الفصل الخامس

الفلاح والأشغال العامة

السخرة

قبل البحث في الطريقة المتبعة اليوم لإجراء الأعمال العامة قد يكون من المفيد أن نلقي نظرة على السخرة التي كانت تنجز بها تلك الأعمال، وأن نذكر الوسائل التي اتبعت لإبقائها.

كانت السخرة متخذة لإجراء الأعمال العامة، والأعمال التي تخص الأفراد أيضًا، فهي في نوعها الثاني من بواقي «حقوق السادة في العهد الإقطاعي»، وقد بقيت معمولًا بها في أوروبا إلى انتهاء ما يسمونه «بالقرون الوسطى». كانت سخرة السيادة في الأصل فوزًا للحرية على مبادئ الاستعباد العهيدة، وتخفيفًا لوطأتها.

وكان الملك يبيع لبلاد مملكته حقوقها المدنية، وكان السادات يبيعون «لأحلاس الأرض» صكوك الإعتاق، وبالنظر إلى تواتر تزييف السكة في ذلك العهد كان السادة يشترطون الدفع في أيام معينة من العمل بدلًا من تقاضي ثمن الإعتاق نقدًا. وهذا ما كانوا يسمونه «بالسخرة الشخصية»، وإلى جنب هذه كانت السخرة العينية المطلوبة على العقار المبيع بهذا الشرط، وكانت تلزم كلَّ مَن انتقل إليه ذلك العقار.

هاتان السخرتان لم يفرق بينهما في آن من الوجهة العملية؛ لأنهما كانتا تؤديان في عدد معلوم من أيام العمل التي كان للسيد أن يطلبها مجانًا في الوقت الذي يريده، ولأي نوع من العمل يختاره، فالمسخر وهو خاضع لأهوائه يعمل أحقر الأعمال وأدناها، ولا يستنكف من قضاء ليله يقرع ماءَ المستنقعات بالعصا لإسكات الضفادع التي تقلق منام سيده.

وقد مر بك في الجزء الأول من هذا الكتاب أن سخرة السيادة ما عتمت أن نظمت ووضعت لها ضوابط وحدود، إما بالاتفاق، أو بالتقاليد، أو بالأوامر الملكية، وفي عهد لويس الرابع عشر تقرر أن لا تزيد أيام السخرة على اثني عشر يومًا في السنة.

وقد بقيت السخرة واقفة عند هذا الحد إلى أن قامت الثورة الفرنساوية الكبرى فألغتها في ٣٠ فريكتيدور من العام الأول للثورة، فهدم بهذا الإلغاء آخر حجر من بناء النظام الإقطاعي.

وقد أبنَّا لما تكلمنا عن الفلاح في عهد المماليك أن سخرة السيادة كانت موجودة في مصر بأبشع أشكالها، ومن غير أن تخفف وطأتها أدنى شيء كما خففت في سائر البلدان، فكان الملتزمون يستخدمون العمال مجانًا بالقدر الذي يريدونه، وفي العمل الذي يؤثرونه، فلما انقضى زمن المماليك وانقضى معه نظام استغلال الأرض على النحو الذي وضعوه زالت أيضًا السخرة السيادية، ولكن بقيت ملطفة في الغاية ولا تربو اليوم على بعض خدم شخصية غير مأجورة يقدر المالك أن يتقاضاها من رجال ضيعته.

أما الأعمال التي تُعمل في غيطه الخاص، والتي كان الفلاح ملزمًا بها مجانًا أيام المماليك فهي تؤجر الآن بإحدى الطرائق التي بيناها في الفصل السابق، وبنقصانها إلى هذه النسبة الضئيلة قد يصح القول: إن سخرة السيادة أبطلت في مصر.

أما السخرة لأعمال المنفعة العامة فقد كانت مصر منشأها، وما الأهرام والتيه وبحيرة مريوط إلا شواهد على هول ما عاناه الناس منها، وليس من المغالاة القول: إن السخرة وجدت في كل زمن، وبديهي أن يكون قد خطر ببال كل حكومة قديمة استخدام الأهلين بدون أجر في كل عمل تعود فائدته على المجموع، ولم يكن في تلك ما يعرفه زماننا من النظُم المتقنة التي لوزارة الأشغال الآن.

