الفصل السابع

إنقاذ الآفات

من حين لآخر، يُقابل المرء طفلًا يعامل الحيوانات برقة استثنائية. ربما كنتَ واحدًا من أولئك الأطفال. كان براد جيتس واحدًا منهم؛ فكلما وجد أحدٌ في حي سكاربورو الذي يسكنه في ضواحي تورونتو فرخًا يتيمًا، كان جيتس هو الطفل الذي يعتني به. كان يربي الأرانب والسناجب والحمام، وكان يقضي أيام الصيف البديعة الطويلة في استكشاف الأخوار التي تتخلَّل البلدة كأصابع اليد، والتي تجعل طوبوغرافيتها عصية على التطويع البشري.

في شهر أبريل من السنة الأخيرة لجيتس في المدرسة الثانوية، رأى إعلانًا في إحدى الصحف لشركة محلية مُتخصصة في طرد الحيوانات البرية من المنازل تعرِض فيه حيوانات راكون رضيعة للتبنِّي. كان ذلك عام ١٩٧٩، قبل أن يصبح امتلاك الحيوانات البرية غير قانوني، وسرعان ما أصبح جيتس متبنِّيًا فخورًا لكرة الفراء اللحوحة البالغة من العمر ثلاثة أسابيع، والتي أطلق عليها اسم ماندي. قضى آخر صيف في مراهقته يعتني بماندي حتى بلغت سِن المراهقة. أصبحت رفيقته الدائمة، ورافقته في جولاته في الأخوار، ومباريات كرة القدم في المُتنزَّه؛ بذل قصارى جهده في تعريفها على العالم الذي ستحتاج أن تعيش فيه قريبًا. في نهاية الصيف، مع اقتراب موعد بدء الدراسة الجامعية، بدأ يترُك باب قفصها الموضوع في الفناء الخلفي مفتوحًا بالليل. ومع بدء الدراسة، انقطعت ماندي عن العودة إلى قفصها.

ذات ليلة بعد عامَين، بينما كان يركن سيارته في ممر السيارات بمنزله بعد يومٍ دراسي، اندفع راكون من أمام أضواء سيارته الأمامية. ورغم أنه لم يرَ ماندي منذ أن سمح لها بالرحيل، فإنه خرج من السيارة وصفَّر اللحن الذي كان يستدعيها به عندما يحين وقت إطعامها. كانت هي بالفعل الراكون ماندي. اندفعت عبر العشب، وتسلَّقت ساقه، ووقفت على كتفِه، وأغارا معًا على ثلاجته وتقاسما عشاءه على العشب. كانت تلك آخر مرة يراها فيها.

يتذكَّر جيتس الآن ذلك الحدث باعتباره لحظةً فارقة في حياته. إذ قرَّر بعدها أنه يُريد أن يعمل مع الحيوانات البرية، لا سيما الراكون، وحصل بالفعل على وظيفة في شركةٍ لطرد الحيوانات البرية. غير أن ذلك العمل خالف توقُّعاته. إذ وجد أن حيوانات الراكون تعامل باعتبارها آفات. عندما يُبلِّغ شخص ما عن وجود حيوان بري في عليَّته، تضخ الشركة مادة الفورمالديهايد من خلال آلة تبخير لطرده. وكثيرًا ما كانت تلك الطريقة تفشل في تحقيق النتيجة المرجوة، فكان الحيوان المسكين يختبئ في زاوية وقد التهبت عيناه ورئتاه. كانت العديد من تلك الحيوانات أُمهات تتمكَّن من الهرب بينما تعجز عن ذلك صغارها، فتُترك وحيدة؛ وكان ذلك هو المصير الذي أدى إلى وضع ماندي في قفص وعرضها للتبنِّي.

لم تكن الشركة التي عمل بها جيتس فريدة في ممارساتها؛ إنما كانت تلك هي الممارسات السائدة في تلك الصناعة. يتذكر جيتس الآن فيقول: «كان ذلك غير إنساني بالمرة. وكان دافعًا لي لتطوير تقنيات إنسانية تمامًا.» وهكذا، بعد ٤١ عامًا، ذات صباح يوم شديد البرودة من أيام مارس، كان يقف فوق منزلٍ من طابقين في ضواحي ماركام، أونتاريو، حيث وصل هو وابنته كاسندرا في شاحنة بيضاء تحمل اسم شركته «إيه إيه إيه جيتس وايلدلايف كونترول»، ورمز الراكون، وشعار الشركة: «الاختيار الأول للحيوانات».

كان أصحاب المنزل يسمعون ضوضاء؛ ووقع اختيارهم على شركة جيتس، ليس بسبب اختياره لأول حرف في الأبجدية مكررًا ثلاث مرات اسمًا لشركته، وهي حيلة قديمة ليتصدَّر اسم الشركة دليل الهاتف، ولكن بسبب سُمعته. لقد ذاع صِيته باعتباره رائدًا، بل ثوريًّا في التعامُل السلمي مع مشكلات تعدي الحيوانات البرية على المنازل في المناطق الحضرية؛ وهو ما يمكن أيضًا تسميتُه بمكافحة الآفات، وإن كان جيتس لا يستخدم المصطلح كثيرًا. يضم أسطوله ما لا يقلُّ عن إحدى عشرة شاحنة، بالإضافة إلى رخصة ممارسة نشاطه في فانكوفر، كولومبيا البريطانية، كل ذلك يشهد على نجاحه، وعلى تزايد التعاطف العام مع الحيوانات. فبالنسبة إلى الكثيرين، حتى ما يُسمى بالآفة، وهو حيوان يتعدى على منزل المرء وقد يُشكل تهديدًا للممتلكات والسلامة الشخصية، يظل كائنًا حيًّا ينبغي معاملته برفق.

قد يسأل سائل: هل هذا مُهم حقًّا؟ وهو تساؤل مفهوم؛ والإجابة هي بالتأكيد، فذلك أفضل قطعًا من أن يحدث العكس، ولكن عندما يتعلق الأمر باعتبار الحيوانات البرية أشخاصًا مثلنا، ألن تأتي حيوانات مثل الفئران والراكون والحمام في ذيل القائمة؟ ففي النهاية، الحيوانات التي يكترث لأمرها أمثال جيتس لا تعتبر دائمًا حيوانات برية فعليًّا أو حتى جزءًا من الطبيعة. ومع اختفاء العديد من الأنواع، مثل النجوم في ليلة ضبابية تضيئها أنوار الشوارع، هل رفاهية هذه الحيوانات الشائعة في المدن مهمة إلى هذا الحد؟ فهي ليست مُعرضة لخطر الانقراض. ومع ذلك، تمثل هذه الحيوانات نقطة الْتقاء بين الحياة البرية والبيئات الحضرية؛ مما يتحدَّى أفكارنا عن الطبيعة. وكيفية تعامُلنا معها تعكس فهمنا للعالم الطبيعي في الأماكن التي يُهيمن عليها البشر.

