الفصل الأول

الفلاح في عيشته الداخلية

الفلاح الذي نعنيه في هذا البحث إنما هو المصري الأصيل، والبدوي المتحضر، والعبد والمولد الذين امتزجوا به وعاشوا عيشته. كل هؤلاء يكتفي بالقليل من القوت، ويقوم بالكثير من العمل، وكلهم قوي البنية يبكر إلى مرتزقه، فيه السذاجة الفطرية، وصفاء النية، والتسليم الذي لا تزعزعه الطوارئ؛ فهو مذعان، ثبت في عقيدته تجاه المصائب والمظالم. لم يسكن المدائن فتغريه الزخارف ويفسده الترف، وإنما هو راضٍ بعيشة الشظف، يمر بالبهارج التي يعرضها التأنق الحديث على ناظريه فلا يلوي عليها، ولا يشتهيها.

لهذا لا يعرف الفلاح المصري الانزعاج الذي يتألم منه العامل الأوروبي؛ ذلك العامل الذي كثيرًا ما تدفعه حاجاته المتزايدة يومًا بعد يوم إلى الإضراب والثورة لعدم وفاء أجره بقضاء تلك الحاجات.

أما العامل المصري، سواء في المدن أو في الحقول، فأيسر أجر يسد ضروراته المحدودة جدًّا، بفضل اعتدال الإقليم الذي يُمكِّنه من الارتداء بأقل الملابس ثمنًا، وبفضل قناعته وسلامة غريزته التي تريه من الكماليات ما يعده زميله الغربي مما لا يستغنى عنه، ثم إنه لا يتعاطى الكحول؛ فهو ناجٍ من عواقبه السيئة، وأما الحشيش فلا يعرفه إلا أهل المدن، وقد يتيسر استئصاله إذا وُفِّقت الحكومة إلى منع تهريبه.

فالفلاح سعيد بحياته الرتيبة الهادئة، وبهذه العيشة، وبفضل عقيدة التسليم للقضاء والقدر لا يتطرق إلى نفسه الانفعال الشديد، ويظل صحيحًا معافًى لتعوده العمل الشاق ودأبه عليه.

وقد أجمع الباحثون على امتداح الفلاح في قواه الجسدية؛ قال لاروس واصفًا إياه في معجمه الكبير: «إن الفلاح رشيق القامة، رحب الصدر، متين العضلات، قوي الأعصاب.»

فإذا التفتنا إلى الفلاح من الجانب المعنوي فهل نستطيع أن نصفه بمثل هذه الأوصاف الجميلة؟

إن غير واحد من الكتاب — الذين لم يقفوا عند حد الظواهر ودققوا النظر من كثب — قد وجدوا في نفس الفلاح شمائل ومزايا كامنة تبرز وتتجلى إذا ساعدتها على ذلك حكومة راشدة حكيمة، وإذا آزرها العلم والتهذيب.

ورأى آخرون — هم أقل تدقيقًا وأكثر بعدًا عن مواطن الإنصاف — أن الفلاح مجرد من المميزات المعنوية؛ قال مستر لان:١ «لا يستطاع تصوير الفلاح في عيشته البيتية وفي عاداته الاجتماعية تصويرًا حميدًا؛ فهو يشبه آباءه البادين من أقبح الوجوه، وليس له من الصفات التي كانوا يمتازون بها إلا النزر اليسير، لا بل إن التقاليد التي ورثوها عن أولئك الآباء قد جاءت بأسوأ الأثر في حالتهم المعيشية.»

هذا الحكم لا ينبغي قبوله بلا تمحيص ولا مناقشة؛ فهو على تضمنه شيئًا من الحقيقة قد تجاوز على إطلاقه حدود القسوة.

إن الفلاح لا يخلو من عيوب، غير أنها ترجع إلى ما عاناه من سوء المعاملة أكثر مما ترجع إلى غريزته، أما الآن وقد تحرر من ربقة الاستعباد الجافي الغشوم الذي تحمله مئات من السنين؛ فإن عيوبه تلك ستقل إن لم تتلاش تمامًا.

