الفصل الحادي عشر

الغزاة

قال لي إريك لندجرين إنه، قبل عشر سنوات، كان يُخيم في صحراء سونورا، ولاحظ شيئًا غير مُعتاد: تجمُّعات من الحفر، عرض كل حفرة فيها عدة أقدام وكذلك عُمقها، محفورة في مجرى نهر جفَّ ماؤه. تجمعت المياه في قاع تلك الحفر. كانت الحفر آبارًا حفرتها الحمير التي لا تزال تُسمَّى باسمها باللغة الإسبانية «البورو» في جنوب غرب أمريكا. افتتن بها لندجرين. فقد كانت تلك الآبار بمثابة واحاتٍ غير متوقعة في تلك المنطقة التي يسودها الجفاف. وتساءل ما المخلوقات الأخرى التي قد تشرب منها.

كان لندجرين آنذاك عالِم أحياء شابًّا يقوم بالعمل الشاق في الميدان بصفته فنيًّا ميدانيًّا في مشاريع للحفاظ على البيئة، وبحث في المؤلفات العلمية عن روايات عن الآبار التي تحفرها الحمير. لم يجد أي ذِكر لها، وهذا ليس مستغربًا. ففي شرق أفريقيا، الموطن الأصلي للحمير، تُعَد مُهددة بشدة بالانقراض؛ إذ لم يتبقَّ إلا أقل من ٦٠٠ حمار.1 أي لا يوجَد تقريبًا عدد كافٍ لأن يدرسه أحد. وفي أماكن مثل جنوب غرب أمريكا، حيث تنحدِر جماعات الحمير من حمير استقدمها المستعمرون الإسبان منذ قرونٍ لخدمتهم، يَعتبرها معظم علماء البيئة وعلماء الحفاظ على البيئة — وكذلك مسئولو وكالات الأراضي ومختصو إدارة الحياة البرية والمزارعون — آفة؛ حيوانات غازية مُخرِّبة تفسد النظم البيئية الحسَّاسة غير الملائمة لوجودها المُتطفل، أعدادها مُفرطة، وتوجَد ضرورة ماسَّة للقضاء عليها. مِن ثَم لا تستحق ممارسة حفر الآبار التي قامت بها أن تحظى بأي اهتمام.
أعلنت جمعية الحياة البرية في بيانٍ لها يُجسد الاعتقاد السائد: «إنها لا تؤدي أي دورٍ وظيفي في أنظمتنا البيئية القائمة في أمريكا الشمالية.»2 فهي نوع غازٍ؛ ومِن ثَم يُعَد «من أقوى وأخطر التهديدات على سلامة أعداد الحيوانات البرية الأصلية.» غير أن لندجرين لم يكن من أولئك الذين يُسلمون بصحة المعتقدات تسليمًا أعمى.

لكن لم يكن هذا هو الحال دائمًا. كان طفلًا مُحبًّا للطبيعة، ثم مراهقًا مولعًا ببيولوجيا الحفاظ على البيئة، وتعلم أن الأنواع الأصلية جيدة، والأنواع المُستقدَمة أو الدخيلة — أي تلك الموجودة في المكان لأنه في مرحلةٍ ما من التاريخ، استقدمها البشر من موطنها السابق — مُثيرة للمشكلات. ففي حين أن الأنواع الأصلية تطورت معًا في مجتمع حيوي مُتشابك لدرجة مُعقدة، تُعَد الأنواع الدخيلة متطفلة؛ إذ تنزع علاقاتها البيئية لأن تكون أفقرَ وأقلَّ عددًا ودعمًا للحياة. بل إن بعضها يُعَد مُدمرًا بعد أن تحرَّر من أي ضوابط وتوازنات كانت موجودة في مواطنه الأصلية. هذه الأنواع تعتبر غازية. من ثَم فإن قتلها بغرَض الحفاظ على سلامة الأنظمة البيئية يُعَد مبرَّرًا، بل ضروريًّا.

لكن ذات يوم، أخبر لندجرين والده عن مخاطر صريمة الجدي الآمورية، وهي شُجيرة موطنها الأصلي شرق آسيا مُنتشرة الآن في شرق الولايات المتحدة، فطرح والده سؤالًا جعلَه يُعيد النظر في اعتقاده. سأله: «تُرى كيف ستصير؟» بمعنى: ما العلاقات البيئية التي قد تتكوَّن بمرور الوقتِ والضغط التطوُّري نتيجة قدوم هذا الوافد الجديد؟ ظل وقع هذا السؤال يتردَّد في ذهن لندجرين. إذ كان يجسد الفضول والانفتاح الذهني، وهما صفتان كان يعتقد أن عالم الأحياء يجِب أن يتحلى بهما. وسرعان ما خلص إلى أن التفريق بين الأنواع الأصلية والمُستقدَمة أعقدُ بكثير مما تعلَّم.

قبل أن ينتقل لندجرين إلى ولاية أريزونا، عمل في مجموعة جزر قبالة ساحل كاليفورنيا كانت تُباد فيها القطط لحماية الطيور الأصلية المُهددة بالانقراض وتقليل المنافسة مع الثعالب عليها. (في الواقع، كانت الثعالب دخيلة على تلك الجزر، استقدمتها شعوب ما قبل الاستعمار منذ نحو ٦ آلاف عام؛3 وهي فترة طويلة بما يكفي لأن يسقط عنها وصف «مستقدَمة»، ولأن تُصبح نُوَيعًا مميزًا.) غير أنه عند فحص محتويات مَعِدات القطط تبيَّن أنها تكاد تعتمد اعتمادًا كليًّا على الفئران في غذائها، في حين أن احتمال تغذِّي الثعالب على الطيور المُهددة بالانقراض أعلى بكثير. وفي جزيرة أخرى من تلك الجزر، قضى نشطاء الحفاظ على البيئة على الخنازير المُستقدَمة؛ لكن العقبان الذهبية المُقيمة في تلك الجزيرة بدأت تفترِس الثعالب بدلًا من الخنازير، وهو ما استلزم أسْر تلك العقبان.4
كانت التوترات والغموض اللذَين واجههما لندجرين أشيعَ مما قد يظن المرء. على سبيل المثال، في مايكرونيزيا، ظلت الأورال التي كان يعتقد أنها مُستقدمة تُقتَل بغرَض القضاء عليها لوقتٍ طويل، لكن ثبت أنها نوع أصلي وصل إلى الجزر منذ آلاف السنين قبل وصول البشر إليها.5 وفي منغوليا، وجدت الدراسات الجينية التي أُجريت على خيول شفالسكي المهددة بالانقراض، التي تُعَد آخر الخيول البرية الأصلية، أنها من نسل خيول مستأنسة.6 وهل من المنطقي تبرير قتل الماعز الجبلي الذي يُقال إنه دخيل على مُتنزَّه جراند تيتون الوطني، في حين أنه يُعَد أصليًّا على بُعد بضع عشرات من الأميال؟7 وهل يمكن للأنواع المستقدَمة في بعض الأحيان أن تفيد التنوع البيولوجي، بأن تُثري شبكات الحياة بطرق تجاهلناها بالتركيز على أصلية الأنواع؟
عمل لندجرين في مشروعٍ في هاواي، حيث قضت الملاريا التي ينقلها البعوض على الطيور الأصلية. في العديد من الغابات، تؤدي الطيور المُستقدَمة الآن الأدوار البيئية التي كانت تؤديها من قبلُ نظيرتها الأصلية؛8 إذ تنشر البذور التي ستنمو منها الغابات مُستقبلًا؛ ومع ذلك، قُتلت تلك الطيور تطبيقًا للسياسة. وفي مكانٍ أقرب إلى منزله، في الجنوب الغربي، اتُّهمت أشجار الأثل المُستقدَمة بمزاحمة الغابات الشاطئية الأصلية والطيور التي تعيش فيها، غير أن أشجار الأثل كانت ببساطةٍ أكثر تكيفًا من الأنواع الأصلية وأقدر على البقاء في ظروف الجفاف وندرة المياه الناتجة عن النشاط البشري. والآن تعتمد عليها طيور صياد الذباب الصفصافية الجنوبية الغربية، وهي من الأنواع المُهدَّدة بالانقراض.9

إلى جانب تحفُّظات لندجرين على مبرِّرات قتل بعض أنواع الحيوانات لمساعدة أنواع أخرى، التي بدأ يراها مؤخرًا واهية، كان منزعجًا من الطرق التي يحدُث بها ذلك. ليس لأنه لا يتحمَّل فكرة الموت؛ فقد نشأ على الصيد. لكن لأن هذا النوع من القتل كان يحصل بعفويةٍ دون أن يُثير أي مشاعر، كما لو أن تصنيف تلك الأنواع بأنها غازية يسلب حقها في أي اعتبارات أخلاقية. قال لي لندجرين: «إذا كانت الأرواح لا تُهم، فما المَغزى من الحفاظ على البيئة؟» قابل زملاؤه محاولاته التحدُّث معهم عن هذا الأمر بنظراتِ استغراب.

في الوقت الذي قرَّر فيه لندجرين الالتحاق بالدراسات العُليا لدراسة التفاعلات بين الأنواع الأصلية والمُستقدَمة، كانت هذه التوترات قد شقَّت طريقها إلى خطاب الحفاظ على البيئة. في مقالٍ بارز نُشر عام ٢٠١١ بعنوان «لا تحكُم على الأنواع بناءً على أصولها»، كتب علماء: «القيمة العملية للتفرِقة بين الأنواع الأصلية والأنواع الأجنبية في مجال الحفاظ على البيئة لا تنفكُّ تتناقَص، بل إنها باتت تؤدي إلى نتائج عكسية.»10 لا يزال هذا الرأي مُخالفًا للاعتقاد السائد، ولكنه أصبح الآن جزءًا من النقاش. وفي الوقت نفسه، ترى حركة الحفاظ الرحيم على البيئة الحديثة النشأة أن موضوع قيمة أرواح الحيوانات الفردية، والأُطر الأخلاقية التي وُضعت لتبرير كيفية معاملة الناس للحيوانات الأسيرة والداجنة، يستحقُّ أن يُطرح في النقاشات المتعلقة بالحيوانات البرية أيضًا.11 لقي هذا الرأي أيضًا استحسان لندجرين، وغذَّى استياءه من الانحياز غير المُبرر للأنواع الأصلية.

بدأ لندجرين دراساته العُليا بدراساتٍ على الأعشاب غير الأصلية بدت غرائبية، لكن كان يُحركه سؤال عميق: ما الذي يمكن للناس أن يتعلَّموه إذا نحَّوا جانبًا الأفكار المُسبقة عن الأنواع الأصلية والمُستقدَمة، وإذا نظروا دون تحيُّزات إلى ما تُقدمه الأنواع من الفئتَين؟ باختصار، كان لندجرين الشخص المثالي ليُلاحظ آبار الحمير.

