الفصل الأول
جوهر الذكاء
في أغلب الصباحات، تتجمع الطيور المحلية في جدولٍ صغير
يصبُّ في بركة تجميع مياه الأمطار في الحي. تحت أنبوب
الصرف الذي يخرج منه ماء الجدول، متقاطرًا لا مُتدفقًا،
وتحت أعشاب الثعبان وكروم الحِرابية المُلتفة، تأتي
الطيور للاستحمام؛ عصافير الدوري والعصافير المُغردة
والزرازير، والطيور المحاكية الصاخبة، وطيور الموَّاء
والكاردينال وأبي الحناء الخجولة، وأحيانًا تجد طائر
زرياب أزرقَ يلمع ريشُه القزحي.
تجلس تلك الطيور في المياه الضحلة، وتطرح الماء عن
أجنحتها، على فراشٍ من الحصى يتلألأ عندما تكون الشمس
ساطعة. في بعض الأحيان تستحمُّ فرادى، ولكن أغلب الوقت
تفعل ذلك في أزواجٍ أو جماعات صغيرة. صارت مشاهدتها
أثناء احتساء القهوة والتخطيط ليومي أحد طقوسي الصباحية،
وبعد مرور عدة أشهر على رؤيتي لها لأول مرة، اعتبرتُ أن
رؤيتها لي باتت أحد طقوسها الصباحية أيضًا. صارت بالنسبة
لي مثل سكَّان الحي الذين يرتادون مقهًى أو صالة الألعاب
الرياضية. كانوا «جيراني».
كان هذا هو الدرس الذي علَّمني إيَّاه النوع الثالث من
البيئات الطبيعية التي عشتُ فيها. كانت البيئة الأولى هي
محيط بلدة بانجور، بولاية مين الأمريكية، حيث نشأتُ،
التي غرست فيَّ تقديرًا جمًّا للبيئات الطبيعية؛ لم أكن
أستطيع التعرُّف إلا على عددٍ قليل من الأنواع، ولم يكن
لي علم بدوران المُغذيات بين الغابة والنهر، لكنني ذقتُ
مُتعة الابتعاد عن الحضر، والشعور بوخز إبر الصنوبر،
وجمال نداءات الطيور الغوَّاصة ورؤية مجرَّة درب
التبَّانة دون أن تطمسها أضواء الشوارع.
بعد ذلك عشت في نيويورك عقدًا من الزمان خلال
العشرينيات والثلاثينيات من عمري، وخلال ذلك الوقت
أصبحتُ كاتبًا متخصصًا في العلوم والطبيعة. هناك بدأتُ
أتعلم التفاصيل؛ أسماء الزهور التي تَنبت في الأراضي
الفضاء، وتاريخ الطيور البحرية المهاجرة التي تتوقَّف في
الأراضي الرطبة على أطراف المدينة، وأتعلَّم كذلك عن
عِلم البيئة، وأستكشف مفاهيمي عن البرية التي شكَّلت
علاقتي بالطبيعة. كتبتُ أيضًا عن عِلم ذكاء الحيوان
وأخلاقيات التعامُل مع الكائنات غير البشرية. أثار ذلك
سؤالًا لم أجِد له بعدُ جوابًا، عن تبِعات اعتبار
الحيوانات البرية أفرادًا لديها القدرة على التفكير
واختبار المشاعر، وهي كذلك في الحقيقة.
بعد ذلك انتقلتُ إلى مدينة بيثيسدا، بولاية ماريلاند،
وهي إحدى مدن الضواحي الواقعة خارج واشنطن العاصمة، حيث
تعمل صديقتي الحميمة، وحيث توجَد بركة تجميع مياه
الأمطار. استغرق فهمي لتلك البيئة قرابة العام. فهي لا
تنتمي إلى إطار البيئات الريفية الثرية السخية ولا إطار
البيئات الحضرية التي تُجاهد الطبيعة لتنبثق فيها من
شقوق الأرصفة. كانت بيئة يُهيمن عليها البشر، ولكنها في
الوقت نفسه تزخر بالحياة الحيوانية.
ما إن تعلمتُ كيف أُقدِّر تلك البيئة، حتى بدأتُ أختبر
شعور الجيرة؛ وهو شعور قد لا يبدو مُلهمًا، ولكنه أحدث
في نفسي تغييرًا عميقًا. صرتُ أرى الحيوانات أفرادًا،
بدلًا من أن تكون، مثل الرسومات في دليلٍ ميداني، أمثلة
على أنواعها. رغم أني لا أستطيع التعرُّف على كل عصفورٍ
على حدة، أعلم أن العصافير تستطيع ذلك. لم أعُد أعتبر
تلك الحيوانات دخيلةً على مساحةٍ بشرية في الأساس. بل
صرتُ أعتبرها من سكَّان مكانٍ يتشاركه أفراد من عدة
أنواع، بعضهم فقط من البشر.
هذه النظرة هي أحد الآثار المُترتبة على دراسة الأبحاث
المتطورة على ذكاء الحيوانات. فأنت إذا قضيتَ وقتًا
طويلًا في مُطالعة هذه الأبحاث، فسرعان ما سيتَّضح لك أن
السمات التي يُفترض أنها «تجعلنا بشرًا» ليست هي التي
تجعلنا نختلف عن الكائنات الأخرى، بخلاف ما يُفهَم ضمنًا
من العبارة. إنما هي التي نشترك فيها معها.
في الحقيقة نحن أقارب. وهذه الفكرة لا تقتصر على
الضواحي بالتأكيد، بل تنطبق تقريبًا على أي مكانٍ يوجَد
فيه البشر أو يطاله تأثيرهم، وهذا يعني في وقتنا الحالي
أغلب أنحاء الكوكب. ولكن الضواحي مكان مُمتاز لننطلِق
منه في رحلتنا لفهم تلك الفكرة، لذلك دعونا نبدأها بجولة
على الأقدام نتعرَّف فيها على حي بيثيسدا الذي كنتُ
أسكنه وعلى عقول الحيوانات الموجودة فيه. على الأرجح
ستجد المشهد مألوفًا بالنسبة إليك إجمالًا وإن اختلفت
تفاصيل الأنواع. أينما كنتَ، وأيًّا كانت طبيعة النظام
البيئي أو التكوين الحضري للمكان الذي تسكنُه، فسيكون لك
حتمًا جيران غير بشريين.
نخرج من بوابة المبنى السكني في صباح يوم ربيعي جميل.
على يسارنا، في المبنى نفسه، يوجَد مطعم مكسيكي يُخزن
نفاياته في صناديق قمامة غير مُحكمة الغلق، التي كانت
مصدرًا لغذاء عائلة من الجرذان، حتى قام شخص ما برصف
قطعة الأرض الترابية التي كانت قد حفرت فيها جحورها.