ثَمة تناقض لم يُبحَث بين الترحيب بوجود الحيوانات البرية في المدن وتوقُّع بقائها بمعزلٍ عن الناس. وفي حين أن بعض الناس قد يبتهجون لرؤية جرذ أرض أسفل شرفتهم أو عصفور يقف على حافة السطح، فإن البعض الآخر يعتبرون ذلك غزوًا. في الوقت نفسه، فإن معظم منظمات الحفاظ على البيئة الكبيرة تكرس الآن جزءًا من اهتمامها على الأقل للطبيعة في المدن؛1 لكنها تحتفي بالتنوُّع البيولوجي والجمال واللطف، ولا تقدم بالضرورة إرشادات عملية للتعايش، لا سيما عندما يكون هناك تضارب مصالح. إنها لا تتساءل عما يعنيه قبول الكائنات غير البشرية كأعضاء في مجتمع مشترك.
كتب جون هاديديان المدير السابق المتقاعد لبرنامج الحياة البرية التابع لجمعية الرفق بالحيوان في الولايات المتحدة: «بالنسبة إلى من يرَون أن الطريقة التي تُعامَل بها الحيوانات البرية مسألة مهمة أخلاقيًّا، يُصبح وضع أخلاقيات للتعامل مع الحيوانات البرية التي تعيش في الحضر مُهمًّا.»2 يُجسد جيتس، الذي يَنسِب إليه هاديديان الفضل في تطوير تقنيات تسعى جمعية الرفق بالحيوان الآن لتعميمها، أحد الأخلاقيات المحتملة: وهي على حدِّ تعبير هاديديان أن «كل الحيوانات تستحق مكانة أخلاقية وتستحق معاملة إنسانية»، حتى إذا كانت تُعَد آفاتٍ أو دخلت في ذلك التصنيف مؤخرًا.
«الآفة»، مثل «العشب الضار»، ليست فئةً تصنيفية ذات أساس بيولوجي، إنما هي فئة تُحدَّد وفقًا للتقدير البشري؛ إذ يعتبر البشر الكائنات المدرجة فيها غير مرغوبة ومُزعجة. وهي عادةً ما تحظى بحماية قانونية ضئيلة. في أونتاريو، حيث يعيش جيتس، يُسمح بقتل أي حيوان تقريبًا بحجة إلحاقه الضرَر بالممتلكات،3 والذي يمكن أن يكون ضررًا تافهًا مثل تنقيب ظربان في العشب بحثًا عن اليرقات أو ترك الحمام لفضلاته على عتبة النافذة. وفي نيويورك، لا يحتاج الحيوان حتى لأن يُسبب ضررًا؛ يكفي أن يُحكم عليه بأنه مصدر إزعاج.4 وفي العديد من المناطق، تُعَد معظم الحيوانات البرية آفات، أو يفصلها عن ذلك التصنيف بضع مُضايقات للبشر. ذلك الوصف لا يقتصر على المُشتبَه بهم المُعتادين، مثل الفئران، أو الأنواع العابرة للأسيجة مثل الراكون، إنما قد يطال أيضًا حيوانات ذات هيبةٍ مثل النسور الصلعاء في قرية صيادين في ألاسكا، حيث يمكن أن تُحوِّلها غنيمة من فضلات تنظيف الأسماك من أيقونات محبوبة إلى حيوانات مزعجة فوضوية.5

تتأثر الكثير من الأرواح بالطريقة التي نتعامل بها مع الحيوانات التي تُزعجنا. وبغضِّ النظر عن أعدادها الهائلة، يمكن اعتبار محنة الكائنات التي نعيش معها في مواطننا الحضرية تُجسد العيش على كوكب يسود البشر أرجاءه. إن أخلاقيات التعامُل مع المدن وما يُسمى الآفات والحيوانات البرية غير المرغوب فيها لهي أمرٌ ضروري في عصر الأنثروبوسين. هل سيكون عصرًا لا تُقبَل فيه الحيوانات البرية إلا إذا لم تُسبِّب أي إزعاج؟ عصرًا تكون فيه مُرحَّبًا بها ما بقِيَت في المساحات المُخصصة لها، دون أي اتصال بالبشر أو مطالبات أخلاقية منهم؟ عصرًا تكون فيه قيمة الأرواح من عدمِها خاضعة لتقدير البشر؟ في المدن، نواجِه تحديًا تصِفه إيرين لوثر أستاذة الدراسات البيئية بجامعة دالهاوزي بأنه لا يقلُّ صعوبةً عن «ما يعنيه حقًّا العيش مع الآخر في العالم.»

•••

لا بد أن دخول جيتس وكاسندرا إلى العلية، مُرتدِيَين بذلة العمل والقناع الواقي، سيكون صادمًا للراكون الأم التي تعيش بالداخل مع صغارها. ربما تكون هذه هي المرة الأولى في حياتها التي يدخل فيها أي شخصٍ عليها، وتخترق أضواء الكشافات شرنقة الظلام المُحيطة بها. ينوح الصغار الذين باغتَهم الإزعاج المفاجئ في حين تتراجع الأم إلى متاهة الألواح الخشبية المُتقاطعة والعوارض التي يرتكز عليها السقف المائل على الأرضية.

يُحييها جيتس بصوتٍ هادئ رزين قائلًا: «أهلًا أيتها الأم»؛ في مُقابلتي معه كان أيضًا الهدوء والرزانة يطغَيان على صوته وحركته. الهدوء هو شعور يريد أن ينقله إلى الحيوانات، وهو أحد متطلبات وظيفته؛ فعندما تكون واقفًا على سُلم على ارتفاع ١٥ قدمًا من الأرض، لا يبعد جُحر سنجابةٍ أُمٍّ عن وجهك إلا بضع بوصات، تحتاج إلى رَباطة جأشك وهدوئك. لكن الموقف الحالي ليس فيه ما يُثير القلق. بالطبع يمكن لحيوانات الراكون أن تُدافع عن نفسها بشراسة، لكن هنا الأم اختبأت ببساطة.

قبل أن تطلُب صاحبة المنزل المساعدة، بحثت عن منافذ يمكن أن تكون الراكون الأم قد دخلت منها، لكنها لم تجد شيئًا. وعندما وصل جيتس وكاسندرا، نصبا سُلَّمهما، وصعدا إلى السطح، وتوجَّها إلى أنبوب التهوية. غالبًا ما يصنع البناءون فتحة أكبر من اللازم لأنبوب التهوية؛ مما يترك فراغًا بسيطًا بعد تركيب الأنبوب، يسدُّونه بشريحةٍ من المطاط. تكون تلك البقعة نقطة ضعيفة في السقف المصنوع من الخشب واللباد العازل والألواح التي تستعصي على الاختراق. فإذا استطاعت الراكون إدخال يدَيها تحت شريحة المطاط وخلخلة بعض المسامير، فستتمكن من النفاذ إلى العلَّيَّة.

يصف جيتس حيوانات الراكون بأنها مُفتشة منازل صغيرة. ينطبق ذلك الوصف أيضًا على السناجب، التي تتخصَّص في النفاذ من أنابيب الصرف والسطح التحتاني للسقف، تلك الألواح الصغيرة من البلاستيك أو الألومنيوم التي تُغطي بروز السقف من أسفل. (اعتراف: لم أكن أعرف شيئًا عن تلك الألواح حتى شرح جيتس عن السناجب. من المُثير للاهتمام التفكير في أن العديد من الحيوانات التي تعيش في الحضر تعرف عن المباني أكثر من ساكنيها من البشر.) لا تحتاج إلا إلى العثور على ثغرة تكفي لإدخال فمِها وعندئذٍ تبدأ المضغ؛ وبعد ساعات أو أيام، ستتمكن من تمرير جسدِها كله من خلال هذه الثغرة.

يقول جيتس: «ستُبيِّن لك مواطن العيب.» غالبًا ما يجد علامات، مثل قطعة مُقشرة من المعدن، ناتجة عن جولات الراكون الاستكشافية. تنشر حيوانات الراكون ما تتعلَّمه فيما بينها؛ ففي الحي الذي تتعلم فيه إحداها اختراق نوعٍ مُعين من فتحات التهوية، سرعان ما يقلدها غيرها. يعتقد جيتس أنه توجَد اختلافات ثقافية بين حيوانات الراكون في كل منطقة؛ إذ يتخصَّص بعضها في تلك المنازل المتينة الأنيقة المبنية في بداية القرن العشرين، والبعض الآخر في المنازل المبنية على طرز البناء الحديثة. كانت فتحات التهوية البلاستيكية المُستخدمة في الأسطح مفيدة لشركته.