ثم إن الشعب كان آلة مطواعة بكماء في يد الحاكم المطلق، فكان يضحي حريته وحقوقه الشخصية للمنفعة العامة التي كانت أبرز المصالح.

ومما يلاحظ أن الرجل في القدم كان لا يعرف له حقًّا شخصيًّا؛ ولهذا ما كان ليفكر في تشريع للشخصية حتى في الأحوال التي قامت فيها الحكومات الديمقراطية أيام الجمهوريات اليونانية والرومانية.

ولا بدع؛ فإن هذه حالة لازمة لمجتمع كان نظامه مبنيًّا على أساس حربي مستديم يشبه أن يكون حالته الطبيعية، ففي مثل هذا المجتمع تتلاشى الشخصية والحرية الفردية من أجل حياة المجموع؛ لأن هذه الحياة إذا زالت زال معها كل حق للأفراد، ووقعوا هم أنفسهم في الاسترقاق؛ لهذا كانت مصلحتهم ذاتها في التفاني في سبيل المنفعة العامة.

فعدم الشعور بالحق الشخصي عند الأولين، وخضوع الإنسان للمصلحة العامة، وتفاني ذاتيته في ذاتية المدنية، كل هذه كانت عوامل جعلت في حكم الضرورة تسخير الأفراد لارتفاق الجمهور، بحيث لم يقتصر التسخير في أوسع مجال على عصر الفراعنة، بل وجد في روما وفي المجتمعات القديمة كافة، بيد أنه لم تكن الفردية تظهر في المدنية حتى بدأت الأرستقراطية تضعف وتزول، وحتى تسنى بحسن تصريف الضرائب والجباية استخدام فعلة مأجورين في الأشغال العمومية؛ وبذلك قلت تكاليف السخرة حتى تخلص منها الشعب تدريجًا.

ففي فرنسا مثلًا حلت سخرة المنافع العامة منذ القرار القنصلي الصادر في ٤ ترميدور سنة ١٠ محل الجُعل العملي الذي أعيد تنظيمه في ٢١ مايو سنة ١٨٣٦، وبرغم الشكاوى التي أثارها هذا القانون بقي الجُعل العملي مع حفظ الحق لمن يطلب منه في أداء بدل نقدي، ولم يستفظعه الشعب الافرنسي أكثر من استفظاعه للإتاوات التي كان يؤديها مالًا.

ولا بأس في هذا المقام من ذكر الوجهة التي كان المركيز دي ميرابو، والد الخطيب الشهير بهذا الاسم، ينظر بها إلى سخرة الأشغال العامة المعروفة اليوم باسم الجعل العملي، مع أنه كان أحد كبار المنتفعين بها؛ إذ لم تكن السخرة السيادية قد ألغيت إلى وقته، فقد كتب في جريدة «صديق الشعب»: «إن إدارة الضرائب هي أظلم الإدارات كلها، وإن السخرة هي أقسى ضروب الاستعباد؛ تفقر الزراع لتنشئ طرقًا رديئة لا تلبث المناجذ أن تتلفها في عام.»

أما في مصر فالتحول كان على هذا النحو، ظلت السخرة إلى هذه الأيام الأخيرة تثقل كاهل الشعب، حتى قيل عنها بحق: إنها بمنزلة الخدمة العسكرية الإجبارية في هذا البلد؛ لأن الأعمال العامة عندنا لها شأن عظيم، وقوامها تشييد الحواجز المنيعة يصد بها طغيان النيل لما في البلاد من تعدد الجسور، وحراسة تلك الجسور حين ينذر النهر بالخروج عن حدوده، وتطهير الترع التي يكون الطمي قد ملأها.

قبل إنشاء نظام الري الراهن الذي يرجع فضل تأسيسه إلى نبوغ محمد علي، كان الري بطريق الحياض، ولم تكن أعمال النيل شاقة؛ لأنها كانت مقصورة على تقوية الجسور، وتطهير بعض الترع الموجودة، وكان العمال الزراعيون في الأوقات التي يجب إجراء تلك الأعمال فيها خالين من أعمال الغيط؛ إذ الزراعة الصيفية التي تستنفد يوم الفلاح لم تكن منتشرة.

