الفصل الخامس

شخصنة الحيوانات

ما المقصود بالشخص؟ قد يُجيب مُدافع عن حقوق الحيوان بأنه «أحد ما» وليس «شيئًا ما». بالنسبة إلى إيمانويل كانط، الشخص هو من يستحق أن يُعامَل باعتباره غاية في ذاته وليس باعتباره وسيلة لتحقيق غاية أحدٍ آخر.1 وتلك مكانة احتفظ كانط بها ﻟ «الكائنات العقلانية»، وهو وصفٌ قصد به البشر؛ وإذا بحثت عن تعريف كلمة person أي «شخص» في «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» فستجد أول تعريف لها هو: «إنسان فرد».2
غير أنك إذا بحثتَ عن معناها في «قاموس بلاك القانوني»، وهو أكثر كتاب قانوني يُستشهَد به في العالم، ويرجع إليه القضاة والمحامون عند بحثهم عن التعريف القانوني الدقيق لأي مصطلح، فستجد تعريفًا مختلفًا. في الطبعة الحادية عشرة، وهي الطبعة الحالية يرد التعريف الآتي: «وفق نظرية القانون، الشخص هو أي كائنٍ يَعتبره القانون أهلًا لاكتساب الحقوق أو أداء الواجبات.»3 يعكس هذا التعريف تغييرًا حديثًا.4 في السابق، كان التعريف «أهلًا لاكتساب الحقوق وأداء الواجبات»، والفرق رغم بساطته قد يكون له تبعات عميقة كما سنرى.
يرجع الفضل في تغيير حرف العطف من «و» إلى «أو» إلى «مشروع حقوق غير البشر»، وهي جماعة حقوقية أسَّسها المحامي ستيف وايز عام ٢٠٠٧. يعمل وايز في مجال حقوق الحيوان منذ مطلع الثمانينيات، وهو وقت كانت أغلب الولايات الأمريكية تعتبر فيه معاملة الحيوانات بقسوةٍ جنحةً شأنها شأن السُّكْر في الأماكن العامة.5 تغيَّرت القوانين قليلًا منذ ذلك الحين — جميع الولايات الآن تعتبر القسوة تجاه الحيوانات جناية — لكن تظلُّ تعتريها جوانب قصور مُثيرة للدهشة.6 على سبيل المثال، إذا قتل شخصٌ كلبَ شخصٍ آخر عزيزًا عليه، فلا يمكن مقاضاته عادةً إلَّا لدفع تكلفة شراء كلبٍ آخر. ففي نظر القانون، الكلب مجرد سلعة قابلة للاستبدال مثل التلفاز.7
هذا بالنسبة إلى الحيوانات التي نعتز بها، ونعتبرها أفرادًا غير بشريين من الأسرة. أما بالنسبة للمخلوقات الأدنى قيمة بالنسبة إلينا، فإن القوانين أكثر عبثية. في الولايات المتحدة، يُستثنى من قانون الرفق بالحيوان الفيدرالي حيوانات المزارع ومعظم حيوانات المختبر؛8 ولا ينطبق قانون الذبح الرحيم على الدجاج أو الأسماك، التي تُمثل الغالبية العظمى من الحيوانات التي تُربى في المزارع للإنتاج الغذائي.9 قوانين الولايات المختصة بالحيوانات مُرقَّعة، وتتخلَّلها ثغرات تسمح بممارسات يعتبرها أغلب الناس قاسية، مثل الاحتفاظ بالخنازير في أقفاص الحَمل أو صيد الحمام بغرض التسلية.
أما بالنسبة إلى الحيوانات البرية، فإن الحماية الجدية مقصورة إلى حدٍّ كبير على الأنواع المهددة بالانقراض أو التي قد تتعرَّض لهذا الخطر مستقبلًا. أما باقي الحيوانات فيمكن بصفةٍ عامة قتلُها وتهجيرها دون عواقب تُذكَر. ويمكن لذلك أن يكون قانونيًّا تمامًا، مثل واقعة تدمير إدارة النقل في فرجينيا أكبر مُستعمرة للطيور البحرية في الولاية لإقامة مشروع مد لجسر.10 حتى عندما يكون ذلك غير قانوني، غالبًا ما تكون عقوبات الجرائم الشنيعة بسيطة، مثلما عوقب أعضاء إحدى أكبر مجموعات الصيد البري غير المشروع في تاريخ الولايات المتحدة على استمرارهم في قتل الحيوانات بأعدادٍ مهولة لسنواتٍ بغراماتٍ قيمتها عدة آلاف من الدولارات.11 كما أن تطبيق القوانين لا يكون مُنتظمًا ويعتمد على تدخل الحكومة. إذا جوَّع شخصٌ ما حصانَه ورفضت الدولة مقاضاته، فلن يكون هناك أي سبيلٍ قانوني آخر إلى ردعه. فالمواطنون لا يستطيعون حماية الحيوانات التي لا يمتلكونها.
في قرار صدر عام ١٩٩٣ في دعوى قضائية رفعها وايز والعديد من المنظمات المناصرة لحقوق الحيوان نيابةً عن دولفين أسيرٍ يُدعى كاما، كتب القاضي: «تُعامَل الحيوانات باعتبارها ملكية أصحابها، لا باعتبارها كيانات لها حقوق قانونية خاصة بها.»12 ادعى وايز أن نقل كاما إلى البحرية لاستخدامه في أبحاث متعلقة بالسونار ينتهك القوانين الفيدرالية التي تحظر بيع الثدييات البحرية. وسواء كان ذلك الادعاء يستنِد إلى روح القانون أو نص القانون المُتعلق بحماية الثدييات البحرية، فإنه لم يصل إلى المحكمة. إذ أعلن القاضي أن المُترافعين عن كاما لم يَطَلْهم أي ضررٍ نتيجة ما حدث له؛ ومن ثَم ليس لهم صفة قانونية. أما أن يكون لكاما نفسه صفة قانونية أو أن يُمثله شخص يتحدَّث نيابة عنه — مثل الطفل — فذلك لم يكن متصوَّرًا من الأساس.
كانت تلك حقيقة أدرك وايز أنها تمثل عقبة جوهرية في سبيل حماية الحيوانات. كتب بعد ذلك بسبع سنواتٍ في كتاب بعنوان «رَج القفص»: «ثَمَّة جدار قانوني سميك منيع يفصل جميع الحيوانات البشرية عن الحيوانات غير البشرية.»13 على أحد جانبَي الجدار يوجَد البشر، الشخصيات القانونية، الذين يَعتبر القانون كلَّ واحدٍ منهم له مصالح مهمة للغاية إلى حدِّ تسميتها بالحقوق، مع كل ما يستتبِعه ذلك من سلطة قانونية وأخلاقية. وعلى الجانب الآخر، يوجَد جميع أفراد شتى الأنواع الأخرى الموجودة على الأرض. يقول وايز: «مصالح الحيوانات الأساسية والجوهرية — آلامها، وحياتها، وحريتها — تُتجاهَل عمدًا، وغالبًا ما تُنتهَك بسوء نية، وكثيرًا ما يُساء استغلالها.» ولأن الحيوانات لا تُعَد شخصياتٍ قانونية، فإن إجراءات حمايتها لن تَرقى مطلقًا إلى مستوى الحقوق، وهكذا سيظلُّ الحال إلى أن يُهدَم ذلك الجدار.

كرَّس وايز حياته لمحاولة هدم هذا الجدار، أو على الأقل تجاوزه، والحصول على اعترافٍ قانوني بحقٍّ واحدٍ على الأقل لحيوانٍ واحد؛ ومِن ثَم تحويله من شيءٍ إلى شخصٍ في نظر القانون، وتحقيق سابقة قضائية يمكن الاستناد إليها في الاعتراف بحقوق أخرى لحيوانات أخرى. وقد وضع استراتيجية قانونية لتحقيق ذلك، من خلال جماعة «مشروع حقوق غير البشر». وفي أواخر عام ٢٠١٨، رفعت الجماعة دعوى قضائية نيابةً عن هابي، وهي أنثى فيل آسيوي مُسنَّة مملوكة لحديقة حيوان برونكس الشهيرة عالميًّا؛ وادَّعى وايز وزملاؤه أنها شخص، ليس فقط بالمعنى الكانطي للمصطلح، بل بالمعنى القانوني أيضًا، ولها الحق في الحرية.