تعرف حيوانات الراكون في مدينة ماركام أيضًا الكثير عن مواد العزل. معظم أرضيات العليَّات مكسو بمسحوق السليلوز الناعم، المصنوع من ورق الجرائد المطحون، والذي يترك فراغاتٍ أقل من الألياف الزجاجية. لا بد أنه يُلهب عينيها وأنفها؛ يقول جيتس إنه عندما يدخل الراكون إلى علية، فإنه يبحث عن الأجزاء المائلة المخلوط فيها السليلوز بالألياف الزجاجية كي لا ينزلق عليها مثل الجليد. في إحدى تلك المساحات المائلة على وجه التحديد، وفي زاوية خلفية تُوفر بعض الحماية، صنعت الأم عشًّا. داخل العش توجَد الصغار، عددها ستة، وهي مكسوة بالزغب، وعيونها مغلقة، ولها رءوس كبيرة، وتتجمَّع كلها في كتلةٍ دافئة كالكرة، تُصدر أصواتًا حادة عالية النبرات استجابةً لذلك الغزو لمَكمنها الآمن الذي يُمثل لها العالم بأسره حتى الآن.

يقول جيتس إنه عندما بدأ في ذلك العمل، كان معظم الناس يعتبرون قتل الحيوانات هو الحل الأمثل للمشكلات. وفق تلك المعايير، تُعَد أجهزة التبخير بالفورمالديهايد تقدُّمًا فعليًّا. حتى الشركات التي وعدت بتبنِّي طرق رحيمة لم تلتزم بها دائمًا. فهي قد تضع مصيدة ولا تُتابعها، إنما تعتمد على أن يُتابعها العملاء الذين ينسون ذلك في كثيرٍ من الأحيان بسبب انشغالهم، فتترك الحيوانات التي تعلق فيها لتموت ببطء. وحتى إذا تابعوا المصيدة، فمن الشائع أن تؤخَذ الأم ويترك صغارها يتضوَّرون جوعًا دون قصد.

لا يزال هذا يحدث في بعض الأحيان؛ ومثلما كان يحدث من قبل، يظل بعض الناس يتصرفون بأنفسهم. حكى لي جون جريفين، الذي خلَف هاديديان في جمعية الرفق بالحيوان وترأس برنامجًا يهدف إلى تعريف الناس بأساليب صديقة للحيوانات للتعامُل مع مشكلات الحيوانات البرية، عما شاهده.6 يحاول الناس طرد الحيوانات من المداخن بالدخان، وهو أسوأ من استخدام الفورمالديهايد، أو يستخدمون قنابل المبيدات لطرد الخفافيش من العلية، أو يحبسون الحيوانات في الجدران ويسدون منافذها. وقال إن مُتخصصي إعادة تأهيل الحيوانات البرية لا يزالون يستقبلون كل صيفٍ عددًا كبيرًا من الصغار اليتامى التي يأخذ الناس أُمهاتها بعيدًا عنها.
ذات مرة، تلقى جيتس مكالمة من مدرس علوم بمدرسة ثانوية رافقه إلى غرفة أسفل العلية استقرَّت بندقية في زاويتها. كان عدد الثقوب التي خلفها الرصاص في السقف لا يقل عن خمسة عشر. حوَّل المدرس سقف غرفته إلى غربال، لكنه لم ينجح في إصابة الراكون. باتت هذه المكالمات نادرة؛ الأشيع هو أن يشتري الشخص ببساطة مصيدةً لصيد الحيوان حيًّا — فهي متوفرة بسهولة في معظم متاجر الأدوات الكبيرة أو مراكز توريد الأدوات الزراعية — ويصطاد الحيوان بنفسه. وعادة ما يأخذ المخلوق البائس إلى الريف، معتقدًا أنه يصنع فيه معروفًا، غير أن ذلك بمثابة حُكم بالإعدام. ففي العادة يصعب على أي حيوان البقاء في مكانٍ لا يألفه، لكن وضع راكون مدينة في الريف لا يختلف كثيرًا عن انتزاعه من غابةٍ كثيفة وتركه وسط المدينة. في الواقع، أدَّت صعوبة تهجير تلك الحيوانات إلى دفع بعض الناس إلى الاعتقاد بأن الموت السريع هو خيار أرحم لها.7
عادةً ما يُترك قرار قتل الحيوان إلى مالكي العقارات أو مَن يستأجرونهم للتخلُّص منها، وإن كانت القوانين تُحتم قتلها في بعض الأحيان. منذ عدة سنوات، حاولت ولاية إنديانا دون جدوى أن تلزم شركات التخلص من الحيوانات البرية بقتل كل راكون وأبوسوم، وقيوط تُمسك به؛8 وهو اقتراح وقف ضده العديد من المشتغلين بهذا المجال، بينما رحَّب به آخرون. في بيتسبرج، بنسلفانيا، حيث يُقرض قسم مراقبة الحيوانات بالبلدية المصائد للمواطنين، يُنفِّذ القتل الرحيم سنويًّا على كل جرذ أرض وراكون وظربان يُصاد بها. وأعلنت المدينة قتل ١٥٠٠ راكون سنويًّا من عام ٢٠١١ إلى عام ٢٠١٤.9 وبالمثل، تشترط مدينة نيويورك قتل حيوانات الراكون التي تُصاد بمصائد البلدية باعتبارها تُشكل عاملًا في انتشار داء السعار.10 على الجانب الآخر، في عام ٢٠١٠ أقرَّت واشنطن العاصمة قانونًا يُلزم باستخدام وسائل غير مُميتة لحل الخلافات التي تُعَد الحيوانات طرفًا فيها؛ لكنه لا ينطبق إلا على المنشآت التجارية؛11 مما يترك لأصحاب المنازل حرية التخلُّص منها كيفما يشاءون.
باختصار، تُدار أغلب المُشكلات مع الحيوانات البرية التي تعيش في الحضر من خلال مجموعةٍ متنوعة من الممارسات واللوائح التي لا تكترِث بمصلحة الحيوانات. يعتقد جون هاديديان أن هذا يعكس الإرث الثقافي لتلك الصناعة الحديثة نسبيًّا:12 شركات صيد الفئران التي ظهرت أولًا في المدن الأوروبية ثم انتقلت إلى مُدن أمريكا الشمالية، والخدمات الحكومية لمكافحة الآفات المُقدمة للمزارعين في القرن التاسع عشر، ووكالات إدارة الحياة البرية التي نشأت لتنظيم الصيد. ومع انتشار الضواحي الحضرية التي جعلت المزيد من البشر يُجاورون الحيوانات البرية في القرن العشرين، أرشدت الحكومات المحلية المواطنين الذين يُواجِهون مشكلاتٍ مع حيوانات برية إلى الاستعانة بالصيادين بالفخاخ. وهؤلاء تحوَّلوا بدورهم إلى تقديم خدمات مُتخصصة للتخلُّص من الحيوانات البرية، في حين توسَّعت صناعة مكافحة الآفات القائمة بالفعل لتتعامل مع الكائنات التي تشغل الآن المساحة الرمادية بين الحيوانات البرية والآفات. وصارت تلك الشركات تتعامَل مع الحيوانات بالطرق التي تُحقق لها أقصى ربح، لا بما يراعي مصلحة الحيوانات.
منذ بضعة عقود، لم يرَ أحد بأسًا في ذلك؛ ولكن ثقافة المدن والجمهور عامةً تغيَّرت. إذ وثَّق علماء الاجتماع نزوع الناس في الولايات المتحدة، في كلامهم العامي، إلى المُعاملة بالمِثل بدلًا من الهيمنة؛13 لقد باتوا يُقدرون التعايش وينتهجون مبدأ «عش ودع غيرك يعيش» في التعامُل مع الحيوانات البرية. هذا ليس ما يحدث دائمًا بالطبع، إما لأن بعض الناس لا يُحبون الحيوانات أو لأن حتى أغلب مُحبي الحيوانات يُمكن أن يُزعزعهم عن موقفهم عدة ليالٍ من الأرق نتيجة أصوات نهشٍ قادمة من الجدران التي تجعل خيالهم يجمح. في بعض الأحيان يتلقَّى جيتس مكالماتٍ من أشخاص لا يُريدون منه إلا أن يتخلَّص من الحيوان الذي يُزعجهم ولا يعبئون بالكيفية. لكنها نادرة جدًّا الآن مقارنة بعددها في السابق. كما أنه يلاحظ أن العديد من عملائه هم أُسَر لديها أطفال. ومن الصعب تبرير القتل لطفلٍ متعاطف للغاية.