سنعود إلى الجرذان بعد قليل؛ تلك المخلوقات المُضطهدة
ذات الذكاء الاستثنائي. لكن أولًا، دعونا ننظر إلى الجهة
المقابلة من الشارع، إلى مجمع الشقق المُنخفض المبني
بالطوب الذي يقع بجوار مرآب السيارات. هناك، على شريط من
العشب الهزيل والشُّجيرات الشائعة التي تباع في المتاجر
الكبيرة، يُنقِّب طائر أبي حناء عن ديدان الأرض.
ينجذب نظرك تلقائيًّا إلى أبي الحناء. اسمه العلمي
«توردوس ميجراتوريوس»، وينتمي إلى عائلة طيور الدُّج
المُغردة، وهو يألف صخب المدينة أكثر من أقاربه
المُنعزلين في الغابة. صدره البرتقالي الداكن يذكرك بأن
الجمال يمكن أن يكمن فيما هو عادي وشائع. لكن لو كان
تشارلز داروين يقف بجانبك، فلربما انجذب انتباهه إلى
دودة الأرض.
في أواخر حياة داروين، بعد أن ألَّف كتابه «أصل
الأنواع»، وكتابه الأقل شهرةً الذي لا يقلُّ عنه أهميةً
«التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان»، قضى عدة
سنوات — هذا صحيح، سنوات — في دراسة ديدان الأرض. ونُشِر
كتابه الأخير «تكوُّن الدُّبال بفعل الديدان مع مراقبة
عاداتها»،
1 قبل بضعة أشهر من وفاته. وحقق الكتاب رواجًا
غير متوقع. هكذا، حولت عدسة داروين آفةً مكروهة إلى
كائنٍ يُشكل قارَّات بأكملها، تُخلخل أنفاقه التربة
فتُخصبها، ولولا هو لأصبحت التربة فقيرة.
كرَّس داروين أيضًا جزءًا كبيرًا من الكتاب لملاحظاته
عن سلوك دودة الأرض. فصنَّف أنواع وأشكال قطع أوراق
الشجر التي تستخدِمها ديدان الأرض لسدِّ فتحات جحورها؛
ووجد أن لها نظامًا مُعينًا وليست عشوائية، كما صمَّم
تجارب لمعرفة ما إذا كان هذا السلوك غريزيًّا بحتًا أم
إنه راجع لاختيارها. وخلص إلى أنه راجع لاختيارها. كتب
داروين: «إذا كان لدى الديدان القدرة على اكتساب أفكار،
مهما كانت بدائية، عن شكل جسم ما وعن جحورها، فإنها
تستحقُّ أن نصفها بالذكاء؛ إذ تسلك تقريبًا السلوك نفسه
الذي كان الإنسان سيسلُكه لو أنه وُضع في ظروف
مماثلة.»
أقرَّ داروين أن ديدان الأرض لديها وعي و«حياة
جوَّانية»، وأقر بالجانب الذاتي الذي يُشير إليه ضمنًا
تفضيلها للجُحر الدافئ المريح. على الرغم من أنه لم يعرض
نتائجه على أنها قاطعة، وأن القول الفصل فيما تُفكر فيه
ديدان الأرض أثناء الحفر لم يصدُر بعد، فإن مجرد انفتاحه
الفكري الذي جعلَه يُدرك إمكانات عقولها كان إنجازًا
عظيمًا.
لأكثر من ألفَي عام، ساد في الحضارة الغربية اعتقاد
بأن الحيوانات معدومة الذكاء. فقد اعتقد أرسطو، عالم
الحيوان والفيلسوف، أن الحيوانات لا تشعر إلَّا بالألم
والجوع؛
2 وصنف الكائنات الحية في تصنيفٍ هرمي وضع على
قِمَّته البشر، تبنَّاه فيما بعدُ اللاهوتيون المسيحيون
في سعيهم الحثيث لتغيير المُعتقدات الوثنية عن القرابة
بين الإنسان والحيوان.
3 وركزوا على العقلانية زاعِمين أنها سمة
مُعرِّفة للبشر، فأرسوا الأسس التي بنى عليها مُفكرو عصر
التنوير أفكارهم مثل نيكولاس مالبرانش، الفيلسوف الذي
عاش في القرن السابع عشر، والذي لخَّص أفكار أقرانه
بدقَّة عندما قال إن الحيوانات «تأكل دون استمتاع، وتبكي
دون ألَم، وتنمو دون أن تعي ذلك؛ إنها لا ترغب في شيء،
ولا تخاف شيئًا، ولا تعرف شيئًا.»
4
بالطبع لم تحظَ تلك الآراء بإجماعٍ مُطلق، ولكن على
مدار القرون القليلة التالية، تبنَّاها المُثقفون. حتى
أتى داروين فدحض ذلك الاعتقاد. إذ أخبرَنا في كتابه
«التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» أن
التطوُّر لم يمنح البشر وغيرهم من الحيوانات سماتٍ
تشريحية مشتركة فحسب، إنما منحهم أيضًا سماتٍ عقلية
مشتركة. وكانت الديدان التي درسها مثالًا على ذلك
مُثيرًا للتعجُّب.
بعد وفاة داروين، أصبح تقبل فكرة ذكاء الحيوان يلقى
احترامًا في الدوائر العلمية. غير أن ذلك لم يدُم
طويلًا، فلأغلب القرن العشرين، اعتبر التيار العلمي
السائد الحيوانات غير عاقلة جوهريًّا. سنعود إلى هذا
التاريخ لاحقًا. لكن في سياق جولتنا في الحي، يكفينا أن
نعرف أن البحث العلمي في مجال عقول الحيوانات ازدهر مرةً
أخرى. أما الآن فقد حان الوقت لأن نُخرج هذه الأفكار من
حيز الدوريات العلمية ونُطبقها على حياتنا
اليومية.
•••
فلْنَمشِ معًا في الشارع مسافةً بسيطة، مارِّين بمتجر
بقالة ومتجر حلاقة وسوبر ماركت ومزيد من البنايات
السكنية، ثم فلْنعبُر الشارع إلى حيث بِركة تجميع مياه
الأمطار. ذلك الوصف لا يوفِّيها حقها؛ فأغلب تلك البِرَك
تُدار على أساس نفعي، وتحاط بعشبٍ يُجَز ما إن يبلغ طوله
بوصة. لكن الأمر مختلف بالنسبة إلى هذه البركة التي
تجاور مجمع المعاهد الوطنية للصحة — وكالة الأبحاث
الطبية الفيدرالية — التي أشرف على إنشائها مهندس
المناظر الطبيعية المُحب للطبيعة لين ميولر. طلب أن
تُزرَع حوافها بنبات البوط وضفافها بعددٍ هائل من الزهور
البرية المحلية. والآن صارت البركة ملاذًا طبيعيًّا
مصغرًا.