•••

في أوائل السبعينيات، اختُطفت المُدعية من قطيع أفيال في تايلاند.14 لا توجَد روايات لشهود على الواقعة، ولكن يمكن للمرء أن يتخيل العواء المحموم، وتدافُع الأجساد، والخوف والغضب والحزن. تربط علاقة حُب قوية بين الأفيال الأُمَّهات وصغارها (يُسمَّى صغير الفيل الدغفل). يستمر حمل أُنثى الفيل لمدة عامَين؛ وتظل الأفيال الصغيرة ترضع عدة سنوات، وتُلازم أُمهاتها بعد فطامها سنوات عديدة. وتُغادر الذكور قطعانها — مجتمعاتها — في سِن المراهقة، في حين تبقى الإناث فيها طوال حياتها.
عندما اختُطفَت هابي، كانت لا تزال تَرضع. كانت قد قضت حياتها كلها في كنَف أُمها الحنون، وفي عناية عائلتها المُمتدة التي لا بد أنها احتفلت بولادتها بأصوات النهيم، على غرار غيرها من عائلات الأفيال الآسيوية.15 في غضون دقائق قليلة، سُلبَت هابي كل ذلك. شُحنَت إلى الولايات المتحدة ومعها ستَّةُ فيلة صغار أخرى يتعدَّى وزن الواحد منها وزن شخصٍ بالغ، ولكنها حسَّاسة مثل أي طفلٍ صغير؛ تخيَّل نفسك طفلًا، تقبع في مخزن طائرة تحت رحمة غرباء من غير نوعك. كانت وجهتها هي مُتنزه حياة برية لم يعُد موجودًا الآن يُدعى «لايون كانتري سافاري» في إرفين، كاليفورنيا.16 هناك سُميت الأفيال على اسم الأقزام السبعة في قصة «بياض الثلج».
مات الفيل سليبي في غضون عام. أما الأفيال الستة الأخرى فأُرسلت إلى مُتنزه «لايون كانتري سافاري» في لوكساهاتشي، فلوريدا، حيث بقِيَت حتى عام ١٩٧٧، ثم باعتها الشركة المسئولة عن المُتنزه إلى عدة حدائق حيوان وسيركات في أنحاء الولايات المتحدة.17 انتهى الأمر بهابي وجرامبي، اللذَين أصبحا صديقَين حميمَين وربما يكونان شقيقَين، في حديقة حيوان برونكس حيث كانا نجمَي جولة قطار بنغالي إكسبرس، الذي يُسمَّى الآن قطار آسيا البرية.18 وقضَيا الثمانينيات يُجبَران على تأدية الحيل وتنزيه الزوَّار على ظهرَيهما. أحد مُدربي هابي وصفها بأنها «أكثر فيل عنيف جسديًّا رأيتُه في حياتي»،19 وهو وصف يتَّسق مع نتائج الأبحاث التي أُجريت على الأفيال اليتيمة. عند البلوغ، تُصبح تلك الأفيال عرضةً للاكتئاب، وتصير تصرُّفاتها غير مُتوقعة وعدوانية؛ وهي سِمات ما يُسمَّى في البشر اضطراب كرب ما بعد الصدمة. بعض العلماء الذين يدرسون الأفيال يُقرُّون رسميًّا الآن بأنها تُصاب بذلك الاضطراب أيضًا.20
في عام ٢٠٠٢، هاجم فيلان آخران يُدعَيان باتي وماكسين، جرامبي وأصاباه بجروح بالِغة حتى إنه أُعدِم بعدها رأفةً به.21 فصلتهما إدارة المُتنزه عن هابي ووضعوها مع فيلةٍ أصغر سنًّا تُدعى سامي، توُفِّيت بعد أربع سنواتٍ نتيجة فشل كلوي. منذ ذلك الحين تعيش هابي وحيدة، تلك المخلوقة التي لو كانت في البرية لكانت ستتجوَّل عشرات الأميال يوميًّا برفقة أقاربها، لكنها الآن تُحبس في أرضٍ عشبية مساحتها ١٫١٥ فدان في الأشهر الدافئة، وفي الشتاء توضَع في قفصٍ داخلي يبلغ ارتفاعه ضعف طولها تقريبًا.22 ولا تتواصل اجتماعيًّا مباشرة إلا مع مقدمي الرعاية البشريين. ثَمة جدل حول تأثير هذه الظروف على رفاه هابي الجسدي والعقلي، ولكن يجوز القول إنها تعيش حياةً بعيدة كل البُعد عن الحياة المثالية. أي شخصٍ لا يتكسب مِن أَسْر الأفيال سيرى قصة هابي مأساة.
ولكن هل يجب اعتبار أَسْر هابي انتهاكًا لحقِّها القانوني في الحرية، مما يجعل هابي شخصيةً قانونية؟ هذا الأمر متروك للقاضية أليسون تويت، التي ستُقرر ليس بناءً على الدستور، أو على القوانين الفيدرالية أو الحكومية أو المحلية، إنما بناءً على القانون العام؛ ذلك النظام التشريعي الذي ينظر في أي مسألةٍ لا تشملها تلك القوانين. على سبيل المثال، غالبًا ما تندرج مطالبات الإصابات الشخصية تحت مظلة القانون العام،23 وكذلك المُطالبات المتعلقة بالخصوصية في غياب اللوائح الخاصة بها.24 في الماضي، عندما رفضت الحكومة الأمريكية الاعتراف بزواج الأفراد من نفس النوع، كانت لدى بعض الولايات سوابق قضائية تُبيح ذلك وفقًا للقانون العام.25 يعتمد قضاة القانون العام على السوابق القضائية التي أقرَّتها أحكام سابقة، ولكن بوسعهم إعادة تفسيرها، وحتى وضع سوابق جديدة، حسب ما يستجدُّ من مُتغيرات في المعرفة والقِيَم العامة.

إحدى أشهر القضايا التي حكم فيها القانون العام كانت في إنجلترا عام ١٧٧٢، في وقتٍ لم تكن محاكم تلك الأمة تعتبر الملوَّنين أشخاصًا. مثل الحيوانات الآن، كانوا يُعتبَرون مُمتلكات، ليسوا أهلًا لامتلاك حقوق من أي نوع. تغير ذلك بعد مطالبة نشطاء حركة إلغاء العبودية بالحُرية لجيمس سومرست، الذي اشتراه ضابط جمارك يُدعى تشارلز ستيوارت من مزرعة في فيرجينيا وعاد به إلى إنجلترا. في أكتوبر ١٧٧١، هرب سومرست؛ ثم قُبض عليه بعدَها بعدة أسابيع. حبسَه ستيوارت في زنزانة على متن قاربٍ مُتجه إلى جامايكا، وأمر ببيعه ليعمل في المزارع، وهو عملٌ شاقٌّ يعني الموت المُبكر.

قدَّم النشطاء الْتماسًا بالمثول أمام القضاء — وهو إجراء قانوني يهدف إلى ضمان عدم احتجاز الأفراد بشكلٍ غير قانوني — دافعين بأنه لا يجب اعتبار سومرست ملكيةً قانونية، وإنما شخصية قانونية تتمتع بالحق في الحرية. وافق القاضي اللورد مانسفيلد. وكان قراره ذلك أساسًا لإنهاء العبودية في إنجلترا. ألَّف وايز كتابًا عن دعوى سومرست ضد ستيوارت، بعنوان «ولو انطبقَت السماء على الأرض»26 في إشارة إلى عبارة مانسفيلد التي شدَّد فيها على أن العدالة يجب أن تمتثِل للمبادئ الأخلاقية مهما كانت التبِعات.

ألهمت تلك القضية وايز في القضية التي رفعها. ونيابة عن هابي، قدمت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» الْتماسًا بالمثول أمام القضاء، دافعين بأنه لا يجِب اعتبار هابي ملكية بل شخصًا؛ كيانًا يتمتع بحق واحد: الحق في حُرية الحركة، ومن ثَم يجب تحريرها من الحبس التعسفي الذي عاشت فيه. قبلت ولاية نيويورك هذا الالْتماس على الأقل باعتباره مسألة تستحق النظر فيها بجدية.

•••

عُقدت جلسة الاستماع الأولى في قاعة محكمة ذات سقف مرتفع في برونكس، وبدأت بمطالبة مُحامين من جمعية حفظ الحياة البرية، المالكة لحديقة حيوان برونكس، رفض النظر في قضية هابي؛ إذ إن جماعة «مشروع حقوق غير البشر» سبق أن خسِرت دعاوى قضائية مماثلة تتعلق بقرود شمبانزي تعيش في الأسْر.27 في كلٍّ من تلك القضايا، قدَّمت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» إفاداتٍ خطية من علماء رئيسيات يؤكِّدون فيها أن القرود، التي تُعَد أقرب أقارب للبشر الأحياء، تمتلك قدراتٍ عقلية تُعَد جوهر الاستقلالية في نوعِنا البشري، وهي التي تمنحنا الحق في حرية الحركة.28 وفي كلٍّ من تلك الدعاوى القضائية، اعتبر القضاة هذه الحقيقة غير ذات صِلة.
في الدعوى الأولى، أعلن القاضي أن التماس المثول أمام القضاء لا يسري على الحيوانات.29 وأيدت محكمة الاستئناف هذا الحُكم.30 وقالت المحكمة إنه كي يكتسب الشخص حقوقًا قانونية لا بد أن يتمكن من أداء الواجبات القانونية أيضًا؛ والشمبانزي لا يُتوقَّع منه أن يعرف القانون ويلتزم به. وفي الدعوى الثانية كان القاضي أكثر تعاطفًا، لكنه رفض الإقدام على ما أسماه «وثبة إيمانية»،31 وأيَّدت محكمة الاستئناف قراره أيضًا، موضحةً أن الْتماس المثول أمام القضاء لا يسري لأن الشمبانزي سيُنقل إلى ملجأ وليس إلى البرية.32 وهذا سوف «يغير ظروف حبسه لكنه لن يُحرِّره.» هذا ينطبق أيضًا على هابي، فالفوز بالقضية سيعني بالنسبة إليها العيش في محمية وليس في موطنها الأصلي أو في بيئة طبيعية أخرى.
أما الدعوى الثالثة التي قدَّمتها الجماعة الحقوقية نيابةً عن الشمبانزي الثالث فقد رفضتها المحكمة دون جلسة استماع، ثم قدَّمتها الجماعة مرة أخرى، واستمعت إليها قاضية مُتعاطفة استشهدت بملاحظة قاضي المحكمة العُليا أنتوني كينيدي — التي قدَّمها في قضية لورنس ضد تكساس، التي قُضي فيها بحكم تاريخي عام ٢٠٠٣ أقرَّ بعدم دستورية قوانين مكافحة المِثلية — قال فيها إن «الوقت يمكن أن يُعمينا عن بعض الحقائق، والقوانين التي قد تُعتبر في وقتٍ ما ضرورية ومناسبة ربما ترى الأجيال اللاحقة أنها لا تخدم أي غرَض إلَّا القمع.» ولكنها شعرت أنها مُقيدة بالحكم السابق القائم على الحقوق والواجبات.33
هذه السوابق القضائية لم تُثبِّط عزيمة وايز، ذلك الرجل الودود ذو العقل الراجح الذي يعوزه الهندام، ويبدو كأنما وُلِد ليكون محاميًا للمُستضعفين، وبدأ يشرح أسباب وجوب عدم اعتبار المحكمة للقضايا السابقة.34 قال إن الحجَّة القائلة بأن ذلك تغيير لظروف الحبس وليس تحريرًا منه تتجاهل السؤال الأساسي، وهو قانونية الحبس من عدمِه. (كان بوسع وايز أن يُنوِّه أن ذلك يُجيز نظريًّا سجن العديد من المُسنين، وهو أمر غير جائز قانونًا. إذ إن تحريرهم من السجن لن يُغير سوى ظروف حبسِهم، وينقلهم من السجن إلى دار المُسنين فحسب.) أما حجَّة الحقوق والواجبات فهي باطلة تمامًا. قال وايز بأنها لو طُبِّقت فسنُجرد الرُّضَّع والأطفال والبالغين المُصابين بالغيبوبة وذوي الإعاقات العقلية الذين لا يفهمون القانون من حقوقهم. قال: «عُشْر سكان نيويورك لن يُعتبَروا أشخاصًا.»

بعد ذلك شرح وايز أن الحكم القائم على حجَّة الحقوق والواجبات استند إلى تعريفٍ ورد في «قاموس بلاك القانوني»؛ ولكن عندما تتبعت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» الحقوقية أصل ذلك التعريف إلى مقال نُشر عام ١٩٢٧ للباحث القانوني السير جون سالموند، وجدوا أن سالموند في الواقع كتب: «اكتساب الحقوق «أو» أداء الواجبات.» ولمَّا نبهت الجماعة مُحرر القاموس إلى ذلك الخطأ، صوَّبه. ونُشرت النسخة المحدَّثة من القاموس قبل بضعة أسابيع فقط من انعقاد جلسة الاستماع. أي إن الحركة غيَّرت تعريف «الشخص» في حدِّ ذاته، وهكذا بطل الأساس الذي استند إليه الحُكم الأصلي.

