الفصل الثاني

التقدم العام في مصر

شقاء الفلاح

لما قمعت فتنة عرابي باشا استأنفت مصر ما انقطع من سيرها في سبيل التقدم، ومن ألقى نظرة على الحالة العامة للبلاد في هذا الأوان قرت عينه بما يرى من الأشواط البعيدة التي اجتازتها البلاد، وقضى عجبًا للسرعة التي تمت بها إصلاحات جمة كان تحقيقها غير مظنون إلى زمن مديد؛ لأسباب أخصها: سوء الرأي في استعداد الشعب المصري، والارتياب في أخذه بقوانين الرقي.

ولسنا هنا بصدد البحث فيما لكل من العنصرين الوطني والأجنبي، المؤلفة منهما الحكومة الحالية بمصر، من حصة الفخر فيما ظهر من النجاح، ولكن الإنصاف يقتضينا أن نشكر لهما جميعًا تعاونهما بنشاط وذكاء على نفع البلاد.

وحقيق بنا أن نقول في هذا المقام قول قاسم بك أمين في كتابه «المصريون»، وهو: «إن الصنيع الذي تم إلى اليوم جليل إلى حد أنه لم يشهد له نظيرٌ من قبل في مثل هذه المدة القصيرة.»

وناهيك به من صنيع شملت مفاخره إلغاء السخرة، وأقرت حرمة الحياة والمِلْك والمنزل، وحرية الفكر والكتابة، والتسامح الديني في المعنى الأوسع، وجميعها مزايا وضمانات يتمتع بها الإنسان في مصر من جهة حقوقه الشخصية، ولم تتمتع بها الشعوب الأخر إلا بعد أن أهريقت في التماسها دماؤهم بالثورات.

ومن وجه آخر، جرت الأحكام بالعدل بين الناس مجرى سارًّا، وأصبحت المحاكم الأهلية التي جدد تشكيلها سنة ١٨٨٣ تستحق اليوم من الثناء ما تستحقه المحاكم المختلطة، فبفضل الشبان الأذكياء النزهاء الذين تولوا إدارة تلك المحاكم الأهلية أعطيت حقوق العباد ضماني الاستقامة والكفاءة. وبعد أن كان الوطنيون يفرون من القضاء الأهلي صرنا نرى الأوروبيين الآن ينزلون عن حقوقهم لمصريين حتى تتسنى لهم الاستفادة من السرعة التي تسير بها الدعاوى في المحاكم الأهلية، وخصوصًا المحاكم الجزئية التي يقول فيها مسيو هنري لمبا ما تعريبه: «للمحاكم الأهلية الجزئية اختصاص يصل حده في الحقوق المدنية إلى ألفين وخمسمائة فرنك؛ أي مائة جنيه، وقد يُرى أناس من الأوروبيين، ولا سيما في الريف، ينزلون عن قضاياهم لمصريين بقصد أن تفصل فيها المحاكم الجزئية التي هي أسرع إجراءً، وأقل كلفة من المحاكم المختلطة الابتدائية.»

فالنجاح الذي أدركته المحاكم الأهلية في ذلك الزمن المتقارب بالغ حد العجب، وهذا ما قاله في شأنها اللورد كرومر بعد عشر سنين من تجديد تشكيلها، أو من إنشائها، وذلك في تقريره عن سنة ١٨٩٣: «المحاكم الأهلية الآن حاصلة على تجلَّة وثقة عامتين، أكسبها إياهما اختيار القضاة من الذين تلقوا علم الحقوق، ومنحهم مرتبات مناسبة، والاهتمام الدائم باستقلالهم، وهو ما أصلح شأن تلك المحاكم إصلاحًا بيِّنًا يرجع فيه الفضل الأعظم لمعاونة الوطنيين.

إذن يصح الآن القول بأن القضاء يدور على محاور ثابتة، وأن الأحكام إلا ما ندر منها عادلة، وأنه لا توجد قضايا متأخرة، وأن المحاكم كافة قائمة خير قيام بمهمتها.»

