الفصل الثالث

حالة الفلاح في أيام خلفاء محمد علي

القسم الأول: الفلاح في عهد عباس باشا الأول

لم يكن عهد عباس الأول ممتازًا بضربٍ يذكر من ضروب الرقي، بل كان على العكس من ذلك؛ فقد عادت فيه الحالة إلى المظالم والفتن القديمة.

كان عباس الأول موضعًا لرعاية محمد علي الخاصة، فعني بتأديبه على خير مثال، إلا أنه ما كاد يصعد إلى العرش على أثر ولاية إبراهيم باشا القليلة الأيام حتى حاد عن الخطة المثلى التي كانت تُنتظر من تربيته العالية، وقدوة جده الأكبر.

من أجل هذا كلفه الباب العالي أن ينفذ في مصر التنظيمات التي أشار بها خط الكلخانة الشريف؛ أي أن يمشي في وادي النيل عوامل النظام الذي أسسه السلطان محمود وأعلنه خليفته، ومؤدى ذلك إلزام والي مصر الإداري احترام الملكية الفردية، ومنع المصادرة والجلد والسخرة، وتعيين مدة للخدمة العسكرية.

فتردد عباس أولًا في قبول هذه الإصلاحات النافعة للناس، ولكنه اضطر إلى الإذعان لإصرار الباب العالي وحزمه. وفي الواقع لم يحصل تغيير ما في الحال، وما كان من حظ مصر أن تنعم بهذه الإصلاحات إلا بعد زمن مديد، على أنه مع هذا قد نقص عدد الجيش البري والجيش البحري وسواد الموظفين، وخصوصًا الأوروبيين منهم، فتسنى له بذلك تخفيض الضرائب.

القسم الثانى: الفلاح في عهد محمد سعيد باشا

إذا كان أعظم ما تجلت به ذكرى سعيد باشا رعايته لذلك المشروع الجُسَام، مشروع احتفار بوغاز السويس، فمما يوجب له الفخر على توالي الأجيال أخذه بتلك الإصلاحات التي امتلأ بها عهده؛ فقد توجهت عزائمه كافة إلى العمل التمديني الذي بدأه أبوه وعطَّله سلَفُه، فبفضل اهتمامه الشخصي وتحريه بنفسه كل دقيق وجليل من مطالب شعبه، وتبينه في جولاته المتكررة ما تحتاج إليه البلاد من التحسينات العاجلة، أدخلت على جميع فروع الإدارة والقضاء ونظام الملكية العقارية ونظام المالية تغييرات مفيدة في الغاية.

وكانت باكورة أعماله إلغاء الاحتكار الذي تجلت نقائصه لكل ذي بصيرة، فأصبح الفلاح غير مرغم على زرع الأصناف التي تُعيِّنها الحكومة، بل يتصرف في استغلال غيطه على النحو الذي يؤثره، وصارت حاصلات الغيط ملكًا له حلالًا، يبيعها ممن يشاء بالسعر الذي يشاء، ثم أصبحت الضرائب تجبى نقدًا لا عينًا. وهذا التبديل أفاد الخزانة إفادة حسنة بزيادة دخلها ٢٥ في المائة (راجع كتاب مسيو جيمان وعنوانه: مصر الحالية وزراعتها وحفر بوغاز السويس، طبعة باريس سنة ١٨٦٧).١

قسم سعيد باشا الأراضي الموات على مشايخ البلاد ورؤساء العشائر، وسجل هذا التقسيم في دفاتر عمومية حلت محل حجج الملكية، وكذلك شجع الفلاح على العمل بإعفاء الأراضي المستجدة من كل ضريبة بادئ الأمر، ثم بفرض إتاوات خفيفة عليها قابلة بعد تحسينها للزيادة تدريجًا حسب تقدم الأرض. هذه الطريقة متبعة بعينها حتى الآن، وفي ذلك دليل صلاحيتها. وقد اتخذ إجراءات أخرى رمى بها إلى طمأنة الفلاح وتأمينه، وهما شرطا الرقي الاقتصادي في البلاد.

وهذه طائفة من تلك الإجراءات:
  • (أ)

    جعلت في عهد محمد علي جميع القرى متضامنة في أداء الضرائب، بحيث إذا لم تدفع إحداها أُجبرت جارتها على الدفع عنها، فنجم من هذه الطريقة المنافية للمبادئ الاقتصادية تحمُّل بعض القرى أثقالًا باهظة، ونجَم، بوجه عام، أنه لما كان متعذرًا حتى على أَخصب الجهات أن تسدد الأموال المتراكمة كان المتأخر يرحل من عام إلى عام، ويتفاقم حتمًا بإضافة القديم إلى الجديد. فلما تولى سعيد باشا وجد من نتيجة هذه الطريقة أن عدة قرى لا تزال مثقلة بديون عتيقة، فرفعها عنها، مع إلغاء طريقة التضامن في أداء الضريبة.