يقع الجدول الذي تستحم فيه الطيور على بُعد بضع مئات
من الأقدام، مختفيًا خلف بستانٍ يفصل البركة عن مجمع
سكني. بعض أشجاره ضخمة جدًّا، ربما تكون من الجيل الأول
من أحفاد أشجار الغابات التي كانت موجودةً قبل أن يطالها
الزحف العمراني. أحد الأغصان العارية لإحدى هذه الأشجار
المهيبة هي المَجثَم المُفضل لباز أحمر الكتفَين. كثيرًا
ما تراه واقفًا عليه بجسده المفتول وجناحَيه العريضين
يستطلع الأرض، يبدو تجسيدًا لهيبة الطيور
الجارحة.
لكن وجوده لا يُرهب الغربان. وكثيرًا ما ترى مجموعة
منها تطارده في الهواء فوق البركة ومُحيطها. وتتبارى معه
حتى تتفوَّق عليه في المناورة، وتتمكن من الاقتراب منه
وشد ريش جناحَيه. ثم تتجمَّع على أغصان الشجرة حوله،
تنعق بصخَب، بغرَض إبعاد هذا التهديد كما يبدو؛ غير أن
المرء لا يستطيع أن يدفع عن نفسه هاجس أن دوافع الغربان
تتجاوز قُدرتنا على الفهم في كثير من الأحيان.
لعل ذلك يرجع إلى أنه يسهل على المرء إسقاط شعوره
بالانزعاج على هذه الطيور الداكنة المُعتدَّة بذاتها.
لقد فعل الناس ذلك لآلاف السنين،
5 ليس مع الغربان فحسب، إنما مع العديد من
الطيور الأخرى من جنس الغرابيَّات (ولعلك تتذكر أنه في
الكتاب المقدس، قبل أن يرسل نوح حمامة لتأتيه بخبر
اليابسة، أرسل غرابًا؛ وبخلاف الحمامة المُطيعة، فإن
الغراب لم يعُد). في القصص التقليدية امتزج الإعجاب بذلك
الطائر بعدم الثقة فيه، لكن التحول إلى الحياة الزراعية،
الذي أعطى الأولوية للإنتاج وصوَّر سكان الطبيعة على
أنهم أعداء لنا، حوَّل ذلك الغموض المُحيط به إلى
كراهية. في الولايات المتحدة، قتل الناس الغربان بشتَّى
أنواعها بعشوائية إلى حدِّ أن وجودها صار نادرًا قرب
المستوطنات البشرية.
بالطبع، في الوقت الحاضر تنتشر الغربان في كل مكان.
وعادة ما يُعزى ذلك إلى مُلاءمة البيئات الحضرية
للغربان؛ إذ تزخر المدن والضواحي حقًّا بالفُرَص لتلك
الطيور الواسعة الحيلة النابشة في القمامة، كما أن لوفرة
الطعام في تلك المناطق دورًا مهمًّا. يقول جون مارزلوف،
عالم الأحياء في جامعة واشنطن الذي يدرس الغربان: «لكن
كثرتها لا تُعزى إلى أنها طيور نابشة للقمامة فحسب.»
إنها تُعزى إلى ذكائها أيضًا.
فالمهارات المعرفية التي وضعت رتبة الغرابيَّات في
منزلةٍ تُضاهي منزلة القردة في مجال أبحاث ذكاء
الحيوانات، ساعدت الغربان أيضًا على التكيف مع المناطق
الطبيعية السريعة التغيُّر. الدراسات التي تُوثق قدراتها
كثيرة جدًّا لا يتسع المجال هنا لسردها؛ لكن ثَمة مسارًا
بحثيًّا كاشفًا كثيرًا، تصميم تجاربه مُستلهَم من حكاية
إيسوب عن الغراب الظمآن الذي أسقط حجارةً في إناء الماء
ليرفع مستوى الماء.
6 في هذه التجارب تكون الغربان جوعانة لا
ظمآنة، وتضطر إلى إلقاء مُكعبات في أنبوب به ماء حتى
يرتفع الماء فيتمكَّنوا من الحصول على وجبةٍ خفيفة تطفو
على سطحه.
⋆
اختلف العلماء: هل تُظهِر تلك الطيور حقًّا براعة،
وتكتشف ما يجب فعله من خلال تطبيقها لفهم الأسباب
والنتائج، واستيعاب أساسيات الفيزياء، وإعمال الخيال؟ أم
إنها تعتمد على التعلُّم عن طريق المحاولة والخطأ،
والاقتران، والمثابرة؟
تُشير معظم الأدلة التجريبية إلى أنها تستخدِم كِلا
النهجين. ولكن بغضِّ النظر عن الإجابة الفعلية، حريٌّ
بنا أن نتفكَّر في جوهر النقاش. يُقدر مجتمعنا
الاستبصار. وهو شيء أعقدُ وأخصُّ من مجرد المثابرة على
المحاولة والخطأ. ويستند إلى الاستدلال المجرد، وهي سِمة
يعدُّها من ينكرون قدرة الحيوانات على التفكير المعقد
مقتصرة على البشر، بل مُعرِّفة لهم. غير أن كثيرًا من
أفعالنا تستند إلى المحاولة والخطأ؛ فنحن نُجرب أشياء
مختلفة حتى نجد المناسب منها ونلزمه. ذلك التقديس
للاستبصار هو أثر باقٍ لتلك الرغبة القديمة لدينا في أن
نتميز عن باقي أعضاء مملكة الحيوان.
تتناسب الدراسات المُستلهمة من حكاية إيسوب مع توجُّهٍ
كانت تتبنَّاه أغلب الأبحاث التي تدرس عقول الحيوانات
حتى وقتٍ قريب. ركز العلماء في تلك الأبحاث على سماتٍ
مثل الذاكرة والتعرُّف على الأنماط وحل المشكلات، وهي
سِمات يسهل قياسها نسبيًّا، وتجاهلوا مجال الانفعالات
وهو الأكثر غموضًا. توجَد بالفعل أساليب لدراسة
الانفعالات، وسنتطرق إليها في الفصل التالي. أما الآن،
فدعونا نركز على الأشكال الأوضح من الإدراك؛ السمات التي
يمكن للباحثين قياسها كمًّا، على سبيل المثال، في
السناجب الرمادية — كذلك السنجاب الذي يثرثر في شجرة
الصنوبر الآن — كي يعرفوا كيف يتكيَّف سلوكها مع الظروف
المتغيرة.
7 لتَقصِّي هذه المسألة، يمكن تدريب السناجب
الأسيرة على الضغط على الدائرة الحمراء بدلًا من الدائرة
الخضراء للحصول على وجبة خفيفة؛ ثم يُعكس ذلك النظام
فيصير الضغط على الدائرة الخضراء هو ما يمنحها الوجبة.