وفي أيام الفيضان التي تمتلئ فيها جميع الأحواض بالماء كانت الحدود الفاصلة بين الغيطان تتوارى غرقًا، فينجم عنها اختلاط في الأملاك يدعو إلى اتحاد مصالح الملاك في تقوية الجسور، وإنشاء مصارف للمياه ينتفع بها الجميع.

فالفلاحون كانوا يجنون منفعة مباشرة من تلك الأعمال العامة التي يقومون بها دون أن يفارقوا قريتهم؛ لذلك لم تكن سخرة المرافق العامة ثقيلة عليه.

ولكن لما عبأ محمد علي جماهير الناس لاحتفار الترع، وإقامة الجسور، وبناء القناطر، أصبحت السخرة كلفة لا تطاق؛ إذ من جهة كانت الأعمال طويلة شاقة، ومن جهة أخرى لم يستفد القائمون بها الفائدة المباشرة التي كانوا يستفيدونها من قبل، بل إن منهم من كان لا يظفر منها بشيء ما، وهؤلاء هم الذين كانوا يؤخذون من قراهم ليعملوا في جهات نائية عنها يزداد استياؤهم بتحمل هذه الهجرة، والذهاب أحيانًا إلى الفيافي المقفرة لا يتزودون فيها إلا العوز وسوء الحال.

وكثيرًا ما كان العامل يصحب عيلته في هجرته غير واجدين جميعًا من المسكن والقوت ما يقوم بأودهم، وأحيانًا كانت غيبتهم طويلة الأمد، فيضيعون مثلًا في أعمال التطهير ستين يومًا عدا أيام السفر (راجع مذكرات لينان دي بلفون). فلو حسبنا الأجر اليومي للفلاح قرشين فقط لبلغت خسارته مائة وعشرين قرشًا، وفي هذه الأثناء لا يستطيع أن يخدم حقله وماشيته، وهذه الخسارة الثانية بإضافتها إلى الأولى تلحق به ضررًا جسيمًا.

كل سنة كان الشعب بأسره يسخر لاحتفار الترع، وإقامة الجسور، فإذا كان عدد الرجال العاملين ٤٠٠٠٠٠ وجب عدهم ٨٠٠٠٠٠، بإضافة الأولاد والنساء الذين يصحبونهم، وكان هذا العدد الجسيم مقضيًّا عليه بالعيش تحت لهيب الشمس بلا مأوى، وبأقل من الكفاف.

وفي الأيام الأولى كانت الحكومة لا تقدم لأولئك العمال إلا الفئوس والمقاطف، فلما شرعت بعد ذلك بزمن مديد في احتفار الترع الكبيرة بدأت تقدم لهم جراية من البقسماط أو الخبز (راجع مذكرات لينان دي بلفون).

هذا هو العمل، وهذه كيفيته، فهل يكون في الحقيقة منتجًا؟ كلا.

كتب مسيو جيمان الذي رأى الفلاحين يشتغلون بالسخرة: «تجد ٤٠٠٠ أو ٥٠٠٠ من الأهالي يحفرون ترعة وما بأيديهم شيء من الأدوات، مصفوفين صفوفًا متعددة على امتداد الأرض التي يجب حفرها؛ فالذين في الأسفل وسوقهم مغموسة في الطين إلى الركب يتناول الواحد منهم بكفه كتلة كبيرة من الوحل الأسود المبتل، ثم يناولها إلى جاره وقد سقط جزء منها، وهذا يتسلمها وقد سقط منها جزء آخر، ثم يذهب لتسليمها إلى من بعده، ولكن الذي بعده كثيرًا ما يكون ملتفتًا إلى جانب آخر يحادث غيره، ولما كانت العجلة من الشيطان، فالحامل الأخير للكتلة ينتظر بتأنٍّ ختام الحديث، وربما اشترك فيه حينًا في خلاله يتناثر شيء من الكتلة التي بين يديه، وبعد ذلك يدفعها إلى الذي يليه مشغولًا بالضحك أو الكلام أيضًا.

والكتلة في سياحتها بين الأكف تتناقص بحيث إنه متى تم انتقالها بالتناول المتوالي بين خمسة عشر رجلًا يسمون بالعمال، ووصلت إلى نهاية شوطها، يكون حجمها لا يجاوز حجم البرتقالة، وآخر من تصل إليه إذا رآها وهي صغيرة هذا الصغر ازدراها ولم يجدها جديرة بالوضع على الجسر فألقاها في الترعة.»