لا جرم أن استمرار العبودية قرونًا طوالًا مما يذل النفوس، ويهدم النزعات الكريمة، وماذا عرف المصري منذ الأزل سوى الخنوع لسادة غلاظ الأكباد وحشيين؟ ألم يكن الفراعنة يضحون غير آسفين مئات الألوف من الأرواح لتشييد مجدهم الباطل؟ أولم يكن استعمال السوط من العادات الثابتة في البلد؟ وإذا رجعنا بتاريخ مصر إلى عهد الرومانيين ألا نجد شواهد مثبتة أنهم كانوا يعاملون المصريين بالضرب؟

كتب أميين مرسلين،٢ الكاتب اللاتيني في القرن الرابع، فقال: يستحيي المصريون أن لا يظهروا ندوبًا كثيرة على أجسامهم من آثار الضرب لإبائهم دفع الضرائب، ومن ذلك الحين إلى هذه الأوقات ظل السوط متخذًا كأحسن أداة للجباية.٣

وفي المنشور الصادر من نظارة الداخلية في ١٦ يناير سنة ١٨٨٣ تذكير بالمنشورات المتكررة المحظور فيها بشدة استعمال السوط، وتجديد لهذا الحظر، وتهديد بأشد العقاب لمن يخالف الأمر.

فهذا يدل على أنه إلى سنة ١٨٨٣، برغم المنع المتواصل، استمر استعمال الكرباج خصوصًا في النواحي والقرى.

قال قاسم بك أمين في كتابه «المصريون»، الذي ردَّ به على الدوق دركور ما ترجمته: منذ القدم استغل مصر وحوش في صور أناسي من كل جنس ومن كل صوب، وكانت مصر مسرحًا تجري عليه أنكر الفصول. وأعرف حوادث مزعجة بشعة، ووقائع لا توصف، ويجول في ظني أمور أفظع من تلك، ولا أستطيع حقًّا أن أفهم كيف تحمل قومنا التعسون كل هذا الظلم القاسي.

تعود الفلاح الصبر على الجفوة التي لا تطاق، ولا يتصورها العقل، ولم يخطر بباله المقاومة جهرًا؛ لأنها لا تتفق مع طبعه، فلم يبق له من سلاح يدفع به عن نفسه سوى الحيلة والمواربة والمكر؛ اضطرارًا منه للخنوع والمسكنة، ومن ثم كانت صفاته الطيبة خافية ولا تظهر بجلائها؛ إذ لم يساعد شيء ما على إنمائها، ولكن هل يؤخذ من ذاك ما يؤكده مستر لان من أن الفلاح مجرد من الصفات البيتية والاجتماعية؟

هذا ما سنراه في كلامنا على الفلاح في البيت وفي المجتمع.

القسم الأول: الفلاح في البيت

وصف بيت الفلاح مرارًا، وإن هو إلا كوخ مصنوع من الطين والتبن، واطئ، ضيق، يشتد فيه الحر، ولا تستطيع العيلة أن تبيت فيه صيفًا، فأهله ينامون أمام بابه، أو فوق سطحه.

وهو يكاد يكون خاليًا من الأثاث عدا ما قد يوجد من صندوق خشبي محتوٍ على بعض الملابس والأدوات والأشياء الصغيرة، وفي الحائط خزانة من طين يصان فيها كل ما يملكه الرجل وامرأته.

ولكل مسكن فرن يصنع فيه الخبز.

وفي هذا المحشر الداني السقف يتكوم ويتكون خليط من القاطنين كبارًا وصغارًا بجانب الماشية أو الدجاج؛ فهو كخلية النحل، كل من فيه يعمل؛ الرجل يمضي إلى الغيط من الفجر ولا يعود إلا عشاءً. وفي قسم من السنة بين مايو ويونيو يظل ليله ونهاره مشتغلًا، ولا يختص من الراحة إلا بأربع أو خمس من الساعات؛ ذلك وقت حصاد القمح الذي يستحسن أن يتم قبل أن تحرق الشمس سنابله بحرورها، ومتى خرج من الحصاد انصرف إلى خدمة قطنه الذي يتطلب عناءً جمًّا مدة ثمانية أشهر من السنة.

وإذا كانت مواعيد مناوبات الري قصيرة اضطر أحيانًا إلى وصل الليل بالنهار ليتم سقي أرضه في الميعاد المحدود.