تقاس المرونة السلوكية للسناجب بمقدار الوقت الذي
تستغرقه في التكيف مع ذلك التغيير. النتيجة لن تثير دهشة
أي شخصٍ حاول من قبلُ أن يمنع سنجابًا من الدخول إلى
صندوق طعام للطيور؛ إذ إن تكيُّفها لا يستغرق وقتًا
طويلًا على الإطلاق.
لكن ثَمة نتائج أخرى أكثر إثارة للدهشة. تأمَّل صغار
البط التي تسبح وسط الطحالب الطافية على ماء البركة تحت
أعيُن أمها. تختلف استجابة الصغار التي فقست حديثًا ولم
ترَ شيئًا بعدُ لأنماط ضوءٍ تُحاكي مِشية قطة عن
استجابتها لأنماط ضوء تحاكي أسطوانة دوارة؛
8 كما تُميز بين الأشياء الذاتية الحركة وتلك
المدفوعة.
9 تشير هذه النتائج إلى وجود نظام تطوري قديم
للتعرف على الكائنات الحية، مهيأ لاكتشاف حركة حيوان وسط
الأعشاب المتمايلة والأوراق المتموجة.
إلى جانب الطيور، تملك العديد من الأنواع هذه
القدرة،
10 ولكن ثَمة شيئًا باهرًا في وجودها لدى تلك
الصغار الحديثة العهد بذلك العالم. وجدت أبحاث أخرى عن
إدراك صغار البط الحديثة الفقس أنها بعد أن تبِعت كرتَين
متدليتَين من ذراع دوَّار، فضَّلت أن تتبع هرمَين
متطابقين على أن تتبع مكعبًا ومستطيلًا، وهما شكلان غير
متطابقين.
11 وإذا كانت إحدى الكرتين حمراء والأخرى
خضراء، فإنها ستتبع لاحقًا كرتين واحدة منهما زرقاء
والأخرى صفراء بدلًا من كرتين بنفسجيتين. قد تبدو منهجية
تلك الأبحاث غريبة، ولكن الاستنتاج الذي خلصت إليه عام:
صغار البط تعرف مفهومَي «متشابه» و«مختلف» المجرَّدين،
وتستطيع تطبيقهما بصفة عامة.
منذ ثلاثة قرون، كتب الفيلسوف جون لوك: إن «الوحوش»،
وهي لفظة يعني بها الحيوانات، «تفتقر إلى التفكير
المجرد».
12 وفي الوقت الراهن، القدرة على الفكر المجرد
«غالبًا ما تنسب إلى الكائنات الشديدة الذكاء وحدَها»،
حسبما كتب الباحثون الذين أجروا التجارب على صغار البط
الذكية. غير أنه من المنطقي تمامًا أن تكون تلك الصغار
مزوَّدة بهذه المهارة. فتعرُّفها على أُمها وإخوتها أمر
بالغ الأهمية بالنسبة إليها. فبدلًا من أن تعتمد الصغار
على صورة ثنائية الأبعاد للأم تُصبح مضللة ما إن تبسط
جناحَيها أو تُغير موضعها، فإنها تعتمد على مجموعة من
الخصائص والعلاقات الذهنية التي تُمكِّنها من التعرُّف
على أُمها. يشير الباحثون أيضًا إلى أنه حتى الحيوانات
التي أظهرت مسبقًا هذه القدرة استغرق تطوُّرها لديها بعض
الوقت. فالأطفال البالغون من العمر سبعة أشهر لا يجتازون
ذلك الاختبار إلَّا بعد أن يكونوا قد رأوا أكثر من
زوجَين من الأشياء.
13 أما صغار البط فاجتازته بعد خروجها من
البيضة مباشرة.
يمكن القول إنها فعلت ذلك غريزيًّا، رغم أن هذه كلمة
يجب استخدامها بحذَر. يشمل معناها الضيِّق الفطرة؛ بمعنى
أنها تُجبَل على هذه القدرة ولا تحتاج إلى أن تتعلَّمها.
غير أن التاريخ العلمي لذلك المُصطلح مُثقل بالدلالات
السلبية. إذ تُعامَل الغريزة على أنها نقيض العقلانية.
وعندما يُطلق ذلك اللفظ على الحيوانات، يُراد به
الاستخفاف. من ثَم تعني الغريزة التفكير التلقائي، مضاد
العقلاني، وهو شكل من الذكاء أدنى من الذكاء
البشري.
•••
فوق المنحدر الذي توجَد أسفلَه البركة التي يسبح فيها
صغار البط، توجَد رقعة تنمو فيها أزهار الربيع المسائية.
في هذا الوقت المُبكر من الموسم، تكون سيقانها لا تزال
قصيرة، ولا تكون قد أزهرت بعد. عندما تُزهر، ستجذب
أزهارها الذهبية طيور الطنَّان الياقوتية الحلق، وفي
أوائل الخريف، ستكون آخر قطرات من رحيقها هي زاد تلك
الطيور في هجرتها إلى الجنوب، حيث تُضطَر هذه الطيور إلى
الطيران دون توقف حتى تعبر خليج المكسيك. سواء كانت طيور
الطنَّان قد قطعت تلك الرحلة من قبل أم لا، فإنها تكتسب
الوزن قبل المغادرة، ولكن الطيور التي قطعتها من قبل
تفرط أكثر في ذلك؛ إذ تكتسب ما يقرب من نصف وزن جسمها في
أربعة أيام فقط.
14 الهجرة دافع غريزي، لكن التجربة علَّمتها
أهمية التزوُّد بأكبر قدرٍ ممكن من الوقود.
لا تزال سيقان أزهار الربيع المسائية للموسم الماضي
قائمة، بُنية وجافة، وتستخدِم أنثى الشحرور الأحمر
الجناحَين منقارها لتقشير شرائط طويلة منها لاستخدامها
في بناء العش الذي ستضع فيه بيضها قريبًا. تُعلمنا أعشاش
الطيور درسًا آخر عن الغريزة وتميُّز البشر. فهي تبدو
أدوات؛ وفي السابق كان يُقال إن استخدام الأدوات هو إحدى
السمات المُميزة للبشر، وذلك قبل اكتشاف أنها شائعة في
الحيوانات، بداية من الشمبانزي وانتهاءً بالأخطبوطات
والنمل. غير أن الاعتقاد السائد يقول إنها ليست
كذلك.
يُفترَض أن صناعة الأدوات تتمُّ لأغراضٍ مقصودة. نظرًا
لأن أفراد بعض الأنواع تبني أعشاشًا حتى عندما تنشأ في
الأسر، دون أن ترى أقرانًا لها تفعل ذلك، فإن بناء العش
عادةً ما يُعَدُّ فعلًا غريزيًّا. بغضِّ النظر عن تعقيد
الأعشاش ووظيفتها، فإن بناءها يُعَدُّ تنفيذًا غيرَ واعٍ
لبرنامج جيني، وليس مثالًا فعليًّا على استخدام
الأدوات.