•••

هكذا انتهى بنا المطاف في منطقة كاتتيل سبرينج، التي تقع على بُعد نحو ١٤٠ ميلًا شمال غرب مدينة فينيكس، قطعنا منها بضعة الأميال الأخيرة على طريقٍ تُرابي جعلت الفيضانات الناتجة عن موسم الأمطار السيرَ فيه شبهَ مُستحيل. كاتتيل سبرينج ليست بلدة، إنما مجرد منطقة في الصحراء يتدفَّق خلالها الماء أحيانًا، وبغرض توثيق الحياة التي تنشأ حول آبار الحمير هناك، وضع لندجرين كاميرات مراقبة، اشترى أولها بنقود جمعها من حملة تمويلٍ جماعي على منصة «إنديجوجو»؛ مما يؤكد مدى غرابة بحثِه ومخالفته للمعتاد.

وصلْنا في وقتٍ متأخر بعد الظهيرة وخيَّمنا هناك. وعندما حلَّ الليل، تحدَّثنا عن الجوانب التي تُثير ضيقه من المُعتقدات المتعلقة بأصلية الأنواع. سألني عن شعوري تجاه إبادة القوارض المُستقدَمة في الجزر التي تتغذَّى فيها القوارض على مُستعمرات الطيور البحرية. ربما تكون هذه الحالة هي أبلغ مثالٍ للحالات التي يكون فيها للأنواع المُستقدَمة تأثيرات كارثية على التنوع البيولوجي، ويطغى فيها تقديري لتلك المُستعمرات المزدحمة والنظم البيئية القائمة في الشعاب المرجانية المُتاخمة لها التي تُغذيها فضلاتها على عدم ارتياحي تجاه قتل بعض الحيوانات لحماية البعض الآخر. قال: «هذا هو السؤال الذي أجد صعوبةً في الإجابة عليه. عمليات الإبادة على مستوى القارات» — حيث الأعداد منتشرة وغير محكومة، ويمكن للحيوانات المهاجرة أن تحلَّ بسرعةٍ محل الحيوانات التي تباد — «أرى أن عمليات الإبادة على هذا المُستوى غير مُجدية على الإطلاق. لكن يصعب حسم موقفي منها على مستوى الجزر.»

أنا أتمنَّى أن يستحضر قتل الفئران والجرذان على تلك الجزر «بقايا القِيَم الأخلاقية للحفاظ على البيئة»12 كما تُسميه عالمة الأخلاق البيئية تشيلسي باتافيا وعالمة البيئة أريان والاش، وهي مناصرة بارزة لحركة الحفاظ الرحيم على البيئة، وكانت مُستشارة لندجرين في رسالة الدكتوراه. فليس ذنب القوارض أن البشر نشروا أسلافها في أرجاء العالم دون اعتبار للعواقب؛ كما أن افتراسها لفراخ الطيور البحرية كان سيُعامل باعتباره جزءًا حتميًّا من الطبيعة لو أن نوعًا يُعَد أصليًّا هو الذي يفعله. وقتلها، حتى لو كان لأغراضٍ نبيلة، يُعَد سلبًا لأرواح بريئة. كتبت تشيلسي وأريان في دورية «كونسرفيشن بيولوجي»:13 «لا بد أن يُبدي نشطاء الحفاظ على البيئة استجابةً انفعالية ملائمة لتعدِّيهم على تلك المساحة الأخلاقية. فالشعور الذي يتناسَب مع أفعال الأذى هو الحزن. أما اللامبالاة أو عدم الاكتراث فلا يتناسبان معها.»

طوال السنوات التي قضيتها في القراءة عن الأنواع الغازية والكتابة عنها، لم أُصادف حتى الآن أي تعبير عن الحزن. تَعتبر تشيلسي باتافيا وأريان والاش هذا مُقلقًا؛ لأن هذه المشاعر «بمثابة قيود تربطنا بمفاهيمنا المطلقة عما هو جيد وذو قيمة في العالم.» وغيابها يُهدد بتدمير جزءٍ مُهم من أنفسنا؛ يذكر لندجرين زميلًا بكى بعد تنفيذه عملية قتلٍ رحيم لطائر أصلي كُسِر جناحُه، لكنه قتل طيورًا مُستقدَمة دون أن يُبدي أدنى قدْر من التأثر. فالقسوة لا يمكن أن تستمرَّ إلا بموت الرحمة.

اتفق لندجرين مع هذا الرأي. وأضاف أن التعامُل بلامبالاة مع قتل الأنواع المُستقدَمة يجعل من السهل أيضًا غض الطرف عن مشكلاتٍ أقل وضوحًا ولكنها لا تقلُّ أهمية، مثل الصيد الجائر للأسماك الذي يتسبَّب حاليًّا في تجويع العديد من الطيور البحرية.14 علاوة على ذلك، حتى في الجزر، يمكن أن تكون تأثيرات الأنواع المُستقدمة طفيفة؛ فقد كشف تحليل أُجريَ على ٣٠٠ جزيرة في البحر الأبيض المتوسط تحتوي على طيور بحرية وجرذان غازية أن الجرذان أثَّرت على وفرة نوعٍ واحد فقط من الطيور البحرية، وهو ما وصفه الباحثون بأنه «مفارقة مُذهلة في مجال الحفاظ على البيئة».15

قال لندجرين: «نحن لا نضع التطوُّر في حساباتنا على الإطلاق.» ربما، بمرور الوقت، ستُفاجئنا الأنواع المُستقدمة حديثًا والأنواع التي تُعَد أصلية منذ فترةٍ طويلة بقُدرتها على التعايش معًا. بل ربما تتعايش الفئتان بالفعل في العديد من الأماكن؛ لكن سهولة قتل الأنواع التي تُسمَّى بالغازية، والأفكار المترسِّخة التي تدعم قتلها، جعلت من الصعب رؤية ذلك. نِمتُ وأنا أتأمَّل تلك الأفكار، تحت السماء المرصَّعة بالنجوم، التي سمح لي هواء الصحراء الجاف وغياب المساكن البشرية على امتداد أميال في جميع الاتجاهات بأن أراها بوضوح غير مسبوق.

في لحظة ما من الليل، أيقظَنا نهيق حمار قريب، وهو صوت قبيح مذموم «هي ها!» ولكنه في هذا المكان بدا مَهيبًا على أقل تقدير. بل سأقول إنه بدا فخورًا ومُستقلًّا، حتى وإن كان وصفي سيُضايق مُنتقدي الأنسنة. عند طلوع الفجر وجدْنا آثار حوافر: تجمَّعت مجموعة من الحمير على بُعد بضع مئاتٍ من الأقدام من فُرُشنا. ربما أثار وجودنا فضولها؛ ربما كان النهيق طريقةَ أحدِها لإعلامنا أن هذا وطنه. من على قمَّة تل، احتسينا القهوة وشاهدنا الشمس وهي تشرق وتغمر الوادي تحتنا بذلك الوهج الخافت الذي يسبق ضوء النهار. لم نرَ أي حمير في الأرجاء، لكن صدى نهيقها البعيد تردَّد بين جنبات الوادي، واختلط مع عواء ذئاب القيوط في نهاية الليل.

قال لندجرين: «هذا صوت العصر البليستوسيني.» قصد بذلك أنه حتى نحو ١٢ ألف سنة مضت — أي في نهاية العصر الجيولوجي الذي يُسمى في اللغة الدارجة بالعصر الجليدي — كانت المنطقة مأهولة بمجموعة هائلة من الحيوانات الضخمة البِنية،16 من بينها الجمال وحيوانات التابير والماموث ونوعان من الخيول البرية، أحدهما يُشبه الحمير للغاية. لكن مثل معظم حيوانات أمريكا الشمالية الكبيرة، قضى مزيج من تغيُّر المناخ والصيد البشري على تلك الحيوانات أو دفعها إلى شفا الانقراض.
لكن حيث لا تزال الحيوانات الضخمة باقية في نطاقاتها الأصلية، فإنها تُعَد مهندسة طبيعية للمساحات، وأنواعًا أساسية ترتبِط وظائفها البيئية ارتباطًا فريدًا بحجمها.17 تكثر الأبحاث التي أُجريت عليها؛ فهي تنشر البذور عبر مسافاتٍ شاسعة، وتوزع كميات هائلة من العناصر الغذائية من خلال روَثِها، وفي النهاية جِيَفها، وتخلق أنماطًا نباتية شديدة التنوع تُثري المناطق الطبيعية من خلال رعيها. إذن إذا نظرنا إليها من منظورٍ تاريخي ممتد، نرى أن غيابها الحالي في جنوب غرب أمريكا يُعَد خللًا وخسارة. واعتبار المناطق الطبيعية التي تفتقر إليها سليمة يُعَد نوعًا من فقدان الذاكرة البيئية.
بالنسبة إلى لندجرين، فإن النظر تلقائيًّا للحمير من حيث الأضرار التي تُحدثها وعدم أصالتها في المكان يعكس خللًا في تقدير دور الحيوانات الضخمة، وعدم إدراك أن المعايير الأساسية للحفاظ على البيئة تُسقِط من اعتبارها مجموعةً كاملة من الحيوانات. تلك الحمير ليست هي نفسها الخيول التي كانت تعيش هنا ذات يوم، لكن وجودها أقل غرابةً بكثير من غيابها. أراني لندجرين شجيرة كريوزوت. تتكاثر شجيرات الكريوزوت من خلال البذور وكذلك من خلال الاستنساخ الذاتي؛ يُقدَّر عمر أقدم مُستعمرة معروفة من تلك الشجيرات بنحو ١٢ ألف عام.18 قال: «كانت واحدة من أوائل النباتات التي وصلت إلى هنا في نهاية العصر الجليدي. لقد نبتت في وقتٍ كانت تُحيط بها فيه حيوانات الماموث والجِمال، لكنها لا تزال باقية.»

•••

بعد أن حزمنا حقائبنا انطلقنا إلى منطقة الينابيع. خشخشت أقدامنا على التربة الصخرية الجرداء في أغلبها، وإن لم تكن قاحلة على الإطلاق. فصحراء سونورا تُعَد واحدة من أثرى الصحاري على وجه الأرض من حيث التنوُّع البيولوجي،19 ولأني من أهل الشمال، تعرفتُ على قليلٍ فقط من النباتات، فساعدني لندجرين بذِكر أنواعها: المُتصالبة، المعروفة باسم المتصالبة البيجلوفية، ويعني اسمها الدارج في الإنجليزية زهرة الصخور الشعثاء. والأوكوتيلو، الذي يعني اسمه الدارج في الانجليزية سوط الحوذي، المُغطى بأشواك تُشير إلى أنه في وقتٍ ما من تاريخه التطوري كان فريسة للحيوانات العاشبة الكبيرة. وشجرة صغيرة صفراء من جنس الباركنسونيه (يُسمى «بالو فيردي» بالإسبانية، وتعني العصا الخضراء) أُكلت منها أجزاء حديثًا. صاح بدهشة: «انظر ماذا فعلت الحمير بهذه النبتة!» كانت قد بلغت بطريقةٍ ما الفروع التي تمتدُّ فوق رءوسنا وجذبتها لأسفل، فانكسرت وانفصلت عن الجذع. تابع: «كيف تفسر ذلك؟ إنه أمر مُرهق للنبات؛ ولكن هذا ما تفعله الحيوانات العاشبة. وذلك أمر فريد من نوعِه. فلا يفعل أي حيوان أصلي ذلك الآن. لكن الحيوانات الأصلية قديمًا كانت تفعل مثل تلك الأشياء.»

