الفصل الثالث
الحيوانات ليست جُزرًا منعزلة
غالبًا ما سترى عصافير الدوري المُغردة المُقيمة عند
البركة تتأرجح على سيقان العشب الطويل، وتجمع البذور.
إنها طيور ذات جمال هادئ، فلَونُها باهت ويصعب التعرف
عليها من مسافة بعيدة — يُصنفها هواة الطيور أحيانًا في
فئة «الطيور البُنيَّة الصغيرة» — ولكن عند النظر إليها
من كثب تكتشف أن لها ريشًا مخططًا باللونَين الكستنائي
والسمني.
عندما رأيتُ أحدها لأول مرة، صنَّفتُه تلقائيًّا
باعتباره أحد أفراد نوعه: باعتباره مثالًا للعصافير
المُغردة. لكن فيما بعد، صرتُ أعتبر العصافير أفرادًا
وجيرانًا، لكن تظلُّ فجوات واسعة تتخلل مَعرفتي بها.
فأنا لم أرَ إلا لمحاتٍ من حياتها. ويظل عالمها
الاجتماعي خفيًّا عني إلى حدٍّ كبير. هكذا هو حالنا مع
أغلب الحيوانات البرية، حتى تلك التي تعيش بجوارنا.
يُعَد التعرُّف على كل كائنٍ منفرد تحديًا كبيرًا، فما
بالك بتتبُّعه على مدار أشهر وسنوات، وتسجيل تفاعُلاته
بدقة.
غير أن هذا ما فعله علماء أحياء بجامعة واشنطن مع بعض
عصافير الدوري المغردة.
1 إذ وضعوا حلقات بلاستيكية ملوَّنة في ساق ٨٠
عصفور دوري مغردًا يافعًا من تلك التي تعيش في مُتنزَّه
«ديسكفري» في سياتل، وهو ما يُمكِّنهم من التعرُّف على
كل عصفور منفرد بالنظر، وظلُّوا يراقبونها عبر المناظير
المُعظِّمة لمدة عام. تلك واحدة من الدراسات المُفضلة
لديَّ على الإطلاق. هناك شيء بديع فيما كشفته مُخططات
الشبكات الاجتماعية وسجلَّات التحرُّكات عن الأبعاد
الخفية للحياة اليومية لتلك الطيور.
بعد أن ينبت ريش الذكور اليافعة وتُغادر أعشاش
والدَيها، يكوِّن أغلبها روابط مع ذكورٍ يافعة أخرى،
وتقضي تلك الطيور أغلب أيام الصيف والخريف في استكشاف
الحديقة معًا. بعض هذه المجموعات يقطع أفرادها مسافة ربع
ميل لا يفصِل بينها سوى بضع أقدام؛ إنها رحلة طويلة
بالنسبة إلى تلك الكائنات التي لا يتعدَّى حجمها راحة
يدك، والتي لم تفتح عيونها على الحياة إلا منذ بضعة
أسابيع. وعندما يأتي الربيع، يجد كلٌّ من تلك الذكور
شريكةً ويُحدد لنفسه منطقة مجاورة لمنطقة رفاقه الذين
نشأ معهم، ويصنع عشَّه بالقُرب من أعشاشهم.
كتب الباحثون فيما بعد: «شكَّلت العديد من الطيور التي
درسناها روابط وثيقة وطويلة الأمد مع أفرادٍ بعينها.»
ووصفوا النتائج التي توصَّلوا إليها بأنها «مفاجئة». لم
يبدُ أن تلك الروابط التي كوَّنتها ذكور عصافير الدوري
لها علاقة بالتزاوج أو الموئل أو الطعام. إنما افترض
الباحثون أن هذه الروابط من شأنها أن تساعد صغار تلك
الطيور على تعلُّم الأغرودات والدفاع عن بيوتها. لم
يستخدِموا مفردة «صداقة» في تكهُّناتهم.
قد يبدو تجنُّب استخدام تلك المفردة غير مُهم، ولكنه
يستحق التأمل. رغم أن الناس، بما فيهم العلماء في حياتهم
الشخصية، لا يجدون غضاضةً في وصف كلبَين يبحثان بعضهما
عن بعض في مُتنزه بأنهما صديقان، وأن مقاطع الفيديو التي
تعرض صداقاتٍ بين نوعَين مختلفين من الحيوانات كثيرًا ما
تحظى برواج هائل، فإن العلم يتحفَّظ من استخدام هذه
الكلمة.
لعلَّ ذلك يرجع إلى أن الاستمتاع برفقة الآخر جانب
أساسي في مفهومنا عن الصداقة، ولكنَّ دراسات مثل تلك
التي أُجريت على عصافير الدوري المُغردة في مُتنزه
ديسكفري تقيس السلوك فقط، وليس الخبرة الذاتية. إذ لا
يمكن التكهُّن بمشاعر الطيور من البيانات القابلة
للقياس. وذلك تحفُّظ وجيه، لكن من المنصف أيضًا أن نلاحظ
أن العديد من الحيوانات الأخرى تمتلك ذاكرة وعاطفة، وهما
المَلَكتان اللتان تقوم عليهما الصداقة الإنسانية؛ من
ثَم فالاحتمال قائم بلا شك. ينزع العلماء أيضًا إلى
تفسير السلوك في ضوء استراتيجيات التطور المُعزِّزة
للصلاحية التكاثرية، وليس المشاعر؛ ولكن المشاعر
مُحرِّكة للسلوك كما رأينا في الفصل السابق. صحيح أن
قدرتنا على عقد الصداقات أكسبتنا منافع على مدى زمن
التطور، ولكن ليس هذا ما يجعلنا نُحب أن نجتمع
بأصدقائنا.
قد يكون التحفظ بشأن صداقات الحيوانات اعتقادًا أو
انحيازًا غير مُبرَّر، ولكنه ليس موقفًا فكريًّا
منطقيًّا. تأمَّل تجربة عالمة الأنثروبولوجيا باربرا
سموتس — التي حكتْها لي في مقابلةٍ معها — بعد أن أنهت
أطروحتها للدكتوراه عن العلاقات بين قرود البابون، فقد
وجدت نفسها في صدامٍ مع ناشرٍ أكاديمي مرموق رفض استخدام
العنوان الذي اختارته باربرا للأطروحة «الجنس والصداقة
لدى البابون»، رغم أنها قضت عامَين في مراقبة جماعة من
قرود البابون من كثب، وكانت ترتحِل معها يوميًّا من
الشروق حتى الغروب، واعتبرت الصداقة التفسير الأكثر
معقوليةً لسلوكها وجانبًا أساسيًّا في فهمنا
لاستراتيجياتها التكاثرية. أصرَّ الناشر على وضع كلمة
الصداقة بين علامتَي اقتباس. لكن باربرا رفضت
ذلك.
اختارت باربرا ناشرًا أصغر سمح لها بالاحتفاظ بعنوانها
كما هو، وتشرح موقفها قائلة: «عدم وصف تلك القرود بأنها
أصدقاء بدا كأنه يسلبها شيئًا من كينونتها الحقيقية.»