تضع كاسندرا برفقٍ صغار الراكون في كيس قماشي. ستضعها في صندوق معزول تتركه على السطح. أما الأم فستُغادر العلية عندما تكون مستعدة، وإذا سار كل شيءٍ كما هو مخطط له، فستجد صغارها وتنقلها إلى عشٍّ جديد، بعد ذلك سيسدُّ الثقب الذي دخلت منه. لن يُربكها ذلك كثيرًا. فعلى الأرجح لدَيها عشرات المواضع التي تعرفها ويُمكنها الاختباء فيها. أخبرَني جون هاديديان بأنه عندما وضع أجهزة إرسال بالراديو على حيوانات الراكون التي تعيش على أطراف مُتنزَّه روك كريك، ذلك الشريط من الغابة القديمة الذي يمرُّ عبر قلب واشنطن العاصمة، وجد أن أُنثى واحدة تجوَّلت بين نحو ٢٠٠ جُحر، ما بين تجاويف في الأشجار، وأكمات صغيرة، وألواح خشبية موضوعة في ترتيبٍ موائم، والمجاري، وبضعة عليَّات.

ينزل جيتس وكاسندرا بصغار الراكون إلى الطابق السُّفلي لفترة وجيزة ليُصوروها ويسمعوا هتافات الإعجاب بلطافتها. ثم يُوصِّل جيتس سلكًا كهربائيًّا طويلًا جدًّا بمِقبس خارجي ويتسلق السطح مرة أخرى. ذلك السلك موصول بوسادة تدفئة موضوعة، مع سترة قديمة وبعض الألواح العازلة من مادة الستايروفوم، داخل صندوق ذي باب منزلق صنعَه هو وكاسندرا. الصندوق بمشتملاته هو أحد ابتكاراته. بدونه سيتجمَّد الصغار على الأرجح. بعد أن جهز الصندوق، وضع فيه الصغار الذين كانوا يرتجِفون ويتشبَّثون بعضهم ببعض. إنه مشهد مؤثر، لكن الخبرة الطويلة علَّمت جيتس أن هذا هو الحل الأفضل. تندسُّ الصغار في السترة في حين يُغلق الصندوق ويُثبته في السطح بإحكام بمسامير.

بعد أن يُتم جيتس مهمته، يقف برهة ليتأمَّل مشهد أسطح المنازل وأشجار الأفنية الخلفية التي تمتدُّ في جميع الاتجاهات؛ وهو منظر يشترك في رؤيته سكان تلك المنازل، الذين نادرًا ما يكون لديهم سبب للصعود إلى أسطحها، وكذلك الطيور والسناجب وسائر الكائنات الأخرى التي تسكن الحي. (تتضمن تلك القائمة حيوانات الراكون أيضًا، لكن قِصر نظرها يمنعها من رؤية المنظر.) يقول جيتس إن العملاء يعتقدون غالبًا أن انتشار الحيوانات البرية في الحضر ناتج عن تدمير موائلها مما دفعها إلى اللجوء إلى المدن. قطعًا قُطعت غابات لبناء هذه المنطقة الحضرية، ولم تعُد ملائمة للسكنى لكثير من الأنواع التي كانت تسكن هنا من قبل، لكن بالنسبة إلى الأنواع التي أمكنها التكيُّف على ذلك التغيير، فقد باتت موطنها. أصبح هذا موئلها الآن.

يقول جيتس: «تستحق الحيوانات أن تعيش في بيئاتنا الحضرية بقدر ما نستحقُّ نحن ذلك.» كلماته بسيطة لكنها عميقة: المدينة ليست مجرد موئل لها، إنما هي موطنها؛ إنها تنتمي إلى المكان. وذلك حكم اجتماعي بقدْر ما هو حكم بيئي.

لم تُعارض هذه العميلة السماح لدخلاء المنزل غير المرغوب فيهم بالبقاء في الحي، لكن بعض الناس يحتاجون إلى الإقناع بذلك. في بعض الأحيان، يحتاج الناس أيضًا إلى الاطمئنان إلى أن الأمر يستحق دفع تكلفة الوقت الذي يستغرقه لإجراء فحصٍ دقيق لمنزلهم، والبحث عن نقاط الدخول المُحتملة وتأمينها من الحيوانات؛ وهو ما أصبح جزءًا أساسيًّا من حزمة الخدمات التي يُقدمها، مما يعكس نهجه الذي يتبنى الوقاية بدلًا من تكرار الحلول المؤقتة وإبقاء النزاعات المستقبلية. وهذا يبدو منطقيًّا، غير أنه ليس من الممارسات السائدة. فلا يزال من الشائع أن تكتفي شركات مكافحة الآفات والتخلُّص من الحيوانات البرية بإجراء فحصٍ سريع للمكان قبل أن تنتقل إلى المهمة التالية. على سبيل المثال، في استبيانٍ حديث أُجري في المملكة المتحدة شمل البلدات التي تُوفر خدمة مكافحة الآفات لسكانها، وُجد أن نِصفها فقط يُقدم النصائح عن إقصاء الحيوانات وردعهم.14

يرى جيتس أن عمليات الفحص تتعلَّق أيضًا بنشر ثقافة التعايش. إذا ترك فتحات التهوية دون أن يسدَّها وعاد راكون، فإن الموقف الذي انتهى اليوم بالهتافات السعيدة وسماحة النفس يُمكن أن يتفاقم. فالتسامح مع المُشكلات يتضاءل بتكرُّرها. يقول: «إذا كان بإمكاني أن أوفِّر للناس حلًّا يَقيهم من الحيوانات بنسبة ١٠٠٪ مستقبلًا، فلن تُزعجهم الحيوانات بعد الآن. وسيُعلمهم ذلك أنه يُمكننا التعايش معها في وئام.»

•••

لا عجبَ أن حيوانات الراكون تبرُز بوضوح في حياة جيتس. فهي، كما سبق أن رأينا، تشغل مكانةً فريدة في التاريخ الثقافي لأمريكا الشمالية؛ إذ تألف المناطق البرية والمُستوطنات البشرية على حدٍّ سواء. وتظهر حيوانات الراكون في العديد من حكايات الشعوب الأصلية؛ إحدى الحكايات المُفضلة لديَّ تحكي عن راكون أكلَ وجبتَي رجُلَين كفيفَين من قبيلة منوميني في قرية على ضفاف بحيرة، مما جعلهما يتشاجران، ثم حَلَّ العُقَد في الحبل الذي استخدَماه ليستدلَّا به على الشاطئ. عندما أدرك الراكون ما فعلَه، شرع يُعيد ربط العقد، وفي تلك اللحظة وجدَه الرجلان. وعندما داعبا فروه، نسِيَا خلافاتهما ومرارة السن.15
تشير تلك الحكاية إلى ذكاء حيوانات الراكون الذي يجعلها مسليةً للغاية ومُزعجة في بعض الأحيان. في تورونتو، التي تعتبر حيوانات الراكون جالبةً للحظ وتُسميها باندا القمامة، أنفقت الحكومة المحلية ٣١ مليون دولار لتطوير حاويات لا تستطيع حيوانات الراكون النفاذ إليها للنفايات القابلة للتحويل إلى سماد.16 ما كادوا يفرغون من توزيع الحاويات حتى وردتهم أنباء عن حيوانات راكون تمكَّنت من اختراق الحاويات. (شدَّد المُصنِّع على أن الحاويات مقاومة لحيوانات الراكون، وليس مَنيعة منها.17 إذ كانت وعوده مقدمة للسياسيين، لا للأشخاص الذين يعرفون تلك الحيوانات حق المعرفة.)