كانت بعض الكسور حديثة. وبعضها قديم. لم يكن ما نراه نتيجة موجة اقتيات واحدة، إنما العديد من الموجات التي امتدت على مدار السنين، وشكلت نمو الشجرة، ويَشتبِه لندجرين في أنها تؤدي إلى تقليم الشجرة بطريقةٍ فعالة، وتُحفز نمو براعم جديدة طرية يمكن أن تستهلكها حيوانات مثل كباش الجبال الصخرية. قال لندجرين: «السؤال هو، كيف تتعامل مع هذا؟ ما المنظور الذي تنظر منه؟ هناك شرائح عرْض لدى وكالة الطرائد والأسماك في أريزونا» — وهي وكالة إدارة الحياة البرية في الولاية — «تُظهر صورًا مثل هذه. وحُجتهم هي أن الحيوانات العاشبة الأصلية ليس لدَيها قواطع أمامية، لكن الحمير البرية لدَيها. لذلك فهي تقتل النباتات. أنا أرى أن ذلك منطق عجيب. هذا إلى جانب أنها لا تقتُل تلك النباتات. إنما ترعى عليها.»

عارضته سائلًا: ألن تكون هذه الأشجار أكثر عرضةً للأمراض؟ فقد لا تموت كل شجرةٍ رعت عليها الحمير، ولكن العدد الذي سيموت منها في وجود الحمير أكبر مما سيكون في غيابها. أجاب لندجرين: «صحيح. هذا مُمكن. ولكن ماذا يعني ذلك؟ أهو أمر جيد أم سيئ؟ يُثير قلقي أن يتغير نظامٌ ما فيتجرد من التربة السطحية بعد أن كانت موجودة به. لكن ماذا عن تغيُّر تركيبة الأنواع الموجودة فيه؟ أو تغيُّر بِنية الأشجار؟ لا أعتقد أن هذه تغيُّرات جيدة أو سيئة بشكلٍ قاطع.»

أشار إلى شجرة باركنسونيه أخرى لم تُمَس، قريبة من الأولى. قال: «يمكنك حتى أن تستخلص استنتاجات من تلك الأنماط.» فعندما رعت الحمير على إحدى الشجرتَين، توقَّف نموُّها، وهذا سيُتيح الفرصة للشجرة الأخرى لأن تنتشر على نطاقٍ واسع وتُصبح شجرة مُظللة. لفت انتباهي إلى أن الحمير لا تأكل الفروع التي كسرتها كاملة، إنما تترك الغُصينات مفروشةً أسفل الشجرة مثل بساط من الأشواك. قال إن هذا شائع، وتأمَّل في الوظائف المُمكنة لذلك البساط. ربما يتيح للعشب تحته أن ينمو لأطوالٍ أعلى دون أن ترعى عليه الماشية؛ للوهلة الأولى، بدت السيقان العُشبية المنبثقة منه أطول من تلك المحيطة بها. وتحت الغُصينات كانت التربة باردة ورطبة نسبيًّا، وتلك ظروف أفضل لإنبات البذور. تُرى ما الكائنات الحية الأخرى التي تلجأ إليها؟ هل يمكن اعتبارها موئلًا صغيرًا فريدًا؟

قال: «أودُّ أن أعرف ما الذي يحدث لهذا البساط الشوكي. لولا الحمير لما وُجد في البيئة.» اعترف أنه ربما يكون مُخطئًا، لكن ذلك هو نوع الأسئلة التي ينزع الناس إلى التغاضي عنها بناءً فقط على أن الحمير ليست أصلية. غير أنه لو لم يكن المرء يعرف أن الحمير ليست نوعًا أصليًّا، فهل كان سيَعُد نشاطها مضرًّا؟ بعبارة أخرى، لو كان الناس يعتقدون أن الحمير نوع أصلي، فهل كانوا سينظرون إلى سلوكها هذا بمنظور مختلف؟ تُراود لندجرين فكرة تأليف دراسة تهكُّمية، يُعدِّد فيها جميع أنشطة حيوان أصلي كبير الحجم يُحدِث اضطرابًا، مثل الموظ، دون أن يذكر نوعه، وهو ما سيستشف منه القراء ضمنًا أنه يبحث الدمار الذي أحدَثَه نوعٌ دخيل، حتى يكشف لهم في النهاية أنه يتحدث في الواقع عن حيوان أصلي.

واصلنا سيرنا. في مرحلةٍ ما عبرنا مسارًا قال لندجرين إنه للخنازير البيكارية. الخنازير البيكارية نوع يُشبه الخنازير، التي تُعَد تاريخيًّا أصلية في أمريكا الجنوبية، هاجرَت تدريجيًّا شمالًا، ووصلت إلى الولايات المتحدة خلال القرن العشرين. وهي تُعَد الآن نوعًا أصليًّا، غير أن الحمير موجودة هنا من قبلها. قال لندجرين إنه إذا كانت الحمير تُمثل مشكلة لأن النظم البيئية الحديثة لم تتطور معها بشكلٍ مشترك، أفلا ينبغي أيضًا أن ننظر إلى الخنازير البيكارية بعين الشك؟ قال: «يرى الناس أن الحيوان الذي جاء بنفسه له الحق في أن يوجَد هنا، حتى لو كان له نفس تأثير حيوان جلبناه نحن. أما الحيوانات التي جلبناها لنستعبدها ثم تخلَّصنا منها، فلا تنتمي إلى هنا.»

في عدة مرات مررنا بروَث الحمير: ليس أكوام الروث المعهودة بها، التي تكون غنية بالمعلومات حول هويتها ومنطقتها،20 إنما كانت تُشبه كعكاتٍ صغيرة جافة. قال لندجرين: «لا بد أن يكون هناك بعض التبِعات البيئية. راقِب هذا المكان على مدى السنوات العشرين القادمة وشاهِد ما سيحدُث له. أو شاهد فقط التغيرات التي ستطرأ على النمل الأبيض وخنافس الروث التي تجلب الكربون إلى التربة.» في الواقع هذا أحد التأثيرات الدقيقة لفقدان الحيوانات الضخمة: فمنذ انهيار أعداد الحيوانات الضخمة، انخفض بمقدار الثلث عدد خنافس الروث في العالم؛ تلك الكائنات المُتواضعة التي لا تحظى بالكثير من التقدير، والتي لها دور مُهم في إعادة تدوير العناصر الغذائية الموجودة في الروث ومُغذيات التربة.
كان الروث ليفيًّا، وهو ما يُشير إلى دور آخر للحمير: المساعدة في إكثار النباتات. الأبحاث العلمية عن التفاعُلات البيئية للحمير قليلة جدًّا، لكن ثَمة استثناء لذلك في بلجيكا، حيث درس علماء بيئة من جامعة جنت ما حدث عندما سُمح للحمير بالرعي في المحميات الطبيعية الفلمنكية بغرض تقليد العمليات التي اندثرت بانقراض الحيوانات العاشبة الكبيرة الأصلية.21 ما حدث هو أن بذور ما لا يقلُّ عن ٨٢ نوعًا من النباتات انتقلت إما نتيجة علوقها بفراء الحمير وإما المرور عبر قنواتها الهضمية؛ مما ساعد على انتشارها في جميع أنحاء المحميات.22
من الأمور المهمة التي يجدر بنا أن نلفت النظر إليها، المسافات الطويلة التي تنشر عبرها الحمير البذور. فهي تسمح بنشر الجينات في أرجاء المناطق الطبيعية، وهو ما يحول دون انعزال أنواع النباتات المحلية وتوقف نموها وتكاثرها، ويساعد الأنواع على استعمار أماكن جديدة. وصف علماء البيئة البلجيكيون الحمير بأنها «حلقات ربط مُتنقلة».23 وعن دور الحمير في نشر البذور كتبوا: «بما أن الحيوانات العاشبة الكبيرة كانت دائمًا جزءًا من النظم البيئية الطبيعية، فإن دورها في نشر البذور قد يكون ضروريًّا للحفاظ على ثراء الأنواع.» وقد أكدت نتائجهم ملاحظاتٍ رصدها في وسط إيران باحثون يدرسون البذور في بُراز الحمير الوحشي الفارسي، وهو من أقرباء الحمير البرية الأفريقية وأحفادها المستأنسة أو المتوحشة؛ إذ قالوا: «إنها تلعب دورًا مهمًّا في الحفاظ على التنوع البيولوجي للنباتات وديناميات الغطاء النباتي.»24
توصَّل باحثون آخرون إلى استنتاجٍ مُفاده أنه في غياب الحيوانات الضخمة — وليس الحمير تحديدًا، إنما الفئة التي تنتمي إليها بصفة عامة — فإن الحد الأقصى لمسافة انتشار بذور الفاكهة قد تقلَّص بمقدار الثُّلثَين منذ العصر الجليدي.25 أشار لندجرين إلى شجرة جوشوا، وهي نوع غربي محبوب يُهدده تغيُّر المناخ. فوفق بعض التقديرات، سنفقد ما يصل إلى ٩٠ في المائة منها بحلول نهاية القرن؛26 إذ ستنكمش نطاقات موائلها بشكل كبير. يؤمل أن تساعد الهجرة شمالًا تلك الأشجار على البقاء؛ لكن لندجرين يقول إنه بينما كانت الجِمال قديمًا تنشر بذورها عبر مسافاتٍ طويلة، فإن «الكائنات الوحيدة التي تنشرها الآن هي القوارض.» فالغزلان تأكلها، لكنها تمضغ البذور حتى تصير ناعمة جدًّا إلى درجة يُستبعَد معها أن تمرَّ عبر قنواتها الهضمية سليمة. فهل يمكن للحمير أن تفعل ما كانت تفعله الجِمال يومًا ما؟ هل يمكنها أن تساعد أشجار جوشوا في إيجاد ملجأ؟ كان هذا سؤالًا آخر لدراسة مُستقبلية.