كان ذلك في عام ١٩٨٥. تقول باربرا إنَّ العلم قطع شوطًا
طويلًا منذ ذلك الحين، وإنَّ آراءها لا تُعَد راديكالية
في وقتنا الحالي بقدْر ما كانت آنذاك. فبعض العلماء لا
يجدون اليوم حرجًا في استخدام لفظة الصداقة. غير أن هذه
اللفظة عادة تظلُّ حكرًا على الأنواع الجذَّابة الذائعة
الصيت مثل الأفيال والدلافين والشمبانزي؛ لأن ذكاءها
المعروف على نطاق واسع يجعل من المقبول التحدُّث عن
السِّمات التي تُشبه فيها البشر.
غير أن تقنيات التتبُّع المتطورة جلَّت لنا كثيرًا من
العلاقات في مملكة الحيوان. على سبيل المثال، تُفضل إناث
الإوز الأبيض الرأس اليافعات رفقةَ إناثٍ أخريات
مُعينات؛
2 تلك الروابط تضعف عندما تجد كلٌّ منها
شريكًا، ولكنها تُستكمل بعد موسم التكاثر. هذا النوع من
الإوز موطنه الأصلي هو المنطقة القطبية الشمالية، لكنه
يتشارك في تاريخ الحياة الأساسي مع العديد من أنواع
الإوز في مناطق أخرى، ومنها الإوز الكندي عند بركة تجميع
مياه الأمطار؛ فهو أيضًا طويل العمر، وأحادي الشريك،
واجتماعي للغاية. تلك الإناث التي تؤدي استعراضات
المغازلة في الربيع وتقود صفوفًا من الفراخ التي يكسوها
الزغب وتتعثر في مشيتها، ستستكمل صداقاتها مع
صديقاتها.
بخلاف الإوز الأحادي الشريك، فإن الزرازير التي تتجمع
في وقتٍ متأخر من المساء على شجرة البلوط التي تُحب
الصقور الحمراء الكتفَين أن تجثم فوقها، تنزع لأن تكون
متعددة الشركاء؛ مما يعني أن أنثيَين أو أكثر يتزاوجان
مع ذكرٍ واحد.
3 في غير موسم التزاوج، تكوِّن إناث الزرزور
علاقات وثيقة مع إناث أخريات؛ وتقضي أغلب وقتها معها
وتتشارك معها أغلب أغروداتها. أما في أثناء موسم
التزاوج، فتتَّخذ هذه الصديقات شريكًا واحدًا وتعيش في
أعشاشٍ متجاورة أيضًا. وإذا حاول شريكها أن يتَّخذ رفيقة
جديدة، فستنبذها الصديقات.
تضيف هذه النتائج بُعدًا جديدًا للعودة المنتظرة
للهوازج في الربيع، التي تصِل في جماعاتٍ مع بدء اخضرار
الشجر، فيُضفي تنوُّعها بهجةً على الصباحات؛ هل رحلاتها
عبر القارات، التي تمتد آلافًا من الأميال، مجرد استعراض
لقدراتها الملاحية والفسيولوجية، أم إن من بواعثها
مرافقة الأصدقاء؟ لم تبحث هذا السؤالَ سوى قلَّة من
الدراسات، ولكن أحد السجلات الرائعة لهجرة الطيور هو سجل
هجرة الوروار الأوروبي،
4 وهو طائر مغرد ذو ألوان قزحية يعيش في
جماعات يظل أفرادها متلازمين طوال الوقت، وتتشارك مناطق
التكاثر في الصيف ومناطق البحث عن الطعام في الشتاء، وكل
عام تقطع نحو ٨٩٠٠ ميل ذهابًا وإيابًا. في بعض الأحيان،
ينفصل بعضها عن بعض أثناء الرحلة، وقد يبتعد بعضها عن
بعض آلاف الأميال، ولكنها في نهاية المطاف تجد
بعضها.
تقول كيران دانهال آدمز عالمة البيئة التي تدرس السلوك
الاجتماعي للوروار: «إن بقاءها معًا قصدي؛ مما يُشير إلى
روابط اجتماعية قوية. وكذلك اجتماعها مرةً أخرى مع رفقاء
رحلتها وليس مع غيرهم، رغم انفصالها عنهم لفترات، يشير
أيضًا إلى روابط اجتماعية قوية.» كما هو الحال مع عصافير
الدوري المغردة في حديقة لينكون، لم تدرس كيران وزملاؤها
مشاعر الوروار، ولكن يسع المرءَ أن يتخيل أنها ابتهجت
عندما اجتمعت بأصدقائها مجددًا.
تفتح الأبحاث أيضًا احتمالاتٍ للأنواع التي عادةً لا
تُعَد اجتماعية، على الأقل بصُوَر مُعقدة. يؤدي الممر
على خط السكة الحديد المهجور الذي يمر عبر مُستعمرة
فئران البراري العاشقة إلى متنزه روك كريك، حيث يمكنك أن
تجد سلاحف مُزركشة وسلاحف حمراء البطن تتشمس على جذوع
نصف مغمورة. الصداقة ليست مصطلحًا مرتبطًا عادةً بهذين
النوعين، أو بالسلاحف المائية بصفة عامة، ولكن المرء
يتساءل ما الذي قد نكتشفه إذا أمعنَّا النظر. منذ فترة
ليست ببعيدة، أظهر الباحثون أن بعض ثعابين الرباط تشعر
بالألفة فيما بينها؛
5 تُرى هل نكتشف أن بعض السلاحف المائية تفعل
ذلك أيضًا، وأنها تبحث عن رفقائها عندما تخرج من سباتها
في قاع الجدول، وتفسح مكانًا لهم على الجذع الذي تتدفأ
عليه بحرارة الشمس من برد الشتاء؟ بل إن الباحثين لاحظوا
كيف يتفاعل نحل الخشب، مثل تلك التي تتردَّد على رقعة
نبات القُمعية عند بركة مياه الأمطار، داخل أعشاشه في
وجود نحل من أقربائه وفي وجود نحل من غير أقربائه. تكون
الإناث أقل عدوانية تجاه النحل المألوف الذي لا تربطها
به صلة قرابة مقارنة بالأقارب غير المألوفين.
6 ربما يمكن القول إنه حتى النحل يمكن أن يعقد
صداقات.
تلك مجرد تكهُّنات بالطبع، ولكنها تكهنات من النوع
الذي يجعله العلم الآن معقولًا بل مُرجحًا، وليس مجرد
إسقاطٍ عاطفي. ورغم أن الارتباط لا يعني بالضرورة
الصداقة، فإنه يوفر تُربة خصبة للانفعال؛ وماذا عن أسماك
الشمس التي تسبح أسفل السلاحف، تُرى هل تُميز بين بعضها،
وتعيش في مُستعمرات من أجيال متعددة؟
7 تقول باربرا سموتس: «أي سياق ذلك الذي
سيحدُث فيه تقارُب طويل المدى دون أن ينشأ عنه نوع من
التفاعُل الإيجابي؟ يصعب تخيُّل سياق يكون غياب ذلك
التفاعُل فيه تكيُّفيًّا.»