ذكر هذه الفقرة مسيو ﻫ. لمبا في كتابه المذكور سابقًا، ثم عقب عليه بقوله: «من تفكر في الصعوبة التي كانت تحول دون إيجاد قانون جديد برمته، وفي الوقت الذي وجب صرفه، والصبر الذي تحتم الادِّراع به لترقية عناصر هي لا شك صالحة بذاتها، ولكن لم يكن من الميسور تنظيمها، يتبين امتداد السبيل التي سلكها في بضع سنين ذلك القضاء الذي خلق ارتجالًا. وهذا التقدم سيطَّرد عامًا بعد عام بنسبة ما تتوطد أركان القضاء، ويزداد اختبار رجاله، أفلا يجوز أن يرى في هذا التقدم فجر الدورة الرابعة والأخيرة للانقلاب القضائي في مصر: فجر تعميم القضاء الوطني؟»

كتب مسيو لمبا هذه السطور في سنة ١٨٩٦، ويقينًا أنه لو وقف اليوم على حالة محاكمنا الأهلية لوجد تقدمها أبعد مدًى، وهي في الساعة الراهنة على ما نعتقد تستطيع أن تضطلع — دون إرهاق — بالفصل في دعاوى سكان القطر قاطبة. هنا أمل سيتحقق عما قريب، وما من شيء بعد الساعة يدعو إلى الارتياب في القضاء الأهلي، وإلى الاستمرار في قسمة المحاكم إلى أهلية وأجنبية.

اقرأ في كتاب مسيو لمبا هذه الجملة المبشرة، وهي قوله: «فإذا تقدمت مصر القرن العشرين معتزة بتشريعها المبوب المرتب، وبقضاتها العالمين بالقانون، وبتقاليدها القضائية، وطلبت حق الانفراد في دارها بالفصل في قضايا الجميع، فبماذا عسى أن تجاب؟»

وفيما عدا هذه الضمانات الشخصية نجد الحكومة جادة بلا انقطاع في سبيل المصلحة العامة، تعمل أعمالًا جسامًا للري ولسائر أنواع المنافع العامة كل يوم، كما أنها تبذل مجهودات عظيمة لتحسين المدن وتطهيرها، والمحافظة على الجمهور، بحيث إن الأوبئة التي كانت قديمًا تحصد الأعمار حصدًا قد أصبحت اليوم غير مخشية الجانب بسبب الوسائل الفعالة المتخذة لمحاربتها والوقاية منها.

ولتبيين وجوه التقدم الذي تم لمصر في العشرين السنة الأخيرة في مناحيه المتعددة، نستأذن في نقل أرقام متخذة من الإحصاء، وهي أفصح بيانًا من كل بيان.

أما الأرقام التي سنوردها فمصدرها نشرة عنوانها «إيرادات محصاة» محررة بقلم مستر ج. غورست، مستشار المالية «الذي أصبح بعد ذلك السير ألدن غورست».

السكان

في مدة العشرين السنة المنقضية ازداد المتوسط في عدد السكان ٣٪؛ إذ كان هذا العدد حين إحصاء سنة ١٨٨٢ بالغًا ٦٨١٢٩١٩ نفسًا،١ فوصل في سنة ١٨٩٧ إلى ٩٧٣٤٤٠٥ أنفس، ويقدر لسنة ١٩٠٠ بنحو ١٠٢٠٨٠٥٩.

ولنلاحظ أن القاطنين الأجانب غير داخلين في حساب هذا المتوسط من الازدياد؛ فإن عدد القاطنين الأجانب بين إحصاء ١٨٨٢ وإحصاء ١٨٩٧ صعد من ٩٠٨٠٦ أنفس إلى ١١٢٥٧٤ نفسًا فقط.

وهذا الازدياد بمتوسط ٣٪ لم يكن له مماثل في التاريخ الحديث، اللهم إلا في الولايات المتحدة؛ حيث تجارت كثرة عدد المواليد وكثرة عدد المهاجرين إلى تلك البلاد فكان من مجموعها ٣٪ أو نحوها.

المساحة المزروعة

ارتفعت المساحة المزروعة بين سنة ١٨٨٠ وسنة ١٨٩٩ من ٤٧١٥٨٩٣ فدانًا إلى ٥٤٩٥٨٠٠ فدان؛ أي بزيادة ٧٧٩٩٦١، والمساحة المزروعة تمتد كل يوم بما يحتفر من ترع الري التي تستصلح بها الأرض، وبدونها تظل بورًا.

صناعة النقل

في المدة عينها كانت الخطوط الحديدية التي تستغلها الحكومة ٩٩٤ ميلًا، فصارت ١٢١٦ ميلًا، وكان عدد المسافرين عليها ٣٠٨٦٤٧٨ نفسًا، فأصبح ١١٢٨٤٢٨٤ راكبًا.