حتى تلك اللحظة كنا قد مشينا بضع ساعات. وبدأتُ أشك في أننا سنرى الحيوانات التي تدور حولها نظرياتنا. حتى حدث ذلك: نبَّهتنا زفرتان صاخبتان إلى أننا لم نعُد وحدَنا. وعلى منحدَرٍ منخفض إلى يسارنا، ربما على بُعد مائة قدم أو نحو ذلك، رأينا حمارًا.

•••

على الفور صمتنا وتسمَّرنا. من الإنصاف القول إننا لم نباغت الحمار، إنما باغَتَنا هو. كان يقف جانبيًّا، بحيث كان يرانا بإحدى عينَيه الداكنتَين ويسمعنا بإحدى أُذنيه، وأكاد أجزم أنه يُراقبنا منذ فترة. ربما كان الزفير طريقته لإخبارنا بأنه يعلم بوجودنا. التقطت بعض الصور له وأطلق شهقتَين طويلتَين؛ إذ كان الصوت هذه المرة ناتجًا عن استنشاقه للهواء وليس زفره له، وكأنما يتفحص رائحتنا بأنفه الضخم. عندما استمعتُ إلى تسجيلي للقاء لاحقًا، سمعت صوت نهيق حمار بعيد، يبدو أن أذني لم تلتقِطه آنذاك؛ ربما كان الحمار يحاول التواصُل معه. بعد لحظة استأنف رعيَه في رقعة من العشب البُني، لم يكن قلقًا بل يقظًا؛ إذ كان يرفع رأسه بين الحين والآخر لينظُر لنا.

figure

لاحقًا فكرتُ مليًّا كيف يمكنني أن أصف الحمار. من الناحية الجسدية البحتة، كان له جسد رمادي قوي وأرجُل بيضاء مفتولة. كان خطمه أبيض أيضًا، وكذلك كانت حلقةٌ تحيط بكلٍّ من عينَيه وهلال تحت رقبته، وأذنَيه اللتَين كان طرفاهما الأسودان يؤكدان على يقظتهما. لكن خطر لي أنني لا أعرف عنه سوى القليل. ليس لأنه يستعصي علينا أبدًا سبر أغوار عالم الحمير الداخلي أو ما شابه، ولكن لأنني كنت مجرد عابر سبيل. مَن أصدقاؤه وعائلته؟ وما الأشياء التي يستمتع بفعلها؟ وما قصته؟ من السهل جدًّا أن ننظُر إلى الحيوانات البرية على المستوى السطحي، وأن نُقدِّم الفئات أو الأنواع على الأفراد؛ وذلك لأننا نكتفي بالنظر إليها عرَضًا دون إمعان.

ومع ذلك، في الخريف بعد زيارتي للندجرين، بدأت التطوُّع في محمية «بيس ريدج»، وهي ملجأ لحيوانات المزارع المُنقذَة من بلدة بروكس الريفية، بولاية مين. كلَّفوني في البداية بالعناية بالحمير، التي كانت المحمية تئوي منها ثلاثةً وأربعين، منها عدد قليل جاء به أشخاص مُعتنون بعد أن أصبحوا غير قادرين على إعالتها، لكن أغلبها كانت ضحايا للإساءة والإهمال. في صباح أيام الأحد كنتُ أنظف إسطبلاتها. وهناك عرفتُ عددًا قليلًا منها، معرفة بسيطة على الأقل. كانت تلك الحمير تتمتع بضبط النفس، وحسٍّ من المراعاة والتحفظ، أوضح لي أن تلك الزيارات القصيرة لم تكن سوى تمهيد. إذا كان هذا الوصف لشخصيتها يبدو إسقاطًا رومانسيًّا، فلا يسعني إلا أن أقول إنه وصف يتفق عليه عددٌ كبير جدًّا من الأشخاص الذين يعرفون الحمير حق معرفة. على أي حال، لا تهم الأوصاف التعميمية بقدْر ما تهم قصصها الفردية.27

كانت هناك أنجي، التي جاءت إلى الملجأ وهي جحشة تُعاني من انخلاع في ساقها، وهو ما استلزم فصلها عن باقي القطيع حتى شفائها. بسبب ذلك، وبسبب أنها حُرمت من وجود أُمها التي تُعلمها آداب السلوك الاجتماعي، كانت منبوذة في البداية، وذكَّرتني بأطفالٍ عرفتهم يتوقون إلى التواصُل الاجتماعي لكنهم في الوقت نفسه يُفسدون أي فرصة لذلك. كانت لا تُمانع على الإطلاق جذب الانتباه إليها، فكانت تهرول دائمًا تقريبًا للقائي عند وصولي. كان سلوكها يتناقض بشكلٍ حادٍّ مع «جيد»، الذي كان غالبًا ما يقف على مقربةٍ مني لكنه لا يقترب أكثر من اللازم، وينظر إليَّ بعينَين عميقتَين تنمَّان عن الخجل أو حتى عن نقص الثقة بالنفس، تاركًا لي زمام المبادرة بشأن الاقتراب منه والوقوف بجواره.

بدا فعل الوقوف مع الحمير، رغم بساطته، مُهمًّا للغاية بالنسبة إليها. هي لا تنزع إلى الإفراط في إظهار الودِّ مثل الكلاب أو الماعز — وإن كانت تُحب أن يُدلك المرء وجْنتَيها — لكنها اجتماعية للغاية وتُحب أن تكون متقاربة. وهو سلوك أسماه علماء سلوك الحيوان الذين يُراجعون الأبحاث التي تتعلق بالإدراك والسلوك «الحفاظ على التقارُب في العلاقات الثنائية»،28 وهي عبارة دقيقة وفي الوقت نفسه غير وافية. فبعضها كان لدَيه صديق واحد مُميز للغاية نادرًا ما تترك جانبه، وهي ظاهرة معروفة جيدًا للأشخاص الذين يُعايشون الحمير، وقد أكدها العلماء أيضًا. كتب العلماء أن معظم التفسيرات تُركز على أن «الأسباب لها علاقة بالجنس والقرابة باعتبارها الدافع وراء تلك العلاقة الثنائية. إلا أن طرفَي تلك العلاقة كثيرًا ما يكونان من جنسٍ واحد ولا تربطهما صلة قرابة.» بعبارةٍ أخرى، هذه الروابط ليست مدفوعة بالجنس أو القرابة، إنما بالمودة؛ ولهذا السبب قد يؤدي الانفصال «إلى الضيق الشديد وفقدان الشهية والهزال.»

ربطت مثل هذه الصداقة بين حمارة قزمة تُدعى سندريلا — أظن أنها سُميت بهذا الاسم لأنها تملك عينَين واسعتَين جميلتَين مثل عيون أميرات القصص الخيالية — وحمارة تُدعى زينيا، أتت إلى ملجأ «بيس ريدج» عن طريق مزاد سيئ السُّمعة للحيوانات، حيث يتم عن طريقه بيع الخيول والحمير التي لم تعُد تُدِرُّ أرباحًا أو باتت عبئًا على أصحابها، ويشتريها من يُسمَّون بالمشترين بغرَض القتل، حيث يبيعونها للمجازر. أشفقَت منقذة كانت تحضر المزاد على زينيا، التي كانت حُبلى، وكانت الحمير الأخرى تُضايقها، فاشترتها. لكنها، في الواقع، لم تكن تعرف كيف ترعى حمارًا، فانتهى الأمر بزينيا في «بيس ريدج»، حيث أخذتها سندريلا على الفور تحت جناحِها.

كانتا صديقتَين متوائمتَين. فقبل وصول زينيا، كانت سندريلا منبوذة نوعًا ما. وبينما كانت زينيا تسمح للحمير الأخرى بمُزاحمتها أثناء الأكل، كانت سندريلا تُنافس على الطعام بلا هوادة، فكانت تزيح الآخرين جانبًا وتسمح لزينيا بالأكل في سلام. كانت زينيا الحمارة الوحيدة التي تسمح لها سندريلا بمشاركة طعامها.

باستثناء التنافُس على التبن، نادرًا ما كانت تنشب أي صراعات بين الحمير، كما أن علاقاتهم ليس فيها أي تسلسُل هرمي. كان يصعب تصور سندريلا، تلك الحمارة الضئيلة ذات العينَين العذبتَين، وهي تُهيمن على أي حمارٍ آخر؛ لو كانت الهيمنة بالحجم، لهيمن على المجموعة كلها حمار عملاق لطيف يُدعى لوكاس. كان من سلالة الماموث الأمريكي، وهي سلالة طوَّرها المُربون كي تكون ضخمة الحجم وقوية، فطوله من الأرض حتى العضدَين مثل طول قامتي. كانت والدته ماما توايلايت نحيلة البنية، تبلغ من العمر ٢٧ عامًا، وهو ما جعلها الأكبر سنًّا بين جماعة الحمير في ملجأ «بيس ريدج». وصلا معًا إلى الملجأ بعد أن وجدهما مسئولو مراقبة الحيوانات بالولاية في حظيرةٍ مُظلمةٍ يتضوَّران جوعًا ويتفشى القمل في جسديهما.

كانت ماما توايلايت تُعاني من فتق نتيجة كثرة الحمل على مدار حياتها. كما عانت من داء لايم الذي سبب لها الْتهابًا في مفاصلها، واضطرابًا في الغدة النخامية أدى إلى إطالة فروها. كانت شعثاء وبطيئة الحركة، وبدت تجسيدًا للحكمة والتواضع والصبر، وهي فضائل لا ينبغي للمرء أن يسقطها على حيوان بناءً على مظهره، ومع ذلك بدت ملائمةً لها. كانت من أكثر الحمير المحبوبة في الملجأ، وتقبل اهتمام الزوَّار ولكنها نادرًا ما تسعى إليه. لكنها خالفت عادتها بعد ظهيرة أحد الأيام، بعد فترة وجيزة من موت قِطِّي. كان القط بالنسبة إليَّ بمثابة أخٍ أصغر؛ وكنتُ لا أزال متألمًا لرحيله. يومَها صادف أن مررتُ بماما توايلايت، التي كانت جالسة في العشب، وجلستُ بجانبها. فأراحت رأسها في حجري. لا أعرف ما إذا كانت قد شعرت بألَمي وأرادت بذلك مواساتي، لكن هذه كانت المرة الوحيدة التي أظهرت فيها ذلك الحنان البالغ، وقطعًا واساني فعلها هذا.

بعد عدة سنوات، ما زلتُ لا أرى أني أعرف الحمير في ملجأ «بيس ريدج» حق المعرفة. فتلك الزيارات القصيرة — التي انتقلتُ بعدها للعناية بالماعز، وأصبحتُ أحيي الحمير وأنا في طريقي للمغادرة — جعلتْني أُدرك قدْر ما يمكن اكتشافه عن كل واحدٍ منها. كان لكلٍّ منها قصة.