والمرأة لا تمكث عاطلة؛ بل تقوم بخدمة الماشية، وإعداد السماد، وتهيئة الأكل لزوجها، وحمله إليه في الغيط، وتربية أبنائها المتعددين. وهؤلاء الأولاد يُستخدمون في الهنات الهينات من نعومة أظفارهم.

سلطة الوالد عند الفلاح واسعة تتمشى على أولاده حتى بعد أن يصبحوا هم أنفسهم أرباب عيلات، والجد موضع إجلال عندهم يطيعونه ويتبعونه إلى حيث يشاء الإقامة، ويجعلون بين يديه ثمرة كدحهم.

تلك صورة للأسرة كما كانت في العصور الأولى؛ يتضامن فيها الجميع، ولا يترك أحد منها في حرمان، وقد يبذل الفلاح كل ما لديه بسخاء للتفريج من كرب أحد ذويه، ومن هذا التضامن بين أفراد الأسرة، بل قد يقال: بين أفراد القرية قاطبة، مصدر الهدوء الشامل لهذا البلد الفقير، في حين أن أزمات عنيفة تزعزع أركان البلدان الصناعية الغربية التي هي أغنى وأوسع ثراء.

قال مسيو هنري بنسا في كتابه السالف ذكره «مصر والسودان المصري»:٤ «إن عيشة شعب وفير العدد في حالة مساوية بين الجميع لا تدع واحدًا من أفراده في فاقة مدقعة تمنح ذلك الجمهور أمنًا يزداد بحكم ما في الأعمال الزراعية من الركانة الطبيعية.»
فشتان بين هذه العيلة وما يسمونه في أوروبا بالعيلة الفردية La famille individuelle، ويظهر أن الفلاح سيكون إلى زمن طويل في مأمن من مثل هذه الأثرة التي تهدم أركان الأسر، وتنمي فيها الأحقاد والمنافسات.

المرأة في بيت الفلاح في المكانة الثانية؛ ليست لها رعاية تذكر، وربما عوملت بشيء من القسوة حتى ليتفق أن بعضهم إذا سافر ومعه امرأته امتطى الدابة وتبعته على قدميها.

وقد يظهر الافتئات على المرأة في المسائل الوراثية؛ فإن البنت التي يئول إليها شرعًا نصف نصاب الذكر يغلب أنها لا تأخذ من هذه الحصة شيئًا، وأن تبقى الأعيان المتخلفة عن أبيها بين يدي إخوتها، فإذا تزوجت وجد بعلها من المعرة أن يطالب بحقها لئلا يقال: إنه يعيش من مال عرسه.

وبرغم هذا نستطيع الجزم بأن زوجة الفلاح ليست في شقاء؛ فإن اتفق في أدنى الطبقات أن يضربها قرينها، فإنه مع هذا يحبها كثيرًا، ويندر جدًّا — وخصوصًا في تلك الطبقة — أن يطلقها، أو يتخذ لها ضرة.

إن تعدد الزوجات الذي بدأ يقل في المدن لم يكن قط كثيرًا في القرى، ورأي قاسم بك أمين هو «أن الفلاح في الريف أميل بغريزته إلى وحدة الزوجة؛ وذلك لأنه لا يكسب إلا ما يتبلغ به، وقد بقي في الحواضر رجال من أهل العصر القديم يعولون غير امرأة، إلا أنهم شرذمة قليلون، وفي الغالب ليس لكل واحد من الموظفين إلا امرأة واحدة.»

يظهر من كل ما تقدم أن الفلاح ليس مجردًا من الصفات الأسرية، فلو وصل إليه نور العلم، وعرف أن لقرينته حقًّا عليه من حسن المعاملة والرعاية، ولو فهمت هي أيضًا ما لها وما عليها؛ لأصبح بيت الفلاح بفضل قوامه المتين وبروح التضامن الذي يربط جميع أفراده معادلًا لبيت الزارع الأوروبي إن لم يتفوق عليه.

أما الآن فالمرأة لا تفكر في التضجر من قسوة بعلها؛ لأنها تكاد تظن ذلك خلقة.