  • (ب)

    كانت الحكومة في العهد السابق قد وضعت الحواجز الجمركية في داخلية البلاد للاستزادة من الدخل، أو سد حاجات الخزانة المتزايدة، فنشأت مضار جسيمة من هذا النظام، حتى إذا تولى سعيد باشا ألغاها.

  • (جـ)

    كادت الخدمة العسكرية لا تتجاوز طبقة الفلاحين، فجعلها سعيد باشا إجبارية في كل الطبقات، وسنَّ لها نظامًا للاقتراع يدعى بموجبه جميع المصريين بلا فارق بينهم إلى حمل السلاح.

  • (د)

    لم يهمل سعيد باشا أشغال النيل الضرورية في الدرجة القصوى لإقبال مصر، فأنشأ بعضها وأكمل البعض الآخر. وفي أيامه تمَّت القناطر الخيرية التي شرع فيها محمد علي وأبَى عباس الأول المُضيَّ في تشييدها.

  • (هـ)

    قال أحد مترجمي سعيد باشا: إنه مع إحلاله الضرائب النقدية محل العينية أخذ يؤسس سمعة بلاده من الجهة المالية على حسن التصرف في إدارة الموارد العامة.

    وأضاف هذا الكاتب: إن مصر كانت تعد آنئذٍ من الممالك الإسلامية المتمتعة بأكبر ثقة مالية، كما أثبت ذلك نجاح قرض بأربعين مليون جنيه عقدته الحكومة المصرية في لندن سنة ١٨٦٠ لتصفية طائفة من الديون السائرة.

  • (و)

    أزهرت التجارة في أيام سعيد باشا، وتدفق الذهب إلى مصر تدفقًا جاء مصداقًا لوصفهم عهده باسمه، ومما يؤثر من كلمه في هذا المعنى قوله: «من لم يسعد في عهد سعيد لم يكن قط سعيدًا.»

وكان الفلاح أجدر الناس بأن يحمد هذا العهد؛ فقد رفعت فيه عنه أثقال جمة، وصار بإلغاءِ الاحتكار مطلق التصرف في أرضه وإنتاجها، وانفسح أمامه مجال الحرية يرخي فيه العنان لذكائه، ويتمتع بكمال شخصيته.

القسم الثالث: الفلاح في عهد الخديوي إسماعيل

في الخطاب الذي ألقاه إسماعيل يوم جلوسه بحضرة السفراء والقناصل وعَد باقتفاء آثار عمه سعيد، وتأييد النظم التي أحدثها، والاستمرار في خطة التجديد والإصلاح، فصدقت أعماله في السنوات الأولى هذه الوعود، وقوَّت الآمال التي كانت معقودة على ذلك الأمير المثقف المتنور، وكأن الأحوال نفسها أرادت معاونته على إسعاد شعبه، وإنماء الثروة العامة بين يديه، فكان من ذلك نشوب الحرب الأهلية الأمريكية التي شلت زراعة القطن في تلك البلاد، ولما كانت مصر قد وسعت نطاق زراعتها القطنية أصبح المنتج المصري مسيطرًا بقطنه على السوق يبيعه بأفدح الأثمان.

على أن تلك المدة التي دامت فيها الحرب الأميركية كانت لبلادنا العصر الذهبي الذي آنس فيه الفلاح، وهو قرير العين، فجر النهضة التي خالها دائمة لا تنقضي.

افتتح إسماعيل ملكه بإلغاءِ السخرة التي كان الفلاح يتأذى منها تأذيه من العقوبات البدنية، ولكن ذلك الإلغاء لم يكن إلا خدعة عين على ما سيرى.

وأول ما جاء من هذا الإلغاء مشاكل قامت بين الحكومة وشركة قنال السويس التي شكتْ حرمانها مساعدة الفلاح، فوقفت أعمال الحفر، وخلت أماكنها من الرائحين والغادين، حتى إذا مضت بضعة أشهر وصدر القرار التحكيمي من لدن نابليون الثالث استؤنفت تلك الأعمال على الوجه الذي سنُبيِّنه مفصلًا.

حاول إسماعيل أن يوجد برلمانًا مصريًّا بادئ ذي بدء، فتألفت ندوة شبيهة بمجالس النواب لم تكن على نمط تلك المجالس في الحكومات الدستورية، ولكنها اهتمت اهتمامَ جدٍّ بالإصلاحات القضائية، وبمسائل الضرائب والري والإدارة.

