتزم، فيتسلم من الحكومة وثيقة تدعى «تقسيطًا» تثبت التزامه، وتتضمن الأمر الصادر إلى زعماء القرى وسكانها بإطاعة الملتزم ودفع الإتاوة إليه، وبهذه الوثيقة كان الملتزم حالًّا محل الحكومة، ينفذ في الأهلين الذين أصبحوا أرقاءَ له في خدمة الأرض جميع حقوق السيادة العليا.

وكان للملتزم بادئ ذي بدء كما للسادة في القرون الوسطى أرض تدعى «الأوسية» هي ملك حر مطلق له، يزرعها لحسابه، ويستعمل في زرعها الفلاحين بطريق السخرة، وفي جنب تلك الأوسية الأراضي التي يعطي الملتزم حق الانتفاع بها للفلاحين، ولهم أن يهبوا أو يبيعوا هذا الحق؛ لأن الملتزم يظل المالك الفعلي لتلك الأراضي ما دام له الحق في تصعيد ضريبتها أو تخفيضها، وما دام قادرًا على منحها أو بيعها لملتزمين آخرين، وأنها تصبح بعده ملكًا لأولاده، وأنه مُخول ضمها إلى أعيانه الخاصة إذا مات الفلاح الواضع اليد عليها بلا وارث، خلافًا للحال في سائر مملوكات الفلاح كبيته ومنقوله وماشيته، فهذه إذا مات عنها بلا وارث آلت إلى بيت المال لا إلى الملتزم (راجع كتاب ميكيلانج لانكريت، واسمه: مذكرات في طريقة وضع الضرائب العقارية وإدارة الأقاليم بمصر في آخر عهد المماليك).

وللملتزم أيضًا استرداد الأطيان من الفلاح إذا عجز عن زرعها وخشي ألا يقدر على سداد إتاوتها، على أنه حر في زرع الأصناف التي يتخيرها بشرط أن يوفي تلك الإتاوة.

ولنضف إلى ما تقدم، إظهارًا لما اتصف به ذلك النظام من الصفة الإقطاعية، أن أولاد الملتزمين لا يرثون أباهم إلا بعد حصولهم على موافقة «الباشا»؛ إذ الأصل في الالتزام أنه عمري، والموافقة تؤخذ بأداء رسم معلوم كان الأتراك يعدونه بدلًا من ثمن الأرض، ولولاه لعادت تلك الأرض إلى بيت المال.

وهذا النظام يماثله في القرون الوسطى ما يسمى «باليد المرفوعة» Mainorte، بيد أن بعض المماليك كان يرخص للملتزمين بموجب أوامر علية في وقف التزامهم على ذريتهم، وعلى وجوه من البر لقاء مبلغ يدفعونه موازٍ للضريبة في بضع سنوات (راجع في مجموعة جلاد تقرير بطرس باشا غالي، أحد أعضاء لجنة التحقيق الخاص بالضرائب العقارية، بتاريخ ١٨ فبراير سنة ١٨٨٠).

أما وقد صورنا تلك الحالة في صورتها الإجمالية الآنفة، فلنقارن بين الفلاح وحلس الأرض في القرون الوسطى.

كان حلس الأرض يؤدي لسيده ثلاث ضرائب، منها اثنتان نقديتان، ومنها ثالثة هي السخرة. تلك الضرائب الثلاث عينت في الأصل تعيينًا استبداديًّا، ثم نظمت قبل أن يطول بها الأمد، إما بحكم العادة، أو بمعاقدات بين السيد وحلس الأرض، أو باشتراك سنوي مالي يؤديه هذا لسيده بدلًا من السخرة، ولكن الفلاح كان مطالبًا — ولا مبالغة فيما نقول — بإتاوات تستنفد كل ما يستغله أو تزيد، فيدفع أولًا المال الحر، وهو الضريبة المفروضة على العين، وذلك المال يقدره الملتزم بمحض إرادته، ثم يقسمه إلى قسمين: أصغرهما تؤدى به جزية السلطان المسماة بالميري، التي أنشأها السلطان سليم، وأكبرهما يختص به الملتزم تحت اسم «الفائظ»، في نظير ما بذله ثمنًا للالتزام.

وللملتزم فوق ذلك بمقتضى عقد الالتزام نفسه مبلغ تعويضي يسد مسد المبالغ التي يتعذر عليه جبايتها؛ إذ كان مجبرًا على دفع جميع الضريبة المترتبة على القرية مقدمًا إلى خزانة الحكومة، وله أن يحصلها فيما بعد غانمًا أو غارمًا، فحاله من هذا القبيل كحال المستأجرين العموميين٣ الذين كانوا يشترون بالمزايدة حق تحصيل الضرائب وسائر الإيرادات التي يطرحها الملك للالتزام في فرنسا وغيرها.