أما الحكاية المُفضَّلة لجيتس فهي عن أنثى راكون تعيش في مرأب. كشف فحصُه أن المبنى سليم لا ثغرات فيه من الناحية البنائية. لم يتمكن من معرفة كيف تَدخُل إلى المرأب فصعد إلى ألواح السقف، فرآها تنزل من على عمودٍ مُثبت عليه زرار فتح باب المرأب الكهربائي، وتتمهَّل، ثم تضغط على الزر، وتتبختر خارجة. كان لديها عش فيه صغار؛ مما يعني أنها ظلَّت تدخل وتخرج من المرأب شهورًا. يخمن جيتس أنها كانت تخرج في الليل أثناء نوم صاحب المنزل، ثم تُغلق الباب عند عودتها في الساعات المبكرة من الصباح، فلا يراها البشر وهي تفعل ذلك.

لكننا حتى في عداوتنا لحيوانات الراكون نُكنُّ لها قدرًا من الاحترام. فماذا عن تلك الحيوانات التي لا نُكنُّ لها أي قدرٍ من الحب؛ وأنا أقصد القوارض، لا سيما الفئران والجرذان؟ الخط الفاصل بين التخلُّص من الحيوانات البرية ومكافحة الآفات غير واضح، ولكن من المؤكد أن العديد من الناس سيُصنفون الفئران والجرذان في فئة مختلفة تمامًا عن الراكون. بالطبع، لا يزال الناس يُعاملونها بلُطف في بعض الأحيان؛ إذ تَلقى مصائد الفئران الرحيمة آلاف التقييمات على متجر «أمازون» الإلكتروني. عندما سألتُ مارجريت روبنسون، عالِمة الاجتماع التي تدرس شعب الميكماك، كيف تُطبِّق القيم الموروثة كالاحترام والمعاملة بالمِثل والقرابة على ما يُسمى بالآفات في حياتها، فحكت لي عن مرةٍ اصطادت فيها فئرانًا في شقَّتها ووضعتها في قفصٍ لحيوانات الهامستر الأليفة. لكنها قرضت فيه ثغرة خرجت منها وأخفتها بقطعةٍ من الفرش. (تقول: «كان الأمر أشبه بفيلم «الهروب من سجن ألكاتراز» (إسكيب فروم ألكاتراز). وخلصت إلى أن تلك الفئران أشخاص مُستقلون.») قررت مارجريت ألا تقلق وتترك المشكلة تحلُّ نفسها بنفسها، لكنها تُدرك أن موقفها ذلك لن يجدي في حالة غزو فعلي.

هذا بالنسبة إلى الفئران، وهي مخلوقات يُصوِّرها العديد من القصص بطريقة تجعلنا نتعاطف معها؛ فهي صديقة سندريلا. كما أنها ليست مُزعجة بالنسبة إلى معظم الناس بقدْر الجرذان، لا سيما «راتوس نورفيجاكوس» أو الجرذ البُني النرويجي، وهو اسم غير دقيق؛ إذ إن موطنه الأصلي جنوب الصين،18 ويُعَد على الأرجح أكثر حيوانٍ فقاري حُر مكروه وأكثر فقاري يُقتَل على وجه الأرض. إذ تنتشر الصناديق البلاستيكية السوداء المليئة بالطعم السام في المدن إلى حدِّ أن الناس اعتادوا رؤيتها فباتوا لا يلاحظون وجودها. إن حماية الجرذان فكرة مُستهجنة. فقد أدَّت المخاوف من تطبيق قوانين حل النزاعات مع الحيوانات بطرق إنسانية في واشنطن العاصمة على الفئران والجرذان إلى ردِّ فعلٍ شعبي؛ حتى إن راش ليمبو، المذيع الأمريكي الشهير والسياسي المحافظ، أدلى بدلوه في الأمر،19 وحذَّر من أن «هذا ما يحدث عندما تبدأ تلقين الأطفال الأفكار الليبرالية في مُستهل حياتهم.» ولم يهدأ الصخب إلا بعدما أصرَّت ماري تشي عضوة مجلس بلدية واشنطن العاصمة على أن هذا القانون ينطبق على «الحيوانات البرية؛ وليس الفئران أو الجرذان، إنما الحيوانات البرية.»20 حتى عندما حُظرت مبيدات القوارض، لم تُحظر لأجل حماية الجرذان، أو استهجانًا لفكرة موتها المروِّع جرَّاء النزيف الداخلي الذي يستمرُّ عدة أيام، إنما من أجل الصقور والحيوانات المفترسة الأخرى التي تحظى بالاحترام والهيبة.
غير أنه قياسًا بأي معيارٍ أخلاقي معقول، تستحق الجرذان قدرًا من المكانة المعتبرة. فالأبحاث زاخرة بالأفكار التجريبية عن مدى تعقيد ذكائها وانفعالاتها، وهو ما سبق أن تطرَّقنا إليه. فهي تضحك عند دغدغتها،21 وتشعر بالندم،22 وتُخطط للمستقبل،23 وتتشارك الطعام — وتكون أكثر استعدادًا لمشاركته مع الجرذان الجائعة24 — وتعتني بصغار غيرها من الجرذان،25 وتقفز فرحًا.26 (ثَمة مفردة بديعة في اللغة الألمانية تُعبِّر عن تلك الأخيرة، وهي freudensprung.) تلقَّت التجارب التي تثبت المواجدة لدى الجرذان الكثير من الاهتمام، بسبب علاقة الناس المعقدة مع الجرذان؛ فعلى الرغم من اضطهاد الناس للفئران في كثير من الأحيان، فإنهم يشعرون نحوَها بإعجابٍ مُستتر، كما أن هذه التجارب ربما تلقي الضوء على جوانب أساسية في الطبيعة الإنسانية. حتى إن صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت ذات مرة مقالًا بعنوان: «جوهر الرحمة لدى البشر (أو القوارض)».27
يوجد أيضًا الكثير من الأبحاث عن البيئة الحضرية للجرذان، وكيف أن الضغوط التطورية للحياة الحضرية ربما جعلتها أكثر ذكاءً وتعاطفًا.28 لكن حتى معاملة الجرذان باعتبارها موضوعًا للدراسات العلمية لا يعكس منظور أولئك الذين يعرفونها حق المعرفة، مثل ماريا تشين، وهي طالبة في برنامج رفاه الحيوان بجامعة كولومبيا البريطانية، التي أوصتني بالحديث معها محامية قانون الحيوان فيكتوريا شروف، التي رحبت بها ماريا في اجتماع بالحرم الجامعي، وهي ترتدي وشاحًا استكنَّ فيه جرذاها. قدَّمتني ماريا إلى أحد الجرذين في مكالمةٍ عبر تطبيق زووم: جرذ سمين رمادي اللون يُدعى بيستي، تبنَّته من ملجأ للحيوانات في فانكوفر.
جلس بيستي على كتفها يداعب أذنها. هو يحب أن يُدلَّك بطنُه وأسفل ذقنه، وبعد فترة من التدليك يبدأ بتحريك أنفه وشواربه بارتياح ورضًا. وتقول ماريا إنه عندما يكون سعيدًا، فإنه يجزُّ على أسنانه، وعندما تبلغ منه السعادة مبلغها، ويرى العالم بديعًا إلى حدِّ أنه لا يستطيع احتواء فرحته، ينخرط في سلوكٍ معروف باسم «ارتجاف العينين»؛ فيجزُّ على أسنانه بقوة شديدة لدرجة أن عضلات فكه المُنقبضة تتسبب في جعل عينَيه تجحظان ثم تعودان إلى مكانيهما. لم أسمع بهذا السلوك من قبل. وتقول ماريا إن الكثير ممن يستخدمون الفئران في المختبرات لم يسمعوا به أيضًا؛ فالفئران التي يتعاملون معها لا تصل أبدًا إلى حالة الاسترخاء التام. (الفئران والجرذان ليست مؤهلة للحماية بموجب قانون الرفق بالحيوان الأمريكي الذي يحكم معاملة الحيوانات الأسيرة. حتى منحها مساحة كافية للحركة، وهو الحد الأدنى من المراعاة، يُعَد مطلبًا مبالغًا فيه.)29
figure