عني إسماعيل أيضًا بنشر المعارف عناية يُحمد عليها، وكذلك بإصلاح شأن القضاء، وأراد أيضًا أن يدخل في بلاده جميع المحسنات التي شاهدها في أوروبا وأعجب بها إعجابًا كبيرًا. وهذه الرغبة هي التي كانت — ويا للأسف — الصخرة التي ارتطم بها مُلكُه؛ فقد شغف شغفًا متماديًا بتلك المَدنيَّة التي تعجَّل إدخالها إلى بلاده فجلبت إليها من الإخفاق أكثر مما جلبت من النفع، وأرهقت مالية البلاد إرهاقًا أفضى إلى عثرة ذلك القيل العظيم.

وجدير بنا القول: إن ذلك الشغف السائغ قد اقترن بمطامع أبعد مدى وأصعب تحقيقًا؛ منها تأسيس مملكة عربية تشمل مصر والشام يكون هو سلطانها؛ فأنفق في ذلك ما جاء ضغثًا على إبالة في استنزاف الخزانة. وليس من شأننا أن ننظر هنا في الارتباكات المالية المعروفة التي مهدت للدول التدخل في أمور البلاد، ثم إرغام الخديوي على الاعتزال.

على أن الخديوي قد أجبر قبل ذلك بحكم الضرورة إلى التذرع بكل الذرائع للنجاة من تلك الورطة، وكان الفلاح هو الذي يغرم المغارم؛ فقد تقاضت منه الحكومة أنواع الرسوم الثانوية التي أضيفت إلى الضريبة العقارية الأصلية، فجاءت مساوية لها، بل مربية عليها أحيانًا.

تلك الرسوم الثانوية كانت تجبى آنًا باسم إِعانة الحرب، أو برسم الأشغال العمومية والري، وآنًا كان يؤخذ رسم معلى على الضريبة العقارية بنسبة سُدسها.

وفي أصغر القرى لم يُعفَ متجر، وإن قل، من إتاوةٍ يؤديها، كما لم تُعفَ من مثل ذلك المهن الدنيئة والصناعات الحقيرة، حتى غذاء الفلاح ولباسه.

كتب أحد المعاصرين يقول: «وكان في إحدى القرى منذ خمس وعشرين سنة سدٌّ قائمٌ وراء إحدى القرى كان يُصطاد منه السمك، وفرضت عليه الحكومة لذلك رسمًا، ثم أزيل السد وردمت الترعة، ولكن رسم الصيد ما زال باقيًا، وهو موزع على أربع نواحٍ تتحمله بنسبة خمس بارات على كل فدان.»

ومن أجل سداد الضرائب الكثيرة التي كانت تؤخذ من الفلاح بكل الوسائل، ومنها الإكراه البدني، كان هذا المسكين مرغمًا على الالتجاء إلى مرابين تكفلوا بالإجهاز على ثروته في وقت قصير.

ومما زاد تلك المغارم ثقلًا أن كبار المزارعين الوطنيين كانوا يفلتون منها في الغالب، وأن الملاك الأجانب كانوا غير مطالبين بها، فكل عبئها يقع إذن على أَفقر الطبقات وأَجدرها بالعطف والرأفة.

وعلى الجملة، فإن قاعدة الضريبة وتقسيمها وجبايتها كانت تحت التصرف الاستبدادي بلا رابطة ولا قيد، وغير معلوم ما إذا كانت الضريبة أيَّامئذٍ حصية de quotité، أو وزيعة de répartition، ولم تكن لتحصيلها مواعيد محددة، بل يكفي أن يصدر أمر من ناظر المالية إلى المدير بجباية مبلغ ما، فيقسم المدير هذا المبلغ على القرى، ويناط بالشيخ أَن يحصل القدر المترتب على قريته على أي حال.

جاء في التقرير التمهيدي الذي وضعه مستر أفلن بارنج «اللورد كرومر بعد ذلك»، ومسيو ا. كرامر، في ٦ أغسطس سنة ١٨٧٨، ما يأتي: «ينفذ الشيخ أوامر المدير، والمدير أوامر المفتش العام، والمفتش العام أمر من له السلطة العليا، وأمره هو القانون يمتثله رجال الحكومة ولو كان شفويًّا، ولا يخطر على بال ممول أن ينازع في وجوده، أو يحتج على مضمونه، فأما من جهة الضرائب فالفلاح لا يجرؤ أن يشكو لعلمه أن الأمر صادر من فوق، وإذا كان الطالب هو ولي الأمر فإلى من المشتكى؟»

إن نظامًا للضرائب هذا وصفه لا جرم أن تزداد شدته على التوالي بازدياد حاجات الخزانة المستنزفة، ولم يكن سبيل ذلك إلا نضوب معين الثروة في القطر، فلا ينجو من مخالب الجباة إلا المعدم، فإذا وجد بين يدي الفلاح شيء من النقد بدده عاجلًا فيما لا يجدي، وربما باع محصوله قبل نضجه، واستدان بربًا لا يقل عن ٧٪ شهريًّا، فآل ذلك إلى زوال الأموال الصغيرة، وأخذت عادة اكتناز المال — وهي عادة يولدها في كل آنٍ الاستبداد وعدم الطمأنينة — تتفشى في جميع طبقات الأمة؛ لأن الموسرين لم يكونوا آمنين مُباغَتات الحكومة في خلق الضرائب بأوهى الأسباب، ولا قِبَل لهم بالرفض.