يمنحنا ذلك الاحتمال منظورًا مختلفًا، أكثر حميمية،
للطبيعة من المنظور الذي يتأتى من اعتبار الحياة مجرد
سباقٍ لنشر الجينات، تطغى فيه الروابط الجينية على ما
دونها من روابط. ورغم أن الصداقة، التي تُعَد مهمةً
للغاية في حياتنا خير مثال على ذلك، فإن المبدأ ليس
مقتصرًا على الصداقة. إنما هو مُتعلق بالحياة الاجتماعية
المعقدة.
في أغلب الأنواع التي ذكرناها، يتشكَّل الإدراك
والانفعال اللذان استكشفناهما في السياقات الاجتماعية،
كما هو الحال بالنسبة إلينا. وكما أن ذكاءنا الاجتماعي
أساس الثقافة والتواصُل والقواعد السلوكية، والتنظيم
الاجتماعي المُعقد، والمشاورات الجماعية، فإن الأمر نفسه
ينطبق على الحيوانات. هي لا تعيش في جماعاتٍ فحسب؛ بل في
مجتمعات.
•••
في الربيع والصيف، ترعى عائلات الأيائل البيضاء الذيل
بالقُرب من الممرَّات المُحاذية لمتنزَّه روك كريك. إنها
مخلوقات جميلة، ورغم أن ارتفاع أعداد الأيائل في العديد
من الضواحي واشتهاءها للنباتات المنزلية ونباتات الطبقة
السُّفلى من الغابات يجعل البعض يعتبرونها آفات، فإنها
دائمًا ما تأسرني.
في ولاية مين، حيث نشأتُ، تهرب الأيائل فور أن تلمح
أحدًا. إنها حذِرة للغاية هناك، وحق لها أن تكون كذلك؛
إذ يقتل الناس سنويًّا نحو ثُمن عددها في
الولاية.
8 أما تلك التي توجَد حول متنزَّه روك كريك،
فإنها ستهرب إذا اقتربتَ منها كثيرًا، ولكن بخلاف ذلك،
وجود البشر لا يُزعجها. في بعض الأحيان، إذا لم تلاحِظ
وجود الأيل؛ ومن ثَم كانت لُغة جسدك طبيعية ومسترخية،
فستسمح لك بالاقتراب، أكثر ممَّن يُحاول بوعيٍ عدم
إزعاجها. وفي ذلك ما يبعث على الرضا البالغ. يُفترض أن
تكون المدن بيئاتٍ غير طبيعية، غير أن الأيائل هنا
تُعامل الناس باعتبارهم أقرانها.
عادةً ما تتكوَّن جماعاتها من عدة إناث بالِغات، وعدد
قليل من الذكور، ومجموعة متنوِّعة من العجائز والصغار.
تربط الإناث صِلة قرابة؛ فهي إما أُمهات، أو أخوات، أو
بنات. أما الأبناء الذكور فيبقَون مع المجموعة حتى
خريفهم الثاني، ثم تُغادر لإيجاد جماعة جديدة. تتعلَّم
الصغار من المُسنِّين دروسًا عن حياة الأيائل: كيف
تتفاعل فيما بينها، وكيف تتصرَّف في وجود البشر، وماذا
تأكل.
لا تقوم الأيائل البيضاء الذيل برحلاتٍ طويلة مثل بعض
أقربائها من ذوات الحوافر كالأيائل الطويلة الأذنَين،
التي تقطع ١٥٠ ميلًا بين مناطقها الصيفية والشتوية في
غرب الولايات المتحدة، أو الرنات، التي تقطع ٧٥٠ ميلًا
ذهابًا وإيابًا. كما أن نطاق حركة الأيائل البيضاء الذيل
الحضرية أضيق من نظيرتها الريفية. لكنها تتنقَّل أيضًا
بين المناطق الموسمية؛
9 إذ لا بد أن تعرف أين تجِد الأعشاب
والشُّجيرات في أوقاتٍ مختلفة من العام، والمواقع
الوفيرة الغذاء، وأن تعرف كذلك إلى أين تذهب وكيف
تعود.
كان يُعتقد سابقًا أن هذه التحركات باعثها الأساسي هو
الغريزة، أو على الأقل السلوك البدائي: تتبع الأيائل
أنفَها لكنها لا تمتلك معرفةً تفصيلية بالتضاريس كتلك
التي تمتلِكها الحيوانات الاستثنائية الذكاء الطويلة
العمر مثل الأفيال، حيث تقود زعيمات القطيع المُسنَّات
قُطعانها عبر مساراتٍ قديمة إلى موارد المياه الموسمية.
تُشير الأبحاث الآن إلى أن التعلُّم والذاكرة يؤدِّيان
دورًا مهمًّا في هجرات ذوات الحوافر بشتَّى
أنواعها.
10 يصعب التثبُّت من هذا الدور علميًّا، ولكن
برهنت عليه دراسة أُجرِيَت على قطعان الموظ وكباش الجبال
الصخرية التي نُقلت إلى مناطق جديدة. في البداية، لم
تبرح مكانها نظرًا لجهلها بالتضاريس؛ لكن مع تراكُم
معرفتها بها على مدار العقود العديدة التالية، أصبحت
تُهاجر، وأصبح كل جيلٍ جديد يُحسِّن مسارات الهجرة التي
صنعها الكبار. الأمر كذلك بالنسبة لهذه الأيائل الحضرية
التي تصنع لنفسها حياةً في الحدائق، والمساحات الخضراء
التي تُزرع عادةً في وسط الطرُق السريعة أو الطرق
الرئيسية لتقسيم اتجاهَي المرور، وفي الساحات الخلفية
للمنازل. معرفتها بالأرض جزءٌ من ثقافتها،
11 جُملة المعارف التي تتوارَثها الأجيال
وتستمر عبر الزمن.
وُصفَت الثقافة الحيوانية في العديد من الأنواع؛ في
أستراليا تستحث جماعة من الدلافين القارورية الأنف
فريستها على الخروج من قاع البحر باستخدام
الإسفنج،
12 وفي كوستاريكا طقوس التحيَّة لدى قرود
الكابوشي البيضاء الوجه تكون بإدخال أصابعها في عينَي من
تُحيِّيه،
13 وفي اليابان تُسقِط غربان الجيف المكسرات
على الطرق كي تكسرها السيارات المارة.
14 تستند الثقافة في جوهرها إلى القدرة على
التعلُّم من الآخرين. حتى النحل الطنَّان أثبت، في
البيئات المُختبرية، أنه قادر على تعلُّم حلِّ
الألغاز
15 والتعرُّف على الأزهار
16 مِن مراقبته لغيره، مما يُثير السؤال عن
المعلومات التي يتشاركها في البرية.