ومع ذلك، شكَّكت دراسات حديثة عن بناء الأعشاش في هذه
النظرة.
15 صحيح أن بعض الطيور تبني أعشاشها دون أن
تكون قد رأت عشًّا من قبل، ولكنها إذا رأت عشًّا
مبنيًّا، فإنها تُحاكيه في بناء عشِّها، ومع الممارسة
تُصبح أعشاشها أمتن وأفضل. تؤكد التحليلات المفصَّلة
تجريبيًّا انطباع أي شخصٍ تفحص عش طائر مُغرد عن قرب؛
ألا وهو أنَّ اختيار الطائر لمواد البناء المستخدمة
وتنظيمه لها ليس عشوائيًّا، وإنما ينتقي كلًّا منها بدقة
ولغرَض مُعين. تلك الشرائط المُمزقة من سيقان أزهار
الربيع المسائية التي تجمعها أنثى الشحرور ستُصبح
السقَّالة التي تحمل عشها، الذي سيكون له كوب خارجي
قوامه غُصينات صلبة مكسوَّة بالطين، يوفر الدعم الهيكلي
والعزل للبطانة الداخلية الناعمة المريحة المصنوعة من
الأعشاب الرقيقة.
هل يعني ذلك أنها تمتلك فهم مُهندسٍ للخصائص البنائية
لكل عنصر تستخدمه؟ ليس بالضرورة، على الأقل ليس في
البداية. ولكن البناء أيضًا ليس مُهمةً تلقائية تحدث دون
تفكير. بل تنطوي على التعلُّم واتخاذ القرار، ليس فيما
يخصُّ المواد المستخدمة في بناء العش فحسب، إنما في موضع
بنائه وطريقة إخفائه أيضًا. (أحد أعشاش العام الماضي لا
يزال شِبه سليم، آمنًا في الشجيرات الشائكة المُتشابكة
بالكرمة.) إنه عمل تتداخل فيه الغريزة والتفكير، كما هو
الأمر بالنسبة إلينا. فالمرء يظلُّ يتمرن على رياضةٍ
مُعينة حتى يصبح أداؤه لحركاتها تلقائيًّا، أو يندفع
غريزيًّا ليحمي أحد أفراد أُسرته من تهديدٍ ما، ولكن تلك
الأفعال تنطوي أيضًا على التفكير الواعي.
تقول سوزان هيلي عالمة الأحياء بجامعة سان أندروز التي
أثبتت أن طيور الحسُّون المُخطط تتعلَّم من
التجربة:
16 «نعلم أن جميع السلوكيات هي مزيج من هذين
الأمرين.» تُشير سوزان إلى مفارقة غريبة؛ وهي أن أحد
الأسباب التي تجعل الباحثين يعتبرون بناء الأعشاش أمرًا
غريزيًّا هو أنه يظهر فيها «نمطية»؛ أي إن أعشاش
الشحارير تتشابَه إلى حدٍّ كبير، كذلك أعشاش الغربان
وسائر الطيور. يُنظَر عمومًا إلى النمطية على أنها دلالة
على الغريزة؛ غير أن الأدوات التي صنعها البشر الأوائل
يظهر فيها قدْر كبير من النمطية. تقول سوزان: «ومع ذلك
لم يعتقد أحد أنها غريزية.»
الطيور ليست وحدَها التي تصنع أعشاشًا. من ثُقب في
السياج الذي يفصل الممرَّ عن البركة والنباتات المُحيطة
بها، تبرُز كومة غريبة من الأعشاب الجافة. عندما
تفحَّصتُها عن قرب وجدتُها جزءًا من عش فأر حقولٍ مبني
أغلبه من حُزَمٍ من بذور حشيشة اللبن المتسلقة. لا يبدو
هذا النوع المُتسلق من حشيشة اللبن مثل أقربائه الأكثر
شيوعًا، ولكنه يتطابق معها في شكل بذوره البُنية
المفلطحة، المكدسة داخل قرون، والتي يخرج من طرف كلٍّ
منها حُزمة من الشُّعيرات البيضاء الناعمة التي يسهل على
النسيم حملها كأنها معدومة الوزن. تكون تلك الشعيرات
مجوَّفة وطاردة للماء، ويحتوي عش الفأر على المئات من
تلك الحُزَم من الشعيرات. ولذا تبدو مثل البطانة العازلة
لمعطفٍ شتوي منتفخ، وعلى الأرجح تؤدي وظيفتها.
لا بد أن الفأر راح وجاء مراتٍ كثيرة للغاية حتى أتم
بناء بيته؛ كان يتسلق السياج بحذَر وينزل مسرعًا إلى حيث
النبتة، وينتزع الشعيرات من بضع بذور، ويعود مالئًا بها
فمه، ثم أخيرًا يستخدِم أصابع كفَّيه الماهرتَين
الشبيهتَين باليدَين لتشكيل هيكل العش من الشعيرات. ربما
كان فأرًا مجتهدًا أكثر من المعتاد؛ فالاجتهاد أحد سِمات
الشخصية التي بدأ العلماء يُصنِّفونها ويدرسونها.
يعلم الأشخاص الذين يُعاشرون الحيوانات أن لكلِّ حيوان
شخصيته الفريدة، لكن دراسة تلك الشخصيات منهجيًّا يُعَد
خطوةً حديثة نسبيًّا. في العقد الأول من القرن الحادي
والعشرين، كان من الممكن أن تُعَد أشياء واضحة تبصُّراتٍ
جديدة؛ مثل ملاحظة أن الاختلافات في الشخصية تؤثر على
التمثيل الغذائي،
17 بمعنى أن الأرنب الخائف الذي يميل للتوتُّر
قد ينزع معدل ضربات قلبه أثناء الراحة لأن يكونَ أعلى من
نظيره لدى أرنبٍ مُفرط الجرأة. تُعرَّف الشخصية علميًّا
بأنها اختلافات فردية ثابتة في السلوك، وتركز الدراسات
المُتعلقة بها على سِماتٍ عامة مثل الجرأة والخجل،
والمخاطرة وتجنُّب المخاطر.
18 أما الآن فالأبحاث تزداد دقةً وتفصيلًا. وقد
تمَّت مراجعة أكثر من ٤٠٠٠ دراسة سابقة، وقيَّمتُها في
ضوء صفات مثل الانضباط الذاتي والمثابرة والاجتهاد، مثل
الفأر الذي ذكرناه.