ولما رأت الحكومة الخديوية أنها تنزلق كل يوم في دركات العثرات المالية حاولت إقالة نفسها منها بشرائها الضريبة العقارية على الطريقة التي أسميت بالمقابلة، مدعيةً أن عزمها متجه إلى استعمال ذلك المال في دفع ديونها السائرة.

على أن فكرة شراء الضرائب لم تكن بدعة من الحكومة المصرية، بل يصح القول أن مهرة الماليين كثيرًا ما فكروا في ذلك عند حلول الأزمات المالية، باعتباره أهون وسيلة لجلب المال إلى الخزانة، فيتسنى للحكومة قضاء حاجتها دون أن تتحمل فوائد لمجرد نزولها عن جباية إحدى إتاواتها.

فمن الوجهة النظرية قد تظهر هذه الطريقة على شيء من الصواب؛ إذ باعتبار الضريبة ريعًا يؤديه المالك للحكومة يجيء طبيعيًّا أن تعرض عليه شراء ذلك الريع بثمن معلوم لدرء عذر وقتي.

أما من جهة الواقع، فالمشاهدات تقضي على ذلك العمل بالفشل المحتم لندرة توافر النزاهة عند الحكومة إلى الحد الذي يؤمن معه إخلاف العهد، فقد يكون من أسهل الأمور عليها استعادة الضريبة المشتراة بتصديرها في صورة أخرى، والمغريات لها بذلك كثيرة؛ إذ ليس مما يصبر عليه أن يبقى الجزء الخصيب المطموع فيه من الثروة العامة معفى من كل إتاوة. وهذا ما يفهمه بالبداهة كل من ملك أرضًا في أي بلد من البلدان قاطبةً، وبه يفسر شديد حذرهم وتهيبهم من مثل تلك الطريقة.

وفي كتاب «علم المالية» أضاف مسيو بول ليروا بوليو٢ إلى الأسباب الآنفة سببًا آخر نوافق عليه كل الموافقة بقوله: «إن هذا البذل علاوة على كونه غير مرجو النجاح من حيث هو اختياري ولا إقبال عليه؛ فإنه لا يجلب إلا دخلًا ضئيلًا، فأحْرِ بالحكومة أن تلجأ إلى الاقتراض البسيط الصريح؛ إذ هو أضمن وسيلة لاستدرار المال الوفير في الوقت العسير، وليس بمُجدٍ الاحتيال والأخذ بالأساليب الملتوية.»

ابتدع الوزير الإنجليزي الشهير «بت» في سنة ١٧٩٨ شراء الضريبة العقارية، فبالرغم من أن باب الشراء ظل مفتوحًا إلى سنة ١٨٦٩؛ أي سبعين سنة أو تنيف، ومن أن الحكومة صدقت في معاملاتها هذه صدقًا نادرًا لم يكن النجاح إلا جزئيًّا، وبقي أكثر من نصف الضريبة العقارية غير مستبدل.

هذا المثل رآه إسماعيل باشا وعلم بنتائجه، ومع ذلك فقد أصر تحت ضغط الحاجة على اتباعه، وناط بمجلسه الخاص دراسته، ثم أصدر الأمر العالي في ٣٠ أغسطس سنة ١٨٧١ بإنشاء «المقابلة».

وجاء في المادة الأولى منه: إن الممولين الذين يريدون الانتفاع بالمزايا المبينة بعدُ، يجب أن يدفعوا إلى الخزانة مبلغًا معادلًا للضريبة العقارية في ست سنوات على أساس ربط السنة الحاضرة.

وجاء في المادة الثالثة: إن كل ممول يدفع ضرائب ست سنين يعفى أبدًا من نصف الضريبة العقارية بواقع نصف ما يدفعه حالًا للحكومة، وإن الضريبة المفروضة على الأملاك المذكورة، مهما يكن نوع تلك الأملاك لا يجوز زيادتها بأي شكل كان، ولأي سبب كان.