كذلك صعدت البضائع المنقولة من ١١٤٣٢١٢ طنًّا إلى ٣٠٥٥٨٣٧ طنًّا، فتضاعف المقدار ثلاث مرار، وفي عام ١٨٨٢ كانت الأسلاك البرقية ٥٤٢٩ ميلًا، فبلغت في عام ١٨٩٩–٩٣٢٤ ميلًا، وكان عدد الإشارات المرسلة ٦٥٩١٢٦ فارتقى إلى ٢٩٩٤٣٣٢ إشارة.

وختامًا وصل رقم المراسلات البريدية سنة ١٨٩٩ إلى ١٥٥٧٩٠٠٠ بعد أن كان ٣٨١٠٠٠٠ سنة ١٨٨٢.

الإيرادات العامة

أعان حسن الإدارة على رقي القطر من الوجهة المادية إعانة كبيرة، فألغيت طائفة من الضرائب، وخفضت طائفة أخرى، ومع ذلك فقد اطرد الازدياد في موارد البلاد (راجع مذكرة المستشار المالي سنة ١٩٠٠).

الضريبة العينية التي كانت في سنة ١٨٨٠ بالغة ١٠٥ قروش أنزلت في المتوسط إلى ٨٣ قرشًا.

والسخرة التي كانت إتاوة لا بد منها ألغيت، وإتاوات أخرى خُفِّضت، كالإتاوة على رأس الساكن، وقد كانت ١٠٦ قروش سنويًّا عام ١٨٨٠، ثم هبط متوسطها إلى ٨٣ قرشًا.

وعلى الرغم من ذلك ارتفعت الإيرادات العادية من ٨٩٩٨٨٠٠ ج.م سنة ١٨٨٠ إلى ١١٢٠٠٣٠٠ جنيه عام ١٨٩٩.

وفي هذه المدة ازدادت المصروفات أيضًا، ولكن لا بنسبة الإيرادات. صعدت من ٧٩٦١٤٠٠ ج.م سنة ١٨٨٠ إلى ٩٩٢٩٤٠٠ج.م سنة ١٨٩٩، وفي هذا المبلغ الأخير تدخل التكاليف الإضافية للجيش الذي احتل السودان، ولم يكن لها مقابل في مصروفات سنة ١٨٨٠.

وقد بلغت في عام ١٨٩٩ زيادة الدخل على الخرج ١٠٢٧٠٠٠٠ ج.م على أن الدخل كان مستمر الرجحان على الخرج في أخريات هذه السنين، ومن هذه الزيادة مبلغ ٢٦٥٠٠٠ ج.م، ناجم من ربح تحويل الدين الممتاز، يجب إيداعه في صندوق الاحتياطي الخاص. وهذا الاحتياطي بلغ ٣٥٦٥٥٠٢ ج.م عام ١٨٩٩.

ثم إن الاحتياطي الخاص الذي قضى الإنفاق الدولي به، والذي ترتبط دفعاته السنوية بزيادة الدخل قد بلغ ٣٥٢٩٩٠٠ ج.م سنة ١٨٩٩. وجانب من هذا الاحتياطي قد أقرض الحكومة للقيام بنفقات غير عادية.

الدين المصري

في سنة ١٨٨٠، وجدت في السوق سندات متداولة من الدين المصري تبلغ قيمتها ٩٨٦٠٥٠٠٠ جنيه إسترليني، وأضيف إلى هذا الرقم فيما بعد ١٣٠٠٠٠٠٠ ج.س للنفقات غير العادية، ثم ٢٠٠٠٠٠٠ ج.س مما نتج من تحويل الدين؛ إذ بهذا التحويل نقص سعر الفائدة، وازداد رأس مال الدين. وبالرغم من هذه الزيادات، ففي سنة ١٩٨٨ لم تكن قيمة السندات المتداولة رابية على ٩٥٩٧٦٢٠٠ ج.س؛ أي بأقل ٢٠٧٠٨٧٠٠ ج.س مما كان متداولًا منها سنة ١٨٨٠، وهبطت فائدة تلك السندات من ٤١٣٨١٠٠ في سنة ١٨٨١، والتي بدئ بها النظام الذي حل محل قانون التصفية إلى ٣٥٤٥٩٠٠ ج.س في سنة ١٨٩٩.

وعلى ذلك فقد نزل مبلغ الدين الذي كان يخص الرأس من ١٥ جنيهًا إسترلينيًّا و٣ شلنات و٩ بنسات إلى ٩ جنيهات و١٨ شلنًا (راجع جريدة البورص إجيبسيان، عدد ٥، يناير سنة ١٩١٠).