أخيرًا، دخل وايز إلى لبِّ الموضوع؛ وهو ماهية الأفيال. تضمَّنت المستندات التي قدمتها جماعة «مشروع حقوق غير البشر» إفادات خطية لخمسة باحثين: لوسي بيتس، وكارين ماكومب، وريتشارد بيرن من جامعة ساسكس، وسينثيا موس من مؤسسة «أمبوسيلي للأفيال»، وجويس بول، التي شاركت في تأسيس مؤسسة «أصوات الأفيال»، الذين قضوا مُجتمِعين أكثر من قرنٍ في دراسة الأفيال.35 قد لا تكون أسماؤهم مألوفة للعامة، لكن حضورهم كان أشبه بانضمام فريقٍ من أبطال دوري كرة السلة الأمريكي إلى نقاش عن كرة السلة.
لخَّصت إفاداتهم المعلومات المعروفة علميًّا عن ذكاء الأفيال، بداية من أدمغتها.36 مثل أدمغتنا، تُعَد أدمغة الأفيال كبيرة بالنسبة إلى أجسادها بدرجةٍ تفوق المعتاد. نحن نشارك معهم قشرة دماغية كثيرة الطيَّات، وهي الطبقة الخارجية المعالجة للمعلومات في الدماغ؛ والفص الجداري والصدغي الكبيران، الضروريَّان بالنسبة إلينا في التواصُل والإدراك وتفسير السلوكيات؛ ومُخيخ كبير، وهو ضروري للتخطيط والمواجدة وفهم الآخرين. تمتلك الأفيال أيضًا العديد من الخلايا العصبية المُتخصصة التي تُساهم لدى البشر في الانتباه والتعلم العاطفي والوعي الذاتي والسيطرة على النفس. يقول العلماء في إفاداتهم: «يوجَد تشابُه تشريحي بين الدماغ البشري ودماغ الأفيال في المناطق المُرتبطة مباشرة بالقدرات اللازمة للاستقلالية والوعي الذاتي.»37
التشابُه التشريحي لا يضمَن التكافؤ، ولكن العلماء استشهدوا بعد ذلك بأمثلةٍ على سلوك الأفيال، بداية من اجتيازها اختبار التعرُّف على الذات في المرآة. كما رأينا سابقًا، يسهل إنكار الوعي الذاتي للحيوانات التي تفشل في هذا الاختبار؛ ولكنه بالنسبة إلى الحيوانات التي تجتازه يُعَد دليلًا تجريبيًّا على امتلاكها صورة ذهنية لذاتها. في مصادفةٍ عجيبة، أُجرِيت التجربة التي أثبتت الوعي الذاتي للأفيال، على يد علماء زائرين لحديقة حيوان برونكس، وأُعلنت نتائجها عام ٢٠٠٦، ولاقت تقديرًا كبيرًا. تلك التجربة كانت بطلتها هابي نفسها.38
وجود صورة ذاتية ذهنية يستتبع القدرة على تحديد الأهداف والسعي لتحقيقها.39 ووجود الوعي الذاتي يستتبع إدراكًا أعمق لوجود الذات لدى الكائنات الأخرى. وصفت إفادات العلماء أفيالًا تُطعِم غيرها من الأفيال العاجزة عن استخدام خرطومها لتناول الطعام؛ وأُمًّا تساعد رضيعها على تسلُّق ضفة نهر عن طريق غرس أنيابها في الطين لتكون درجاتٍ يصعد عليها؛ وأفيالًا أُمهات تتظاهر بأنها في دورة الشبق، لتعليم بناتها كيفية جذب الذكور والاستجابة لها.

تحدَّث الباحثون أيضًا عن التواصل بين الأفيال، الذي يحدث عبر نظامٍ ثري من الأصوات والإيماءات شبَّهوه باللغة البشرية. يتضمن مخزونها من الأصوات الهدير المُنخفض التردُّد الذي ينتقل لمسافات طويلة، مما يسمح لها بالتواصُل عبر مسافاتٍ بعيدة؛ طوال الوقت، يكون لدى الأفيال خريطة ذهنية تُبين مواقع أفراد مجتمعها. وجدت التجارب أيضًا أن الأفيال تستطيع تذكُّر أصوات ما يصل إلى ١٠٠ فيل آخر، حتى بعد مرور سنواتٍ على سماعها. يتساءل المرء إذا كانت هابي تتذكَّر الأصوات التي سمعتها في طفولتها؛ وإذا كانت تتذكَّرها فعلًا، فهل تلاشت بمرور الوقت من ذاكرتها أم إنها لا تزال واضحة كما كانت في اليوم الذي اختطفت فيه.

في التجارب المحكومة، يقيس الباحثون التعاون لدى الأفيال من خلال المهام التي تتطلَّب منها التعاون على سحب سلسلةٍ لتلقي مكافأة. في البرية، تتعاون الأفيال في الدفاع عن نفسها من الحيوانات المفترسة، بما فيها البشر. كما أنها تتَّخذ قرارات جماعية بشأن المكان الذي يجب أن تقصده وما يجب فعله. هي لا تهيم على وجوهها بلا هدف؛ إنما تتنقَّل بين مناطق السقي التي يبعُد بعضها عن بعض عشرات الأميال، وقد ترتحِل أكثر من ١٠٠ ميل إلى أماكن لم تزُرها منذ سنوات، متبعةً المسارات التي تحفظها الأُمهات المُسنَّات التي تُعَد بمثابة مكتبات حية بالنسبة إلى عائلاتها. وعندما يموت فيل، قد يُغطي أقرباؤه جثمانه بالنباتات ويحمونه من آكلات الجيف. إنها تحزن على ذويها.

كتب العلماء في إفاداتهم: «ما نعرفه حاليًّا ليس إلا قطرة في بحر قُدراتها الدماغية»، وهذه القدرات تُشكل ما يعتبره البشر استقلالية. فنحن نختار الحياة التي نريد أن نعيشها؛ وذلك في إطار حدود حتمًا، لكنها لا يمكن أن تكون حدود زنزانة. فمن أسوأ المصائر المُتخيلة بالنسبة إلى شخصٍ بريء هو أن يُسجَن. ويقول وايز إن هذا هو حال هابي: هي سجينة بريئة محبوسة في ظروفٍ أشبه بالحبس الانفرادي.

•••

على الأقل وصلت قضية هابي إلى المحكمة. في بداية جلسة الاستماع الثانية،40 عارض الدعوى القضائية مُحامٍ من جمعية حفظ الحياة البرية يتحدَّث نيابة عن مجموعتَين تعملان في تلك الصناعة؛ وهما جمعية حدائق الحيوان الأمريكية وتحالُف حدائق الثدييات البحرية وأحواض الأحياء المائية. وقال: «هذه القضية لا تخصُّ هابي وحدَها، إنما هي جزء من حملةٍ تخصُّ العديد من الحيوانات، وهذه الحملة من شأنها أن تهدم العديد من جوانب العلاقات القانونية والاجتماعية والاقتصادية داخل هذه الولاية.» وبالفعل كانت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» قد أعلنت عن رغبتها في تحرير الدلافين والحيتان الأسيرة، ومِن المُتصوَّر أن يُطالب النشطاء بالحرية للأنواع الأخرى التي يدعمها العلم بأدلةٍ مماثلة.

قال المحامي: «سيتبع ذلك سيلٌ من الدعاوى. والمحاكم ليست مهيَّأة بالقدر الكافي للتعامل معها. ستحتاج المحاكم إلى وضع معايير تحكيم للموافقة على حُرية هذا الحيوان ورفض حرية ذاك. فكيف ستفعل ذلك؟ ثم ماذا سيكون مصير أي حيوان تُحرره؟» كانت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» قد رتَّبت لهابي أن تعيش في ملجأ، لكنها حذرت من أن الحيوانات الأخرى لن تكون محظوظةً بقدْرها. إنما ستصبح عبئًا على الولاية؛ إلى جانب ذلك، تخيَّل لو اعتُبِرت الحيوانات التي تُربى في المزارع للإنتاج الغذائي أشخاصًا. من شأن ذلك أن يؤدي إلى القضاء على صناعة الثروة الحيوانية. وسيجوع الناس.

تُثار هذه الاعتراضات حتمًا عند مناقشة أيٍّ من قضايا مشروع حقوق غير البشر، سواء داخل قاعات المحاكم أو أمام محكمة الرأي العام، وقد أقرَّ وايز بأن المطالبات بالشخصية القانونية قد تُقدَّم يومًا ما لأنواع أخرى. وسيتعين على المحاكم استشارة العلم وتحديد ما إذا كانت تلك الأنواع تستحق أن تُمنح حقوقًا، وإن كانت تستحق، فماذا ستكون تلك الحقوق؛ لكن حجَّة أن منحها حقوقها سيؤدي إلى عواقب غير محسوبة، لا تسوغ عدم إنفاذ العدالة، كما أن المحكمة منعقدة الآن للنظر في أمر هابي فقط.

استشهد وايز باللورد مانسفيلد وجيمس سومرست، الذي «دخل إلى المحكمة باعتباره ملكيةً خاصة في نظر القانون العام، وخرج منها وقد صار القانون العام يعتبِره شخصًا.» كما استشهد بقضية ستاندنج بير ضد كروك، التي صدر فيها حكم عام ١٨٧٩ أقرَّ بحق رجلٍ من شعب البونكا يُدعى ستاندنج بير في الحُرية؛ ومِن ثَم اعتُبرت حقًّا لجميع الشعوب الأصلية في أمريكا، الذين لم يكن القانون آنذاك يعتبرهم شخصياتٍ قانونية قبل ذلك.

ردَّت أليسون تويت قائلة: «لكنه كان إنسانًا.»