فمما تقدم يرى أن الاستبدال كان رابحًا ومغريًا للأكثرين، أما سائر مواد الأمر العالي فمملوءة بالوعود الشائقة. كان للممول عند صدور المرسوم أن يدفع جميع ثمن الاستبدال، وفي هذه الحالة يخفض له ٥٠٪ من ضريبة أرضهِ فورًا، أو يدفع هذا الثمن منجمًا على ست سنوات، وإن شاء على ١٢ سنة بموجب أمر عالٍ صدر في ٢٠ يونيو سنة ١٨٧٣، ففي هذه الحالة كان التخفيض يمنح للملاك بحساب ٨٪ على المبالغ المدفوعة للخزانة، ومعنى ذلك أنهُ ما دام ثمن المقابلة لم يدفع بكامله؛ فليس للممول أن ينتفع بتخفيض الخمسين في المائة المنصوص عنهُ في القانون، بل يستمر في أداء الضريبة مع أقساط الاستبدال، ومع توالي دفعه للأقساط يخفض نصابه من الضريبة بنسبة ٨٪ من الأقساط المسددة. وبالجملة فإنه كان يخصم له ما يعادل فوائد دفعاته باعتبار ٨٪، وذلك إلى أن يدفع بقيمة الأقساط، فعندئذٍ تخفض ضريبته العقارية إلى النصف تطبيقًا لقانون المقابلة.

ولنضرب مثلًا لاستيفاء الإيضاح: ممول يدفع ضريبة عقارية قدرها ١٠٠ قرش، فلإحرازه منفعة المقابلة يجب أن يدفع ٦٠٠ قرش، فإذا أداها فورًا نزلت الضريبة إلى ٥٠ قرشًا، وإذا نجمها على ست سنوات وجب أن يدفع في كل سنة ١٠٠ قرش ضريبة، ومائة قرش من ثمن الاستبدال، وهذه المائة الأخيرة تكسبه ٨ قروش وثلث تخصم له من الضريبة العقارية، ففي نهاية السنة الثانية إذا دفع مائة قرش أخرى من ثمن الاستبدال خفضت له ٨ قروش وثلث غير الأولى، وهكذا إلى أن يتم أداء الستمائة القرش بأكملها، فحينئذٍ تصبح ضريبته العقارية ٥٠ قرشًا على الدوام والاستمرار.

هذا العمل كان يستطاع إنجاحه لو توافر فيه حسن القصد من جانب الحكومة، ولكنها لم تكن ترمي إلا إلى جمع مقادير كبيرة من المال، حتى إذا أحرزتها أعادت الضريبة العقارية إلى أصلها.

وهل كان يرجى غير ذلك في بلد زراعي محض ترتكز كل ثروة على أرضه؟

فقد قيل، بحق، لإسماعيل باشا: إنه في مثل هذا البلد يكون منافيًا للمبادئ المالية الصحيحة تعهد الحكومة سد ثلمة وقتية في خزانتها، لا بتقليل الضريبة العقارية فحسب، بل بألا تزيدها إلى زمن غير محدود (راجع تقرير ناظر المالية الذي رفعه إلى الخديوي في شأن إلغاء المقابلة في ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٧٩، مجموعة جلاد).

قال مسيو بول ليروا بوليو، في مؤلفه السابق ذكره: لا ينبغي للحكومة التنازل عن ضريبة عقارية موجودة، ولا عن حق تعديلها تبعًا لريع الأرض؛ فإن هذا التنازل يضر مصلحة الخزانة، ويزعج الضمير العام بإعفائه من الضريبة النسبية أهم فرع من فروع ثروة البلاد في العصر الحاضر. وهذه الحقيقة أقوى عندنا منها عند أية أمة أخرى. ولقد أدركها الفلاح ببداهته وغريزته، وكان من جهته ضعيف الثقة بحكومة تضاعف الإتاوات والضرائب كل يوم لسد حاجاتها المتفاقمة، ومن جهة ثانية كان بفطرته حذرًا غير ميال إلى المعاطيات المالية، فلم يُقبل على تلك المقابلة التي عرضتها عليه الحكومة.

وقد صدق حذره في هذه المرة؛ فإن الحكومة برغم العهد الذي قطعته على نفسها بألا تزيد الضرائب تحت أي شكل ولا لأي سبب، عادت المرة بعد المرة إلى فرض الرسوم الإضافية حتى على الأطيان التي دفعت عنها المقابلة بتمامها (راجع تقرير ناظر المالية السابق ذكره).

كان المفهوم صراحةً من قانون المقابلة أنها اختيارية؛ فقد جاء في المادة الأولى من القانون المذكور ما نصه: «إن الممولين الذين يريدون الانتفاع بالمزايا المبينة بعد إلخ.» وفي المادة الثانية والعشرين: «إن دفع أقساط المقابلة اختياري لا إجباري.»

على أن ذلك كله لم يكن إلا مظهرًا خداعًا؛ فإن الحكومة خلقت المقابلة لتجلب لها المال الذي تحتاج إليه إن طوعًا وإن كرهًا.