القسم الثانى: الفلاح في المجتمع

إن أخلاق الفلاح الاجتماعية هي ما شاء الظلم والجهل أن تكون؛ فإن ذلك الطيب القلب، الصريح الضمير، قد حولته قسوة ساداته إلى خبيث الطوية، ماكر.

وعلى كل حال ما زال الفلاح سمحًا مضيافًا يكرم وفادة نزيله، وإذا خالفت أعماله وعوده وعهوده أحيانًا فلا تصح اللجاجة في عذله؛ لأن المصائب قد نكرته وجعلته محترسًا سيئ الظن لا يعتقد الإخلاص في أحد.

قال الدوق دركور: «إن قاضيًا كان يحادثه أكد له أن الفلاح لا يلجأ إلا إلى الكذب والشهادات المزورة حين يتقاضى.»

وفي هذا شيء من الصحة يؤسف له، غير أن الذنب في ذلك ليس واقعًا عليه — على ما أجاب به قاسم بك أمين — بل على أولئك المزورين والمرابين الأجانب الذين لا يجارون في هذين المضمارين، والذين توسلوا بكل الوسائل، واستعملوا ضروب الغش وأساليب الخديعة لسلب الفلاح أرضه.

وقد أورد قاسم بك أمين في تأييد رأيه شهادة لا تقبل الطعن تصور الطرق المخجلة التي يقع بها على الفلاح غربان الربا تحت حماية الامتيازات الأجنبية، وهذه الشهادة مأخوذة من كتاب باسم «مصر وأوروبا»، وضعه مسيو فان بمَّلن،٥ وهو رجل ذو مكانة شغل منصب قاضٍ في المحاكم المختلطة، جاء فيه: «لا يستطيع من عرف المصريين المسلمين المتمدينين إلا أن يقع في نفسه لأول وهلة أنهم أهل صدق. نعم، إنهم ليسوا من ذوي الاسترسال والمكاشفة بما في نفوسهم، خصوصًا في صلاتهم مع الأوروبيين، فقد تعلموا أن يكونوا في هذه الصلات محترسين، ولأسباب لا تحصى يؤثرون الصمت على المجازفة بالكلام، ولكنهم ليسوا بخداعين ولا كذابين في أداء وظائفهم، ولا فيما يمس مصالحهم الشخصية، بل طبعهم ودينهم يوحيان إليهم بغض الكذب.

في كل مجتمع يكون حب الصدق عادة أفشى في الطبقات العليا منه في الطبقات الدنيا، ومصر لا تخرج عن هذا الحكم، غير أنه لا يصح القول بأن الفلاحين والفقراء من أهل المدن أكذب أو أقل صراحة من زراع أوروبا والسكان غير المتحضرين في مدنها، على أنه يجب أن يستثنى من هذا الحكم الذين أفسدتهم خدمتهم للأوروبيين وللأجانب الراقين من الأناس الفاقدي الإيمان، الذين يعرضون على الأبصار زينات البذخ والترف بوقاحة بعيدة عن مواطن الاحترام، والذين يعاملون أولئك الخدم بقسوة واحتقار؛ فأولئك الخدم لا يقولون الحق إذا أضرَّ بهم قوله، ويكذبون بلا حياء للخلاص من التبعات، وكذلك الفلاحون الذين عانوا كثيرًا من مضض المرابين وغيرهم من أجانب يستغلونهم تحت الحماية القنصلية، يقلعون عن الصدق في علاقاتهم مع الغربيين واليونانيين وسائر المتفرنجين من أهل الترف. وفي حكم هؤلاء، الفلاحون الذين يمثلون لدى المحاكم المختلطة ولا ثقة لهم بها.

فإذا استوفينا هذا الاستثناء حق لنا القول بأن الفلاحين هم بوجهٍ عام صادقون في أقوالهم، وفي إقراراتهم أمام القضاء. ومن هذا القبيل تشهد اختبارات المحاكم المختلطة لهم لا عليهم.»

ونستطيع أن نزيد أن الكذب والمكر مما يستعين به أيضًا فلاحو أوروبا في العادة للدفاع عن أرضهم التي يحبونها فوق كل شيء، بحيث أن منازعاتهم القضائية ذهبت أمثالًا.