ردَّ وايز بأن النوع الذي ينتمي إليه الفرد لا يُهم. وعرض تجربة فكرية لتوضيح ذلك: إذا اكتشفنا إنسان نياندرتال على قيد الحياة اليوم، فهل سنعتبِره شخصًا؟ فالنياندرتال ليسوا من جنس الهومو سيبيانس. بدلًا من التمسُّك بالحُجج التي ترفض الاعتراف بحقٍّ لكائن حي يستحقُّه بجدارة، علينا أن ننظر أولًا إلى طبيعة هذا الكائن. وعدم فعل ذلك يُعَد انتهاكًا لمبدأ المساواة. فالكائنات المُتماثلة تستحقُّ أن تُعامَل معاملةً متساوية؛ وذلك منصوص عليه في تعديل المادة الرابعة عشرة في دستور الولايات المتحدة، الذي يضمن المعاملة المُتساوية بموجب القانون، وفي المادة الأولى من دستور نيويورك، وفي قوانين وأحكام قانونية لا حصر لها، وفي نسيج الحياة الاجتماعية لأي مجتمعٍ ديمقراطي حديث.
استُكملت جلسة الاستماع الثالثة بمداولات عن رفاه هابي في وضعها الراهن.41 أوضحت حديقة حيوان برونكس أنها اتَّبعت الإرشادات القياسية التي يفرضها المجال، ووفرت رعاية طبية ممتازة. ورد وايز بأن الإرشادات غير كافية على الإطلاق؛ ورغم أن الأطباء البيطريين يعتنون بصحة هابي الجسدية، فإنهم لا يملكون أن يفعلوا شيئًا لصحَّتها العقلية التي تضرَّرت من العزلة والحرمان. شبَّه وايز هابي بمريضٍ في مستشفى سجن وقدم إفادة من جويس بول، التي استعرضت مقاطع فيديو تُصوِّر هابي وهي ترفع قدمَيها مرارًا وتكرارًا؛ وهو ما يُشير إما إلى مرَض في القدم، وهو بمثابة حُكم بالإعدام بالنسبة إلى الأفيال، وإما إلى ضائقة نفسية.

قال كبير الأطباء البيطريين في حديقة الحيوانات إن التنقُّل لمسافاتٍ قصيرة داخل الحديقة يُزعج هابي؛ من ثَم يُحتمَل أن يكون نقلُها إلى ملجأ بعيد ضارًّا لها. وزعمت جويس بول أن الانزعاج من التنقُّلات إنما يدلُّ على شدة تضرُّرها من الأسر. قالت حديقة الحيوانات إن أطباءها البيطريين مؤهلون أكثر بكثيرٍ من جويس، التي لم تعرف هابي إلا من مقاطع الفيديو التي الْتقطها ركاب قطار آسيا البرية.

في الحقيقة هكذا لمحت أنا نفسي هابي. زرتُ الحديقة مرتَين، وفي المرتين لم تكن هابي موضوعة في المساحة المُخصصة للأفيال التي تبلغ ١٫١٥ فدانًا، إنما كانت فيها باتي، أُنثى الفيل الأخرى في الحديقة.42 مثل هابي، اختُطفت باتي في أوائل السبعينيَّات، وهي تعيش الآن بمُفردها؛ إذ في عام ١٩٨١، فَقدت أستور، وليدها ذا السبعة عشر شهرًا الذي تُوفِّي بسبب مرَض في القلب. (ورد خبر وفاته في صحيفة «نيويورك تايمز». تعقيبًا قال ويليام كالواي، مدير الحديقة آنذاك: «لقد بيَّن لزوار الحديقة أنه لا يرى أنهم مختلفون كثيرًا عنه.»)43

عربات القطار المُعلق مفتوحة من جانبٍ واحد، ومقاعدها موضوعة بحيث تواجِه ذلك الجانب. لرؤية هابي، كان عليَّ أن أُخرج هاتفي من جانب العربة الذي أجلس فيه وأوجِّه كاميرته للخلف، وهو ما سمح لي بتصوير المباني المنخفضة والساحات الترابية التي تعيش فيها حيوانات آسيا البرية عندما لا تكون في مناطق العرض المخصصة لها. في زيارتي الأولى، لم أكن أعرف هذه الحيلة. أما زيارتي الثانية فأسفرت عن مقطع فيديو شاهدتُه لاحقًا. هناك، بعد خنازير الهند (البابيروسا) وقبل وحيد القرن الهندي، وبينما كان قائد القطار المُعلق يقول: «باتي فيلة آسيوية يزيد عمرها عن ٥٠ عامًا، لكن العمر مجرد رقم بالنسبة إلى تلك الفيلة الجميلة»، كانت هابي، تقِف عند المدخل المفتوح لمبنًى صغير بدون نوافذ. كانت تقِف مُوليةً وجهها للمساحة الداخلية للمبنى، وظهرها إلى ساحة ترابية صغيرة، وتؤرجِح ذيلَها.

في اللمحة التي رأيتُ فيها المكان، بدا شبيهًا بساحات الخردة والمستودعات الصناعية التي تُحيط بحي برونكس. بدا مسكنًا بائسًا لفيل. ولكن أنَّى لي أن أعرف ذلك مِن مجرد لقطاتٍ مُقتضبة غير مباشرة؟ ربما كنتُ أُسقِط تحيُّزاتي الخاصة وسردياتي وتوقُّعاتي، لكن على أي حال، كان مِن الصعب أيضًا التسليم بصحة التقييمات العامة لحديقة حيوان برونكس.

هل ستكون مغادرة هابي لمسكنها هذا تعذيبًا وليس خلاصًا، أم العكس؟ مِن الصعب تخيُّل أن يحتفظ مخلوق ضخم ذكي للغاية، جبَلَه التطور على حُب الرفقة والحركة، بسلامته العقلية وهو يعيش في حيِّزٍ يُعادل مساحة فناء خلفي لمنزل، ولا يحظى بأي تواصُل إلا مع البشر من حينٍ لآخر. في الوقت نفسه، لا يمكن اعتبار تشخيصٍ أُجرِي عبر مقاطع الفيديو حاسمًا. بدا أن الحلَّ المعقول سيكون الحُكم بأن هابي شخصية قانونية لها الحق في الحرية، ثم تعيين حَكَمٍ مُستقل ليُقرر ما هو الأفضل لها.

كرَّر وايز تشديده على وجوب اعتبار هابي سجينة. إذ سُلبت منها القدرة على اتخاذ القرارات، الجسدية والاجتماعية على حدٍّ سواء. وتحدَّث عن المسافات التي تقطعها الأفيال البرية وحياتها الاجتماعية المعقدة. قال: «هذه أفيال، وهي كائنات تتَّخذ قرارات جماعية مثلنا.»

قاطعَتْهُ أليسون تويت قائلة: «هذا عندما تكون مُضطرة إلى ذلك. لكنها إذا كانت تعيش في مكانٍ لطيف، فلن تحتاج بالضرورة إلى فعل هذه الأشياء.»

لم يكن واضحًا ما إذا كانت القاضية تعتقِد ذلك فعلًا أم إنها أرادت أن تُحرِّض وايز على الإجابة لتسجيلها في محضر الجلسة. على أي حال، تعليقها هذا إنما يدلُّ على الفجوة الهائلة بين فهمِنا للبشر وفهمِنا لغيرهم من الحيوانات. فالقاضية ما كانت لتقول أبدًا إن التحدُّث إلى الأصدقاء والعائلة أمرٌ يفعله المرء باعتباره ضرورة نفعية، أو تُلمِّح إلى أن العيش بدون اتصال بشري مباشر أمرٌ مقبول تمامًا ما دام المرء يتلقَّى رعاية طبية لائقة ويقدَّم له طعام وافر.

بعد استراحة لتناول الغداء، جرَّب وايز نهجًا مختلفًا. قال: «لنتخيَّل أننا لا نعرف أن هابي فيل واعتقدنا أنها إنسان.» في تلك الحالة سيكون حبسها ظلمًا بيِّنًا. ولن نتحدَّث حينئذٍ عن لوائح السلامة أو ما إذا كان أسْرُها مريحًا. وقبل ختام جلسة الاستماع، شدَّد مرة أخرى على أهمية الحرية والاستقلالية والمساواة. قال: «هذه مبادئ على المرء اتِّباعها أينما ذهب.»

استشهد محامي حديقة حيوان برونكس بالسوابق التي أقرَّتها قرارات المحكمة في قضايا الشمبانزي السابقة. قال إنه إذا كانت القاضية لا تتَّفق معها، فإن وضع القوانين الجديدة من اختصاص السلطة التشريعية وليس القضاء. واعتبار هابي شخصيةً قانونية من شأنه أن يقلب النظام القانوني رأسًا على عقب. باختصار، سيطبق السماء على الأرض، وإن لم يستخدِم المحامي هذه العبارة.

•••

معارضو جماعة «مشروع حقوق غير البشر» لا يقتصرون على مناهضي حقوق الحيوان. فالبعض يشاركون الجماعة قِيَمها، لكنهم يرَون أن التركيز على بعض السِّمات المختارة غير عادل. كتبت الفيلسوفة المُنظِّرة القانونية مارثا نوسباوم: «بعض الحيوانات تلِجُ من الباب، ولكن ذلك ليس إلا لأنها تُشبهنا. الباب الأول مفتوح، ولكنه يُغلَق خلفنا.» قد تمرُّ القردة العُليا والأفيال وبعض أنواع الحيتان، لكن الحيوانات الأخرى ستظلُّ «بالخارج في تلك المساحة المُظلمة المُخصصة للأشياء أو المُمتلكات.»44
قدمت مارثا نوسباوم مذكرةً تدعم فيها هابي،45 لكن استراتيجيتها المُفضلة هي نسخةٌ معدَّلة مما يُعرَف باسم «مقاربة القُدرة»،46 التي وضعها أمارتيا سِن، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، لتكون بديلًا لمقاييس مثل نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. وهي تَعني بالنسبة إلى البشر تقدير قُدرة الأفراد على تحقيق ما هو مُهم بالنسبة إليهم؛ على سبيل المثال، أن يكونوا بصحَّة جيدة، وأن يكون لديهم أصدقاء مُقربون وعمل مُشبع لحاجتهم. أما بالنسبة إلى الحيوانات، فسيُثبت لها الحقوق بناءً على معايير ازدهار نوعِها، لا على مدى تشابُهها الإدراكي مع البشر. ينبغي أن تكون معايير الحياة الجيدة بالنسبة إلى الأفيال أو القراقف أو السلاحف النهاشة أو السمندلات الزرقاء المُرقطة هي أساس منحها المكانة الأخلاقية ومن ثَم الحقوق. قد يقول قائل إنه إذا كان القضاة مُتردِّدين في اعتبار الأفيال شخصيات قانونية لها الحق في الحرية، فاحتمال منحهم السمندلات الحق في مياهٍ نظيفة سيكون ضئيلًا؛ ولكن هذا جدال يتعلق بالجانب العملي، وليس اعتراضًا على المبدأ.
أما البعض الآخر فيرى أن التركيز على الحقوق والعدالة نفسه مُشكِل.47 فالمعايير المُرتفعة التي تستنِد إليها المُطالبات قد تُقصي بعض الأنواع من الاعتبار القانوني، كما أن كثيرًا من المسائل المُهمة أخلاقيًّا تحدُث في سياقاتٍ تقع خارج اختصاص القضاء وفقًا لمبادئ عامة مُعبَّر عنها في القانون. وهذا النقد المُرتبط بما يُعرَف الآن باسم «أخلاق العناية»، منشؤه النقاشات الأكاديمية التي أُثيرت في مجالَي الفلسفة النسوية والأخلاقية في أواخر القرن العشرين.48 على حدِّ تعبير الفيلسوفة كارين وارن، فإن أخلاق العناية «تُشدد على أهمية قيم العناية والحُب والصداقة والثقة والتبادُل الملائم للمنافع»، وتسعى إلى فهم هذه القِيَم باعتبارها أساسًا للمسئوليات الأخلاقية المُعبَّر عنها في علاقاتنا.49 من هذا المنظور، لا يُعَد منح الأفيال أو أي نوعٍ آخر حقوقًا أمرًا مُهمًّا بقدْر تبِعات عنايتنا بهذه الكائنات عندما تتداخَل حياتها مع حياتنا.