ليست السخرة إلا وسيلة قليلة الجدوى، لم تثمر قط عملًا مفيدًا، ولم تنتج سوى ضياع الوقت، وهي فوق ذلك تثير كوامن النفوس، وتغضب العدالة والإنسانية فيمن ينظر إلى كيفية جمع العمال لها.

كانت الحكومة الرئيسية تعين العدد الواجب على كل إقليم تقديمه، وكان مدير الإقليم يوزع هذا العدد على القرى، فكان في النهاية شيخ البلد هو الذي يجمع عمال السخرة تبعًا لهواه، ورائده طبعًا في الاختيار قضاء مأرب، أو شفاء غلة، فيعفى الذين يرشونه، أما أرق الناس حالًا فقد كانوا مقضيًّا عليهم بالعمل لغيرهم دوامًا بدون أجر، وبدون أن تعود عليهم عائدة مما يعملون.

فالسخرة إذن خليقة بالإلغاء؛ أولًا: لأنها غير منتجة، وثانيًا: لأنها لا تعم فائدتها جميع المسخرين؛ إذ جرت العادة أن الذين لا يملكون شيئًا من حطام الدنيا يعملون لخدمة أصحاب الثراء، وفي هذا مبعث للظلم وعدم المساواة.

على أنه لا ينبغي أن يؤاخذ محمد علي على التجائه إلى السخرة لإنفاذ تلك الأعمال التي ضمنت لمصر رفاهتها، فإن الضرورة العاجلة التي أوجبت إنجازها، والافتقار إلى المال قد اضطراه إلى إبقائها مع اعتبار أن البلاد كانت معتادة عليها منذ قرون، وأن نظارة الأشغال العمومية التي أنشئت في سنة ١٨٣٦ لم تمنح أي اعتماد لدفع أجور العمال، بل كل ما نيط بها هو إدارة القسم الفني من الأعمال.

وهون السخرة على معاصري محمد علي اعتبارهم إياه بمكانة سيد إقطاعي يدير مستغلًّا واسعًا، ويستخدم فيه شعبه كما كان السادة الإقطاعيون يستخدمون أحلاس الأرض والسوقة.

ومن هنا تدرجوا إلى فكرة الاشتراكية الحكومية التي صدرت عنها جميع الأعمال التي تمت في عهد ذلك الوالي العظيم. ذكر ذلك لينان باشا بصراحة حيث قال: «إن مصر بطبيعة تربتها وبطبيعة زراعتها الخاصة التي تأتي من تقلبات النيل في مواقيت معلومة، وفيضانه الذي يجيء كل عام في حينه، أو من الري في أوقات الشح لا تتشبه بوجه من الوجوه بالبلدان الأخرى، فكأنها مزرعة شاسعة مستأجرها هو نائب السلطان يديرها ويستثمرها على شرائط معينة لسعادة الجميع. والجميع في تلك المزرعة الشاسعة يعملون لاستخراج أوفى ما يكون من الريع، أو كأنها بيئة اشتراكية يبذل فيها كل فرد مجهوداته لمصلحة المجموع، ويستفيد كل فرد من نتائج تلك المجهودات.» «مذكرات لينان».

وقد بقيت السخرة بكل مظالمها في عهد سعيد باشا دون أن يدخل عليها أي تلطيف قانوني، ولما منح مسيو ديلسبس امتياز حفر برزخ السويس تعهد ذلك الأمير بأن يقدم له العمال، وبينت اتفاقية ٢٠ يوليو سنة ١٨٥٦ نظام العمل، وأجور العمال الذين تستخدمهم الشركة.

على أن عمل الفلاحين في احتفار البرزخ يختلف اختلافًا بينًا عن السخرة العادية، ولا يستبقى من مقوماتها سوى إكراه العمال على الحضور للعمل. وهذا الإكراه كان ضروريًّا؛ لأن الفلاح لا يحب بطبيعته أن يفارق بيته خصوصًا لينزح إلى الصحراء، ولكنه إذا كان من جهة قد أُكره على العمل، فإنه من جهة ثانية كان يُعطى جعالة عينتها الحكومة بالاتفاق مع الشركة، وكانت الشركة ملزمة أيضًا بتقديم الغذاء له، ففي البند الثاني من الاتفاقية البادي ذكرها نص على أن أجر العمال يعين باعتبار متوسط ما يدفعه الأفراد؛ أي بين قرشين ونصف وثلاثة قروش في اليوم، علاوة على الجراية التي تتعهد الشركة بتقديمها عينًا، وقيمتها قرش واحد.