لكن ثَمة ما يُثير دهشتي وإعجابي بشدة في ثقافة
الحيوانات وهجراتها، ألا وهو الطريقة التي يتم بها توجيه
هذه الرحلات الاستثنائية من خلال الدروس المتوارثة عبر
الأجيال. فالبشر أنفسهم لم يستخدِموا هذه الطريقة في
الهجرة إلا منذ وقتٍ قريب. والثقافة أيضًا عامل أساسي في
هجرات العديد من الطيور، وخير مثال على ذلك هو طائر
الكركي الهتَّاف.
17 فبعدَ أن كاد هذا الطائر ينقرِض في البرية،
وأُنقذ عن طريق التكاثر في الأسر، لم تعرف أفراده التي
نشأت في الأسر إلى أين يجب أن تطير؛ وقادها نشطاء الحفاظ
على البيئة بواسطة الطائرات الخفيفة للتحليق فوق شرق
الولايات المتحدة، فأحيَوا بذلك تقليدًا علَّمَته الطيور
لاحقًا لذُريتها.
لم تُدرَس بعدُ أغلب الأنواع المهاجرة بهذه الدقة،
ولكن الأنواع القليلة التي دُرسَت تشير إلى مدى انتشار
ثقافات الهجرة. إذ أشارت مراجعة حديثة لدراسات هجرة
الحيوانات وسلوكها الاجتماعي، إلى أنه حتى الطيور التي
يُعتقَد أنها تطير منفردة «تهاجر هي وآلاف الطيور
المهاجرة الأخرى غالبًا في آنٍ واحد واتجاه واحد، مما
يوفر فرصًا لتبادُل المعلومات.»
18 تصل السُّمامات التي تُعشش في مدخنة أحد
المباني السكنية القريبة من بركة تجميع مياه الأمطار من
أمريكا الجنوبية بواسطة جناحَين طولهما سبع بوصات، وربما
بواسطة الحكمة التي ورثتها من أسلافها.
غير أن أول وصفٍ لثقافة حيوانية كان في ثلاثينيات
القرن الماضي في منطقة سويثلنج بإنجلترا، حيث لاحظ
القرويون أن بعض أواني الحليب التي يتركها بائعو الحليب
أمام عتبات منازلهم تكون مكشوفة.
19 واكتشفوا أن الفاعل هي القراقف الزرقاء
الأوراسية، وهي طيور صغيرة مُغردة تنتمي إلى جنس
القراقف، وقد تعلمت أن تكشف أغطية الأواني. سرعان ما
وردت من المدن المجاورة أنباء عن طيور تكشف الأواني، وهو
سلوك وثَّقه هواة الطيور بدقَّة في حين ينتشر في أنحاء
البلاد. تلك الحوادث لم تكن تنتشر عشوائيًّا، وهو
المتوقَّع في حالة أنَّ الطيور كانت تكتشف طريقة كشف
الغطاء بمفردها، ولكنها كانت تنتشِر تدريجيًّا من مدينة
للمدينة المجاورة لها، في نمط أفضل تفسير له هو أن ذلك
يتعلَّمُه بعضها من بعض.
قد يبدو فتح الأواني شيئًا عاديًّا مقارنة بالهجرة،
ولكنَّ له جانبًا يُضاهيها في سِحره؛ إذ يُشير إلى مدى
تغلغل الثقافة في الحياة اليومية. حتى إنه افتُرض أن
عصافير الدوري
20 والحمام،
21 وهما الطائران الأكثر شيوعًا في الحضر،
يزدهران في المدن ليس فقط لأنهما يتمتَّعان بالمرونة أو
لأنهما يجدان في المدن بيئاتٍ تُشبه موائل أسلافهما، بل
لأنهما يراكِمان المعرفة. حتى الطيور العادية الشائعة،
ذات السلوك الشائع، لديها معارف متراكمة.
•••
مثل ثقافاتنا البشرية، لا تقتصِر ثقافات الحيوانات على
معارفها وأفعالها، إنما تشمل أيضًا طرُق تواصُلها. وكانت
أولى الملاحظات التي سُجِّلت في مُحيط سان فرانسيسكو في
ستينيَّات القرن الماضي على يد عالم الأحياء بيتر مارلر،
حيث اكتشف أن أغرودات العصافير البيضاء التاج التي تعيش
في أجزاء مختلفة من المنطقة تختلف اختلافات طفيفة.
22 آنذاك، كان يُعتقد أن أغرودات الطيور
تُحددها عوامل وراثية. لكن بحث مارلر أظهر أنها
تتعلَّمها من والديها. وصف الاختلافات بين الأغرودات حسب
الموقع بأنها لهجات، مثلما تختلف لهجة سكان نيويورك عن
سكان لونج أيلاند. منذ ذلك الحين اكتُشفَت اللهجات في
العديد من الأنواع الأخرى؛
23 إذ يُحتمل وجودها لدى العصافير البيضاء
الحلق وعصافير الدوري المُغردة وعصافير الدوري المنزلية
التي تقطن حيِّي القديم. تُعشش مجموعة من ذلك النوع
الأخير في زخارف إسمنتية تُزين الزقاق المجاور للبناية
التي أسكُنها، وتتجمع في الشُّجيرات المجاورة لموقف
سيارات محطة الوقود. يسرُّني أن أُفكر أنه حتى تلك
العصافير فريدة.
كان بيتر مارلر مُهتمًّا أيضًا بمعاني التواصُل
الحيواني. في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، استخدم
طريقةً تجريبية كانت جديدة آنذاك، وهي إسماع الحيوانات
تسجيلاتٍ لنداءاتها ومراقبة استجابتها لها، وقد ساعدته
في البرهنة على أن قرود الفيرفيت لدَيها نداء تحذير
مُعين لكل مفترس: فلدَيها نداء لتحذير القرود الأخرى من
اقتراب نسر، ونداء آخر للتحذير من الثعابين، وثالث
للتحذير من الفهود.
24 أشارت النتائج ضمنيًّا إلى فكرة أن تواصُل
القرود قصديٌّ ومرجعي؛ أي إن أصواتها تُشير إلى شيء أو
حدَث خارجي وليس فقط إلى حالة داخلية، كصوت الهمهمة الذي
ينمُّ عن الرضا. وكانت النتائج دليلًا قاطعًا يدحض
المُعتقد السائد. كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» في نعيِها
لمارلر أنه كان المُعتقد الشائع آنذاك هو «أن التواصل
الحيواني بصفةٍ عامة أقرب إلى وظيفةٍ جسدية منه إلى
محادثة بشرية.»
25
المرجعية والقصديَّة هما سِمتان رئيسيتان للغة؛
واللغة، كما رآها العديد من العلماء والفلاسفة آنذاك بل
كما يراها بعضهم الآن، هي سِمة ينفرد بها
البشر.
26 يُقال إن اللغة لا تُشبه أي صورة من صور
التواصل الحيواني، وإنها تشكِّل الذهن بطرق لا يمكن أن
يتشابه معنا فيها أي حيوان.