19
أخذتْنا جولتنا إلى الجانب الآخر من البركة، القريب من
الجدول الذي تستحم فيه الطيور. بطَّن البنَّاءون الموضع
من الجدول الذي يصبُّ فيه أنبوب الصرف بالخرسانة. وعلى
الضفاف الملساء، تقبع العديد من الضفادع الخضراء، التي
يسهل الخلط بينها وبين ضفادع الثور، ولكنها تتميز عنها
بوجود نتوءات مميزة على ظهورها، مراقِبةً الذباب وهي
تمتص دفء الشمس.
كان جورج رومانيس، تلميذ داروين، يُصدِّق كل ما يسمعه
من حكايات عن ذكاء الحيوانات إلى حدِّ أنه أكسب دراستها
سُمعة سيئة،
20 رغم ذلك كتب: «لا يوجَد ما يمكن قوله عن
ذكاء الضفادع والعلاجيم إلَّا القليل.»
21 وهذا الموقف من الضفادع والعلاجيم — بل
البرمائيات والزواحف بصفةٍ عامة — لا يزال قائمًا حتى
يومِنا هذا؛ إذ لا تلقى اهتمامًا كبيرًا مقارنةً بالطيور
والثدييات. لكن ذلك النذر اليسير من الاهتمام الذي
تلقَّته كشف أنها كائنات تتمتع بإدراكٍ رفيع
للغاية.
تُظهر الأبحاث أن شرغوب الضفدع الحرجي الشائع، وهو نوع
آخر من الضفادع الموجودة في البركة، يقدِّر المخاطر
المستقبلية بناءً على تجاربه السابقة مع الحيوانات
المفترسة.
22 كما أن استجابته للتهديد بالافتراس تكون
أقلَّ حذرًا من الضفدع الأخضر،
23 ولعلَّ ذلك يرجع إلى أن ذلك النوع تطور بحيث
يضع بيضَه في البِرَك المؤقتة؛ من ثَم يحتاج شرغوبه لأن
ينمو بسرعة، قبل أن يجف ماء البركة، وعلى مدى التاريخ
التطوُّري، كانت المخاطرة بمواصلة البحث عن طعام حتى مع
وجود خطر قريب مُجديةً. سريعًا ما تتعلَّم الضفادع
الصالحة للأكل، وهو اسم على مُسمًّى، التمييز بين روائح
الحيوانات المفترسة المختلفة.
24 وتستطيع ضفادع الشجر الإيطالية العدَّ حتى
اثنين وتمييز الاثنين من الأربعة أيضًا، مُستندة إلى
حسٍّ عددي بدائي يُعتقد أنه تطوَّر منذ مئات الملايين من
السنين.
25 على الأرجح يُساعدها ذلك في الاختيار بين
الموائل ذات الكميات المختلفة من النباتات. يمكن للضفادع
الأخرى التي تتضمَّن طقوس المُغازلة الخاصة بها سجالًا
شفهيًّا بين الذكور المتنافسين على جذب الإناث أن تَعُد
حتى ثمانية،
26 مما يُساعدها على تتبُّع عدد الصيحات التي
يتعين عليها أن تُصدرها للتغلُّب على المنافسين.
غير أن هذه الدراسات لا تشمل كل جوانب إدراك الضفادع.
لكنها تُشير إلى ما يُمكن أن نكتشفه عنها إذا أوليناها
الاهتمام الكافي. حتى إن ثَمة دراسة ركَّزت على شخصية
ضفادع الثور الأمريكية.
27 كانت الدراسة محدودة النطاق، لكنها أشارت
إلى أن أكثر سمةٍ تتفاوت فيها الضفادع هي الميل إلى
الاستكشاف. ربما تقنع بعض تلك الضفادع على ضفاف القناة
الخرسانية بالبقاء داخل مُحيط موطنها. ولكن بعضها قد
يتطلَّع إلى ما وراء ذلك.
•••
فلنسلك معًا مسارًا جانبيًّا يمر عبر رقعةٍ كثيفة من
نبات صريمة الجَدي ويُفضي إلى البستان، الذي يُضفي غطاؤه
الشجري لونًا أخضر على كل شيء، وتوجَد فيه العديد من
الصخور المريحة التي يُمكن الجلوس عليها. تكتسي الأرض
بالبنفسج الذي تفتحت أزهاره الأخيرة واللبلاب الإنجليزي.
ذلك الأخير نباتٌ غازٍ، لكن ثمرته الغنية بالدهون تُعَد
غذاءً أساسيًّا للحيوانات المحلية في الشتاء، كما تُوفر
أوراقه الدائمة الخضرة مَخابئ جيدة. من تحت ورقة تُسمع
خشخشة وتُلمح شوارب وأنف وعين، حذرة لكن فضولية.
إنه جرذ بُني. ليته يكون أحد الجرذان التي كانت تعيش
بجانب ذلك المطعم في شارعي، وقد حفرت عائلته طريقها حول
ذلك القبر الخرساني، مثلما تجنَّبت السمَّ والمصايد
لسنواتٍ حتمًا. هذا احتمال بعيد، لكنه وارد. الاسم
العلمي لذلك النوع هو «راتوس نورفيجيكوس»، وقد أتى
مهاجرًا من جنوب الصين،
28 ورغم المحاولات المُستمرة لإبادته، صار
منتشرًا بقدْرنا؛ وهذا يدلُّ على قُدرته الفائقة على
التكيُّف.
ترى الفئة القليلة من الناس التي تتَّخذ من الجرذان
حيوانات أليفة، أنها كائنات لطيفة وذكية، لا تختلف
كثيرًا عن الكلاب إلَّا في أنها أكثر ميلًا لمضغ
الأشياء. أما العلماء فيعتبرونها كائنات نموذجية لدراسة
أساسيات الدماغ والبيولوجيا؛ نحن نعرف عن الفئران أكثر
مما نعرف عن أي كائنٍ غير بشري آخر. وغالبًا ما تُصوَّر
في الثقافة الشعبية بصورةٍ مُثيرة للتعاطُف، كما في فيلم
«الفأر الطباخ» (راتاتوي) الذي يؤدي دور البطولة فيه فأر
ماهر في الطبخ، أو مقاطع الفيديو الرائجة مثل مقطع «فأر
البيتزا»، الذي يمكن إسقاط كفاحه لصعود سُلم محطة مترو
أنفاق في مدينة نيويورك حاملًا شريحة بيتزا على الحالة
البشرية.
لكن كل ذلك لم يُترجَم بعدُ إلى أي مراعاة للفئران. في
المدن، تنتشِر صناديق الطُّعم السام إلى حدِّ أن الناس
ألِفوها وباتوا لا يلاحظونها؛ على الرغم من ذلك، بدأ ذلك
الفِكر يتغيَّر، مع إصلاح منهجيات ما يُسمى مكافحة
الآفات، كما سنرى لاحقًا. أما في الوقت الحالي،
فلتتأمَّل ذلك الاكتشاف: تمتلك الفئران قُدرة أخرى كان
يُزعَم أن البشر ينفردون بها، يُسمِّيها العلماء بالسفر
العقلي عبر الزمن.