وهذه مقاربة لها مُنتقدوها أيضًا. فهي أيضًا قد يُستبعَد منها بعض الحيوانات، كما أنَّنا يمكن أن نُحدد الْتزاماتنا بما يخدم مصالحنا الذاتية. غالبًا ما تُعظِّم المناورات الفكرية من الاختلافات بين المقاربات القائمة على الحقوق وتلك القائمة على العلاقات. غير أنهما لا يتعارضان. على سبيل المثال، قد يعتقد المرء أن الكلاب يجِب أن يكون لها حقوق أساسية مُعينة، ويعتقد كذلك أن معظم التفاعُلات بين البشر والكلاب مرجعها الحُكم الشخصي وليس القانون؛ مثل معضلة القتل الرحيم للحيوانات المسنَّة. أما بالنسبة إلى التُّهمة القائلة بأن وضع حقوق استنادًا على أوجُه تشابُهها مع البشر لن يحمي إلا عددًا قليلًا من الأنواع الاستثنائية، فيقول وايز إن تلك ليست إلا خطوة أوَّلية ضرورية. وبمجرد إقرار سابقة قضائية، سيمكن توسيع النقاشات لتشمل الأنواع الأخرى والحقوق التي يجب منحها إيَّاها. لن تكون حقوق أسماك الشمس قطعًا مُماثلة لحقوق الشمبانزي.

من المؤكد أن الحيوانات إذا مُنحَت الشخصية القانونية فسيحدُث ذلك ببطء، وأنه يمكن الاسترشاد بأخلاق العناية في العلاقات التي تقع خارج اختصاص القانون. لذلك، سعيًا لصياغة كل هذا في قالب أكثر عملية وواقعية من قالب الخطاب الأكاديمي الجاف، التقيتُ ذات صباح صيفي كاثي بولارد، وهي مُتخصصة في الزراعة المُعمرة وفنانة تعيش في أورونو، مين، على بُعد أميال قليلة مني.

تصادَقنا بعد أن نشرتُ صورةً على منصة إنستجرام لقيوط وجدتُه ميتًا بجانب مُنحدَر مخرج طريق سريع بالقُرب من منزلي ودفنتُه في الغابة. شكرَتني كاثي؛ فهي تُعِزُّ حيوانات القيوط، وبينما أعربنا عن تقديرنا لهذه الحيوانات مِن الفصيلة الكلبية المكروهة في كثيرٍ من الأحيان، أوضحت أنها كانت قبل عدة عقود طالبةً في برنامج بيئة الحياة البرية في جامعة مين في أورونو. كما أن القسم تربطه علاقات وثيقة مع قسم مصائد الأسماك الداخلية والحياة البرية بالولاية، الذي كان آنذاك يدفع لناصبي الفخاخ المال مُقابل قتل القيوط؛ وهو ما كان يتمُّ في كثير من الأحيان باستخدام فخاخ تُطبِق على الرقبة قد يظلُّ القيوط عالقًا فيها لأيام، يتدفَّق الدم إلى رأسه ولكنه يحتبِس فيه حتى تنفجر الأوعية الدموية في دماغه من شدة الضغط.50 تقول كاثي في مُراسلاتنا إن معرفة ذلك «قطَعَ نياط قلبها».

كتبت كاثي أن ذلك القتل لم يكن له أساس علمي؛ إنما كان إرضاءً للوبي الصيد، الذي أراد لنفسه الغزلان التي تتغذَّى عليها حيوانات القيوط. تركت كاثي البرنامج. كانت إساءة معاملة القيوط هي القشة التي قصمت ظهر البعير، لكنها كانت بالفعل غير مرتاحةٍ لنهج إدارة الحياة البرية الذي يتعامل مع الحيوانات باعتبارها سلعًا؛ باعتبارها كائناتٍ ليس لها أي حقوق أصلية ويمكن للبشر أن يتحكَّموا في مصائرها.

«بالطبع يتعارَض هذا مع مُعتقدات الشعوب الأصلية التقليدية التي تتضمن التعاليم الأصلية للحفاظ على علاقات المعاملة بالمِثل بين جميع الأطراف التي تُشكل نسيج الحياة.» كتبت كاثي، التي تنحدِر من أصول شيروكية، وكذلك ألمانية وأيرلندية وإنجليزية. قالت: «يشمل تعبير «جميع أقاربي» البشر والحيوانات»؛ وهو ابتهال مُنتشر في ثقافات الشعوب الأصلية لأمريكا الشمالية، ويُعبر عن حسٍّ بالقرابة، وكذلك بالمسئولية الأخلاقية تجاه الحفاظ على علاقاتٍ يسودها الاحترام والتوازُن.51 «عندما تَعتبر جميع أشكال الحياة أقارب لك، فإن تعامُلك معها سيختلف كثيرًا.»

التقيت بكاثي بولارد، ذات صباح يومٍ صيفي في حقلٍ خلف منزل لوسي كويمبي، مؤسِّسة منظمة «صندوق بانجور للأراضي». كانت كاثي، وهي امرأة في أوائل الستينيَّات ذات سمتٍ ودود وحكيم، ترتدي بدلة عملٍ من قماش الدنيم مُتسخة بالتراب عند الركبتَين. كانت بالفعل مُنهمكة بالعمل في الحديقة التي زرعَتْها هناك، ليس لإنبات محاصيل لنفسها فقط، ولكن أيضًا للعائلات التي تُعاني من انعدام الأمن الغذائي من اتحاد قبائل الوابانكي. (يتكوَّن اتحاد الوابانكي من خمس قبائل: الماليسيت، والميكماك، والباساماكوودي، والبينوبسكوت، والأبيناكي؛ كان موطنها الأصلي يُشكل جزءًا كبيرًا من نيو إنجلاند والمقاطعات الكندية الأطلسية حاليًّا.) أوضحت كاثي أنها ليست من الوابانكي، لكنَّ ابنتَها آن هي مواطنة من قبيلة البينوبسكوت، كما أن كاثي تتشارك معهم في تاريخٍ ثقافي من الطرد والإبادة الجماعية. بالنسبة إليها الحديقة لا تُمثل غذاءً فحسْب، إنما أيضًا محاولة لاستعادة وطنٍ مسلوب والحيوات التي كان يُغذيها.

بينما كنا نسير بين صفوف المحاصيل التي تلقى عنايةً كبيرة، الذرة والفاصوليا واليقطين، الأخوات الثلاث التقليدية، التي تَبَقَّى بضعة أشهر على أوان حصادها، ذكرتُ كيف كانت السناجب تأكل باستمرارٍ بُصيلات الكراث الأندلسي في حديقتي. لفتت كاثي انتباهي إلى أغصان أشجار الصنوبر المَيتة المُرتبة فوق اليقطين؛ ستردع إبرُها الحادة غير المستساغة جرذًا أرضيًّا يعيش بالجوار يُحب أكل النباتات اليانعة. تخلَّل صوتَها نبرةٌ حنونة أثناء وصفِها له. لم يكن قنصه أو نصب فخٍّ له خيارًا واردًا بالنسبة إليها.

قالت كاثي إنه في المساحات الأوسع تزرع أيضًا حشيشة الحليب والزهور المُلقَّحة بين المحاصيل وتحتفي بالفراشات التي تأتي لتتغذى منها. كانت هي ومجموعة من نساء القبائل الأصلية يفعلن ذلك في مزرعةٍ مُحاذية لنهر ساندي، في وسط ولاية مين، حيث عاد السكان الأصليون مؤخرًا لاستصلاح الأراضي التي زرعها أسلافهم لآلاف السنين. تقول: «في تقاليد الشعوب الأصلية، يكون للمرء حقل مزروع على مساحةٍ أكبر بكثير. ومن المُتعارَف عليه أن الزروع على أطراف الحقل تأكُلها الغزلان والراكون وأي حيوانٍ جائع آخر. أما مركز الحقل الذي يكون مسوَّرًا بكروم اليقطين الشائكة فهو لك. يسود حس المشاركة وليس الإقصاء.»

تنزع كاثي لتكرار الكلمات عندما تكون منفعلة، ورغم ذلك يظلُّ صوتها ثابتًا، تقول: «نتعلَّم في سنٍّ مبكرة جدًّا، جدًّا، ألَّا نؤذي أي كائنٍ آخر لمجرد أن وجوده يُزعجنا.» قالت إن هذا المبدأ يتعارَض معه ما أطلقَت عليه العقلية اليهودية المسيحية الغازية، والتي تتجلَّى أيضًا في حسٍّ بالهيمنة على الطبيعة، وعلى الكائنات الحية الأخرى باعتبارها موارد يُمكن امتلاكها. مشاريع البساتين التي تُشرف عليها هي محاولة بسيطة لتحدِّي ذلك.

غير أنه من المُمكن أيضًا العيش بطرُق غير مؤذية للبيئة دون أن نعتبر الحيوانات أشخاصًا مِثلنا. سألت كاثي عمَّا إذا كان اعتبار الحيوانات أشخاصًا جزءًا أساسيًّا من حسِّ العطاء لدَيها. أجابت: «بكل تأكيد.»

•••

ذات صباحٍ باكر، اصطحبتني كاثي إلى هور بينجاجاووك، وهو هور محلي طالَه الزحف العمراني في صورة مبانٍ تجارية على جانب، ومجمعات سكنية راقية على الجانب الآخر. انطلقنا إليه سيرًا من موقف سيارات متجر «وولمارت»، وعبرنا مروجًا مكسوَّة بنباتات أواخر الصيف تُزينها شِباك عناكب مرصَّعة بالندى، ثم سِرنا على خط سكة حديد مهجور. كانت كاثي تنوي أن تُريني منطقةً فيها أشجار صفصاف شذَّبتها القنادس، اكتشفَتْها هي وابنتها آن في ربيع ذلك العام. وكأنما تتحيَّن اللحظة المناسبة، قطعت ثلاثةُ قنادس الممرَّ في صفٍّ واحد أمامنا، كانت سريعة رغم ضخامتها، ربما كانت عائدة إلى المنزل بعد أن أتمَّت أعمالها الليلية.