•••

رغم أني لا أستطيع أن أزعم أنني عرفتُ من أول نظرة الحمارَ الذي صادفته أنا ولندجرين من تلك المقابلة الوجيزة، فإني أُدرك أن له قصة أيضًا، ورغم أني لا أعرفها، فإني أستطيع على الأقل أن أخمن بعض القوى التاريخية التي صاغت هذه القصة، بدءًا من تدجين أسلافه على يد الرعاة في شمال إفريقيا منذ نحو ٦٥٠٠ عام.29 كانت الحمير تُحلَب ويؤكل لحمُها وتُستخدَم في الخدمة، لا سيما في نقل البضائع الثقيلة عبر الجبال والصحاري. وسرعان ما انتشرت تربيتها حتى بلاد ما بين النهرَين، وباتت الحمير جزءًا محوريًّا في اقتصادات العالم القديم؛30 ولاحقًا نشرَها الرومان في جميع أنحاء إمبراطوريتهم. ورغم تلك الأهمية، فإن الحمير «دائمًا ما كانت تحظى بمكانةٍ متدنية في الثقافات البشرية، ولا تنال أي تقدير، وتُعامل بقسوة.» كما كتبت جيل باو، في كتابها «الحمار» الذي تسرد فيه التاريخ الاجتماعي والثقافي لذلك النوع.31
بخلاف الخيول التي كانت لها الحظوة عند العائلات المالكة، كانت الحمير تُعَد حيواناتٍ من الطبقة الدنيا، ليست رموزًا للفخر والنُّبل، بل موضع للسخرية والازدراء. ألَّف إيسوب ما لا يقلُّ عن عشرين حكاية عن الحمير، لكنها على حدِّ قول جيل باو «دائمًا ما تُقدَّم في صورةٍ سلبية، على أنها خانعة وكسولة، وأنانية وغبية؛ ويُضرب بها المَثل على الحماقة والضعف.» لذا كان من المؤثر جدًّا تصوير التراث المسيحي لمريم العذراء الحُبلى وهي تدخل بيت لحم راكبةً حمارًا، وكذلك يسوع وهو يدخل أورشليم على ظهر حمار. تشير قصة بلعام بن باعوراء المذكورة في الكتاب المقدس،32 الذي ضرب حماره بوحشيةٍ لأنه انحرف عن مساره كي يتجنَّب ملاكًا لم يرَه بلعام، فوبَّخه الله متحدثًا على لسان الحمار، وهو ما يُشير إلى تقدير الكتاب المقدس لحكمة الحمير وتواضُعها وصبرها على الشدائد. لكن هذا التعاطف الذي يعكسه الكتاب المقدس لم يُحدِث فرقًا كبيرًا في حياتها على أرض الواقع. تُقدم قصة «الحمار الذهبي» — وهي حكاية خيالية من القرن الثاني عن شابٍّ يوناني يُدعى لوسيوس تحوَّل إلى حمار — لمحة عن حياة الحمير في ذلك الوقت: فقد استُخدِم في نقل الأحمال الثقيلة، وتدوير حجَر الرحى، وبِيع عدة مرات، وعذَّبه أصحابه من أجل المتعة.33 ولم يتغير موقف الناس منها في القرون الوسطى كثيرًا، فقد كان شكسبير نفسه هو من أشاع استخدام اسمِها باعتباره سُبَّة34 لا تزال تُستخدَم حتى يومِنا هذا.

في القرن السادس عشر، نقل المستعمرون الإسبان الحمير إلى المنطقة التي تُعرَف اليوم بالمكسيك. جعلتها قوتها وقدرتها على التكيُّف مع ظروف الصحراء، وهدوء طبعها، مُفيدة في أداء العديد من الأعمال، التي كان على رأسها التعدين؛ فقد أُجبرت على حمل أجوِلة مليئة بالصخور والسير بها صعودًا على جوانب الجبال وعبر الأنفاق، وهو عمل كان خطيرًا على البشر أيضًا؛ لكن على الأقل كان يمكن للبشر اختيار المغادرة.

ومع ذلك، لم تكن كل العلاقات بين البشر والحمير بهذه الوحشية؛ إذ كان يسودها أحيانًا الود، بل حتى التضامن بشكلٍ ما. فغالبًا ما وصف المُنقِّبون وعمال المناجم الحمير بأنها أقرب الأصدقاء لهم؛35 وحتى اليوم لا تزال تُمثلهم صورة رجل أشعث، يحمل مِعولًا على كتفِه وبجانبه حمارٌ سرجُه مُحمَّل بأجوِلة، يعبُر صحراء قاحلة. بالنسبة إليهم كانت الحمير في مكانة دابل، الرفيق الصامد المحبوب لشخصية سانشو بانزا في رواية «دون كيخوته». عندما أدى استنزاف المناجم وانتشار النقل الميكانيكي إلى انتفاء الحاجة إلى الحمير في أواخر القرن التاسع عشر، أطلق هؤلاء الرجال سراح حميرهم بدلًا من قتلِها أو بيعِها.36 وهربت حمير أخرى. ومعًا نجت الفئتان.
لكن التطوُّر الذي كيَّف تلك الحمير مع البيئات القاحلة لم يُعفِها من دروس العيش في الصحراء. ففي ذلك العالم القاسي والجميل المكون من الصخور والنباتات الشوكية والكائنات السامة، تعلمت الحمير عن انجراف التربة بسبب السيول والرياح، والانهيارات الصخرية، والأفاعي المُجلجلة والعقارب، ومواقع المياه في تلك المنطقة الطبيعية القاحلة التي تحمي ما أُوتيت من رطوبةٍ بكلِّ قوتها خلال الأشهر الطويلة التي لا يهطل فيها المطر. وللمرة الأولى منذ ستة آلاف عام مما لا يمكن وصفه إلا بالعبودية، وُلدت الحمير حرة. كتب أحد الملاحظين آنذاك يصِف حمارًا: «إنه هادئ وغبي كما تبدو الحمير عادة، إلا أنه مخلوق مختلف تمامًا عندما يكون حرًّا.»37
في العقود التالية تعلمت كيفية تجنُّب أسود الجبال، آخر ما تبقى من مفترسيها الطبيعيين في هذه المناطق التي انقرضت فيها الحيوانات، وكذلك الصيادون حاملو البنادق، الذين كان عددهم كبيرًا. كتب المؤرخ أبراهام جيبسون في مقالٍ عن الحمير في جنوب غرب أمريكا: «بعض الناس كانوا يذبحون الحمير لأغراضٍ تجارية» — مثل الاستفادة من جلدها، واستخدام لحمها في صناعة أطعمة الحيوانات الأليفة والأسمدة — «فيما كان البعض يقتُلها لأجل المتعة فقط. كان جميع من يقتلونها، بغضِّ النظر عن السبب، يحظَون بالدعم الكامل من المزارعين وعلماء الأحياء ومسئولي الإدارة. فكل هذه الأطراف أجمعت على أن الحمير البرية آفات غازِيَة يجِب القضاء عليها.»38
وبالفعل كانت على شفا الانقراض، لكن المُنقِّبين المُسنين أسدَوا خدمة أخيرة لأصدقائهم القدامى؛ إذ أطلقوا حملة للدفاع عنها، وحصلوا لها على بعض صور الحماية على الأقل، وأكسبوها تعاطُف الجماهير.39 أبطأ ذلك من وتيرة إبادتها، رغم أنه حتى النصف الأخير من القرن العشرين، لم يكن ثَمة أي قيودٍ على صيد الحمير البرية. بل إن وكالات الحياة البرية في الولايات كانت تُشجع الناس على القضاء عليها. جاء في خطاب صدرَ عام ١٩٥٣ من إدارة الأسماك والطرائد في كاليفورنيا وُصفت فيه الحمير بأنها «مكسوة بالغبار»: «تستولي الحمير على الينابيع وموارد الماء في الصحراء وتُفسدها، وتقضي على النباتات التي ترعى عليها الطرائد والماشية، وهي واحدة من الحيوانات القليلة التي تقتُل صغار الأنواع الأخرى.»40
في بعض الأحيان كان الناس يأكلون لحم الحمير، لكن في الأغلب كانوا يقتلونها من أجل المتعة. حتى إنه يوجد نادٍ يُسمى نادي «المائة حمار» يمنح عضويته للأشخاص الذين قتلوا ما يزيد عن هذا العدد من الحمير. في عام ١٩٨١، كتب أحد علماء الأحياء: «لا تزال بعض طقوس الانضمام إلى ذلك النادي ملاحظة في العديد من المناطق في شكل «مقابر جماعية للحمير»، حيث تُقتل الحمير في جماعاتٍ رميًا بالرصاص.»41 حكى لي لندجرين عن لقائه بعالِم ثدييات بارز وإخباره بأنه مُهتم بالحمير. يقول لندجرين: «قال لي: «كلما رأيتها، لم يسعك إلا أن ترغب في إطلاق النار عليها».»

انخفضت أعدادها، وكذلك أعداد الخيول البرية، إلى مستوياتٍ أثارت قلق المُهتمين بها. بفضل جهود فيلما برون جونستون، التي يذكرها التاريخ بلقب «آني نصيرة الخيول البرية»، صدر أخيرًا قانون، وهو القانون الفيدرالي لحماية الخيول والحمير البرية لعام ١٩٧١؛ والذي يُعَد شكلًا من أشكال الحماية ناقصًا ومُتنازَعًا عليه ومُعقدًا نوعًا ما، إذ لا يزال يسمح بعمليات القتل والإبادة الجماعية، ولكن على الأقل يحدُث ذلك من خلال القنوات الرسمية وليس بطريقةٍ عشوائية ودون قيود. أحيانًا يطلِق الناس النار على الحمير بشكلٍ غير قانوني، وفي بعض الأماكن يستشف لندجرين حدوث ذلك من خوفها المُفرط. لكن الحمار الذي صادفنا كان مُطمئنًّا ولم ينزعج من وجودنا.