هل الفلاح متحلٍّ بأفضل المواهب الاجتماعية التي يرتكز عليها الإقبال الاقتصادي؛ وهي محبة العمل؟

تقدم القول في القسم الأول من هذا الفصل أن الفلاح لا يحجم عن النهوض بأي عمل مهما كان طويلًا شاقًّا، ويُظهر عندما تدفعه الضرورة نشاطًا عجيبًا، وما كان لمجهود، وإن عظم، أن يستنفد صبره في أشغال غيطه، أو ينهك قواه الهرقلية. ومنشأ هذا الجلد فيه هو بنيته وما تعوده من تحمل المكاره منذ القدم؛ قال فولناي: «إن كان في الرجال أهل نشاط، فإنما هم الذين ارتيضت أجسامهم وأرواحهم بممارسة الآلام، فشددت عزائمهم بحيث أصبحوا إذا أصابتهم سهام تكسرت النصال على النصال، وأولئك هم المصريون، وإن الزراع الذين يدعون بالفلاحين ازدراءً ليضطلعون بأعباء جسيمة، ولا تحتاج قواهم إلا إلى التوجيه لتصبح مهيبة.»

ونحن نقول: إنه لإعواز هذا التوجيه الرشيد، ولأن تلك العزائم لا تستعمل على الدوام حق استعمالها، ولأن الفلاح من جهة أخرى محروم مساعدة الأدوات والآلات الزراعية العظيمة النفع لزراع أوروبا وأمريكا لم يتسنَّ لزراعة هذا القطر أن تعدو شوطًا بعيدًا في التقدم.

وفي هذا المقام يتعين علينا أن نثني على المجهودات الحميدة التي تبذل في هذه الأيام لتحسين الحالة الزراعية، والتي يعود الفخر في الجانب الأعظم منها إلى سمو الأمير٦ حسين باشا كامل، فقد تأسست حديثًا تحت رياسة سموه جمعية مؤلفة من كبار الملاك الزراعيين لإعانة الفلاح الصغير بإمداده بالبذور والتقاوي، وتحسين طرق الزراعة بالتجارب والمعارض، ونشر المعلومات المفيدة في مجلة يرأس تحريرها سكرتير الجمعية المذكورة.

غير أنه قد يسألنا سائل: ما الفائدة التي تعود على البلاد من هذه العزيمة، وذاك الجلد المدهش في فلاحها إذا كان بفطرته كسولًا، وكان هذا الكسل حاجزًا حصينًا دون تقدم البلاد الطبيعي في سبيل الرقي، ودون إنماء مرافقها الاقتصادية؟

ويظهر أن هذه الفكرة هي التي يتشبث بها الدوق دركور، ولهذا لا ينفك يرددها في كل صفحة من صفحات كتابه «مصر والمصريون»؛ لزعمه أن الفلاح لا ينظر إلى الثروة إلا باعتبارها طريقًا مفضية إلى الراحة، وأن الفاقة أهون عليه من العمل.

وجنابه يرتاب في كون إدارة أوروبية تستطيع الإقلاع به عن هذا الجنوح إلى العطلة، وإنا لواثقون من أن الدوق دركور لو حقق بنفسه وأجهد فكره للوقوف على صدق ما كان يُروى له عن المصريين لتفادى من هذا الخطأ، ومن سائر الأغاليط التي يطفح بها مُؤلَّفه.

هذا المأخذ على الفلاح ليس بأعلق به من سائر ما يؤخذ عليه، وإن منشأ تلك المآخذ جميعًا — فيما نعتقد — هو جهل المتكلمين عليه بحقيقة حاله؛ إذ هو بلا مراء لا يؤثر العطلة على العمل إلا حين يعلم أنه لا يجني ثمار كده، قال مسيو شارل هوسوليه:٧ عندما يتوافر للفلاح الغذاء يعود إلى جموده؛ لأنه موقن بأن جهوده لا تصلح شيئًا من مآله، وبرغم هذا الجمود الغريب هو بطبعه نشيط، وثوب، نهاض.
قد عد العمل في كل زمن ضربًا من ضروب التعب، ولو خالف هذا مذهب مسيو «فوريه Fourier»، وإذا كان الناس يتغنون اليوم بفضائل العمل من الوجهة الاجتماعية؛ فإن أولئك المتغنين هم الذين لا يعملون. قال هذا أحد أساتذتنا بجامعة باريس، وقد صدق؛ فإن العمل ما زال إلى اليوم كما كان في الأزمنة الغابرة غير محبوب لذاته، بل للملاذ التي تنتج عنه، ولِسد الحاجات؛ فالمصلحة الذاتية هي التي تشحذ العزائم، كما أنها هي الأَساس لكل رقي اقتصادي، ألغ تلك المصلحة تجد الرجل لا يعمل إلا مسوقًا بسوط الإكراه كما كان يعمل الرقيق في العصر الخالي.