27 ذلك المزعم الأخير يُعَد فرضية على أقصى
تقدير، لكن اللغة البشرية بلا شك فريدة؛ فنحن نصكُّ
ألفاظًا جديدة بمعدل استثنائي، ونُرتبها وفق قواعد
دقيقة، ونُضمِّن رسائلنا معاني مبطنة، بل إننا نُمثلها
بصريًّا، مثل الكلمات في تلك الصفحة.
غير أن ثَمَّة منظورًا آخر للغة. جوهر التواصُل هو
تبادُل المعلومات،
28 وهو أمر سائد في عالم الحيوان. واللغة ليست
إلا واحدة من طرق تحقيق ذلك؛ إذ يمكن فِعل الكثير
بدونها. في الواقع، جانب كبير من تواصُلنا ليس لغويًّا
على الإطلاق. العناق والتلويح باليد والابتسام وصيحة
الفرح: كلها أشياء أساسية في التجربة الإنسانية، ولكنها
ليست فريدة، ولا يحتاج أيٌّ منها إلى التراكيب أو
العودية أو أيٍّ مِن الخصائص الرفيعة المُستوى التي
تتَّصف بها اللغة.
تتواصل الحيوانات أيضًا بطرُق لا نعدُّها عادة ثرية
بالمعلومات. بعض أعمدة السياج المُحاذي لممرِّ بركة مياه
الأمطار هي المقصد المفضَّل للكلاب في الحي، التي عادةً
ما تتوقَّف عندها لتشمَّها ولتترك عليها بصمتَها الخاصة.
تملك الكلاب أنفًا فائق الحساسية، يحتوي في المتوسط على
٣٠٠ مليون مُستقبِل للرائحة، وهو عدد هائل مقارنةً بخمسة
ملايين مُستقبِل لدى الإنسان، وبالنسبة إليها تُمثل آثار
البول هذه سجلًّا مفصلًا للكلاب التي زارت ذلك الموضع،
وتوقيت زيارتها، وأعمارها وحالتها الصحية وجنسها، وربما
مزاجها. زال التصوُّر التقليدي بأن الكلاب «تُرسِّم حدود
منطقتها» بذلك الفعل، ليحلَّ محلَّه فهمٌ أدق بكثير
له.
29 أعمدة السياج تلك هي بمثابة لوحاتِ إعلانات
بالنسبة إلى الكلاب.
اكتُشفَت سلوكيات مماثلة لدى أنواع عديدة أخرى تستمدُّ
معلومات اجتماعية من مستودعات مركزية للروائح. تفعل
القنادس ذلك،
30 وكذلك القضاعات أو ثعالب الماء
النهرية
31 والدببة
32 وفئران المنازل
33 والموظ؛
34 عندما تعود ثعابين الرباط إلى أماكن سباتها
الشتوي بعد أن تكون قد قضت فصل الصيف معًا، فإنها تترك
أثرًا كيميائيًّا لتقتفيه الثعابين الأخرى.
35 لو كانت أنوفنا أكثر حساسية، لأدركنا
الرسائل التي تزخر بها المناطق الطبيعية.
الإيماءات أيضًا تُعَد إحدى طرق التعبير الثرية. وجدت
إحدى الدراسات التي أُجرِيَت على قرود الشمبانزي أن
لديها ٣٦ شكلًا لإيماءةٍ واحدة، قد يتغيَّر معناها عند
أدائها على أجزاء مختلفة من الجسم، وتُستخدَم في ٢٦
سياقًا على الأقل، منها التحية والطمأنة ومشاركة
الطعام.
36 حركات ذيل السنجاب الشبيه بالسيمافور أبسط
إلى حدٍّ ما، لكنها تحمِل معاني أيضًا.
37 حتى تحريك جراد المياه العذبة لمجسَّاته
ينقل معلومات.
38 ويعبر مجرد اللمس، كما تفعل أنثى الغراب
التي تهذب ريش شريكها بعد مشاجرته مع غراب آخر، عن شيء
لا يحتاج إلى أن يصاغ باللغة.
وكما أن بعض المخلوقات التي كان يُفترض أنها تعيش
منفردة، تبيَّن أنها اجتماعية جدًّا، توجَد العديد من
المخلوقات التي تتواصل بطرق على درجةٍ غير مُتصوَّرة من
التعقيد. من بين تلك المخلوقات السلاحف المائية. في
منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وثَّقت
طالبة دراسات عُليا تدرس السلاحف الثعبانية العنق
الشمالية في أستراليا ما لا يقلُّ عن ١٧ نوعًا مختلفًا
من الأصوات تستخدِمها تلك السلاحف، بداية من الزقزقات
والنعيق وانتهاءً بالعواء وقرع الطبول؛
39 قبل ذلك، كان يُعتقَد أن السلاحف المائية
صامتة في الأغلب وغير قادرة على التواصُل الصوتي
المُعقد. شجع هذا الاكتشاف على إجراء مزيدٍ من الدراسات
على أصوات السلاحف المائية، مثل تلك التي تستخدِمها
سلاحف النهر العملاقة في أمريكا الجنوبية لتنسيق الهجرة
ورعاية صغارها.
40 لا نعرف ما تقوله السلاحف الحمراء البطن
والسلاحف المُزركشة في مُتنزه روك كريك لبعضها في فترات
العصاري الطويلة وهي مسترخية على جذوع الأشجار، ولكن مثل
تلك الاكتشافات توسِّع إدراكنا للممكن.
تمتلك العديد من الحيوانات أيضًا ما يمكن تسميته
بأنظمةٍ شبيهة باللغة؛ فهي لا تملك جميع خصائص اللغة
البشرية، إنما تملك بعضها. إحدى تلك الخصائص هي التواصُل
المرجعي الذي اكتشفه مارلر لدى القرود، ووُجد لدى العديد
من الأنواع منذ ذلك الحين، كان أول طائر تُوثَّق لدَيه
تلك الخاصية هو الدجاج؛ إذ يُخبر رفقاءه في المجموعة عن
وجود الطعام.
41 ومن تلك الخصائص أيضًا التركيب، أو القدرة
على تغيير معنى الأصوات بتغيير ترتيبها.
التراكيب هي موضوع مسار بحثي عبقري بدأه عالِم سلوك
الحيوان توشيتاكا سوزوكي.
42 كما فعل بيتر مارلر وزملاؤه مع القرود،
سجَّل سوزوكي أصوات القراقف اليابانية — وهي طيور مُغردة
صغيرة تربطها قرابة وثيقة بتلك القراقف الأوراسية التي
تكشف الأواني والقراقف السوداء الرأس عند البركة — ثم
أسمعها إيَّاها وقيَّم ردود أفعالها. وجد سوزوكي أن
تواصُلها مرجعي — «أفعى!» — ولكن عندما عكس تسلسل
نداءاتها التي تَعني: «افحص مُحيطك بحثًا عن أخطارٍ ثم
تعالَ إلى هنا»، لم يجد منها أي استجابة. إن لنداءاتها
تراكيب مُعينة، وما فعلَه يُشبه ما يحدث عندما تُغيِّر
ترتيب العبارة «افتح هذا الباب» إلى «الباب هذا افتح»
فتصير بلا معنًى. بالإضافة إلى ذلك، بيَّن سوزوكي أنه
بعد سماع القراقف اليابانية لمُفرداتها الدالَّة على
وجود أفعى، فإنها تتوجَّس من أي شيءٍ أسطواني
طويل.