أما العمال الذين تحت سن الثانية عشرة فيأخذون قرشًا واحدًا وجراية كاملة، والجراية تصرف للجميع كل يوم أو كل يومين مقدمًا، وحين يعلم بالتحقيق أن العمال الذين يطلبون صرف جرايتهم نقدًا قادرون على القيام بأود أنفسهم، يصرف لهم البدل، والجعالة النقدية تدفع أسبوعيًّا، على أن الشركة لا تدفع في الشهر الأول إلا نصف تلك الجُعالة لتحفظ بين يديها احتياطيًّا يعادل نصف الشهر، وعلى الشركة أيضًا استحضار الماء العذب للشرب.

وقد تعهدت الشركة أيضًا بأن توجد لهم مساكن لائقة، خيامًا أو سرادقات أو بيوتًا، وتقيم مستشفيات ثابتة ونقالة، وأن تعالج المرضى بنفقتها، وتنقدهم قرشًا ونصف قرش يوميًّا طول مدة مرضهم، وأن تتكفل بمصاريف سفرهم من بلدهم إلى محل العمل.

ولا يجوز للشركة إبقاء الفلاحين في أعمالهم أكثر من عشرين يومًا إلى ثلاثين يومًا، فإذا انقضت هذه المدة قبضوا مالهم وعادوا إلى دورهم ريثما يستطيعون الاعتناء بحقولهم فلا يلحق بها أذى من غيابهم لقصره. وكان للحكومة المصرية مندوب لمراقبة إنفاذ تعهدات الشركة بالدقة، وعليه أن يعنى كل العناية بنظافة العمال ومساكنهم، وأن يحفظ النظام بينهم.

يرى من كل ذلك أن العمل كان بأجر لا كعمل الأرقاء، وأن هناك بونًا شاسعًا بينه وبين السخرة التي كانت توجبها الحكومة على الأهلين (راجع كتاب مسيو ميررج السابق ذكره).

وذكر مسيو جيمان أنه عندما شرعت الشركة في أعمالها كانت تستخدم اثني عشر ألف عامل، وكان عشرون ألفًا يشتغلون في احتفار الجسر، وكانت أفواج العمال المرسلين بواسطة الحكومة تتعاقب بانتظام تام.

إلا أنه أريد وضع العراقيل في سبيل الشركة التي كان نفوذها آخذًا في الازدياد، فأرسل وزير خارجية تركيا، وكان اسمه عليًّا، مذكرة بتاريخ ٦ أبريل سنة ١٨٦٤ إلى ممثلي الباب العالي في باريس ولندرة جاء فيها ما نصه:
  • (أ)

    بالرغم من إبطال السخرة في بلاد الدولة العثمانية، وبالرغم من أن إسماعيل باشا نفسه قد أصدر أمرًا عاليًا بإلغائها في مصر؛ فإن أعمال القناة التحضيرية لا تجري إلا بطريقة تسخير العمال.

  • (ب)

    إن الباب العالي يشترط لموافقته على إنشاء القناة: (١) أن تلغى السخرة، وأن ينقص عدد العمال المصريين الذين تقدمهم الحكومة للشركة من عشرين ألفًا إلى ستة آلاف عامل. (٢) أن تكون القناة خاضعة لنظام الحيدة. (٣) أن تتنازل الشركة عن الشروط الخاصة بترعة الماء العذب والأراضي المجاورة لها.

وقد احتجت الشركة على هذه الشروط في عريضة رفعتها في ٢٩ أكتوبر سنة ١٨٦٣ إلى نابليون الثالث، وفي ١١ فبراير سنة ١٨٦٤ أقيمت مأدبة احتجاج برئاسة البرنس نابليون جمعت ألفًا وخمسمائة مدعو، فشجر من ثم خلاف عنيف بين الشركة والحكومة المصرية، ووقفت الأعمال زمنًا، واضطرت الشركة أخيرًا إلى الاستغناء عن العمال المصريين الذين كان يتناقص عددهم تدريجيًّا، والاستعاضة عنهم بالآلات وبعمال استحضرتهم من أوروبا، وخصوصًا من اليونان.