ومعلوم أن عمل الأرقاء كان في كل زمن قليل الجدوى. وذلك ناموس طبيعي أساسي يخضع له الفلاح كسائر الناس. فليُضمن له الجزاء يأتِ بالمعجزات، وإلا فلماذا يخرج من تواكله؟

أما نرى مصداق هذا في صغار ملاكنا؛ إذ يعملون في حقلهم الذي هو ملكهم، ولهم كل غلته؟

يضاف إلى ما سبق أن شدة القيظ التي تخور منها قوى الأجانب لا تستنفد قوى الفلاح؛ فهو في أشهر الصيف التي تبلغ فيها الحرارة أعلى درجاتها يتطلب منه غيطه أشق المجهودات، خصوصًا منذ انتشرت الزراعة الصيفية في القطر بعد إنشاء الترع، فلا يرى إلا سميعًا مجيبًا.

ثم إن تأصل الروح الديني في الفلاح يضطره إلى اتخاذ عادات صحية أدبية، والتخلق بأخلاق كريمة، وله فيه غبطة معنوية كبيرة يستفيد منها الصبر على المكاره. وبفضل خضوعه للتقاليد الدينية التي حافظ عليها ورد مشرعة الاطمئنان وراحة الضمير.

لمثل هذا يرجى أن تستمر الجماهير العاملة متمسكة بهذه العقائد؛ فإن تحللها منها يفضي إلى تغيير جوهري في حالة البلاد الاقتصادية.

وبديهي أنه في اليوم الذي يفقد فيه الفلاح هذه السلوى التي يستفيدها من إيمانه، ويرى أنه مهضوم الحق في المجتمع، فيرفع صوته محتجًّا مطالبًا، ولا يستطاع إكراهه على العمل، عندئذٍ يتعين على المجتمع أن يحسب له حسابًا، ولكن في ذلك اليوم تكون الأزمة عنيفة، وتصبح مجاري الأمور على غير ما كان مألوفًا.

كل ما قلناه عن الفلاح في البيت وفي المجتمع يكفي لإقامة الدليل على أنه مستعد للتمدين، وليست طينته أدنى من طينة سواه كما يوهم أناس. ولقد ابتدع أرسطاطاليس مذهب انحطاط بعض الأجيال ليسوغ لليونان استعباد الشعوب الأخر بدون أن يكون لتلك الشعوب ما يدعوها لأن تستعبد لليونان من طبيعة حالها يومًا ما. وهذا المذهب أخذت به بعد ذلك الأمم السابقة لغيرها في المدنية، فتوسعت فيه وبالغت لتقضي مآرب ذاتية غير خفية.

على أن هذا المذهب لا يجوز بحال تطبيقه على المصريين، وهؤلاء أجدادهم قد بلغوا من المدنية أبعد شأو، وهم أنفسهم يبرهنون كلما أسعدهم الزمن بحظ التثقيف على أنهم ليسوا من تلك الأجيال التي قال أرسطاطاليس: إنها خلقت لإطاعة غيرها.٨
١  Lane—On account of The manners and customs of the modern Egyptians.
٢  Ammien Marcellin.
٣  Duc d’Harcourt—L’Egypte & les Egyptiens.
٤  Henri Pensa—L’Egypte et le Soudan Egyptien.
٥  M. Van Bemmelen—L’Egypte et L’Europe.
٦  السلطان حسين كامل فيما بعد.
٧  Charles Haussoulier.
٨  قال أرسطاطاليس في كتابه «السياسة»، جزء أول، فصل ثان: قُسم لأناس أن يكونوا منذ مولدهم خاضعين، ولأناس أن يكونوا آمرين، وكل من الفريقين أنواع متعددة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