29 فهي لا تتذكَّر الماضي فحسْب — مثل العديد
من الحيوانات — إنما تستطيع أيضًا تصور المُستقبل، وهي
قدرة قِيست من خلال تسجيل النشاط الدماغي للفئران أثناء
تحرُّكها في متاهة، ثم تسجيله لاحقًا وهي في حالة
الراحة، فتبيَّن أن أنماط نشاطها الدماغي تُظهر أنها
ترسم في عقلها مساراتٍ بديلة.
السفر العقلي عبر الزمن هو جانب من الإدراك الذاتي
لسيرورة الذات،
30 وهو أمر ضروري للوعي الذاتي؛ أي إدراك المرء
لذاته باعتبارها كيانًا مستقلًّا عن الآخرين وعن البيئة
المحيطة. والوعي الذاتي وثيق الصلة بخبراتنا الخاصة إلى
حدِّ أنه يستحيل عمليًّا تخيُّل عدمه. في حياتنا
اليومية، نُفكر ضمنيًّا في الحيوانات الأخرى باعتبارها
مُدركة لذاتها أيضًا. فكيف يمكن لأنثى الشحرور إتمام
عشِّها إلَّا إذا كانت تفهم أنها تَبنيه لأجلِها هي؟ أو
هل كان السنجاب سيُخزن جوزة بلوط ليأكُلها مستقبلًا؟
بدون الإحساس بالذات، ستكون الحيوانات مجرد ألعابٍ
زنبركية، تأتي بالأفعال اللازمة للحياة دون أي إدراك
لمعناها.
لكن الوعي الذاتي موضوع شائك في الأوساط
العلمية.
† رسميًّا،
يَعُده العلماء موجودًا لدى عددٍ قليل من الحيوانات
الأخرى غير الإنسان العاقل «هومو سابينس»، من بينها
الشمبانزي وإنسان الغاب والدلافين القارورية الأنف
والأفيال الآسيوية، ويعتبر البعض أيضًا أن منها طيور
العقعق وأسماك المانتا (شيطان البحر) وأسماك الراس
المنظِّفة.
31 اجتازت تلك الأنواع ما يُعرَف باسم اختبار
التعرُّف على الذات في المرآة، الذي طُوِّر في
سبعينيَّات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين يُعَد المعيار
الذهبي لقياس الوعي الذاتي. لاجتياز الاختبار، يجِب على
الحيوان استخدام مرآةٍ للتدقيق في علامة تُوضَع على
جسدِه في موضعٍ لا يمكن له رؤيته بنفسه، كلطخة من الطلاء
توضَع على مؤخرة رأسه أثناء نومِه. ويستنتج ذلك من فضول
الحيوان الدال على أن صورته المُنعكسة في المرآة لا
تتَّسق مع صورته الذاتية العقلية. أي إنه واعٍ
بذاته.
غير أنه في الوقت الحالي، يرى العديد من العلماء أن
اختبار المرآة يَلقى اهتمامًا مبالغًا فيه.
32 بقدْر ما يُعَد اجتيازه أمرًا مذهلًا، فإن
الفشل فيه لا يُشير بالضرورة إلى غياب الوعي الذاتي. (في
الواقع، أطفال البشر في المجتمعات الغربية لا يجتازون
عادة ذلك الاختبار قبل أن يُتمُّوا نحو ١٨ شهرًا، وفي
الثقافات الآسيوية والأفريقية لا يجتازُه الأطفال قبل سن
الخامسة.
33 لكنَّ أحدًا لن يزعم أنهم يفتقرون إلى الوعي
الذاتي.) ولعلَّ عدم اجتيازه يرجع إلى أن الإبصار ليس له
دور كبير في إدراك الذات لدى الأنواع الأخرى؛ ومِن ثَم
طُوِّرت نسخ جديدة معدلة من الاختبار تَستخدِم وسائل
حِسِّية أخرى، مثل الرائحة. وجدت إحدى التجارب أن الكلاب
تنتبه بصفةٍ خاصة إلى رائحتها عندما تُخلَط برائحةٍ أخرى
غير متوقَّعة.
34 كما وجدت تجربة شبيهة، أُجرِيَت على ثعابين
الرباط — مثل تلك التي نلمحها من حينٍ لآخر تختفي في
العشب الطويل — أنها تُميز بين رائحتها الخاصة ورائحة
أشقائها.
35 قد لا تكون صورتها الذاتية «صورة» من
الأساس.
أحد الانتقادات الأخرى التي توجَّه لاختبار المرآة هو
أنه يُعزز تصورًا ثنائيًّا للوعي الذاتي، فيعتبره إما
موجودًا على تلك الصورة وإما غير موجود على الإطلاق. وقد
أشار إلى ذلك الباحث في سلوك الحيوان فرانس دي فال في
تعليقه على تجربةٍ مُثيرة للجدل لإثبات أن أسماك الرأس
المُنظِّفة تتعرَّف على نفسها في المرآة؛ وقال الباحث إن
سلوك الأسماك يمكن تفسيره بطرُق أخرى مختلفة، وشكَّك في
أن هذه الأسماك الصغيرة يمكن أن تملك تلك القُدرة
المعقدة؛ وقال دي فال إن الوعي الذاتي يُقال إنه يظهر من
العدم في عددٍ قليل فقط من الأنواع، كما تقترح نظرية مثل
«الانفجار العظيم» للوعي الذاتي. ولكن دي فال يقترح أننا
ينبغي أن نُفكر في الوعي الذاتي باعتباره صفة تتطوَّر
بالتدريج «مثل البصلة التي تنمو طبقاتها واحدةً تلوَ
الأخرى، لا باعتباره صفة تنبثِق إلى الوجود
فجأة.»
36
عندما يفصل المرء بين هذه الطبقات الإدراكية، يجد أنها
شائعة إلى حد كبير. إحدى تلك الطبقات هو السفَر العقلي
عبر الزمن. وإحداها هي إدراك الإدراك، أو القدرة على
تقييم معرفتك: «أنا أعرف ذلك. أنا لا أعرف ذلك.» إدراك
الإدراك سِمة موجودة أيضًا لدى الجرذان، كما توضح
التجارب التي تسمح لها بالاختيار بين الحصول على وجبة
خفيفة صغيرة مضمونة فورًا أو الخضوع لاختبار ذاكرة إذا
نجحت في الإجابة عن أسئلته تحصل على وجبةٍ كبيرة، وإذا
فشلت فلا تحصل على شيء. عندما يطمس مرور الوقت ذكرياتها،
فإنها تختار المكافأة المضمونة.