وعلى الفلاح أيضًا أن يؤدي ضريبة «المضاف» و«البراني»، وما البراني في الأصل إلا هدية اختيارية تحولت شيئًا فشيئًا إلى إتاوة إجبارية، كما تحولت طريقة الهبة إلى ضرائب فيما يستقرى من تقاليد الجرمانيين الذين أخذ عنهم ملوك فرنسا الأولون هذه العادة، بحيث أصبحت في عهد الكارولنجيين فرضًا إجباريًّا على عظماء المملكة وعلى الأديرة.

على أن هذه الضرائب التي كانت تستغرق معظم ريع الأرض لم تكن كل ما يؤديه الفلاح، ولا حاجة بنا إلى تعداد الإتاوات التي كانت مرتبة عليه بالضبط، وحسبنا القول أن مسيو لانكرت أحصى منها سبع عشرة، مكتفين بذكر ما لا يستقصى من استباحات قومندانية الأقاليم الذين كانوا يصادرون للجيش كل ما يجدونه، بحجة تغذية العساكر، ويتقاضون الفلاح منحًا ورسومًا تبتدعها قرائحهم بتفنن غريب.

غير أن أشد تلك الإتاوات هولًا هي التي كان الفلاح يؤديها صاغرًا لبدو الصحراء؛ فإن هؤلاء الغزاة كانوا يتحينون كل فرصة سانحة فيهبطون من حدود الفلاة ممتطين خيلهم، ويقتحمون القرى اقتحام أرجال الجراد، فينهبون الحصاد، ويسلبون ما تصل إليه أيديهم، ويستاقون السائمة، ويجبون الوزائع، ويبيعون حمايتهم على الراغبين في شرائها من الفلاحين.

قال مسيو أدمون لوكروا في كتابه «أحمد الجزار»: «كانت مصر مأهولة كما هي الآن بالأقباط والعرب والترك واليهود والأرمن وبادية الصحراء، أولئك الفرسان الرحل الذين كانوا يغزون القرى المنعزلة، ويضربون خيامهم في التخوم.»

ولم تهتم قط حكومة المماليك بتأمين الأهلين من غزوات أولئك الطارئين، حتى ليتساءل المرء: بأي حَقٍّ تتقاضى حكومة أفدح الضرائب من أمتها وهي عاجزة حتى عن ضمان الأمن لها؟!

ومهما يكن من اختلاف الرأي في الضريبة؛ أُعدَّت بدل ضمان يدفع إلى الحكومة أشبه بالذي يدفع إلى شركات التأمين، أم عُدَّت ثمنًا للمزايا التي ينالها الفرد من المجتمع، وجعلًا يؤديه كلٌّ التماسًا للحماية التي يمنحه إياها النظام الاجتماعي، كما قالت بذلك الجمعية التأسيسية في فرنسا أيام ثورتها الكبرى، أم عدت كما يعتبرها ساي وسمث وريكاردو الحصة المرتبة على كل واحد من نفقات المصالح العامة؛ فجلي جلاء البداهة بحكم أي من هذه المبادئ أن الفلاح ما كان ليطالب بأية ضريبة مما كان يرهَق به.

أما السخرة فوجدت على أقبح أشكالها، وكان الفلاح يومئذٍ كما كان أيام تشييد الأهرام لا يفلت من سخرة إلا إلى سخرة؛ فآنًا تناط به تقوية الجسور وتطهير الترع واحتفارها إلى ما يماثل هذه الأعمال التي اختص بها منذ الأزل، وآنًا يحرث الأرض الأوسية التي يستغلها الملتزم لحسابه، ويخدم ذلك السيد الثقيل المطالب في كل ساعة من ساعات ليله ونهاره.

هذا موجز ما كانت عليه حالة الفلاح أيام المماليك، ونتيجة ذلك الاستبداد العقيم ما عتمت أن ظهرت فهجمت الفاقة على القرى بجيشها الجرار من الأمراض المتنوعة تحصد الأَهلين حصدًا.

ومن جهة أخرى، فإن تلك المظالم قد أذلت نفس الفلاح وقتلت فيها أدنى الشعور بالكرامة، ففي كل مكان بوار ودمار، وقلة نسل، وضعف حرث، وشعب نزل إلى أقصى دركات الانحطاط والجهل، وفوضى في الإدارة والقضاء والمالية وسائر الفروع.

هذا محصَّلُ ما ترك عليه البلاد حكم المماليك، وقد تسلمها محمد علي من أيديهم وهي على ما رأيت، والمؤرخون مجمعون على أن ذلك العهد كان أشقى عهد مرَّ بمصر في تاريخها الحديث، فلنلتفت الآن إلى ما قام به محمد علي وخلفاؤه من إقالة عثرة البلاد، وإصلاح شئون فلاحيها.

١  استعملنا هذا التعبير لترجمة لفظة: serf.
٢  استعملنا هذه الكلمة لترجمة Seigneurs التي كانوا يطلقونها على الأشراف في القرون الأولى وفي القرون الوسطى.
٣  Fermiers généraux.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