43 يبدو أن سماع المُفردة يستحضِر في أذهانها
صورة مُعينة مثلما يحدث معنا.
من وجهة نظر سوزوكي، فإن هذه النتائج لا تقتصِر على
القراقف اليابانية فحسب؛ إذ يرى أنها توضِّح ما يمكن أن
يحدُث لدى العديد من الأنواع. لم تُجرَ مثل هذه الدراسات
على القراقف السوداء الرأس، ولكنَّ العلماء الذين
يدرسونها يشتبِهون أنها تملك قدراتٍ مماثلة. عند دراستها
بتمعُّن، تبيَّن أن نداءها «تشيكادي» الذي اكتسبت منه
اسمها في الإنجليزية — والذي تستخدِمه في مجموعةٍ متنوعة
من السياقات؛ منها الحفاظ على تقارُب رفقائها في السرب،
وتحذيرهم من الحيوانات المفترسة، والإعلان عن وجود
الطعام — معقد للغاية، وأنه يتنوع في ثرائه التناغُمي،
وأنواع اللحن، والتردُّد.
44 ما تُدركه آذاننا على أنه مجرد نداء واحد
بسيط هو في الواقع أشكال مُتعددة من ذلك النداء.
تُرى ما المعاني التي يُمكن لتلك النداءات التعبير
عنها؟ هل تتضمَّن تعبيرات تتعلق بالطقس أو الريش أو
سِمات الطبيعة التي نكاد لا نُلاحظها نحن ولكنها مهمة
بالنسبة إليها، مثل مَذاق الهواء قبل موجة بردٍ طويلة،
أو مزايا الأنواع المختلفة من اللحاء في تخزين البذور؟
هل تتضمن طرقًا لقول «كيف حالك؟» أو «سُررت برؤيتك!» وهي
مَعانٍ يصعُب قياسها تجريبيًّا بخلاف نداءات التحذير
والاستجابات الواضحة التي تستدعيها؟ وعندما يعود أحد
الوالدَين إلى العش حاملًا الطعام للصغار ويُغادر الآخر،
هل يتناقشان بشأن واجبات الرعاية كما تفعل طيور المور
الشائع؟
45 هل تشارك معلومات عن ظروف الرياح أو فقس
الحشرات؟ يمكن للمرء تخيُّل ذلك على الأقل وهو يراقب
قرقفًا أسود الرأس أو أي نوع اجتماعي آخر.
يتجاوز تبادل المعلومات أيضًا حدود النوع. كثير من
أشكال التواصُل تكون عامة؛ إذ تستجيب العديد من الأنواع
في الغابات المُصغَّرة لنداءات تحذير السناجب وطيور كاسر
الجوز.
46 وتسمع قنادس الأرض النداءات التحذيرية
للسناجب.
47 في الشتاء، عندما تتجمَّع أسراب طيور أبي
الحناء والزرازير وعصافير الدوري وكاسر الجوز، والقراقف
في الأيكة المجاورة للبركة لتقتات على ثمار اللبلاب
الإنجليزي، من المعتاد أن تسمع نداء تحذيرٍ واحدًا، يسود
بعدَه صمت تام، يليه بعدة ثوانٍ رفرفة جناحَي صقر
مُعلِنةً وصوله.
تُعَد جوقة الفجر إحدى الأمثلة الأخرى لذلك التواصُل
العام؛ وهي ظاهرة التغريد الجماعي للطيور قبل الفجر
بقليلٍ بشدة أعلى من أي وقتٍ آخر من اليوم. ذات صباح
مُبكر ربيعي، بدا العالم أسفل شرفتنا في الطابق السابع
عشر كأنه استادٌ بعيد يرتج بهتاف الجماهير. يوجَد جدل
واسع بين العلماء على وظيفة جوقة الفجر، ولم يُجمعوا
بعدُ على رأي، لكنَّ أحد التفسيرات هو أن الطيور تتبادل
المعلومات،
48 وهو تفسير يبدو لي منطقيًّا إلى حدٍّ كبير.
يمكن اعتبار جوقة الفجر بمثابة صحيفة صباحية.
لا يُهم إذا كانت الطيور تستخدِم اللغة أم لا. صحيح
أنه لم يثبت بعد لحيوانٍ قُدرته على إتقان اللغة
البشرية، لكن تأمَّل نقطةً طرحَها عالِم اللسانيَّات
ليوني كورنيبس؛ إذ كتب: «حسب عِلمي لا توجَد دراسات
تجريبية أو طبيعية تُثبت أن البشر نجحوا في اكتساب لغة
الدجاج أو الحيتان أو الأبقار أو القراقف الزرقاء كلغةٍ
أولى أو ثانية.»
49 رغم ذكائنا البالِغ، لم يتعلَّم أحدٌ منَّا
حتى الآن التواصُل بلسان القراقف.
•••
للحياة الاجتماعية مُتطلبات إدراكية هائلة. فالحيوان
الاجتماعي يحتاج إلى أن يكون قادرًا على التعرُّف على
الأفراد الآخرين — بالبصر والرائحة والصوت — وتذكُّر ما
فعلوه في الماضي، والتنبُّؤ بما قد يفعلونه في
المُستقبل، ثم بناء علاقات معهم بما تنطوي عليه من
تواصُل وتفاوُض. حتى عصافير الدوري المُغردة تحتاج على
مدار حياتها إلى الكثير من العتاد الفكري، ومن العلماء
من افترض أن النزعة الاجتماعية هي أكبر مُحرك تطوري
للذكاء.
50 فلِكَي يكون المرء اجتماعيًّا لا بدَّ أن
يكون ذكيًّا.
إحدى القُدرات المفيدة جدًّا هي القدرة على فَهم ما
يُفكر فيه الآخرون. عند البشر، تتَّخذ تلك القدرة شكلًا
يُسمَّى «نظرية العقل»، وهي تعني أنه يُمكنك الاستدلال
بطرُق مُعقدة على ما يعرفه الآخرون، بل أن تفهم أن
حقائقهم ومعتقداتهم تختلف عن حقائقك ومعتقداتك، وأنها قد
تكون خاطئة في بعض الأحيان. وما زال العلماء مُختلفين
على امتلاك الحيوانات الأخرى لهذه القدرة. القردة
العُليا تمتلِكها قَطعًا،
51 لكن ثَمَّة خلافًا على الأدلَّة على وجودها
لدى الحيتانيات
52 والغرابيَّات،
53 وهما رُتبتان تتمتَّعان بقدرات إدراكية
عالية.
من المُحتمَل أن تكون نظرية العقل سِمةً مميزة للبشر.