ذكَّرني هذا بمقالٍ لعالِمة الاجتماع التي تدرس شعب الميكماك مارجريت روبنسون، التي تناولت العلاقات التقليدية لشعبها مع الحيوانات.52 كان للميكماك، الذين عاشوا تاريخيًّا في المناطق الساحلية لِما يُعرَف الآن بكندا الأطلنطية (شمال ولاية مين مباشرةً)، روابط ثقافية وثيقة مع شعب البينوبسكوت. ربما تكون قصص مارجريت قد استُوحيت من أسلاف هذه القنادس بعينِها.

في إحدى تلك القصص، بعنوان «سحرة القنادس والسمكة الكبيرة»، يتتبَّع صياد من الميكماك آثار حذاء للجليد إلى كوخٍ بجانب البحيرة. في الداخل، يجد رجلًا مُسنًّا وعائلته، يتشاركون وجبةً معه ويقدمون له هديةً من لحم الغزلان قبل رحيله. عندما يفتحها، يجد لحاء شجرة حور؛ كان مُضيفوه في الحقيقة عائلة من القنادس، وكان الكوخ جُحرًا. كتبت مارجريت روبنسون: «مثل تلك الأساطير تُصوِّر حيوات البشر والحيوانات باعتبارها على مقياسٍ تدريجي واحد.» توجَد العديد من هذه القصص التي يتحول فيها البشر إلى حيوانات أو تتحول الحيوانات إلى بشر، ويتحادثون معًا، بل يتزوَّجون أحيانًا من بعضهم وينشئون أسرًا. تلك الحكايات لا تُعتبر بالضرورة واقعية، إنما هي أمثولات تتضمن حقيقةً واحدة، وهي أن البشر والحيوانات متشاركون في الجوهر. حتى تفصيلة تحوُّل لحم الغزلان إلى لحاءٍ، تُعبر عن تقديرنا المشترك لوجبة شهية.

هذا إدراك كان له آثار مُعقدة ومُتباينة — سواء لدى الميكماك أو في جميع الثقافات التي احتفظت بمُعتقدات مماثلة لوقتٍ طويل من تاريخ البشرية — ولكن ثَمَّة أفكارًا عامة مُتشابهة. كتبت مارجريت روبنسون أنه بالنسبة إلى لميكماك، فإن عبارة «جميع أقاربي» تعني «أننا والحيوانات نخوض نفس التجارب الحياتية؛ نتغلَّب على المخاوف، ونخوض المغامرات، ونقع في الحُب، ونُنشئ عائلات، ونهزم الأعداء، وننشئ علاقة مع الخالق «جي-سولج».» لا يحتاج المرء إلى الإيمان بالإله «جي-سولج» لكي يعتبر المبدأ صحيحًا.

واصلْنا السير على خط السكة الحديد القديم. على يسارنا توجَد مساحة ضحلة تفصل الغابة عن الأراضي الرطبة. وعلى اليمين، امتدت مساحة واسعة يكسوها البوط، تُشكِّل قلب الحوض الذي يصبُّ فيه مستجمع المياه المحلي. كان يحف خطَّ السكة الحديد صفٌّ من الأشجار والشجيرات، ومرَرْنا بعدة أشجار تقِف عليها طيور مالك الحزين الخضراء التي تُنادي بعضها بأصواتٍ تُشبه مواء القطط.

تحدَّثت كاثي عن أهمية الهور للطيور المائية المهاجرة التي تتوقَّف هناك للراحة والاقتيات. على الأرجح شهد الهور أول تجمُّعات لتلك الطيور منذ نحو ١٢ ألف عام، بعد فترةٍ وجيزة من انحسار الأنهار الجليدية عن شرق ولاية مين ووصول أول سكَّان بشريين إلى المنطقة. غير أنه في أواخر التسعينيَّات، حدث نزاع مرير على إقامة مشروعات إنشائية في الهور.

كان يُفترَض أن يُبنى متجر «وولمارت» الذي التقيتُ عنده بكاثي، على حافة الهور. قالت لي لوسي كويمبي في لقاءٍ معها إن ذلك التهديد دفع دُعاة الحفاظ على البيئة المحليين إلى الاعتراض؛ مما أدى في النهاية إلى منع البناء وإغضاب أصحاب العقارات القريبة التي كان من المفترض أن يبيعوها لشركات الإنشاء بأسعارٍ مرتفعة. في عام ٢٠٠٢، هدم بعضهم سدًّا أقامته القنادس بطول ٥٠ قدمًا؛ مما أدى إلى استنزاف نسبةٍ كبيرة من مياه الهور.53 بقي فيه مياه، ولكن بمنسوبٍ أقل بكثير من ذي قبل. في السابق كان الهور أشبهَ ببحيرةٍ ضحلة، أمَّا الآن فقد صار مكانًا تتخلَّله رُقَع صغيرة من المساحات المائية. من ثَم، قلَّ الغذاء الذي يوفره، فقلَّت أعداد الطيور التي تتوقَّف فيه أثناء هجرتها أو تقيم فيه صيفًا. تقول كاثي إنه في لُغة البينوبسكوت الكلمة المرادفة للأرز البرِّي الذي يُعَد أحد النباتات الأساسية التي تنمو في الأهوار المُفضلة للبشر والطيور المائية، تُترجَم بالتقريب إلى «التوت الضاحك» (وهي معلومة عرفتُها من كارول دانا، إحدى شيخات البينوبسكوت ومعلمة لغة)؛ عندما كان الهور عامرًا بأصوات الطيور المائية، ربما بدا الأمر كما لو أنها كانت تضحك بسعادة.
في عام ٢٠٠٣، خرق مالكو العقارات المجاورة السد مرة أخرى.54 فِعلُ ذلك من دون تصريحٍ مخالفٌ للقانون، لكن كاثي تعتقد أن تلك الاعتداءات استمرَّت. هناك دافع لها قطعًا؛ فالقوانين البيئية تحظر البناء بالقُرب من حدود الأراضي الرطبة؛ لذا فإبقاء مستويات المياه منخفضةً يزيد من المساحة المتاحة للبناء؛ ومِن ثَم القيمة التقديرية للعقارات. ورغم أن العبث بسدود القنادس مخالف للقانون، فإن قتلَها ليس كذلك. في جميع أنحاء ولاية مين، يُسمح بصيدِها بالفخاخ نصف العام؛ حتى الشرط الذي يُلزم أصحاب الأراضي بالحصول على إذن كتابي قبل نصب الفخاخ على أراضيهم لا يسري على القنادس.55 لن يُواجِه أي شخصٍ عازم على القضاء عليها أي عقبات.

سرنا إلى حيث امتدَّ الهور على جانبَي قضبان السكة الحديد. كانت فراشات الأميرال الأحمر وطيور الطنان الياقوتي الحنجرة تحوم حول رُقعةٍ من نبات صَريمة الجَدي. عادت كاثي أدراجها ونزلت إلى ضفة الهور عبر الشُّجيرات، ودخلت إلى أجمة كثيفة من أشجار صفصاف منخفضة لا يتعدَّى ارتفاعها طول قامتنا إلا بقليل. ودعتني إلى النظر إلى قاعدة شجرة: نحو عشرين غصنًا، بعضها نحيل يانع، والبعض الآخر سميك عجوز، منبثقة من جذوع مركزية مجذوذة من فوق مستوى التربة الرطبة نتيجة حزوز صنَعَتْها فيها القنادس تبدو كأنما حُفرت بإزميل.

تستجيب العديد من أنواع الأشجار للتشذيب بأن تنمو أُفقيًّا لا رأسيًّا، ولقرونٍ استغلت الثقافات هذا الأمر لصالحها.56 تُعرف هذه التقنية باسم التقليم؛ وتُسمَّى المنطقة التي تُقلَّم أشجارها بهذه الطريقة الأيكة. (ثَمة ممارسة مشابهة، تقلَّم فيها الأشجار لكن على ارتفاع الرأس تُسمَّى بالإنجليزية «بولارد»، وهي مصادفة سعيدة.) والنتيجة لا تكون فقط الحصول على محصول مُتجدِّد من الأغصان الصغيرة، إنما أيضًا تنوع هائل للحياة النباتية والحيوانية التي تطالها أشعة الشمس؛ إذ تحتوي الأيكات المُقلَّمة غالبًا على بضعة أمثال عدد الأنواع النباتية والحيوانية الموجودة في الغابات غير المُقلمة.57

قالت كاثي: «يملك منتجو السلال المصنوعة من الصفصاف في إنجلترا حقولًا شاسعة يُقلِّمونها بتلك الطريقة.» من المعروف أن القنادس تقلم الأشجار، وإن كان فِعلها ذلك لا يوصَف بالتقليم إلا في الأدبيات العلمية؛ ربما لأن المصطلح غرائبي إلى حدٍّ ما، أو ربما لأنه يشير إلى إدراكٍ وقصديَّة لا يُعترف عادةً بأن القنادس تمتلِكهما. وتكون الأيكات التي تُقلمها القنادس مُنتجات ثانوية لتغذية القنادس وليست شكلًا من أشكال الإدارة المقصودة. غير أن كاثي لم تتردَّد في استخدام الكلمة. قالت: «لقد رأيتُهم يُقلمون الأشجار، لكن ليس على تلك المساحة الشاسعة.»

كنا نقِف على حافة أيكة واسعة تبلُغ مساحتها ١٠ أفدنة من أشجار الصفصاف التي يبلغ ارتفاع كلٍّ منها نحو ٨ أقدام، وتتقاطَع معها قنواتٌ منسوبُ المياه فيها يكفي لأن تسبح فيه القنادس، رغم أن المنطقة كانت في منتصف موسم الجفاف. كانت كاثي وابنتَها قد وجدتها مفروشةً بغُصينات الصفصاف المقطوعة حديثًا التي نزعت القنادس عنها اللحاء وأكلته. سألتها إذا كانت تظن أن القنادس تفهم ما تفعله. قالت: «أجل. أعتقد أنها تفهم أن هذا المكان مصدر مثالي للطعام، وأنها تعتني به كل عام.» وصفت ذلك بأنه شكل من أشكال الزراعة المستدامة.