وقد استعمل رجال الإدارة تحت ضغط الحكومة الرئيسية كل طرق الإلزام لحمل الفلاح على الدخول في تلك المغامرة المالية التي كانت معروضة على محض رغبته واختياره.

على أن المقابلة بالرغم مما استعمل لإنجاحها من ضروب الإجبار والقوة لم تنتج مالًا وفيرًا، ويظهر من التحريات الدقيقة التي عملت في سنة ١٨٧٨ أن الممولين لم يفوا بأقساط المقابلة؛ لأن مجموع ما دفعوه في بحر السنة لصيارف البلاد لم يكد يربو على مقدار الضريبة العقارية الأصلية نفسها، فلو كانت الحكومة قد خصمت تلك الدُّفع أولًا من الضرائب المستحقة على الممولين، كما هو المعقول، لما بقي لحساب المقابلة سوى مبالغ قليلة جدًّا، ولا غرابة في ذلك؛ فإن حمل الضرائب الأصلية كان أثقل من أن يقوم به السواد الأعظم من الفلاحين، حتى إن وسائل الإكراه البدنية لم تستطع أن تأخذ منهم أكثر مما أدوا.

غير أن طالعًا جديدًا بدا للفلاح مع الشروع في إصلاح المالية، ومع تصدي أوروبا للحيلولة دون الاستمرار في تلك البدعة الهادمة، فصدر أمر عالٍ من الخديوي في ٦ يناير سنة ١٨٨٠ بإلغاء المقابلة، وإعادة الضرائب إلى مقاديرها الأصلية؛ أي إلى مثل ما كانت عليهِ قبل دفع البدل، وتمهيدًا لذلك كان قد صدر أمر عالٍ في ٧ مايو سنة ١٨٧٦، وهي السنة التي وحد فيها الدين، كفَّت به أعمال الاستبدال، ومنح الذين دفعوا مقدمًا بعض المقابلة نفس الحقوق والامتيازات التي كانوا يحرزونها على أملاكهم لو دفعوا مبلغ المقابلة بتمامه.

وفي الوقت نفسهِ أعلنت الحكومة رغبتها في اتخاذ طرق عادلة لرد الأقساط التي سددت مقدمًا، أو لتخفيض الضريبة العقارية على نسبتها، مع أنهُ في الواقع لم ينفذ شيء من هذا كله على الإطلاق.

ويلاحظ أن الأمر العالي الذي وقف أعمال المقابلة كان يحتوي على تقديرات للإيرادات داخل فيها ما يتخيلون من إيراد المقابلة، على أن تعطيل المقابلة لم يكن ليطول به الزمن؛ فقد صدر أمرٌ عالٍ في ١٨ نوفمبر سنة ١٨٧٦ قيل فيه: «بالنظر إلى كون إلغاء المقابلة قد أثار احتجاجات إجماعية من ذوي المصلحة، وإلى أن غرفة المندوبين قد أبدت رغبتها في بقائها.» فلهذا أعيدت واعتبرت كأنها لم تعطل قط، إلا أن تغيرات ذات بال قد أدخلت، منها ما هو خاص بالامتيازات الممنوحة لدافعي الضرائب، ومنها ما هو خاص باستعمال النقود الواردة للخزانة.

أما الممولون فقد تقرر أن التخفيضات السنوية للضريبة العقارية الناتجة من المقابلة لا تطبق عليهم إلا ابتداءً من سنة ١٨٨٦.

وأما استعمال دخل المقابلة، فقد ناط الأمر العالي المومأ إليه معظمها باستهلاك الدين العام؛ إذ لم يكن دخل المقابلة إلى ذلك الحين قد خصص لهذا الاستهلاك، مع أن هذا التخصيص كان المسوغ الوحيد لإيجاد ذلك التدبير المالي الذي وضع العثرات في سبيل المستقبل إلى أخطر حد، كما قال ناظر المالية في تقريره المرفوع إلى الخديوي عن إلغاء المقابلة. وقد سبق الإلماع إليه.

فلما جاءت سنة ١٨٨٠، صدر في ٦ يناير ذلك الأمر العالي الذي تقدم ذكره، فألغى المقابلة إلغاءً نهائيًّا، ثم وضع قانون التصفية، الصادر في ١٧ يوليو سنة ١٨٨٠ في الباب الرابع منه، نظامًا للتعويض المستحق لأرباب الأطيان الذين سددوا أقساط المقابلة في المواعيد. وذلك التعويض الذين أُرصد لهم مبلغ سنوي قدره ١٥٠ ألف جنيه جعل توزيعه بين الملاك على نسبة ما لكل منهم، وقرر قيده في الأوراد ليخصم من الضريبة العقارية، وذلك في مدة خمسين عامًا.