لكن تلك القدرات العقلية البالغة التعقيد تتكوَّن من
عناصر معرفية أبسط
54 موزَّعة بين الحيوانات. منها الاستدلال
الاستقرائي، والمواجدة، والقُدرة على توقُّع الأحداث في
موقف مُعين؛ هذه العناصر الثلاثة مجتمعة تُنتج القدرة
على إدراك الحالات العقلية للآخرين. عندما تستجيب
سنجابةٌ أمٌّ لصيحات استغاثة وليدِها أو ينتظر غراب حتى
يتأكَّد أن لا أحد يراه قبل أن يُخفي الطعام فوق عمود
الهاتف، فإنهما لا يُمارسان عملياتٍ مُعقدة كالتي
يستلزمها وضع النظريات. إنما لديهما ببساطةٍ حسٌّ بما
تعرفه الحيوانات الأخرى ويتصرَّفان وفقًا لذلك. نحن
أيضًا نفعل ذلك. إذا كنتَ خارجًا في نزهة وصادفت شخصًا
عابسًا يُغمغم، فلن تحتاج إلى أن تسأل عن سبب ذلك. يكفيك
أنك تعرف أنه في مزاجٍ سيئ كي تتجنَّبه.
لعلَّ هذه التقييمات العقلية السريعة القائمة على
الخبرة هي أساس الأنثروبومورفية أو الأنسنة؛ أي إسقاط
الحالات العقلية البشرية على الحيوانات الأخرى (أو حتى
على الجمادات. ما زلتُ أتذكَّر لافتة متجر سيارات
رأيتُها وأنا طفل عليها رسم كارتوني لأنبوب عادمٍ حزين
جعل دموعي تتساقط شفقة عليه). تحظى الأنثروبومورفية
بسُمعة سيئة بين العلماء، الذين ربطها كثير منهم على مدى
التاريخ بالتعاطف الذي لا يُحرك ساكنًا. غير أن بعض
الباحثين الآن يُحاججون على أنها تعكس دافعًا متأصِّلًا
فينا.
55 فنحن نُسقط خبراتنا على الكائنات الأخرى أو
على الجمادات لأن ذلك أفاد أسلافنا على مدى ملايين
السنين. نحن مُهيئون بيولوجيًّا لأن نسقط خبراتنا على
الكائنات الأخرى، وكذلك تفعل السلاحف والغزلان
وغيرها.
ترى الفيلسوفة كريستين أندروز أنَّ القدرة على أن
ننسِب حالات عقلية للآخرين هي أساس الأخلاق عند
الحيوانات. أخلاق الحيوانات لا تُشبه بالضرورة الأخلاق
البشرية، الواردة في النصوص، التي يُتوصَّل إليها
بالتأمُّل الأخلاقي، إنما هي شيء أبسط؛ هي حسٌّ بما
ينبغي على الحيوان فِعله.
56 يُمكننا أنه نُسمِّيها الأخلاق
البدائية.
تقول كريستين أندروز إنها تتأتى من مُراقبة ما يفعله
الآخرون، لا سيما الأم، ولاحقًا الأقران الذين تُعَد
أفعالهم نموذجًا للسلوك الاجتماعي يتمازج مع الميول
الفطرية. الرفق، أو الإيجابية الاجتماعية، كما تُسمَّى
في الاصطلاح البحثي، هي أحد هذه الميول، ويُلاحَظ في
نزوع الجرذان إلى مساعدة أقرانها المكروبين أو في تبنِّي
راكون أُمٍّ لصغارٍ فقدوا أُمَّهم. من تلك النزعات أيضًا
حس الإنصاف، أو ما يُسميه العلماء النفور من عدم
المساواة. الكلب الذي يؤدي حيلةً عندما يُطلَب منه ذلك
قد يكفُّ عن تأديتها عندما يرى كلبًا آخر يُكافأ على
الفعل نفسه؛
57 إذ يُثير التمييز في المعاملة استياءه. يبدو
أن الغربان أيضًا لدَيها ذلك النفور من عدم
المساواة،
58 ممَّا يؤكد على أن هذا السلوك لا يقتصِر على
الثدييات، إنما هو سلوك شكَّلته الضغوط الاجتماعية في
شتَّى أرجاء مملكة الحيوان.
يوفر اللعب فرصةً قيمة للحيوانات لتنمية حسِّها
الأخلاقي. كتب عالِم سلوك الحيوان مارك بيكوف: «أثناء
استمتاع الأفراد في بيئةٍ آمنة نسبيًّا، فإنهم يتعلَّمون
القواعد الأساسية لأنماط السلوك المقبولة
للآخرين.»
59 إذا راقبت بإمعانٍ سلوك الكلاب في مُتنزَّه،
فستلاحظ أنها تتناوب على مصارعة بعضها، وأن الكلاب
الضخمة تسمح للكلاب الضئيلة بالفوز؛ وحين يُعامِل أحدُها
الآخر بخشونة فإنه يُتبِع ذلك بلفتاتٍ للمصالحة، والكلب
الذي لا يَتَّبع هذه القواعد السلوكية سرعان ما يُنبَذ.
الفئران أيضًا تتصرَّف بالطريقة نفسها.
60
الأخلاق البدائية للحيوانات لا تُشبه بالضرورة
أخلاقنا؛ غير أنها تظلُّ أعرافًا اجتماعية. وإذا ما
أضفْنا إليها العلاقات والثقافة والتواصُل، فإنها تُشكل
أساس المجتمع؛ وقد رُصِد ذلك في بعض الحيوانات، مثل
الأفيال الأفريقية التي لديها تسلسُل هرمي للأمَّهات
المُسنَّات في قُطعانها، وتحالُفات الشمبانزي، وعشائر
الحيتان القاتلة التي تصطفُّ لتُحيِّي بعضها في
الاحتفالات الرسمية.
61 لكني أرى أن تلك الأمثلة تخلق وجهة نظرٍ
ضيقة للغاية، تقصر فكرة المجتمع على عددٍ قليل من
الأنواع المُميزة. عندما يلتئم شمل ثعابين الرباط في
الشتاء، وتتفرَّق القراقف السوداء الرأس لتتكاثر في
أزواجٍ ثم تعود إلى سربها في الخريف، أو عندما تتجمع
أسماك الشمس الزرقاء الخياشيم في مُستعمرات التفريخ
الخاصة بها في مُتنزه روك كريك؛ فتلك أيضًا مجتمعات من
نوعٍ ما. والطبيعة زاخرة بها.
•••
عندما يبدأ الليل يُلقي بسدوله فوق البحيرة، تبدأ
أشباح الخفافيش البُنية الكبيرة تُرى وهي تُحلِّق في
الضوء الواهن المتلاشي. وبحلول الفجر، تجثم فوق أي شجرةٍ
كبيرة في مكانٍ قريب. ربما شجرة بلوط قديمة ذات جذع
أجوف، أو شجرة قارِّية ذات لحاءٍ مُتقشر يُشكل شقوقًا
مناسبة للراحة. الخفافيش البُنية الكبيرة يصعب رؤيتها
إلى حدِّ أنها قد تستقرُّ في شجرةٍ داخل فناء منزل دون
أن يلحظها ساكنوه. بل إن مجتمعًا كاملًا منها قد يكون
مختبئًا فوق رءوسهم.