ثم تم الاتفاق على رفع الخلاف الخاص بمسألة العمال وسائر المسائل إلى نابليون الثالث كحكم، فأصدر قراره في ٦ يوليو سنة ١٨٦٤: أما في مسألة العمال فقد قضى على الحكومة الخديوية بتعويض تدفعه للشركة لقاء امتناعها عن تقديم العمال المصريين؛ وذلك لأن الحكومة بقبولها تقديم العمال كانت قد قطعت على نفسها عهدًا إلزاميًّا تقابله من جانب الشركة عهود أخرى، وهذا يستنتج ضمنًا من الفرمان الذي تقرر فيه للمرة الثانية الامتياز الممنوح للشركة؛ إذ قد جاء في البند الثاني منه: أن الشركة مع ما لها من الحرية في إجراء الأعمال بنفسها أو بواسطة المقاولين ملزمة بأخذ أربعة أخماس عمالها على الأقل من المصريين.

فالمفهوم من هذا الشرط الإلزامي أن الحكومة المصرية قد رتبت على نفسها تقديم العدد الكافي من العمال المصريين لاستيفاء النسبة التي أجبرت الشركة على قبولها، ولولا ذلك لما كانت لتقبلها، على أن هذا التعهد الضمني الذي أوجبته الحكومة المصرية على نفسها قد ذكر صراحةً في البند الأول من لائحة ٢٠ يوليو سنة ١٨٥٦، وقد جاء فيه: «تقدم الحكومة المصرية العمال لأعمال القنال بناءً على طلب رؤساء المهندسين، وبحسب مقتضيات العمل»، فإذا قورن هذا البند بنصوص الفرمانين اللذين منحا الشركة امتيازها ظهر جليًّا أنه شرط إلزامي للحكومة، وأن هذه اللائحة برغم عنوانها قوامها بلا نزاع قوام المعاقدة؛ أولًا: لأنهُ ذكر فيها أنها وضعت بالاتفاق مع الشركة، وثانيًا: لأنها تحمل الشركة التزامات وتكاليف جمة لا يمكن أن تنتج إلا من اتفاق متبادل. وظاهر من كل ما تقدم أن قرار التحكيم في هذه النقطة وطيد الحجة لا يتناوله النقد الذي وجه إليه.

أما التعويض فعلى جسامة مقداره، وهو ٣٨ مليون فرنك نظير استبدال العمال المصريين بآلات وعمال أوروبيين، فلم يخفف بالكلية الضرر الناتج من عدم معاونة العمال المصريين؛ وذلك لأن المباحث الجديدة، وزيادة النفقات، وضياع الوقت بسبب هذا التغيير قد كلف الشركة مالًا طائلًا، وليس من الميسور في الصحراء استبدال الرجال العاملين بأجرٍ زهيد بآلات وعمال أجانب.

سبق لنا القول بأن الخديوي إسماعيل يوم جلوسه ألغى السخرة في مقابلة ضريبة كان مفهومًا أنها ستفرض وينفق إيرادها على الأعمال العامة، على أن هذا الإلغاء لم ينفذ فعلًا، والضريبة الجديدة التي فرضت جاءت ضغثًا على إبَّالة، وقوبلت بالمقت.

وقد أُحل احتياطي الجيش حينًا محل رجال السخرة، فكانت الحكومة تفرز للجيش عددًا عظيمًا من الفلاحين الذين يتكون الاحتياطي منهم، وبهذا يستخدمون في الأعمال العمومية، غير أن السخرة لم تلبث أن أُعيدت في سنة ١٨٧٩ وشملت جميع الممولين بنسبة ما لهم من الملك، ولكن أدخل عليها تنويع لتخفيف مساءتها، فمنح المسخرون حق تقديم بدل عنهم كما كان جاريًا في فرنسا.

وفي سنة ١٨٨٠ انعقدت جمعية عمومية مؤلفة من ثلاثمائة عين وعمدة وشيخ، ومن المديرين وطائفة من كبار الموظفين، ومن الوزراء في نظارة الأشغال العمومية بقصد تغيير نظام السخرة والاستعاضة عنه بنظام أقل نفقة وأكثر منفعة.