يمكن القول إنه نشأ في الفترة القصيرة التي ساد فيها السلام. تساءلتُ عما إذا كان لدى أُمته حكايات عنا. طرحتُ تلك الفكرة على لندجرين ولم يسخر منها كما هو مُتوقَّع من عالِم. كان يرى أن الحمير بلا شك تعيش في مُجتمعات، بل إنه تساءل عن دلالات أماكن مُعينة بالنسبة إليها. ذكر تل شاهد (وهو تلٌّ عمودي الجوانب) من الصخور الحمراء ليس بعيدًا، يُشبه نوعًا ما عمودًا شاهقًا، تُحب الحمير أن تتجمع وتلعب عند سفحه. قال: «لماذا هذا المكان بالتحديد؟ لا يبدو أن هناك موردًا يستخدمونه. كل ما هنالك أنه مكان مميز بالنسبة إليها.»
قال لندجرين إن بعض السكان الأصليين في المنطقة تعلموا في وقتٍ ماضٍ أغاني كانت تُعَدُّ حقَّهم بالولادة وإرثهم؛ كانت هذه الأغاني أوصافًا إيقاعية ولحنية للمناطق الطبيعية، أي إنها كانت أغاني وخرائط في الوقت نفسه.42 هل يمكن أن نجد أوصافًا لأماكن في نهيق الحمير الممطوط أيضًا إذا تمكنَّا من ترجمته؟ وماذا عن عاداتها وثقافتها ومجتمعها؟ لاحظ لندجرين أن الآبار يحفرها فردٌ واحد في حين يشاهده الآخرون، وغالبًا ما تقف الحمير الصغيرة بجوار الحمار الذي يحفرها ويقلدون حركاته؛ مما يُشير إلى أن حفر الآبار سلوك مكتسَب. ربما تُحسَّن التقنيات وتورَّث، وتُعَد جزءًا من ثقافات محلية غير معروفة لنا.

بعد ظهيرة كل يوم، كانت الحمير في «بيس ريدج» تمشي في حقول الملجأ في صفٍّ واحد، سالكةً شبكة من المسارات، أصبحت بعد سنواتٍ من المشي فيها معبَّدة كمسارات الدراجات الهوائية. تُرى ما العادات والطقوس الموجودة لدى هذا المجتمع من الحمير؟

حتى التنظيم الاجتماعي الأساسي للحمير يُعَد مُلغزًا نوعًا ما بالنسبة إلى العلماء،43 ولكن يبدو أن ثَمة جوانب مُثيرة للفضول فيه. ففي دراسة استمرت عامًا كاملًا أُجريت على الحمير في جبال بيل ويليامز، التي لا تبعُد كثيرًا عن حيث لاحظ لندجرين الآبار لأول مرة، لاحظ عالما الحيوان ريك سيجميلر وروبرت أومارت من جامعة ولاية أريزونا وجودها في مجموعةٍ متنوعة من التكوينات الاجتماعية: مجموعات من ذكَر واحد مع عدة إناث وصغارها، ومجموعات مُختلطة الجنس من الحمير البالغة، ومجموعات من جنس واحد من الذكور أو الإناث وصغارها، وأحيانًا حمير بالِغة منفردة. وكثيرًا ما يترك الأفراد مجموعةً وينضمون إلى أخرى؛ وأثناء الليل تختلِط المجموعات وتنقسِم إلى عددٍ أكبر من المجموعات حين تتجمَّع الحمير عند موارد الماء والحقول. يمكن أن نصف هذا المجتمع بأنه اندماجي انشطاري مثل مجتمعاتنا البشرية.44

ما الذي ندين به لها؟ على أقل تقدير، ندين لها بالانفتاح الذهني والاستعداد للتشكيك في افتراضاتنا عنها.

•••

كان صباح ذلك اليوم من أيام شهر أبريل دافئًا نسبيًّا، لكنه كان حارًّا بمعاييري؛ إذ الْتصق قميصي بظهري من شدة العرق. في غضون أشهُر قليلة، ستتجاوز درجة الحرارة نهارًا ١٠٠ درجة فهرنهايت (٣٧٫٧ درجة مئوية)؛ ففي فترات الجفاف التي تفصل بين ما يُسمى بمواسم الأمطار، قد يبلغ معدل الأمطار بوصةً واحدة طوال شهر كامل، وفي بعض الأوقات، قد لا ينزل المطر على الإطلاق عدة أشهر. يخشخش الحصى الأحمر تحت قدمي، فيُذكرني مع كل خطوةٍ بالجفاف الموحش. وحتى عندما ينزل المطر، فإن الأرض لا تحتفظ بالمياه بسبب اتساع المسام، وتتدفق المياه هاربةً خلال قنوات السيول أو تتسرب إلى طبقة المياه الجوفية من الأرض. وتدخل النباتات في سباتٍ أو تحبس رطوبتها خلف أقفاصٍ من الأشواك. ورغم تكيُّف حيوانات الصحراء مع هذه الظروف، فإن البيئة تظلُّ قاسية، وفي بعض الأحيان، لا يفصل بين الحياة والموت إلا بضعة أعشار من البوصة من الأمطار.

كان الينبوع عبارة عن بركةٍ رملية القاع تقع في أسفل وادٍ ضيق. وكانت النباتات تكسو جانبَي الوادي، وجذب صوت حفيفٍ قادم من فوقنا انتباهنا إلى بقرتَين تُراقباننا بحذَر من بين كتلةٍ من الشجيرات اختبأت فيها حين رأتنا.

كان وجود الماشية واضحًا أيضًا من كُتَل الروث المتناثرة في البركة. قال لندجرين إن هذه إحدى عادات الأبقار السيئة؛ إذ تجتمع حول موارد المياه لفتراتٍ طويلة وتتبرَّز حيث تقف. تُخلِّف الحمير وراءها بعض الروث، ولكن ليس بالكميات المُفرطة التي تخلفها الأبقار، وتلوِّث المياه بالميكروبات التي تقتات على المُغذيات الموجودة في الروث. إذن، بحفر الحمير آبارًا جديدة، فإنها قد تساعد الكائنات التي لولا الحمير للوَّثت الأبقار مياهها؛ وهذا في الواقع يفيد الأبقار نفسها، التي لا يُكنُّ لها لندجرين أي عداوة. فهي لم تأتِ إلى هنا بإرادتها.

وجد لندجرين خمس آبار حفرتها الحمير إجمالًا، بعضها مجرد منخفضاتٍ رطبة في الرمال والبعض الآخر يحتوي على مياهٍ عذبة. لم يكن هناك الكثير من المياه العذبة، وكنت أتوقع أن أجد كميات أكبر منها، ولكن حتى هذه الكمية الصغيرة كانت بمثابة كنزٍ ثمين في تلك المنطقة الجافة. نصحَني لندجرين أن أُفكر من منطلق شبكات المياه إلى جانب شبكات الغذاء. ففي هذه البيئة، تحصل العديد من المخلوقات على المياه ليس فقط من الشُّرب، ولكن أيضًا من النباتات والحيوانات الأخرى التي تستهلكها في غذائها. وآبار الحمير يمكن أن تُخفف الضغط على هذه الموارد الأخرى للمياه. وأشار إلى دراساتٍ تُظهر أن كمية النباتات التي تستهلكها الصراصير، وعدد الصراصير التي تستهلكها العناكب الذئبية يقلُّ طرديًّا كلما اقتربت من مورد ماء.45 فالماء لا يدعم الحياة فحسب، بل يُقلل أيضًا من المنافسة، ويجعل الصراع من أجل البقاء أقلَّ ضراوة.

من إحدى الآبار البعيدة، جاءني طنين النحل والذباب الذي أتى ليشرب من حافتها. وحين اقتربت، اشتدَّ الطنين حتى صار بمثابة جدارٍ صوتي. قال لندجرين إنه أحيانًا، تُحيط بتلك البرك سُحب من الفراشات، وأنه كان في بعض الأحيان، هو أو مساعدوه، يقفون وسط دوَّامة من الفراشات. وكانت السناجب والهوازج تأتي لتشرب بجانب الباحثين أثناء عملهم.

أراني لندجرين رقعةً من نبات اللزيق، وهو نبات ينمو في الأراضي الرطبة، سُمي بذلك الاسم لأن أغلفة بذوره الشائكة تلزق بفراء الحيوانات المارة بجواره. ربما وصلت هذه النباتات إلى هذا المكان عن طريق لزقها بفراء حمار، أو نبت من سماد روثه. كما لاحظ لندجرين الحمير وهي تتغذَّى على شتلات نباتاتٍ من فصيلة المسكيت التي يبدو أنها نبتت من روثها. لمسكيت الفول اللولبي، وهو أحد أنواع المسكيت، أهميةٌ خاصة؛ إذ تُعَد البذور التي تحويها قرونه، التي منحته اسمَه، غذاءً حيويًّا لعشرات أنواع الحيوانات. تتقلَّص مساحات مسكيت الفول اللولبي أيضًا في الجنوب الغربي؛ إذ يموت لأسبابٍ لا تزال غير معلومة بمعدلات جعلت مساحاتها تتقلَّص إلى النصف على مدار أقل من قرن، وهو ما أثار قلق بعض العلماء من انقراضه.46 لكن الحمير تخلق حاضنات فعَّالة له.

انتظرت في ظل جدار الوادي في حين كان لندجرين يفحص كاميرات المراقبة التي وضعها، ويقفز من صخرةٍ إلى أخرى بثبات، وهو فعل عادي، لكنه جعلني أُفكر في الحمير. لم نرَ الأبقار مرة أخرى، لكننا وجدنا في طريق خروجنا من الوادي عظام بقرة حالَفها الحظ بما يكفي لتموت هنا وليس في مسلخ. وهذا مصير غير شائع، فعدد الأبقار التي تموت في المراعي البرية قليل نسبيًّا؛ ومِن ثَم فالعناصر الغذائية الموجودة في أجسادها غالبًا ما تئول إلى موائدنا بدلًا من أن تعود لتدور في النظم البيئية التي جمعتها منها. قال لندجرين: «لا أطيق الانتظار حتى تظهر نسور الكندور في هذه المساحة الطبيعية عند وجود جُثث حمير لتأكلها.»

بعد أشهُر، استعاد لندجرين الكاميرات، وعرف أي الكائنات شربت من هذه الآبار. لم تكن الكاميرات فعَّالة في اكتشاف الحيوانات الصغيرة، رغم أنها أظهرت علاجيم صحراء سونورا بوفرة. لكنها كانت فعالة في تصوير قطط حلقية الذيل، وظرابين مُخططة، وخنازير بيكارية، وأسد جبال، وأيل طويل الأذنين، وحيوانات وشق كميت، وثعالب رمادية، وطيور قيق الأحراج، وطيور أقطروس سكوت، وحتى طائر صيَّاد سمك عابر. جاءت أيضًا حمير مخططة الأرجل، وهي سمة فقدتها الحمير أثناء فترة تدجينها وبدأت تعود الآن؛ فقد جعلت حياة الصحراء التمويه مفيدًا مرةً أخرى.