لأن ما حصدته القنادس من أشجار الصفصاف هذه سيتجدَّد، فلن تحتاج إلى البحث عن الطعام على الأرض، حيث يُمكن للحيوانات المفترسة استغلال ضعف بصرِها. وما دامت القنادس تسمح للغُصينات الجديدة بالنمو قبل أن تحصدها، فلن تحتاج إلى أن تهجُر بيوتها بسبب نفاد الأشجار المناسبة في الجوار. قالت كاثي: «لديها عشرة أفدنة من الغذاء المُستدام هنا. يمكنها أن تمكث هنا إلى الأبد فعليًّا. أرى أن ذلك يُشبه تحوُّل الصيادين وجامعي الثمار إلى الزراعة أو إدخالهم المحاصيل المزروعة إلى نظامِهم الغذائي. عندئذٍ استقرَّ البشر وأمكنَهم البقاء في مكانٍ واحد.» أكدت مرة أخرى على أن القنادس «مُدركة» لما تفعل. وعلى أن تَقليمَها لتلك الأيكات يُعَد استراتيجية إدارة. قالت: «وهي تورِّثها لنسلِها جيلًا بعد جيل.»

figure
فكرت في القنادس الثلاثة التي لمحناها في الممر، والتي أدركتُ الآن أنها كانت خارجة من الناحية البعيدة للأيكة، وأدركتُ كذلك احتمال أن تكون القنادس في بينجاجاووك تُصاد بالفخاخ لرفع قيمة العقارات. فكرتُ في الصيد بالفخاخ الذي جرى في حقبة الاستعمار، والذي قضى على أعداد القنادس في أمريكا الشمالية58 — إذ انخفض عددها من نحو ٤٠٠ مليون إلى ١٠٠ ألف فقط في مطلع القرن العشرين — وكيف أن نحو سُدس القنادس في ولاية مين كانت تُقتَل كل عام59 حتى انخفضت أسعار الفراء منذ بضع سنوات. كل هذا يدعونا لأن ننظُر للحيوانات باعتبارها أشخاصًا: ليس فقط من الناحية القانونية ولكن من الناحية الأخلاقية أيضًا، وألا يكون ذلك مقتصرًا على الكائنات ذات القدرات الاستثنائية الواضحة مثل الأفيال، وإنما يشمل أيضًا الأفراد ذوي القدرات الأبسط من جيراننا في ذلك العالم.

قد يؤلِمنا التفكير بهذه الطريقة. إذ يجعلنا نرى بوضوحٍ قسوة البشر وعدم مراعاتهم، التي تطبَّعنا عليها من خلال ما أسمته كاثي «النموذج المُهيمن على ثقافتنا الذي يَعتبر البشر أسيادًا على غيرهم من الكائنات الحية.» غير أنه يُلهم كاثي لبذل أقصى جهدها لتغيير ذلك النموذج تدريجيًّا؛ فهي تتحدَّث إلى أصحاب العقارات القريبة من الهور عن المبيدات، وتتحدَّث إلى مديري المرافق في جامعة مين عن الثعالب، وتأخذ سلحفاة نهَّاشة مصابة بالجروح إلى مستشفى الحياة البرية، وتحث اللجان الحكومية والمجالس التي توجه أعمال التطوير حول هور بينجاجاووك للعثور على حلول متوازنة تضع في الاعتبار الكائنات غير البشرية. فهي تؤمِن أن كل فعلٍ بسيط له تأثير متصاعد، وفي النهاية سيأتي التغيير لا محالة.

حتى إذا كف الناس أذاهم عن القنادس في بينجاجاووك، فسيظل الضغط لتطوير المنطقة قويًّا. لكن منظمة «صندوق بانجور للأراضي» وغيرها من منظمات الحفاظ على البيئة تحاول حماية أكبر قدْر ممكن منها. مؤخرًا بدأت المنظمة تتعاون مع كاثي في إقامة مشروع أسمته «المساحات الخضراء القابلة للأكل».60 تزرع هي وابنتها آن مجموعة متنوِّعة من المحاصيل الوافرة في أراضٍ مملوكة للصندوق؛ مثل شُجيرات العليق الأسود والأحمر والأزرق والأرونية، وأشجار البرقوق والكمثرى والتفاح الحرجي، والعنب البري، والكستناء الأمريكي والجوز الأسود. عندما تنضج هذه الشجيرات والأشجار سيستطيع أي شخصٍ أن يأتي ويحصد منها الطعام بنفسه، لعدة قرون آتية. هذه طريقة كاثي وصندوق الأراضي في مساعدة الأشخاص الذين يُعانون من انعدام الأمن الغذائي في المنطقة، واستعادة حق السكان الأصليين في العيش على أرضٍ ستظل وطنهم. تقول كاثي إنها ليست مُخصصة لأن يأكل منها البشر فقط. ﻓ «أي شخص» يشمل جميع أقاربنا.

•••

بعد شهرَين من انتهاء جلسة استماع قضية هابي، أصدرت القاضية أليسون تويت حُكمها.61 كتبت: «تُقر هذه المحكمة بأن هابي أكثر من مجرد شيء أو ملكية قانونية. إنما هي كائن ذكي ومُستقل يتمتع بالحق في الاحترام والكرامة، وقد يكون لها الحق في الحرية.» علاوة على ذلك، كانت القاضية «متعاطفة للغاية مع مِحنة هابي»، ورأت أن الحجج التي تدعم نقلَها إلى محمية «مُقنعة للغاية». لكنها كتبت: «مع الأسف، فإن المحكمة مُلزَمة بالسابقة القضائية.»

بعد ذلك بمدة قصيرة، زرت وايز في منزله بمدينة كورال سبرينجز بولاية فلوريدا. وجلسنا على كرسيين عند البحيرة الضحلة القريبة من الحي الذي يسكنه، نُراقِب كلبه التيرير الكث الشعر الذي يُدعى يوجي. كانت دجاجات الماء تخوض في الأجزاء الضحلة من البحيرة. وكان يوجي يراقِب بطتَين من البط المسكوفي، وهي طيور ذات ريش أبيض وأسود ووجه أحمر لحمي، ويُعَد موطنها الأصلي هو أمريكا الجنوبية تاريخيًّا، وعلى الأرجح تنحدِر البطتَّان من بطٍّ كان يُربى من أجل الغذاء وهرب. استغلتا حريتَهما في إغاظة يوجي، فكانتا تقتربان منه ثم تركضان إلى أبعد مِن مدى سلسلة رسنِه.

تلقَّى وايز حكم أليسون تويت برزانة. سيستأنف الحكم مراتٍ أخرى، وهو لم يتوقع الفوز من الأساس. والخسارات لا بد منها في سبيل إحداث مثل هذا التغيير الجذري. غير أن الخسارات ليست متساوية، وكان دعم القاضية انتصارًا بحدِّ ذاته. ربما تقنع الشهرة الجماهيرية — التي تمثلت في التوقيعات على العريضة المقدمة على موقع Change.org التي تخطت المليون توقيع؛62 وتدخُّل عضوة الكونجرس ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز63 وعمدة مدينة نيويورك آنذاك بيل دي بلازيو64 — حديقة حيوان برونكس بإعادة النظر في الأمر.
كان وايز، المُتحمِّس بطبيعته، يرى أن الاحتمالات كثيرة. إذ يمكن رفع دعاوى قضائية أخرى في كاليفورنيا، وربما في كولورادو وحتى كندا. كانت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» تصوغ مشروع قانون نموذجي من أجل المجتمعات التي تريد الإقرار للأفيال والشمبانزي بالشخصية القانونية ضمن ولايتها القضائية. لكن أدَّى ظهور فيروس كوفيد-١٩ إلى إيقاف وايز مؤقتًا لجدول أعماله المُكتظ الذي تضمَّن التدريس والتحدث في المحافل، لكنه استمر هو وزملاؤه في تقديم المشورة للنشطاء في جميع أنحاء غرب أوروبا وأمريكا الجنوبية.
كان متحمسًا بالأخص للتطوُّرات التي تحدُث خارج الولايات المتحدة. قبل بضعة أشهر من جلسة استماع هابي الأولى، أدَّت دعوى قضائية تتعلق بسوء معاملة الأبقار إلى إقرار محكمة مُختصة بولايتَي بنجاب وهاريانا الهنديتَين بأن جميع الحيوانات أشخاص.65 وسيعتبر القانون السكَّان البشريين لهاتَين الولايتَين أوصياء عليها. أوضح القاضي راجيف شارما في قراره: «يجب أن تتمتع الحيوانات بالصحة والراحة والتغذية السليمة والأمن والقدرة على التعبير عن سلوكها الفطري دون أن ينالها ألَم أو خوف أو كرب. الحيوانات لها الحق في العدالة. ولا يمكن التعامُل معها باعتبارها أشياء أو مُمتلكات.» مِن المبكر جدًّا تحديد التبعات العملية لذلك القرار، لكن رياح التغيير بدأت تهب.
بعد عدة أشهر من صدور ذلك القرار، شهد وايز أمام المحكمة الدستورية لكولومبيا — نظير المحكمة العُليا الأمريكية — في قضية دبٍّ أسير من نوع أبي نظارة،66 نجح المترافعون عنه في الحصول على حُكم بتنفيذ التماس المثول أمام القضاء. أسقطت المحكمة ذلك الحكم، لكنَّ مصيرًا مختلفًا كان بانتظار الْتماسٍ آخر قُدِّم في دولة الإكوادور المجاورة، نيابة عن أنثى سعدان صوفي تُدعى إستريليتا.67 على الرغم من وفاة إستريليتا في بداية القضية، فقد صُعِّدَت القضية عبر السُّلم القضائي حتى وصلت في النهاية إلى المحكمة الدستورية للإكوادور. أيدت المحكمة الدستورية قرار محكمةٍ أدنى بأن إستريليتا لا تستوفي شروط الْتماس المثول أمام القضاء، ولكن فقط بسبب ملابسات القضية وليس لأن القرود لا ينبغي أن تُمنح الحق القانوني في الحرية.
قطعًا تستحق القرود ذلك الحق والعديد من الحقوق الأخرى. وكذلك سائر الحيوانات. وكان القرار الناتج،68 الذي استشهد بكثافة بمُذكرة قدَّمها وايز وعلماء من برنامج قانون الحيوان التابع لجامعة هارفارد، قرارًا استثنائيًّا. إذ وضع حقوق الحيوان تحت مظلة قانون حماية حقوق الطبيعة في الإكوادور، والتي أُدرجَت في دستور البلاد عام ٢٠٠٨ لحماية حقوق النظم البيئية في الوجود دون أن يضرَّ بها النشاط البشري. ولكن لما كان هذا القانون، مثل سائر القوانين المُماثلة في أماكن أخرى من العالم، ينظر إلى الحيوانات على مستوى الأنواع والجماعات، فقد قضت المحكمة الدستورية بأنها بحاجةٍ إلى النظر في حقوق الحيوانات المفردة أيضًا.