تقول ماريا تشين إن بيستي اجتماعي أكثر بكثير من ماجي، التي توفيت عام ٢٠١٩، بعد ثلاث سنوات من تبنِّيها هي وشريكها لهما. ثلاث سنوات هي سِن كبيرة بالنسبة إلى الجرذان، وربما كانت ماجي أكبر عمرًا من ذلك، فقد كانت بالغة بالفعل عندما وجداها في الملجأ. ارتبطت ماجي بسرعةٍ ببودنج كلب ماريا، لكنها لم تتسلق كتفها وتنَمْ عليه، في علامة على الثقة التامة، إلا بعد بضعة أشهُر. كانت تشين تأخذها معها إلى المدرسة وتصحبها في مشاويرها. كانت تُحب رؤية رد فعل الناس. تقول: «في بعض الأحيان ينظر الناس إلى جرذٍ ولا يخافون منه. كانوا يسألون: «أهذا فأر؟ أهو هامستر؟» ثم ما إن يُدركون أنهم ينظرون إلى جرذٍ حتى يتملَّكهم الهلع.» فالسُّمعة تسبق الحقيقة.

بالطبع، الجرذان المستأنسة ليست كالفئران البرية؛ إذ دُجِّنت لتكون أهدأ وأقل عدوانية. شبَّه البعض الفرق بينهما بالفرق بين الكلاب والذئاب،30 وقياسًا على ذلك فإن بيستي كالكلب الهاسكي، يُشبه الذئب ظاهريًّا ولكنه لا يتصرف مثله. لكن مثل الصفات التي يحتفي بها البشر في الكلاب، لا سيما قدرتها على الحُب والولاء، والتي يُبرزها الاستئناس ولكنها تكون موجودة بالفعل في أسلافها البرية، كذلك هي السمات المُحبَّبة في الجرذان. وفي حين أننا لا نشجع على الإطلاق على اتخاذ الفئران البرية حيواناتٍ أليفة، فإن بعض الأشخاص الذين يفعلون ذلك يقولون إنها تُشبِه إلى حدٍّ كبير إخوتَها المستأنسة. المودة والمرح والتفرُّد التي تُحبها ماريا في أصدقائها القوارض هي سِمات أساسية لدى الجرذان.

الجرذان نوعٌ مُثير للاهتمام، يمكن أن نتأمَّل من خلاله في النقاشات الدائرة عن أوجه التشابُه والاختلاف بين البشر والحيوانات الأخرى، ونبحث ما إذا كان لهذه الاختلافات والتشابُهات معنًى أخلاقي. ربما تكون المتعة التي تنالها الجرذان من حكِّ بطنها وجه تشابه أثقل وزنًا من أي اختلافات. وفي حين أن الحماية الواسعة النطاق مطلب غير واقعي، فإن اتخاذ الخطوات اللازمة لعدم جذب الجرذان؛ ومِن ثَم تجنُّب معضلة قتلِها من الأساس، يبدو حلًّا معقولًا. لكن حتى ذلك يُعَد صعبًا. قال بوبي كوريجان الذي ربما يكون أشهر مُتخصص في مكافحة القوارض في العالم، والذي كان يعمل على الطبعة الثانية من كتابه «مكافحة القوارض: دليل عملي لمُتخصِّصي إدارة الآفات»، عندما اتصلت به: «إن ما يُدهشني بحقٍّ هو أن هذه أمور بسيطة وبديهية للغاية. لكن أغلب الناس يتجاهلونها عندما يتعلق الأمر بالآفات. وكأنهم يقولون في أنفسهم: «من يهتم؟»» لا ينفك يطلب من عملائه إحكام غلق نفاياتهم. لكنه يعود بعد بضعة أشهر ليجد أن شيئًا لم يتغير. وصف ذلك بأنه «مفارقة الإنسان العاقل. نحن لسنا عاقلين على الإطلاق.»

•••

لم أتفاجأ بتعليق كوريجان. فقد سمعتُه مرات عديدة من قبل. لكن ما فاجأني هو الإحباط الدفين الذي تحدث به. إنه صائد جرذان لا يريد صيد الجرذان. يتذكَّر كوريجان جرذًا ظلَّ يتملَّص منه أسابيع في قاعة تداول السلع في مركز التجارة العالمي السابق، حيث كان يخرج بجرأة وقت الغداء ليلتقِط شرائح البيتزا التي لا ينتبِه إليها أحد، ولكن بطريقةٍ ما ظل موقع جُحره سرًّا. أبدى كوريجان احترامه له قبل أن يقتله — وهو أمر شعرَ أنه مدفوع له دفعًا بتوقُّعات عملائه منه والأجواء العامة المُفعمة بالحماسة الذكورية لقاعة التداول — لكنه الآن يندم على قتله. في النهاية، تمنَّى لو أنه لم يجد الجرذ. يقول: «كيف للمرء ألا يحترم حيوانًا بهذا الذكاء؟» باعتبار مِهنته، قد يبدو هذا متناقضًا، لكن كوريجان لديه مبادئ أخلاقية.

يرى أن بعض القتل لا بد منه. إذا غزَت مئات من الجرذان متنزهًا مزدحمًا، أو حدث تَفشٍّ للفئران في مطعم، فلن ينفع صيدها حية. فهذا مُستنفد للوقت ومُكلف وصعب من الناحية اللوجستية. وهو أمر مُحزن، لكن الطبيعة مكان قاسٍ. يقول: «أودُّ أن أسأل أي شخصٍ يقول إنك لا يجب أن تقتُل أي كائن حي: كيف ستفعل ذلك؟ أعطني بعض الأمثلة العملية الحقيقية.» لكنه يرى أن القتل يجب ألا يُلجأ إليه إلا في حالات الضرورة، يقول: «إذا سنحت لي فرصة إنقاذ حيوان دون قتله، فأنا أختار أن أفعل ذلك كل مرة.» هو يكره عقلية الأشخاص الذين يتناولون بُندقيتهم كلما رأوا جرذًا أرضيًّا، وتُثير غضبَه فكرةُ الصيد من أجل التسلية. وعندما يُضطر إلى القتل، فإنه يتحرى أقل الطرق ألمًا؛ فهو لا يستخدِم السم، إنما يبث غاز ثاني أكسيد الكربون في جُحر الجرذ، حتى يأتيه الموت كالنوم. وبعدها يحين وقت نصائحه عن إحكام غلق القمامة.

كتب المُنظِّر في عِلم البيئة كريستيان هنولد أنه قد تكون «الهدنة المُضطربة التي تستند إلى وجود البشر والقوارض في حيِّزَين متوازِيَين» أفضل حلٍّ واقعي يمكن تطبيقه بالنسبة إلى الجرذان وغيرها من القوارض التي تزدهر في المناطق الحضرية،31 وفي حين أنها ليست حلًّا مثاليًّا، فإنها تظلُّ أفضل مما هو معمول به الآن. داخل هذه الهدنة يُمكن أن تكون هناك نقاط مضيئة. إحدى زميلات كوريجان المُفضلات في المهنة هي ريبيكا دميتريك، التي تمتلك هي وزوجها دوين تيتوس شركة «هيومين وايلد لايف كنترول»، وهي شركة مكافحة آفات مقرُّها موس لاندينج، كاليفورنيا. بدأت ريبيكا مسيرتها المِهنية موظفة في مكتب مراقبة الحيوانات في لوس أنجليس في منتصف الثمانينيات؛ ثم أسَّست مركز كاليفورنيا للحياة البرية، وهو مُستشفًى أدارته عدة سنوات قبل أن تتخصَّص في إنقاذ الحيوانات أثناء الكوارث، في تلك المنطقة التي يكثُر فيها تسرُّبات النفط والزلازل وحرائق الغابات. منذ نحو عقد، أقنعها العدد الهائل من المُكالمات التي كانت تتلقَّاها للإبلاغ عن الحيوانات البرية المُزعجة ببدء مشروعها التجاري. اعتمدت منذ البداية مبدأً صريحًا، وهو عدم استخدام السم، وعدم القتل. ووجدت تعاطفًا أكثر مما هو متوقَّع. تقول عن عملائها: «كل شخص في دائرة معارفهم يكرَه الجرذان. ثم يأتون إليَّ، فأؤكد لهم أنه لا بأس ألَّا يكرهوها.»