في النهاية، أصبحت هذه الصور جزءًا من مجموعة بيانات تحتوي على ٢٫٥ مليون صورة جُمعت من أربعة مواقع على مدى ثلاثة فصول صيف. كانت محور أطروحة لندجرين للدكتوراه، والتي ستلخَّص إلى عدة أوراق بحثية تُنشَر في دوريات علمية. في إحداها، جمع قائمةً بِسِمات — حجم الجسم وشكله، والعادات الغذائية، وفسيولوجيا الهضم — كل نوع من الحيوانات العاشبة التي يزيد وزنها على ١٠ كيلوجرامات، والتي عاشت خلال اﻟ ١٣٠ ألف عام الماضية.47 ومن هذه السِّمات، حدد خصائص مجتمعات الحيوانات العاشبة الماضية والحالية، وفي ورقةٍ بحثية أخرى حاجج على أن جماعات الحيوانات العاشبة الحديثة المُختلطة، أي التي تضم أنواعًا أصلية ومستقدمة، هي في الواقع أقرب إلى مجتمعات ما قبل الانقراض الجماعي في أواخر العصر الجليدي من الجماعات الأصلية فقط.48 وفي صفحات دورية «ساينس» التي تُعَد واحدةً من أرقى الدوريات العلمية في العالم، والتي لم يكن ليحلم بالنشر فيها حينما كان يستعين بالتمويل الجماعي ليشتري كاميرات المراقبة، نشر مقالًا عن الحمير التي تحفر الآبار.49

في ذلك المقال، بلْوَر لندجرين تكهناته وملاحظاته المبكرة. في كلٍّ من المواقع الأربعة التي درسها في صحراء سونورا، وفرت آبار الحمير المياه عندما جفَّت الجداول، وبلغت درجات الحرارة في الصيف ذروتها. وزادت المساحة الإجمالية للمياه على سطح الأرض بنسبة تتراوح بين ٧٤ بالمائة و١٠٠ بالمائة، وزادت الكمية الإجمالية للمياه المتاحة عشرة أمثال. وقد أدَّى وجود هذه الآبار إلى تقليل متوسط المسافة بين مسطحات المياه المفتوحة بمقدار نحو ميل؛ أي إن الحيوانات لن تُضطر لقطع مسافاتٍ بعيدة للحصول على المياه، ولن تُضطر كذلك للتنافُس عليها بضراوة. وأخيرًا، أحصى أنواع الفقاريات التي تستخدِم تلك الآبار وقارنها بالحيوانات التي صوَّرتها الكاميرات عند الينابيع التي لا توجَد عندها حمير. فوجد أن ما لا يقل عن ٥٩ نوعًا من الفقاريات يستخدِم آبار الحمير. أي إن المجموعة التي ارتادت الآبار تفوَّقت قليلًا على تلك التي ارتادت الينابيع من حيث ثراء الأنواع والتنوُّع البيولوجي.

وصف أيضًا في الورقة التي نشرها في دورية «ساينس» كيف أنه في أحد تلك المواقع كانت كثافة شتلات الصفصاف والحور الدالي عند الآبار أعلى من كثافتها عند ضفاف الأنهار. تُعَد أشجار الصفصاف والحور الدالي عماد الغابات الشاطئية في منطقة الجنوب الغربي، وتُمثل أحد المخاوف الملحَّة لنشطاء الحفاظ على البيئة؛ فبذورها تتطلَّب تربة رطبة كي تنبت، لكنها تجد صعوبةً في مدِّ جذورها بين النباتات الموجودة على ضفاف النهر. يزعم لندجرين أن الظروف التي توفرها آبار الحمير حول حافتها — التربة الرطبة الخالية من النباتات المنافسة — تُحاكي تلك التي تخلقها الفيضانات، وهي ظاهرة اندثرت في تلك المساحة الطبيعية التي بُنِيَت فيها سدود لتنظيم تدفق المياه وتحويل مساراتها للري الزراعي. إذَن الحمير لا تنشر البذور فحسب. إنما تجهز الأرض لنموها أيضًا.

كل تلك الاستنتاجات صِيغت بمصطلحات تليق بالنشر العلمي. كتب لندجرين وزملاؤه في مُلخص الورقة البحثية: «تُشير نتائجنا إلى أن الخيليات، حتى التي تُعَد مستقدمةً أو وحشية، قادرة على زيادة وفرة المياه، وهذا من شأنه أن يزيد القدرة على التكيُّف مع التصحر المتواصل الناتج عن الأنشطة البشرية.» تعكس تلك الصياغة المتحفظة مدى مخالفة الفكرة للاعتقاد السائد. وسرعان ما أعقب نشر الورقة معارضة عنيفة؛ إذ كتب باحثون في إدارة الطرائد والأسماك بولاية أريزونا رسالة إلى دورية «ساينس» وصفوا فيها تفاؤل لندجرين وزملائه بأنه «مُثير للإزعاج».50 وقالوا إن الخيليات الوحشية تحرم الأنواع البرية الأصلية من الغذاء، وتمنع الحيوانات الأخرى من استخدام موارد المياه، وتخفض تنوُّع النباتات، وإجمالًا تجعل الموائل أفقر وأقل قدرة على دعم الكائنات الحية. زاد من تعقيد النقاش أن لندجرين لاحظ أيضًا مجموعة من الخيول البرية تحفر الآبار. مِن ثَم فقد سرد في ورقته البحثية فوائد الآبار التي تحفرها الخيليات، وهي تشمل الخيول والحمير على حدٍّ سواء؛ في حين ركزت الأبحاث التي استشهد بها المعارضون على الخيول البرية فقط. وهي حيوانات مثيرة للجدل أكثر من الحمير، ورغم أن ثَمة تشابُهات كثيرة في الجدل الدائر بشأن كلا النوعَين، فإنه ليس من الإنصاف الاستشهاد بدراسات عن أحدهما لإثبات وجهة نظرٍ عن الآخر. غير أن ذلك يؤكد، نوعًا ما، وجهة نظر لندجرين، وهي أن الناس ينزعون تلقائيًّا إلى التغاضي عن دور الحمير.

ردَّ هو ومستشاروه، الذين أشرفوا على بحثه، على مُعارضيه. وأقرُّوا بأن الحمير والخيول قد يكون لها التأثيرات المذكورة؛ لكن كذلك أي حيوان عاشب أصلي. كتبوا: «وصف الخيليات الوحشية بأنها أبطال تحافظ على البيئة أو آفات غازية يُعَد تبسيطًا مُخلًّا لتعقيد دورها وإصدارًا لأحكامٍ أخلاقية على عناصر النظم البيئية.» الأهم بكثير من أصلية الخيليَّات الوحشية هو السياق الذي يُشكل تأثيراتها، لا سيما الافتراس؛ وأغلب الأبحاث التي أُجريت عليها، بما فيها جميع الدراسات التي استشهد بها المنتقدون، تبحث تأثيراتها في غياب المفترسات. وذلك بمثابة إطلاق حُكمٍ على جميع الغزلان البيضاء الذيل بناءً على دراساتٍ أُجريت فقط في المُتنزهات الحضرية.

في الواقع، درس لندجرين أيضًا تأثير الافتراس.51 ففي تلك الدراسة، وجد أن أُسود الجبال تفترس الحمير بصفةٍ دورية. وأن وجودها في المنطقة يسبب تغيُّرات هائلة في نشاط الحمير؛ إذ يجعلها تقضي وقتًا أقل بكثيرٍ في الأراضي الرطبة، مما يُسهل على الحيوانات الأخرى الوصول إلى موارد الماء ويُقلل من التأثيرات التي تُحدثها الحمير. كتب في ملخص بحثه: «يبدو أن وجود أُسود الجبال يُعيد تنشيط شبكة غذاء قديمة.» لكن لأن أسود الجبال تُصاد في جميع أرجاء نطاقها، للترفيه ولحماية صناعة المواشي، فإن تلك الشبكة تختلُّ أحيانًا.

•••

لن يُحسَم الجدل الدائر حول تأثير الحمير دون مزيد من البيانات. لكن بحث لندجرين جعل منفعتها للبيئة احتمالًا قائمًا، وذلك الاحتمال بدأ بالفعل يُغير آراء الباحثين. أُجريت مقابلات مع العديد من الباحثين المتعاطفين مع لندجرين، كان منهم عالم بيئة مُتحفظ من جامعة ولاية أريزونا يُدعى ديف بيرسون. اعترف لي أنه ظلَّ معتقدًا فترةً طويلة أن الحمير مكانها الوحيد هو الأسر أو المناطق الطبيعية الموجودة داخل النطاق الذي عاشت فيه أثناء العصر الجليدي. قال لي: «كنتُ أرى أنه إذا وُجدت الحمير في أي مكانٍ آخر فإنه يجب قتلُها والقضاء عليها.» كان لبحث لندجرين دور في تغيير رأيه.

قال: «لقد أصبحت تقريبًا نوعًا أساسيًّا. وجودها يساعد أنواعًا أخرى على البقاء حيث لم يكن بإمكانها ذلك من قبل.» عندما تكون أعدادها مُفرطة، فقطعًا يمكنها أن تبالغ في الرعي وتجرد موائلها، لكن «الحكم في تلك المواقف لا يكون مطلقًا وعامًّا». هو يرى أن الجماعات التي درسها لندجرين فاقت تأثيراتها الإيجابية تلك السلبية. رددتُ عليه بأنه ربما يمكن أن يكون للحمير تأثيرات إيجابية إذا توفَّرت لها مساحات طبيعية سليمة، ووجدت حيوانات مفترسة لتنظيم أعدادها، ولكن نادرًا ما يكون هذا هو الحال. فقال بيرسون: «هذا مُمكن أيضًا. أظن أنه إذا أُدخلَت الحمير على جميع المساحات الطبيعية، فإنها ستلحق أضرارًا فظيعةً في بعضها؛ بينما سيكون لها تأثيرات مفيدة في البعض الآخر، كما تُظهر دراسة إريك. هل يعني ذلك أنه يجب علينا القضاء على جميع الحمير؟ أو أننا لا يجب أن نمسَّ أيًّا منها؟ تلك أسئلة نحتاج للبتِّ فيها في كل حالة على حدة.»