37
قد يزعم البعض أن ذكاء الجرذان يفوق المعتاد، ومن ثَم
فإنها لا تُعَد نموذجًا معياريًّا. لكن دعنا نتأمَّل
عنصرًا آخر من عناصر الوعي الذاتي، وهو الذاكرة العرضية؛
التي تحفظ تفاصيل الأحداث وأماكن وقوعها وأوقاتها وتمنح
التفاصيل لذكرياتنا العامة. اكتشف العلماء وجود سِمة
تُشبه الذاكرة العرضية في أسماك الدانيو
المُخططة،
38 وهو نوع صغير يُستخدَم باعتباره كائنًا
نموذجيًّا في الدراسات التي تبحث أُسس الإدراك. لا بد أن
أسماك المِنوة التي تتجمَّع في الأجزاء الضحلة من بركة
تجميع مياه الأمطار تمتلك هذا النوع من الذاكرة، لكنها
تُسجل فيه تفاصيل بيئتها اليومية — الأشياء والأماكن
المألوفة وغير المألوفة — وليس التفاصيل القياسية التي
يُسجلها أقرباؤها من الأسماك التي تعيش في أحواض السمك.
أثبت الباحثون أيضًا وجود هذا النوع من الذاكرة عند
الطائر الطنَّان
39 والفأر
40 والحبَّار،
41 وقد كان لذلك الأخير سلف مشترك مع الفقاريات
منذ أكثر من ٥٠٠ مليون عام. يُشير وجود الذاكرة العرضية
لدى تلك الكائنات المُتمايزة تطوُّريًّا إلى أنها سِمة
واسعة الانتشار.
إذن بعض مستويات الوعي الذاتي ليست نادرة في مملكة
الحيوان، إنما تَشيع فيها بأشكالٍ مختلفة؛ قد لا تكون
على القدْر نفسه من التعقيد الموجود لدَينا، ولكنها
تظلُّ ذات أهمية. كما أن بعض العلماء يرَون أن جوهر
الوعي الذاتي في الواقع بسيط للغاية. وهم يُميزون بين
النوع التأمُّلي من الوعي الذاتي الذي يَقيسه اختبار
المرآة، والوعي الذاتي الأساسي الذي ينشأ عندما يدمج
الدماغ الإدراكات التي يَستقبلها من الأعضاء الحسِّية
المختلفة مع التصوُّر الذاتي للبيئة المحيطة.
42 تمييز الفرد ذاته عن مُحيطه هو القدرة
الأساسية اللازمة لمعالجة المعلومات الجديدة التي
يكتسِبها من كلِّ خطوة أو انثناءة أو رفرفة جناح.
من هذا المنظور، لا يُعَد الوعي الذاتي شائعًا فحسب،
بل موجودًا في جميع الكائنات. وُجدَت أشكال منه منذ أن
تمكَّنت بعض الكائنات الصغيرة الشبيهة بالديدان — التي
كانت تتنقَّل في البحار الدافئة للعصر الإدياكاري قبل أن
تتطوَّر النباتات حتى — من الإحساس بالضوء واللمس،
ومقارنة حالتها الحالية بتمثيلها العقلي للماضي القريب،
والتصرُّف بناءً على ذلك.
43 كانت هذه الكائنات تُدرك أن الضوء كان هنا،
والآن صار هناك، من ثَم فعليها أن تتحرَّك. وأن تُدرك أن
جسدها كان يفعل هذا، والآن صار يفعل ذلك. في هذه الصورة
البسيطة قد يكمُن جوهر الذات.
هذا ما يجعل استجابة دودة الأرض لملمس التربة التي
تُقلِّبها بمعزقتك تختلف عن استجابتها لملمس التربة التي
حرَّكَتْها بجسمها.
44 اتضح ذلك أيضًا من تجربة أُجريت على ثعابين
الجرذان؛ بعد أن أكلت الثعابين وانتفخت أجسادها لدرجةٍ
كبيرة، اختارت أن تدخل أقفاصها عبر فتحاتٍ كبيرة بدلًا
من الفتحات الصغيرة التي استخدمتها قبل أن
تأكُل.
45 وهذا يُلاحَظ أيضًا في حركات العناكب
القافزة ذات العيون اللامعة التي تجوب وسط الأعشاب
بمحاذاة البركة،
46 التي تتبع فريستها وهي خارج مجال رؤيتها،
وتقفز إلى الموضع الذي ستكون فيه الفريسة بعد لحظةٍ من
الزمن. إنها مُدركة لذاتها بدرجةٍ ما. كتب الفيلسوف مارك
رولاندز: «أن يكون لديك فكرة أو خبرة أو انفعال، يعني أن
تعي أن هذه الحالة هي حالتك الذاتية.»
47 كل كائن حي تُقابله هو ذات أو «شخص».
على مسافة قريبة من الممر، يوجَد بيت خشبي للعصافير
الزرقاء، يشغله الآن زوجان من طيور القرقف السوداء
الرأس. في الخريف، تجمع هذه الطيور الآلاف من البذور
وتُخزنها لتكون مؤنةً لها في الشتاء، وتُخفيها تحت
الأجزاء المُشققة من اللحاء الذي يكسو أغصان الأشجار
الصغيرة. لا نعرف مدى إدراك تلك الطيور لمفهوم الشتاء.
وتُظهر الدراسات أنَّ بإمكانها التخطيط لمدة نصف ساعة
مستقبلًا على أقل تقدير،
48 ولكن إدراكها قد يعجز عن التخطيط للمُدَد
الطويلة كالأشهر. غير أن القراقف السوداء الرأس قد يكون
لدَيها مجرد إدراك بسيط لفكرة المُستقبل، وهذا يكفيها.
في الوقت الحالي، يركز الزوجان على إطعام فراخهما، التي
تنطلِق حناجرها في جوقة من الزقزقات المُتلهفة كلما عاد
أحد والديهما مالئًا فمَه بالحشرات.
حتمًا وعيُها بذاتها يختلف عن وعينا نحن بذاتنا. إذ
تتشكل الذات من طبقاتٍ عديدة من الإدراك المعرفي
والإدراك الحسِّي. ولكنَّ بيننا شيئًا مشتركًا. وإذا
استطعنا الولوج إلى عقل أحد تلك القراقف السوداء الرأس،
أو عقل ضفدع واقف على الضفة، أو عقل البط، أو الجرذان،
أو حتى أسماك المِنوة، فسنُدرك تلك التشابهات.
الهوامش
⋆
للتوضيح، تلك الدراسات لم تُجرَ على الغراب
الأمريكي، وهو نوع الغربان التي كانت تضايق
الباز، إنما أُجريت على أنواع من الغربان قريبة
النسَب منه بما فيها غربان نيو كاليدونيا وغربان
القيظ.
† أقصد بالوعي الذاتي إدراك الفرد لذاته باعتبارها
كيانًا مستقلًّا، وليس مجرد الإدراك الأساسي
لكونه حيًّا وواعيًا، الذي يُعرَف باسم
الإحساسية.