تلك الحيوانات لها الحق في الوجود؛ وعدم التعرُّض للصيد أو الأسر أو الاتجار بها؛ والحق في العيش في موائل مناسبة أو بالنسبة إلى الحيوانات المستأنسة في مأوًى مناسب؛ والتعبير بحُرية عن سلوكها الطبيعي والعيش دون خوف أو كرب؛ وغير ذلك من الحقوق. هذه الحقوق ليست مُطلقة، إنما يجب موازنتها مع الضروريات البيئية، وكذلك مع حق البشر في تلبية احتياجاتهم. لن يُنظَر إلى العقاب الأمريكي الذي يأكل قردًا باعتباره مُنتهكًا للقانون؛ وسيظلُّ بإمكان البشر تربية الحيوانات. أمرت المحكمة مكتب أمين المظالم بصياغة مشروع قانون لحقوق الحيوان لتقديمه إلى الهيئة التشريعية الوطنية. وستتولَّى الهيئة بدَورها تحويل هذا المشروع إلى قانون — وهي عملية لا تزال جاريةً في وقت كتابة هذه السطور — وسوف تُفصِّلها وتوسِّعها الأحكام المستقبلية.

كما هو الحال في الهند، ستستغرِق معرفة التبِعات العملية لذلك سنوات، وربما عقودًا. سيكون تطبيق تلك القوانين أمرًا بالغ الأهمية: فالحقوق على الورق تختلف عنها على أرض الواقع. ولكن حتى النشطاء الذين يرَون أن الحُكم ليس كافيًا لتقليص استهلاك الحيوانات احتفوا به باعتباره حكمًا تاريخيًّا. إذ إن ترسيخ حقوق الحيوان في الدستور له صدًى من الناحية الرمزية، كما أنه يوفِّر حماية أقوى بكثيرٍ من لوائح السلامة. فسيتمكن الناس من المُقاضاة نيابة عن الحيوانات، وعند النظر فيما إذا كان قد وقع عليها ظلم، فلن تنظر المحاكم إلى تفاصيل اللوائح التنظيمية، ولكن إلى المبادئ الأساسية للحقوق. وقد تحصل على المزيد من الحقوق يومًا ما.

أُعلِن هذا القرار قبل فترةٍ وجيزة من قيام محكمة الاستئناف في نيويورك، وهي أعلى محكمة في الولاية، بسماع الاستئناف المقدم من «مشروع حقوق غير البشر» لقضية هابي. أيَّد خمسة من سبعة قضاة قرار القاضية أليسون تويت.69 كان قرارهم يتبايَن تبايُنًا صارخًا مع روح الإصرار والرؤية الأخلاقية التي شهدناها في محاكم الإكوادور. كتبت القاضية جانيت ديفيور في الحُكم الذي صدر بالأغلبية: «نظرًا لأن التماس المثول أمام القضاء يهدف إلى حماية حق «البشر» في عدم التعرُّض للاحتجاز غير القانوني، فهو لا يسري على هابي.» فهابي فيل؛ لا يُمكنها «أداء الواجبات القانونية والمسئوليات الاجتماعية»، وهو شرط مسبق لنيل الحقوق؛ والحُكم بخلاف ذلك «سيكون له أثر هائل على استقرار المجتمع الحديث»، وستواجه المحاكم «صعوبة كبيرة في النظر في الفيضان الحتمي من الالْتماسات.» مرة أخرى: سوف تنطبق السماء على الأرض.

•••

كان ذلك مُخيبًا للآمال لكنه مُتوقَّع. ما لم يكن متوقعًا هو القاضيان اللذان عارَضا الحُكم معارضة صارخة. كتب القاضي روان ويلسون: «حجة الأغلبية «أن ذلك لم يحدث من قبل» هي حُجَّة تُعارض أي تقدم.» وكتبت القاضية جيني ريفيرا أن حُجة الحقوق والواجبات ليس لها أساس قانوني، واتَّهمت الأغلبية بتجاهل التاريخ و«تفضيل منطقها الدائري المألوف رغم ما به من عدَم اتِّساق.»

كتبت جيني ريفيرا أيضًا: «يجب أن يقودنا التاريخ والمنطق والعدالة وإنسانيتنا إلى الاعتراف بأنه إذا كان بإمكان البشر الذين سُلبت منهم بعض حقوقهم ومسئولياتهم تقديم الْتماس بالمثول أمام القضاء لتفادي الحرمان المُجحِف من الحرية، فكذلك يمكن لأي كائن مستقل آخر، بِغضِّ النظر عن نوعه.» ورغم أن الغلبة كانت لرأي الأغلبية، فإن كلماتها وكلمات ويلسون سُطرت في السجلِّ الرسمي للقضية. وربما يومًا ما، سيستشهد قاضٍ آخر بها في تفسير سبب استحقاق حيوان لأن يُعتبر شخصًا له الحق في الحرية.

أثناء زيارتي لفلوريدا، دعاني وايز إلى مكتبه. كانت هناك مكتبة طويلة مُخصصة بالكامل للكتب التي تتناول العبودية، وكان قد قرأها كلها. كان يقرأ حاليًّا «النجاح دون انتصار: المعارك القانونية الخاسرة والطريق الطويل إلى العدالة في أمريكا»70 مِن تأليف جولز لوبيل رئيس مركز الحقوق الدستورية، يتحدَّث عن نضالاتٍ خاضها أناس من أجل العدالة — من أجل إلغاء العبودية ومن أجل حق المرأة في التصويت، وضد الحروب الجائرة، وضد دعم الحكومات الأجنبية المستبدة — ولم تؤتِ ثمارها إلا بعد عقود. يقول لوبيل إن ثَمة جانبًا مهمًّا من هذه النضالات لا يُقدره الناس حق قدره، وهو ما يُسمى بالقضايا الاختبارية. غالبًا ما يخسرها رافعوها؛ بل غالبًا لا يكون لديهم أي فرصة للفوز من الأساس. رغم ذلك فإنها تلهم المزيد من النضال. إنها تدفع مسار العدالة الطويل البطيء لأن يأخُذ مجراه.
كان وايز قد وضع خطًّا تحت العديد من الفقرات في الكتاب، لكن أحد الفصول بالأخص، وكان يتناول المُحامين المدافعين عن إلغاء العبودية في القرن التاسع عشر، كان زاخرًا بالتمييزات.71 أَوْلى وايز اهتمامًا خاصًّا لقسمٍ يتحدَّث عن سالمون بي. تشيس، وهو مُحامٍ أمريكي عاش في القرن التاسع عشر. كان تشيس يستنكف الاستعانة بالحُجج القائمة على الإجراءات؛ وذهب مباشرة إلى لبِّ المسألة، فوصف العبودية بأنها غير أخلاقية وغير دستورية. اكتسب لقب «المُدعي العام للعبيد الهاربين»، على الرغم من أنه دائمًا ما كان يخسر قضاياه تقريبًا. كان القضاة غالبًا ما يقولون إنهم يُقرُّون بسلامة حُججه لكنهم مُقيدون بعدم وجود سوابق قضائية، مثلما قالت القاضية أليسون تويت لوايز. كان كل ظهورٍ له فرصة لتغيير آراء الناس.

في قضية جونز ضد فان زانت عام ١٨٤٧، هاجم تشيس قانون العبيد الهاربين وصعد ذلك إلى المحكمة العُليا. كان يمثل سائق قطار أنفاق أُدينَ بإيواء عبيدٍ هاربين؛ وكانت الهزيمة مؤكدة؛ إذ قررت المحكمة بالفعل أن قانون العبيد الهاربين، الذي سمح لمالكي العبيد باستعادة العبيد الهاربين حتى في الولايات الحرة المزعومة، كان دستوريًّا. وكان كبير القضاة، روجر تاني، يمتلك عبيدًا. لكن ذلك لم يُثبط عزيمة تشيس. إذ قال إنه إما أن إعلان الاستقلال كان «خرافة»، وإما أن العبودية رجس لا يمكن لأي قانونٍ شرعنته.

اجتذبت القضية اهتمامًا شعبيًّا؛ إذ نشرت صحيفة «نيويورك تريبيون» حُجة تشيس، وأعاد هو طباعة مذكراته القانونية في كُتيب وزَّعه على جميع أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي. في غضون بضع سنوات، باتت حُجج تشيس أساسية للحزب الجمهوري الذي ساعد في تأسيسه. ألغى أول فائز من الحزب بالرئاسة، أبراهام لينكولن، العبودية وعيَّن تشيس رئيسًا للمحكمة العُليا.

كتب لوبيل في فقرة ميَّزها وايز بكثافة وميَّز بعض كلماتها بوضع دائرة حولها: «لم تكن مرافعة تشيس الفعلية في قضية فان زانت موجهة للمحكمة، بل للجمهور والتاريخ.»72 سألتُ وايز: هل أصابته الخسارة يومًا بالإحباط؟ أجابَني أنها لم تُحبطه قط. فهو يدرك أن التغيير بطيء ولا يسير على وتيرة واحدة. قال وايز: «أتضايق عندما يسألني الصحفيون: «هل فزت أم خسرت؟» فأنا أرى أننا لم نخسر في الواقع. أعني، لقد خسرنا القضية؛ لكنكم لا تفهمون ما نُحاول الوصول إليه وكيف نُحاول ذلك.»

الهوامش

قد يستنكر بعض القراء الاستشهاد بمساعي المساواة بين البشَر في سياقٍ مُتعلق بالحيوانات، لا سيما عندما يكون المُستشهِد رجلًا أبيض. يرى البعض أن تشبيه معاناة البشر بمعاناة الحيوانات فيه حطٌّ من شأن معاناتنا. لكن يجدُر أيضًا الإشارة إلى أن العديد من المدافعين عن القضايا الأخلاقية على مرِّ التاريخ، بداية من غاندي وانتهاءً إلى زعيمتَي حركة الحقوق المدنية كوريتا سكوت كينج وأنجيلا ديفيس — الذين لم يُقدَّروا حق قدرهم — اعتبروا مِحنة الحيوانات واقعة في طيفٍ واحد مع قمع البشر. وعلى أي حال، المقارنة لا تعني بالضرورة تكافؤ الظُّلم الواقع على الإنسان والواقع على الحيوان، إنما تعني اعتباره بناءً على المبادئ نفسها.
وقتها كانت جماعة «مشروع حقوق غير البشر» الحقوقية تعتزم تقديم التماس بالمثول أمام القضاء نيابة عن ثلاثة أفيال أسيرة في حديقة حيوان في كاليفورنيا، وآخر نيابة عن خمسة أفيال في حديقة حيوان في كولورادو. في وقت كتابة هذا النص، لا تزال الدعويان قائمتَين. في عام ٢٠٢٣، ساعدت الجماعة مدينة أوهاي بكاليفورنيا، على تمرير قانون يقر بحق الأفيال في الحرية داخل حدود المدينة. بعد فترة وجيزة، تنحى وايز — الذي شُخِّص بورم أرومي دبقي عام ٢٠٢١ — عن مهامه للتركيز على صحته. وتوفِّي في مطلع عام ٢٠٢٤، بعد اكتمال كتابة هذا الفصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