يُعارض لندجرين فكرة أن قيمة أرواح الحمير تتوقَّف على إثباتها لجدارتها. ويُحاجج بأنه إذا تبيَّن أن للأفيال تأثيرات سلبية على التنوع البيولوجي — حسب المقاييس التي نحكم بها عليها، يمكن أن يُقلل تأثير رعيها على النباتات ودهسها لها من تنوع بعض الكائنات52 — فإن ذلك لن يجعلها فجأةً غير جديرة بالاهتمام، أو يجعل أرواح أفرادها أقل قيمة. هذه الحساسية تُغذي احترامه للبراري والقفار. هذان ليسا مفهومَين عفا عليهما الزمن، يقومان على معاداة وجود البشر في هذه المناطق باعتبارهم نقيضًا للطبيعة البكر، كما يشيع الآن في بعض الأوساط الأكاديمية. فهو يرى أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.
في رسالة بريد إلكتروني، وصف لندجرين رسالة تلقَّاها من عالِم بيئة يرى أنه كان مُضللًا لدرجة مؤسفة. رد عليه لندجرين ردًّا غاضبًا؛ وفاجأه أنْ وجد أنهما يتفقان على فكرة أساسية. قال لي لندجرين: «كانت الفكرة التي اتفقنا عليها هي أننا نتعامل مع المناطق البرية كما لو أنها تقع خارج نطاق عالَمنا، هذا هو الأمر الوحيد الذي يتفق فيه معي علماء البيئة المناصرون للأنواع الأصلية.» أخبرني أنه عرف أن كلمة Wild (أي بري) في الإنجليزية، جاءت من كلمة إنجليزية قديمة تعني الإرادة الذاتية المُستقلة. قال: «جعلني ذلك أُدرك فجأة أن البرية واحترامها مسألة مُتعلقة بالحقوق. حقوق البشر وغير البشر في التمتُّع بإرادة ذاتية. مِن ثَم تصبح البرية مساحة ثقافية تُحترم فيها حقوق البشر وغيرهم.»
كتب رسالة البريد الإلكتروني تلك بعد رحلةٍ مؤلمة إلى وادي الموت بكاليفورنيا، حيث وجد أن الحمير التي درسها لسنواتٍ قد أزيلت كلها بموجب سياسة أصدرتها الحكومة الأمريكية لإدارة الخيول والحمير. وهي سياسة مُعقدة، وكذلك الجدل الذي يدور حولها، ولكن الخلاصة هي أن الحكومة لا تريد أيًّا من تلك الحيوانات في المُتنزَّهات الوطنية، وفي الأراضي العامة الأخرى، حسبما أخبرَني لندجرين، وأنها تعهدت بتقليل أعداد الحمير بنحو ثُلثَي العدد الحالي البالغ ١٦ ألف حمار؛53 وهي عملية تتم عن طريق جمع الحمير بالمروحيات ووضعها في حظائر لحين بيعها. وبفضل حملات مناصري حقوق الحيوان، من المُفترَض أن ينتهي بها المطاف على الأقل في منازل لائقة بدلًا من المسالخ، على الرغم من أن ذلك لا يحدث دائمًا، ويموت بعضها أثناء عملية أسرِها أو يباع للمسالخ.54 يمكن للمرء أيضًا أن يتخيَّل الصدمة التي يتسبَّب فيها تشتيت العائلات والأصدقاء.
لا تأخذ هذه السياسة في اعتبارها الاحتمالات التي أثارها بحث لندجرين. أثناء عودتي أنا ولندجرين إلى فينيكس بالسيارة، وانتقالنا من منطقة كاتتيل سبرينج البرية إلى منطقة طبيعية تُقسِّمها الطرق السريعة والأسوار والامتداد العمراني، اتضح لي أن إدراج احتمالاته في تلك السياسة يستلزم مواجهة كاملة لواقع المنطقة الجنوبية الغربية في أمريكا: البِنية التحتية التي تعيق الهجرات، والاضطهاد الواسع النطاق للحيوانات المفترسة، وقبل كل شيء الماشية. يُستخدم أكثر من ٢٠٠ مليون فدان من الأراضي العامة في غرب الولايات المتحدة لرعي الأبقار والأغنام، وهي مساحة تعادل مرة ونصفًا حجم ولاية كاليفورنيا،55 وفي تلك المساحة من الأراضي توجد عدة ملايين من الأبقار.56 مقارنة بتأثيراتها، يُعَد تأثير الحمير طفيفًا، ولكن تقليل أعداد الماشية نادرًا ما يُطرَح. فإلقاء اللوم على الحمير أسهل بكثيرٍ من تغيير الوضع الراهن لصناعة اللحوم.

يعتقد لندجرين أن الحمير لا تكون مُخربة إلا عندما يجعلها النشاط البشري كذلك. حتى عندما تكون كذلك، فإن جزءًا من ذلك التخريب المزعوم يُعَد مسألة رأي. وتلك هي الطريقة التي تعمل بها الطبيعة. قال: «إذا زار علماء البيئة في أمريكا الشمالية أفريقيا أكثر» — يقصد زاروا مكانًا لا تزال أعداد الحيوانات الكبيرة فيه دون تغيير نسبيًّا — «فسيُدركون أن الأنظمة البيئية لكوكب الأرض لطالما كانت بها مناطق يزيد فيها نشاط الحيوانات البرية إلى حدٍّ يجعله يؤثر عليها سلبًا ومناطق أخرى لا يحدُث فيها ذلك.» ذلك المزيج هو ما يجعل التنوُّع البيولوجي يزدهر. المشكلة الحقيقية تكمن في المناطق الطبيعية التي تغيَّرت لدرجة أنها لم تعُد تستطيع دعم العمليات البيئية الأساسية الأزلية، وتصنيف الحمير تلقائيًّا على أنها مُخربة إنما يؤدي إلى تطبيع الحالة المعاصرة للطبيعة، وهي حالة مُتردية للغاية. إذا كان ثَمة شيء غير أصلي، فهو ليس الحمير. إنما مناطقنا الطبيعية في حدِّ ذاتها. ومن شأن تحليل تأثيرات الحمير في كل حالة على حدة بذهن مُتفتح أن يجعل من المستحيل تجاهل ذلك.

إذا أُجري مثل هذا التحليل، فربما سيكون من الأسهل مواجهة كل تلك المشكلات الأخرى. وربما سنجد أنه في بعض الأماكن، تفوق أضرارها قيمة حياتها وحُريتها، وأن إزالتها من تلك الأماكن ستكون مأساوية ولكنها مُبررة. لكن في هذه الحالات، ستكون إدارة الحمير قائمة على احترامٍ عميق لها. قد يتجدَّد التركيز على برامج التعقيم المُهملة، التي تعاني من نقص التمويل؛57 كما يمكن بذل محاولات للحفاظ على ترابُط المجموعات والعائلات. وقد يختبر دعاة الحفاظ على البيئة على الأقل الحزن والتبِعات الأخلاقية لما فعلوه. وقد يثبت أيضًا أنه في بعض الأماكن، بل ربما في العديد منها، يكون وجود الحمير مفيدًا فعلًا؛ وأنها لا تعيق الحياة، إنما تدعمها أكثر، وتجعل موائلها الصحراوية المتأثرة بتغيُّر المناخ والأنشطة البشرية مكانًا أكثر ثراءً ومرونة.
تُرى هل يمكن تطبيق هذه الدروس على الأنواع الأخرى التي توصف بأنها غازية؟ قطعًا لن يثبت أنها جميعًا مفيدة مثل الحمير، أو الحلزونات التفاحية التي يُعَد موطنها الأصلي تاريخيًّا جنوب أمريكا، والتي تعتمد عليها الآن طيور حدأة الحلزون أو القُطامى المهددة بالانقراض في فلوريدا.58 ولكن مِن المُحتمل أن يثبت أن بعضها كذلك. وبلا شك سنرى تعقيدات كان يحجبها عنا التسرُّع في الحكم، ويكشف عنها فحص دقيق؛ فحص قائم على احترام حياة كل حيوان.
يمكن إيلاء اهتمامٍ خاص للحيوانات التي تعاني مأزقًا مماثلًا لمأزق الحمير، التي تُعَد واحدةً من العديد من الحيوانات العاشبة الكبيرة التي تزدهر في مناطق خارج نطاقها التاريخي. أبلغ مثال عليها هي الخيول البرية، وعددها إجمالًا ٢٢ نوعًا:59 الجِمال الوحيدة السنام التي لا توجَد الآن إلا في صحاري أستراليا، وحيوانات فرس النهر في كولومبيا، وأغنام الأرْغَل في أوروبا الغربية، ومجموعة كاملة من الحيوانات العاشبة الكبيرة الجسم التي يُنظر إليها على أنها مُواطنة غير شرعية بحكم أنها تعيش الآن في أماكن لم تكن تسكنها من قبل.
العديد من تلك الحيوانات، مُهدد بالانقراض أو مُعرَّض له مثل الحمير في مواطنها التاريخية. ومثل الحمير، يُعتقد عمومًا أنها مُدمرة بطبيعتها. لكن في مواطنها الجديدة تُتجاهل أدوارها البيئية التي يُحتفى بها في أماكن أخرى. وغالبًا ما لا تدخل في الحسابات حتى في الدراسات الاستقصائية الرسمية لأعداد الأنواع ونطاقاتها. تُعَد الجِمال الوحيدة السنام منقرضة رسميًّا في البرية، وكأنما أبطلت الفترةُ القصيرة التي قضتها مُدجنةً إلى الأبد أحقيةَ نسلِها في العيش بحرية والانتماء إلى النظم البيئية لكوكب الأرض. يطلق عليها أريان والاش اسم «الحيوانات الضخمة الخفية»، وهي كائنات مُحِيَت «لا من العالم، إنما من تصوُّرنا الجمعي للطبيعة».60
في عالم يكافح فيه معظم أقرانها من الحيوانات ذات الأجسام الكبيرة — يوجد ٧٤ نوعًا حيًّا من الحيوانات العاشبة الكبيرة الجسم، ونحو ثلاثة أخماس ذلك العدد مهدد بالانقراض61 — فإنها تظل صامدة، بل تزدهر، وربما حتى تُعيد ترميم شبكات الحياة التي كانت ستندثر لولا هي. تُرى ماذا سنكتشف وكيف سنرى تلك الحيوانات إذا نظرنا لها من منظور جديد، مدفوع بالفضول والتأمل والعناية؟

الهوامش

تصف دراسة أُجريت في ناميبيا كيف أن المنخفضات الضحلة التي تصنعها الحمير الوحشية من النُّوَيع الذي يُسمى الحمار الوحشي لجبل هارتمان أثناء تدحرجها في الغبار تتجمَّع فيها كميات من مياه الأمطار أكبر من تلك التي تتجمَّع في الأرض المستوية المحيطة بها. في النهاية تُصبح هذه المنخفضات بؤرًا صغيرة للنباتات واللافقاريات. الاستحمام بالغبار شائع في فصيلة الخيليَّات، التي تنتمي لها الحمير؛ فهو يساعد في الحفاظ على جلودها، كما أنه طقس اجتماعي تؤدِّيه في مجموعات. أرسلت الدراسة إلى لندجرين، وبعد بضعة أشهر أرسل بريدًا إلكترونيًّا ليُخبرني أنه لاحظ بؤرًا مُماثلة تنمو فيها النباتات حيث تدحرجت الحمير.
قد يكون هذا مؤلمًا ومُميتًا، ولكنه على الأقل أفضل بكثيرٍ من طريقة تُستخدَم كثيرًا في أستراليا، حيث يؤسَر ما يُسمى «حمير يهوذا» وتُزود بأطواقٍ لا سلكية تبثُّ مواقعها. وبمجرد إطلاق سراحها، فإنها تبحث عن أصدقائها وعائلاتها، التي تُقتل بالرصاص أمامها واحدًا تلو الآخر، ولا يتبقَّى سوى حمار يهوذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