في السنوات الأخيرة، اكتشف العلماء أشياء مُذهلة عن
حياة العديد من أنواع الخفافيش. تتواصَل أُمهات الخفافيش
الكيسية الجناحَين مع صغارها بأصواتٍ ممطوطة عالية
الحدة،
62 تُشبه لغة الأُمهات البشرية عندما تتحدثن مع
صغارهن، أما صغار الخفافيش نفسها فهي تُناغي،
63 مثل الأطفال البشريين. وتجترُّ الخفافيش
المصَّاصة الدماء وجباتها لتغذية رفاقها، مما يخلق
«سوقًا بيولوجيًّا»
64 تُتبادَل فيه الخدمات وتتغيَّر قِيَمها
وفقًا للقواعد المُعقدة التي تحكم تبادل المنافع. كما أن
أصوات خفافيش الفاكهة — ليس أصوات الموجات فوق السمعية
للسونار الحيوي الذي تتبع به فريستها، إنما الصرصرة التي
تتواصَل بها — مُعقدة للغاية، وتُستخدَم للتشاور في أمر
مواقع مجاثمها، ومشاركة الطعام، وبالطبع الجنس.
65
سألتُ مارك بريجهام — عالم أحياء يدرس الخفافيش
البُنية الكبيرة — هل حياتها الاجتماعية على القدْر نفسه
من التعقيد والثراء؟ فقال بريجهام إن هذا أمر لم يُدرَس
علميًّا، لكنه يرجح أنها كذلك. فأنظمة التواصُل لدى
الخفافيش البُنية الكبيرة مُعقدة للغاية؛ فهي لا تتبادل
الطعام ولكنَّها قد تتبادل المعلومات. تنضمُّ الإناث
التي تربطها صِلة قرابة إلى مُستعمراتٍ جديدة، ولكنها قد
تُقرر في أي ليلةٍ — على إثر مداولاتها لاختيار الأشجار
التي ستقضي فيها يومَها — الانقسام إلى مجموعاتٍ أصغر من
أفرادٍ لا تربطها صِلة قرابة، ولكن تربطها عِشرة طويلة
الأمد.
66 وقال بريجهام إن أولئك الأفراد قد يكونون
أصدقاء، وإن كان لا يرتاح لاستخدام هذه المُفردة.
مجتمع الخفافيش البُنيَّة الكبيرة هو ما يُسميه
العلماء مجتمعًا اندماجيًّا انشطاريًّا؛ إذ تتكوَّن
الجماعات وتنشطر ثم تندمج مرة أخرى. وهذا شكل من
المجتمعات موجود لدى العديد من الأنواع الأخرى، منها
نوعُنا. من غير المعروف كيف تُقرر الخفافيش المواقع التي
ستجثم فيها أو تُقرر الانضمام إلى مستعمرة جديدة، ولكن
ثَمة مسارًا بحثيًّا عميقًا يصِف الطرق العديدة التي
تتَّخذ بها جماعات الحيوانات قراراتها.
في أحيان قليلة فقط يتَّخذ حيوان مُهيمن واحد القرار
نيابة عن الجماعة. بعد ولادة ملكة جديدة، يستغرق نحل
العسل أيامًا ليُقرر ما إذا كان سينشئ مُستعمرةً
جديدة؛
67 ويبدو أن الأسراب الشتوية للقراقف السوداء
الرأس تتشاور بشأن موعِد بدء البحث عن الطعام في
الصباح؛
68 وتُشير الأنماط الرياضية لتحرُّكات أسراب
الحمام إلى أنها تُجري مفاوضاتٍ أثناء الطيران.
69 بل إن بعض الأنواع تُجري تصويتًا. فجماعات
الأيائل الحمراء لا تتحرَّك إلَّا عندما يُجمِع ثُلثا
القطيع على اتجاهٍ مُعين؛
70 وتستلزم جماعات البيسون الأمريكي رأي
الأغلبية على ما يبدو، ولكنها تميل إلى اتباع رأي الإناث
الأكبر سنًّا.
71 وفي جماعات الربَّاح المُقدس أو بابون
هامدرياس، تتَّخذ القرارات أغلبية من الذكور البالِغين،
ويجري التصويت بتغيير الأفراد لمواضعهم على الصخور التي
يجلسون عليها.
72 ويبدو أن الكلاب البرية الأفريقية تُصوِّت
بالعطس، حيث يكفي ثلاث عطسات مؤيدة ليتبع القطيع طلب
كلبٍ رفيع الرُّتبة بالتحرك، في حين يستلزِم اتباع كلب
مُنخفض الرتبة عشر عطساتٍ مؤيدة.
73
كل ذلك له سبب تطوُّري وجيه. فأنظمة اتخاذ القرار
بالإجماع، لا سيما الأشكال الديمقراطية منها، تسمح
للأفراد ذوي المعلومات المختلفة بمشاركة ما يعرفونه من
معلومات. وتستفيد المجموعة من التفكير في جميع وجهات
النظر. غير أنَّ لها دلالة أعمق: فهذه الحيوانات لا
تنخرِط في سلوكيَّات فردية روتينية تؤدِّي إلى فعلٍ
جماعي فحسب، بل إنها تُمعن التفكير في أمورها. إنها
تُبرهن على أنها ليست مجرد جماعة أو قطيع، بل مجتمع
حقيقي.
في نظري، خير مثال على ذلك هو التَّمُّ الصدَّاح، الذي
يُشير إلى تفضيله الرحيل بالصياح، ولا يرحَل إلا عندما
يتجاوز عدد الصيحات حدًّا مُعينًا.
74 سألتُ جيفري بلاك، أحد علماء الأحياء الذين
اكتشفوا نظام التصويت بالصياح هذا، عن احتمال وجود هذا
النظام لدى الإوز الكندي. يعتقد بلاك أنه ربما يكون
موجودًا لدَيه. وأضاف أنه ربما يُرسل أيضًا إشاراتٍ من
خلال إظهار البُقَع البيضاء على وجهه.
في ضوء المساء الآفل، تظهر الظلال الخاطفة للخفافيش
البُنية الكبيرة، فتُخبرنا أن لها عوالم اجتماعية لا
نعرِف عنها إلا النزر اليسير، ولكنها ربما لا تقلُّ
تعقيدًا عن مجتمعاتنا. يمكن أحيانًا سماع نداءاتها تعلو
فوق هدير أنظمة التهوية في المباني الشاهقة القريبة.
ويتهادى الإوز الكندي في الماء، في الضوء الخافت
للمصابيح المُحاذية لممرِّ المشي المؤدي للبركة. تَصيح
إوزة، تلِيها أخرى، ثم أخرى، وتتعالى الصيحات حتى تصِل
إلى أوْجها وسط الظلال السوداء التي تُلقى على السماء
الداكنة الزرقة. نداءاتها المُتلاشية هي صوت شعب.