مثل براد جيتس، الذي تُسمِّيه ريبيكا «جدَّنا الروحي»، تُشدد ريبيكا على أهمية منع الحيوانات من الدخول إلى المنازل في المقام الأول. تُجري هي وتيتوس عمليات تفتيش دقيقة للأجزاء الخارجية من المبنى، ويسدَّان كل ثغرة، قبل أن يصيدا القوارض حيةً ويطلقاها في الخارج؛ ليس فقط لأن ذلك أخلاقي، ولكن لأنه أفضل اختبار لعملهما. ويضعان كاميرات الرؤية الليلية لمراقبة محاولات الحيوانات إعادة الدخول؛ وإذا نجحت في الدخول، فإنهما يستخدِمان صبغات فلورية غير سامة تطؤها أقدام القوارض، فتترك آثارًا داخل المنزل تتوهَّج تحت الضوء فوق البنفسجي، وكاميرات المراقبة، التي يُتحكَّم بها بواسطة الهواتف الذكية، لتحديد نقاط الدخول. غالبًا ما يبدأ عملاؤها في إرسال صورٍ لطيفة. تقول: «إنهم يتفاعلون مع الحيوانات التي كانوا من قبلُ يعتبرونها مريعةً وشريرة. أُومن حقًّا أن الناس إذا أُتيح لهم الخيار، فسيُفضِّلون عدم قتل الحيوان. هم لا يريدون سوى أن تُحَلَّ مشكلاتهم.»

تُثير عقلية العديد من المُنتجين الزراعيين حنق ريبيكا. في كاليفورنيا، يُحظر استخدام مبيدات للقوارض قوية جدًّا، يمكن لبضع حبَّات منها أن تُذيب أحشاء القوارض، ومن المعروف أنها تقتل أعدادًا كبيرة من الحيوانات غير المُستهدفة، ويُمنع استخدامها في المناطق السكنية.32 لكن في المزارع، التي تُغطي مساحة أكبر بعشر مرات من مساحة المدن في الولاية، لا يزال استخدامها مسموحًا به. تقول: «يستسهل المزارعون رش السُّم» على مشكلاتهم، ويعتبرون مجرد وجود الحيوانات البرية مشكلة في حدِّ ذاته. منذ بضعة أيام ترك لها شخص ما رسالة يُخبرها فيها عن حاجته إلى المساعدة بخصوص عائلة من الثعالب. تتذكَّر ريبيكا فتقول: «اتصلتُ بالرجل. قال لي: «أجل، لدَينا بعض الثعالب في حقلنا.» قلت: «وماذا يفعلون؟» قال: «إنهم موجودون فحسب. يتجوَّلون في الأرجاء.» ثم اتضح أنه يتحدَّث عن حقل زراعي. قلت له: «حسنًا. هل حقلك مُحاط بسياج؟»» لم يكن حقله مُسيَّجًا. رفضت ريبيكا المُهمة، لكنها متأكدة من أنه وجد شخصًا آخر يقوم بها. قالت: «يُلام على ذلك حتى السبانخ»، تقصد أن المسئولية الأخلاقية للموت البطيء الذي يُمكن تجنُّبه لهذه الحيوانات تقع على عاتق الجميع، حتى المُستهلكين الذين يشترون المنتجات الزراعية مثل السبانخ المزروعة في تلك الحقول.

وتابعت ريبيكا: «هذه تبِعات وجهة النظر التي ترتكز على الإنسان ولا ترتكز على البيئة»؛ أي لا تحترم القيمة الجوهرية للأنظمة البيئية للأرض. هكذا ترى ريبيكا ما تفعله؛ فالرحمة تجاه كل فأرٍ وثعلب هي جزء مما يَعنيه أن تكون وصيًّا صالحًا على هذا الكوكب. تعتقد أن الانهيار البيئي وشيك الوقوع، وتقول: «وهذا أمر تقبَّلتُه إلى حدٍّ ما. أما الآن فقد بدأتُ أركز على التعامل بإنسانية مع الكائنات الأخرى.» قد يبدو من كلامها أنها مؤمنة بمبدأ الجبرية، بل بمبدأ العدمية، غير أنها أتمَّت مؤخرًا اختبارها لنظام سياج مقاوم للقوارض ابتكرته. بعد حديثنا، أرسلتْ لي مقطع فيديو لفأر يحاول القفز فوقه دون جدوى. قالت: «نحن نصعد إلى القمر. ونطوف حول المريخ. إننا نستطيع بناء حاجز مقاوم للقوارض. تحمَّل المسئولية. وكن وصيًّا صالحًا.»

قالت ريبيكا إن القانون يجب أن يفرِض على المزارعين ومربي الماشية حماية حقولهم ومواشيهم قبل السماح لهم بقتل الحيوانات البرية. لا يجب استخدام السُّم قبل وضع السياج. بالنسبة إليها، ذلك مبدأ أساسي، شأنه شأن عدم تلويث مياه الشرب بالمبيدات. إنها رؤية حكيمة ومُتسقة أخلاقيًّا؛ لكن يكاد يستحيل تخيُّل تطبيقها في الوقت الحاضر. فهي ستثير رد فعلٍ معارضًا سريعًا؛ إذ يمكن تخيُّل تداعيات حرب ثقافية تُتَّهَم فيها النخبة التي تعيش في الحضر بإفلاس المزارعين نتيجة مُطالبتها بحماية الجرذان. يتطلب إحداث مثل هذا التغيير دعمًا جماهيريًّا واسعًا وتغييرًا جذريًّا في المواقف الثقافية تجاه القوارض.

•••

غير أن ذلك المنظور يمكن تغييره. خُذ مثالًا ناردا نيلسون، وهي عالمة تربية — مُختصَّة في علم أصول التدريس — ومؤيدة لما يُعرَف بمنهج العوالم المشتركة33 في مرحلة التعليم المُبكر. يأتي الاسم من المصطلح الذي استخدمه الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور لوصف المجتمعات البشرية وغير البشرية المُتشابكة، مع إشارة إلى المُنظِّرة دونا هارواي، التي تدعو الناس إلى إعادة النظر في كلمة «عالَم»: ليس باعتبارها اسمًا، بل فعلًا، أو شيئًا يتكوَّن من خلال العلاقات التي نبنيها. يستنِد هذا المنهج إلى فكرة أن أزمات الانقراض والانهيار البيئي منشؤها الاعتقاد بتفوُّق الإنسان؛ وهو اعتقاد مُنتشِر على نطاق واسع إلى حدِّ أنه عادةً ما تُعتبر قيمتا التنوُّع والعدالة لا تنطبقان إلا على البشر، بل حتى البشر لا تنطبقان عليهم جميعًا على حدٍّ سواء؛ إذ عادةً ما يأتي الأوروبيون البيض ونسلُهم في أعلى قائمة البشر. يرفض منهج العوالم المشتركة ذلك. ويدعو إلى علاقاتٍ قائمة على أخلاق العناية، وعلى شعور بالقرابة مع الكائنات الحية التي تعتبر أنسباءنا على مدى الزمن التطوري البعيد وفي الظروف الحالية.