فبعد البحث الدقيق والجدال الطويل، تقرر أنه لا بد من بقاء «العونة»؛ أولًا: لأنه كان يتعذر وقتئذٍ إيجاد مقاولين قادرين على القيام بالأشغال العمومية كلها أو بعضها، وثانيًا: لأن استعمال الآلات والعدد الميكانيكية لم يكن مألوفًا في ذلك العهد، فاستقر رأي الحكومة على النظام الذي وضع بأمر عال في ٢٥ يناير سنة ١٨٨١، والذي بموجبه فرض على جميع الأهلين إلا أقلهم السخرة عينًا، أو استبدالها بمال تحدد مقداره كل مديرية في كل سنة.

وأعقب ذلك سلسلة من الأوامر العالية جاءت مخففة لمشقات السخرة خصص فيها ٢٥٠ ألف جنيه من الميزانية لإلغاء جانب من تلك «العونة» الثقيلة، المنافية للمبادئ الاقتصادية الصحيحة، على أن الحكومة قد عانت ما عانت من المتاعب لإقناع الدول بالموافقة على تخصيص المبلغ الآنف ذكره للغرض المذكور.

وإن في المكاتبات المتبادلة بين الحكومة وصندوق الدين في هذا الصدد ما يُري إلى أي حد تبعية مصر لأوروبا، وما امتداد الزمن الذي يجب أن تنتظر فيه هذه البلاد إنفاذ الإصلاحات المعجلة التي تقتضيها الإنسانية حتى تنتهي تلك المفاوضات السياسية التي لا نهاية لها؛ فقد خاطب نوبار باشا الدول في هذه المسألة يوم ١٣ ديسمبر سنة ١٨٨٠، ولكن لم تحصل الموافقة من الدول الموقعة على معاهدة لندرا إلا في سنة ١٨٨٨، ففي ٢ أبريل من السنة المذكورة استطاعت الحكومة المصرية إصدار الأمر العالي بإلغاء العونة إلغاءً جزئيًّا.

أما في الواقع فلم تنتظر الحكومة المصرية تلك الموافقة، بل ابتدأت من سنة ١٨٨٦ في إنفاق مبلغ المائتين وخمسين ألف جنيه على بعض الأعمال العامة التي كانت سابقًا بطريق السخرة.

وبالرغم من ذلك، فإن العونة لم تنظم بطريقة عادلة كما جاء في تقرير رفعه رئيس مجلس النظار إلى الخديوي سنة ١٨٨٩، بل بقيت على عهدها «حاملة جراثيم الاستبداد، وظاهرة عليها آثار الجور والحيف»، فبينا السواد الأعظم من الشعب ينوء بعبء السخرة الثقيل المخجل، يرى أن ذوي الثراء من أصحاب المزارع الواسعة هم الذين ينتفعون في الحقيقة بتلك الأعمال التي يقوم بها أولئك المساكين البائسون، أو من المبالغ التي يدفعونها بدلًا.

وقد صدر أمر عالٍ في ١٩ ديسمبر ١٨٨٩ بإلغاء السخرة في القطر كله، والاعتياض عنها برسم إضافي على الأطيان لا يزيد على ٤ قروش ونصف القرش للفدان، ثم ألغي هذا الرسم الإضافي أيضًا بأمر عالٍ تاريخه ١٨٩٢، وأخذت الحكومة المصرية من الأموال المتوافرة لديها بإجازة من الدول ١٥٠ ألف جنيه لإبطال رسم الملح، وذلك الرسم الإضافي الذي كان قد حل محل السخرة.

افتتح عهد الخديوي عباس الثاني افتتاحًا ميمونًا بإلغاء السخرة التي كانت تثقل كاهل الشعب المصري منذ الأزل، وكتب المركيز دي ريفوسو إلى وزير خارجية فرنسا في ٣١ يناير سنة ١٨٩٣ يقول: «إن التأثير الذي أحدثه سخاء الخديوي كان أبعد غورًا مما يظن، وقد انتفع كل سكان مصر فلاحين ومدنيين، أوروبيين وأهليين، بهذا الأمر العالي الذي ألغى السخرة.