فالحالة العامة كانت في زمن غير طويل قد تحسنت تحسنًا لم يكن في الحسبان، ولكن هل تحسنت حالة الفلاح الاقتصادية والاجتماعية بهذه النسبة؟

لا نتردد في الإجابة سلبًا وفي القول بأنه إذا كان ما عمل كثيرًا، فليس بالقليل ما يجب عمله لإصلاح شئون طبقة العمال الزراعيين، وجعلها في مستوى الرقي الذي عم البلاد.

وسنبين في الفصول التالية حالة الفلاح كما هي، وننظر في جميع مظاهر نشاطه الاقتصادية، مضطرين إلى ملاحظة أن المجهود الذي يقوم به في كل مكان عظيمٌ، وأن الجزاء الذي يصيبه في كل مكان طفيف.

وهذا التناقض بين العمل والأجر هو من الأسباب الحائلة دون نمو القوى الاقتصادية الخصيبة في هذه الديار.

على أن الإنسانية توجب من جهة أخرى تبيين الحالة السيئة التي يتألم منها الفلاح المصري، وتكليف الشارع مداواة هذه العلة بما في الاستطاعة؛ إذ إن الشارع في أوروبا لما أجاب دعاة المساواة بين العمل والجزاء والمدافعين عن الصناع إلى مطالبهم قد حسَّن حالة هؤلاء الصناع تحسينًا بيِّنًا.

فتوجيه عنايته هنا في هذا الصدد ذو نفع لا يجحد، ومتى دخل في عاداتنا تنظيم العمل ازداد النجاح بحكم الواقع، وتوصل العمال إلى إجبار مستخدميهم على تعلية أجورهم مهما أصروا على الامتناع، وذلك بتضامِّ صفوفهم، وتضامن جماعاتهم تجاههم.

وأول دليل على فائدة التشريع في هذا الباب ما قدمته من المثل إنجلترا، وفيها كان منشأ القوانين الحديثة التي سنت للعمل؛ ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت الصناعة الكبرى بإنجلترا، وقامت على ضفاف الأنهار مصانع القطن والصوف، يشتغل فيها المئات من العمال، وهنالك وقعت استباحات جسيمة إرهاقًا للرجال، واستغلالًا للأطفال، لم يوضع لها حد إلا بالقوانين التي سنت تباعًا لتنظيم شروط العمل، وتحديد ساعاته حماية للنساء والصغار والمراهقين.

فبفضل هذه القوانين نهض الصناع من عثرتهم وتعلموا، وألفوا منهم جماعات قوية بفضلها نجوا من الإرهاق الذي كان يسومهم إياه أرباب المصانع، فيضعفون به قواهم العقلية، ويثبطون عزائمهم دون القيام بأي سعي للخلاص أو التخفيف من شقائهم.

ومهما يكن من الرأي في استصواب التشريع لتنظيم أحوال العمال وأرباب المصانع، أو عدم استصوابه، فمما لا شك فيه أن اعتبارات خاصة كثيرة تقضي لهذا القطر بضرورة ذلك التشريع.

ذلك لأن طبقات الصناع عندنا، سواء أكانوا في المدن أم كانوا في القرى، أجهل من أن يتولوا بأنفسهم الدفاع عن أنفسهم، ثم إن تعوُّدَهم كظم الغيظ والتألم بلا شكوى قرونًا طوالًا قد أخمد فيهم روح الاحتجاج، ذلك الروح الذي يشاهد في طبقات العمال الأوروبيين.

ثم إن الجماعات الحرفية والمحالفات والإضرابات التي يتوسل بها العمال للتظلم غير معروفة في مصر؛ إذ إنها ليست مما يشعر بالحاجة إليه إلا في الأقطار الصناعية.

على أن هذه البلاد لم تخلُ من بضع مظاهرات للعمال ليست بذات بال، نذكر منها محالفة جرت في أواخر سنة ١٨٩٩ بين لفافي السجاير في القاهرة التماسًا لإصلاح بعض شئونهم، وخصوصًا لزيادة أُجورهم، فأصر أصحاب المعامل على رفض طلباتهم؛ ولهذا استمر الإضراب مدة غير قصيرة، وفي خلال هذه المدة اتخذت الشرطة الوسائل لمنع تجمهر المضربين، ولحماية الذين يريدون أن يعملوا.