نظر المرابون والمضاربون من مرابئهم، التي يرقبون فيها الفرص الملائمة لاستلاب الفلاح، إلى هذا التعويض الذي تقرر دفعه للمستبدلين، فطفقوا يشترون منهم بأبخس الأثمان حقهم في العوض، فأراد المراقبون العموميون أن يمنعوا هذه المعاقدات الضارة، فكتبوا في ٢٥ مايو سنة ١٨٨٠ إلى السير ريفرس ويلسون يطلبون أن تقرر لجنة التصفية عدم جواز التنازل عن حق التعويض، فوافقت اللجنة على ذلك بجوابها المؤرخ في ٢٩ مايو سنة ١٨٨٠ (راجع مجموعة جلاد).

وجدت أوروبا الوقت ملائمًا والأحوال مساعدة للتدخل في شئون مصر بحجة أن تبديد الخديوي إسماعيل يسوق البلاد إلى هوة الإفلاس، وأن الشعب الذي تعود الخضوع والخنوع قد أصبحت آلامه لا تطاق، وأن مجموع الديون العمومية التي لم تبلغ ثلاثة ملايين جنيه في عهد سعيد قد صعد إلى ثمانية وتسعين مليونًا في سنة ١٨٧٦، وهو رقم باهظ لمثل هذا البلد، حتى صارت مصر في سنة ١٨٧٩ من حيث ماليتها في مثل حالة فرنسا قبيل الثورة الكبرى، فرأت أُوروبا لصيانة رءوس أموالها المستثمرة في هذا القطر أن تضع حدًّا للارتباك المالي. وكان من نتائج ذلك الارتباك أنه جر على مصر التدخل الأجنبي، ثم المراقبة، وأخيرًا وضع يد أوروبا على إدارة داخلية البلاد.

ومهما يكن فإن التاريخ جدير بأن ينصف إسماعيل؛ لأنه كان يحمل في نفسه أحسن النيات لبلاده، ويتمنى لشعبه أن يرقى إلى أسمى درجات الحضارة الأوروبية التي بهرته أنوارها. وإذا كان قد أثقل كاهل مصر بالديون وفتح الباب لتدخل الأجنبي في شئونها، فمصر خليقة بأن لا تنسى أنه أحبها كل الحب، وأنه أراد بها كل الخير، وأنه خطا بها خطوة بعيدة في سبيل المدنية، وهي جديرة كذلك بأن لا تنسى أن إسماعيل أُخذ بحبائل أناس كانوا على غير شيء من الأمانة أو الاستقامة، فملئوا جيوبهم إلى ما وراء الظن من أموال الخديوي ومن الخزانة المصرية.

قال مسيو هنس ريزنر في كتابه «مصر أيام الاحتلال الإنجليزي والمسألة المصرية»:٣

«لا تكاد تحصى تلك المشروعات التي أعطت الحكومة مقاولاتها للأوروبيين فغشوها فيها غشًّا فاضحًا.»

ومما يخطئه الحصر كذلك الدعاوى الخيالية التي رفعها المضاربون الأجانب على الحكومة الخديوية بالطرق السياسية، فحُكم لهم فيها بغير حق.

يؤثر عن الخديوي إسماعيل وقد زاره رجل من الأجانب يومًا قوله لأحد أتباعه: «أقفل هذه النافذة خوفًا من أن يزكم هذا الخواجا فتكون تعويضات ذلك علينا حملًا ثقيلًا.»

على أن وجود المحاكم المختلطة قد جاء خدمة عظيمة للحكومة المصرية؛ إذ ردت عنها مضار تلك القضايا التي كانت ترفع عليها بالطرق السياسية فتجعل ماليتها دوامًا في خطر. ولقد كانت قيمة الدعاوى المقامة عليها بهذه الطرق يوم تأسيس المحاكم المختلطة تنيف على أربعين مليونًا من الجنيهات. ولأجل أن يتبين ما كان من حقيقتها، حسبنا أن نذكر أن تلك المحاكم «حكمت في واحدة منها للمطالب بألف جنيه، وكان مطلبه ثلاثين مليون فرنك؛ أي ١٥٠ ألف جنيه.» كما قال هنري لمبا؛ فتأمل.

القسم الرابع: الفلاح في عهد محمد توفيق باشا

نودي بمحمد توفيق باشا خديويًّا في القلعة يوم ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٩، وهي عين السنة التي كانت المراقبة أعيدت فيها منوطًا أمرها بمسيو دي بلينير والسير كولفن،٤ فخرجت بها مصر من الفوضى المالية التي اندفعت في هاويتها، وبدأت تتماسك وتستفيق من غفلتها.