والآن لم يبق من السخرة سوى حراسة الجسور، والأعمال المعجلة التي قد يقتضيها فيضان النيل إذا أنذر بخطر، وهو تكليف غاية في الاعتدال يوشك أن يزول تمامًا متى تم التقدم في تقوية جسور النيل، ودعمت ضفتي النهر التي يضربها التيار ضربًا مخيفًا. وهذا التكليف نفسه شائع في البلاد الأوروبية المماثلة لهذا القطر؛ أي التي تكون معرضة للفيضانات العالية كهولندا وإيطاليا إلخ.

المقاولات

تعطى الأعمال العامة اليوم لمقاولين، وفي كل عام يجتمع كل مجلس من مجالس المديريات ويعين بالاتفاق مع باشمهندس الري الأعمال التي تحتاج إليها المديرية، ثم يرفع القرار إلى نظارة الأشغال العمومية، وهي تعرض تلك الأعمال للمناقصة.

وطريقة المناقصة هذه تقيض للفلاحين منافع أوضح من أن توضح؛ إذ إنهم لا يسامون العمل مجانًا، ولا يساقون إلى السخرة سوق الأنعام، فالذين ليسوا قائمين بأعمال الغيط يتبعون المقاول، وبهذا لا تعطل شئون الزراعة كما كان يجري في الماضي، فإلغاء السخرة قد أفاد الرقي الزراعي والاقتصادي إفادة جزيلة.

وهنا محل السؤال: هل الفلاح يجني من كدحه في المقاولات الأجر المتناسب مع ما يأتيه؟

الجواب: كلا، مع الأسف؛ فإن الانخفاض العام في الأجور على ما ذكرناه قبلًا يفعل فعله هذا أكثر مما يفعله في كل نوع آخر من الأعمال؛ فإن العمال الذين يجمعهم المقاول هم عادةً من ذوي الفاقة، فيقبلون العمل الشاق بأجر زهيد، وللحصول على اليد العاملة بأرخص الأثمان يلتجئ المقاولون إلى أهل الصعيد، فيحضر هؤلاء البائسون مشيًا على الأقدام، أو في المراكب الشراعية من أقاصي الوجه القبلي إلى الوجه البحري، ولو ركبوا قطارات السكة الحديدية لخصمت أجرتها من جعالتهم.

ولا يتعاطى العامل على كده العنيف طول يومه سوى ثلاثة قروش، وقد يعمل بالمقطوعية فيكون استغلاله أسهل؛ لأن المقاول يتفق معه على مبلغ معين للمتر، وعند القياس يغالط العامل لجهله، ويندر أن يحصل هذا المسكين على أجره كاملًا، على أنه من هذا الأجر المنقوص تخرج أيضًا عمولة لمقدم الأنفار.

وهذه الصناعة التي يقوم بها المقدمون هي من أكبر أسباب الشقاء لطبقاتنا العاملة، وقد كان داؤها منتشرًا في سويسرا، وعلى الأخص في مقاطعة زيورخ؛ فالوسطاء الذين يوجدون العمل للصناع المشتغلين في بيوتهم كانوا يحجزون من أجرتهم جزءًا غير مشروع، ولكن منذ سنة ١٦٥٠ صدرت لائحة نظمت بموجبها صناعة العمال في بيوتهم، وحمتهم من استغلال الوسطاء، وفي سنة ١٧١٧ صدرت لائحة أخرى عممت هذه الحماية حتى شملت المصانع والمعامل.

أما عندنا فما من وسيلة كهذه لحماية العامل من الاستباحات المتعددة التي يعانيها من المقدمين.

لقد شرحنا الطريقة التي تنجز بها الأعمال العامة عندنا، ولم نأت إلا بطرف من التصاريف التي تجعل حال العمال المشتغلين بالمقاولات غاية في التعاسة، فهل للحكومة حين تعطي المقاولة أن تشترط شروطًا تحمي بها بعض الشيء مصالح أولئك العمال المساكين؟

فإذا قيل لنا: إنه لا يجدر بالحكومة التدخل في حرية المعاقدات.

أجبنا كما يجيب دوامًا حماة العامل بحق: إن الحرية وهم من الأوهام حين تعض الفاقة العامل بأنيابها، فهو تحت هذا التأثير عادم الطلاقة لا يستطيع مناقشته الشروط التي يسامها لأجل كسرة الخبز. الرجل الجائع ليس بحر.

على أنه من أقدس واجبات الحكومة التي لا يجوز لها الهرب منها أن تمنع الاستباحات والسرقات الواقعة على الجهلة والمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