ولما كان السواد الأعظم من المضربين أجانب طلبت مساعدة قناصلهم للتفادي من مصاعب قد يجيء بها المستقبل، فما لبث أن استؤنف الشغل، ولم يحلُ الصناع بطائل؛ إذ إن الشعب لم يؤازرهم، وكذلك الصحافة، بعقيدة أنه لا يرثى لأناس شغلهم غير مجهد، وأجرهم وفير يحسدهم عليه أولئك الذين عملهم أشق، وجزاؤهم أدنى، ولما لم يكن المضربون قد أعدوا مالًا وافيًا لإطالة مدة إضرابهم قضت عليهم الضرورة بالتسليم.

بيد أن الذي يجدر بالذكر في أمر هذا الإضراب أنه كان أول إضراب جدي وقع في مصر، ويلاحظ أن الذين قاموا به أجانب، وأن الوطنيين لم يبدوا رغبة في مثل هذا التكافل، فلا بد لهؤلاء، وبخاصة لعمال الزراعة، من حماية القانون.

كذلك يجدر بالحكومة والقانون أن يحميا الملكية الصغيرة المهددة في هذه البلاد أكثر مما هي مهددة في أية بلاد أخرى، ووجوه هذه الحماية: أن يُحظر الربا، وأن ينشأ الاعتماد الزراعي، وأن تخفض الضرائب العقارية الثقيلة، وقد أقول الباهظة تفاديًا بكل ذلك من زوال الملكية الصغيرة ومن الضرر الجسيم الذي يلحقه زوالها بالإقبال الاقتصادي والأمن الاجتماعي.

إصلاحات لا مندوحة عنها للحكومة، كما لا محيص لها من توسيع نطاق التعليم، ونشر أنواع المعارف للتوصل بها إلى إنقاذ الريف من بقايا الجمود والفساد في فلاحه.

سنلتفت الآن إذن إلى حالة هذا الفلاح حيثما نجده، وسنبين ما تقدر السلطة على توليه من الإصلاح لشأنه، وما يستطيع هو نفسه أن يفعله في هذا السبيل تحت تأثير الإرشاد الذي يجب أن يأتي أيضًا من جانب السلطة.

ونحن نعلم أن أمر تدخل السلطة مُعضل، معقد، خطير؛ معقد بسبب الجزئيات التي يضطر المشرع أن ينحشر فيها، وخطير بسبب ما يثيره من البحث في مشروعية التدخل الحكومي وحدوده إلخ إلخ.

وقد صرحنا فيما سبق بأننا نعتقد الاشتراكية الحكومية أمرًا ضارًّا معرقلًا للتقدم الاقتصادي، فلسنا على رأي ديبون هوايت٢ القائل: «إن الأشخاص بجنوحهم الفطري إلى الرفاهة لا يضمون بين جوانحهم مبدأ الرقي.» ولا على رأي غمبتا٣ القائل، من خطبة له في بلفيل سنة ١٨٧٨: «إن الحكومة يجب أن تكون مبدئة جميع المجهودات التي تتألف منها العبقرية الأهلية.»

غير أنه إذا كانت مهمة الحكومة ليست «غير محدودة إلى آخر المدى الفكري»، كما يزعم لورنزفون ستين، فمما لا ريب فيه أنها تشتمل على حماية الضعفاء، وعلى الذود عن المصالح الدائمة التي هي أمينة عليها من آفات عدم التبصر بسبب المصالح المعجلة، وعلى المؤازرة الرشيدة من الحكومة في جميع الأعمال التي تتألف منها الحضارة التقدمية.

لهذا كان متحتمًا تدخل الحكومة لحماية الفلاح، ذلك المخلوق الضعيف المستنزف القُوى على الدوام، ولتخفيف أعبائه، ولتسييره في طريق يفضي منها إلى مستقبل أحسن مما كان عليه ماضيه.

وما من أحد يماري في مشروعية هذا التدخل إذا لزم حد الاعتدال؛ فإنه إذا كان تكليف الحكومة كل شيء خطلًا، فخطل أكبر أن يحظر عليها التدخل كلما دعاها إليه داعٍ أصلي من دواعي النجاح.

١  يختلف هذا الرقم في مذكرة مستر غورست بعض الاختلاف عما ذكره بوانيه بك، فقد قدر سكان القطر بعدد ٦٨٠٦٧١٠ أنفس عام ١٨٨٢.
٢  Dupont White.
٣  Gambetta—Discours a Belleville en 1878.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