وفي يمن هذا الطالع الذي افتتح به عهد توفيق جرت إصلاحات مفيدة أعادت الأمن إلى الربوع، منها إلغاء السوط «الكرباج» رسميًّا، وتشدد الحكومة في منع استعماله بالأقاليم حيث بقيت إلى حينٍ مخلفاتٌ من قسوة العهد البائد.

ومنها الشروع في تعديل الضرائب، وتعيين موعد استحقاقها بعد أن كان ذلك متروكًا لمحض إرادة الحكومة.

ومنها نشر التعليم، والأخذ بتشكيل المحاكم الأهلية، بدلًا من المجالس الملغاة التي كانت فاسدة وغير مأمونة الجانب من المتقاضين لديها.

غير أن هذا التقدم في كل الفروع ما لبث أن وقف سيره بقيام الفتنة العسكرية التي انتهت بضرب الإسكندرية.

هذه الفتنة التي أثارها ثلاثة ضباط مصريين كلهم برتبة أميرالاي؛ وهم: عرابي، وعلي فهمي، وعبد العال، ثم انضم إليهم محمود سامي باشا البارودي، لم تكن في بدئها إلا احتجاجًا من الضباط الفلاحين على ما سموه امتيازات الضباط الأتراك أو الجركس.

وإن في حدوثها لواقعة من أغرب الوقائع في علم النفس؛ ذلك الشعب المصري الهادئ الذي صبر أحقابًا على ما لقيه من أشنع المعاملات حتى خُيِّل أن جلده لا ينفد، هبَّ فجأة على أثر إطلاق العنان له، وأزمع أن يجاوز بوثبة واحدة كل المسافة الفاصلة بينه وبين الحرية التامة. أولئك العساكر المصريون الذين تعودوا ألا يتناولوا مرتباتهم، وظلوا دهرًا باخعين لدى عنت الأتراك يحسبونهم أشرف طينة منهم، غضبوا بغتة، وأية غضبة من الامتيازات التي كان يتمتع بها الضباط الأتراك. والعلة في هذا هي أنه متى قشع الغيهب عن عيون شعب مظلوم قديمًا وعرف حقوقه، جدَّ به أسف لما تحمله طويلًا من الضغط، ونجل في توخي حقوقه جميعًا وفي إدراكها سريعًا بأي ثمن يكون.

فالحركة العرابية التي كانت في نشأتها منافسة بين ضباط الجيش، امتدت امتداد حركة وطنية عامة، وهاجمت الامتيازات الفادحة التي كان يتمتع بها الأجانب في هذا البلد، ولا مشاحة في أن فريقًا من أولئك الأجانب كانوا قد صاروا في أواخر العهد السالف إحدى كوارث مصر باستنزافهم مال الحكومة والأمة ربًا وسرقة في ذرا الحماية القنصلية.

قال السير «اللورد» ألفريد ملنر في كتابه «إنجلترا في مصر»: «من ثم يفهم أن الوثبة بالامتيازات الأجنبية والصيحة التي اجتمعت عليها كلمة الشعب، وهي قولهم: «مصر للمصريين»، كانتا صادرتين عن ظلامة لا شك فيها.»

على أن تلك الحركة العسكرية التي لم تعتم أن اتجهت اتجاهًا مخطئًا في الروح الدافع لها، لم تنتج — ويا للأسف — نتائج حسنة من الوجهة الاقتصادية التي هي دون سواها موضوع هذا البحث.

صرح الخديوي توفيق بذلك في خطبته التي افتتح بها الجمعية العمومية سنة ١٨٨٥ حين دعيت للنظر في وضع نظام للحالة المالية فقال: «إن الفتنة العسكرية قد أثقلت الخزانة بديون مرهقة كالتعويضات وغيرها، ووقفت دولاب الأعمال التجارية، وعطلت الثقة تعطيلًا نجمت عنه خسائر جسيمة.»

أفضت الثورة العرابية إلى احتلال مصر بالجيوش البريطانية، فأخذت انجلترا تضع يدها تدريجًا على فروع الإدارة المصرية، واشتركت اشتراكًا واسعًا قويًّا منذ سنة ١٨٨٢ في كل التغييرات التي طرأت على حالة الفلاح اقتصاديًّا واجتماعيًّا. وهو ما سنخص به الجزء الثاني من هذا الكتاب.

١  A. Guillemin—L’Egypte actuelle. Son agriculture et le percement de l’isthme de Suez. Paris 1867.
٢  P. Leroy Beaulieu—Traité de la Science des Finances.
٣  Hans Resner—L’Egypte sous l’occupation anglaise et la question égyptienne.
٤  الذي خلف في هذا المنصب سير أفلن بارنج «اليوم لورد كرومر»؛ إذ كان قد عين عضوًا ماليًّا في مجلس الهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