قد يبدو كل هذا عبئًا مفاهيميًّا كبيرًا على الأطفال الذين لا يزالون يشاهدون مسلسل الرسوم المُتحركة «سبونجبوب سكويربانتس». لكن ناردا نيلسون توضح أن الموضوع أبسط بكثيرٍ في الواقع. فهو يعني تشجيع الأطفال على الانتباه إلى الحيوانات التي يُقابلونها في الحياة اليومية والتعاطف معها: الديدان في سلَّة النفايات العضوية داخل الفصول الدراسية، والغزلان والحلزونات التي يُصادفونها في جولاتهم في الغابة، والعفن الغروي، والأشجار التي على وشك القَطع لإفساح المجال لمحطة صرْف صحي. يُشجع المعلمون الأطفال على تخيُّل خبرتهم بالعالم والعلاقات الموجودة في حياتهم. الهدف ليس تعلُّم أسماء الأنواع أو تعزيز النمو المعرفي، إنما هو تغذية الحس والإدراك. تقول ناردا: «الأطفال لا يتحدَّثون عن الأشياء باعتبارها غير عاقل، ولكنهم يعتبرونها عاقلة.»

وهكذا، حدث في صباح أحد أيام مارس أن صادفت مجموعة من الأطفال الملتحِقين بمركز تعليم الطفولة المبكرة التابع لجامعة فيكتوريا، بكولومبيا البريطانية، جرذًا. لم يكن هذا مُخططًا له. كانوا يتجهون مع مُعلميهم إلى بقعة كثيفة الأشجار في الحرم الجامعي للبحث عن آثار حيوانات. لكنهم وجدوا أُنثى جرذ على الرصيف، مُستلقية على جنبها تتشنَّج. كان ما يحدث لها واضحًا، رأت ناردا أن من الأفضل حث الأطفال على المُضي قُدمًا بدلًا من أن يقفوا ليشهدوا ذلك الموقف المُريع. قالت: «لكن الأطفال هم من رفضوا أن يتركوا الأمر يمر مرور الكرام.» تساءل أحدهم إذا كان بإمكانه وضع ضمَّادة عليها. وفسَّر آخر ارتعاش الجرذ بأنه برد؛ ربما يُمكنهم تغطيتها بأوراق الشجر لتدفئتها. وقال أحدهم إنها جدة تحاول العودة إلى بيتها. وأخيرًا قال أحد الأطفال إنها ربما تكون قد تسمَّمت.

في الأشهر التالية، ظلَّت سيرة الحديث عن الجرذ. بعد الواقعة بفترة قصيرة، أحضرت طفلة جرةً بها رفات قطَّتها الحبيبة المتوفَّاة روزي كي تُريها لزملائها وتُحدِّثهم عنها؛ تحدثت عن حياة روزي وكيف أنهم اضطُرُّوا، عندما مرضت، إلى اصطحابها إلى الطبيب البيطري حتى ماتت. ذكر أحد الطلاب أن جدَّه تُوفي مؤخرًا أيضًا، وحُرقت جثته؛ وتساءل الطلاب إذا كان ينبغي أن يفعلوا ذلك لأُنثى الجرذ التي وجدوها على الرصيف. وسأل طفل آخر: لماذا لا نفعل ذلك في كل مخلوق يموت؟

كان سؤالًا من النوع السهل المُمتنع، يلامس حقائق الحياة القاسية — قيود الواقع العملي، وحقيقة أن بعض الأرواح يُقدَّر والبعض لا يقدَّر — ولم ينقذ ناردا من حرَج الإجابة عليه سوى طلب أحد التلاميذ رؤية رماد روزي. كتبتْ لاحقًا: «إن المطالبة بمعرفة سبب استبعاد الجرذ من هذا النوع من العناية يُعري جوهر المسألة. كيف نطبق «الشمول الأخلاقي» على مخلوق لا يرغب الكثيرون في التعايش معه؟»34

تقول ناردا إنه حتى مجرد تخيُّل إمكان العناية بالجرذان المحتضرة كان له عميق الأثر. فهو يضرب بالمنظور الذي يرى أن جميع الأرواح ليست سواءً، وأن بعض الوفيات لا تستحق أن نحزن عليها، عرض الحائط. كما أنه يُخالف تصنيفَي الحيوانات الضارَّة والآفات اللذَين تُدرَج تحتهما الجرذان تلقائيًّا، وعرَّف التلاميذ على التسميم الواسع النطاق للجرذان الذي يؤثر على حياتهم؛ سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوه. لقد شكَّك في الفصل الأخلاقي بين البشر والقوارض. تقول ناردا: «نحن نعيش مع القوارض طوال الوقت. وهي ليست كائنات جذابة. وليست كائنات نُحب أن نراها بالضرورة. ولكن كيف نتعايش معها؟ لأننا مُضطرون إلى ذلك لا محالة.»

لم يُنظِّم الأطفال احتجاجاتٍ للمطالبة بالتغيير في المدرسة، ولم يشجعهم أحد على ذلك. قالت ناردا نيلسون إن هذا ليس المَغزى من منهج العوالم المشتركة. دور المُعلمين هو تعزيز الحوار والتعاطف والخيال. على الأقل، هناك من شهد على محنة الجرذ. لاحقًا، تمنَّت ناردا نيلسون لو أنها أنهت معاناة أنثى الجرذ المِسكينة، وتحدثت إلى أحد حرَّاس أراضي المدرسة، الذي قال ببساطة إنه لا يسَعُه أن يتحكم في مواضع موت الجرذان. ولكن مجرد تفكير المُعلمين في هذه الأمور كان مذهلًا؛ أن يسألوا عن معنى التعليم في عالمٍ أكثر من بشري، وعن معنى التشكيك في سرديات تفوُّق الإنسان، وأن يُكرموا أنثى جرذ مُحتضرة من خلال السؤال عمَّن يستحق حياةً كريمة وموتًا كريمًا في العالم الذي صنعناه. من يدري ماذا سينمو من البذور التي زرعها هذا الفعل البسيط المُخالف للمألوف.

بعد سنوات، عندما دفع مشروع إنشائي قريب الجرذان للهروب من جحورها، مما نشر الذُّعر قليلًا في بعض أجزاء مركز التعليم، ناقش التلاميذ في فصل ناردا نيلسون الأمر وقرَّروا عدم محاولة اصطيادها ونقلها إلى مكانٍ آخر. إذ سيؤدي ذلك إلى تفكيك الأُسر، وسيكون بمثابة حُكم بالإعدام على بعضها. بدلًا من ذلك، قرروا السماح بأن يكون فناؤهم ممرًّا آمنًا. اتفقوا أن يتجنَّبوا الجرذان إذا صادفوا أيًّا منها، وأن ينتبِهوا أكثر إلى طعامهم، وينتبهوا لنفايات الطعام الخاصة بهم. كانوا يرَون الجرذان من حينٍ لآخر. وكان أحدها أُنثى ذات فروٍ بُني فاتح كانوا يُميزونها بمجرد رؤيتها، وأطلقوا عليها اسم روزي.

•••

في تورونتو، بعد أن ترك جيتس صغار الراكون على السطح، انتقل إلى مكالمات اليوم الأخرى. كان موسم صغار الراكون في أوْجِه؛ وهو يتزامن مع موسم صغار السناجب، ويليه موسم صغار الظربان، وبعد ذلك يأتي موسم صغار الطيور، ثم موجة ثانية من السناجب في الصيف. تعمل شاحنات شركته الإحدى عشرة على مدار العام. الفترة الوحيدة التي يسود فيها الهدوء بحقٍّ هي فصول الشتاء الشديدة البرودة التي يهطل فيها الجليد، عندما تُقرر حيوانات الراكون حفظ طاقتها فتدخل في سباتٍ خفيف — وهي حالة ينخفض فيها النشاط الأيضي لكنها لا تصِل إلى السبات الكامل الذي يحدث في البيات الشتوي، تُشبه نوعًا ما قيلولةً تدوم شهرًا — وحتى السناجب التي تكون نشطةً على مدار السنة، تستكين في أعشاشها تلك الفترة.

منذ أسابيع قليلة، أزال جيتس عائلة من السناجب من فوق مدخل، حيث استغلَّت الأم رداءة الألواح الخشبية المحيطة بأنبوب صرف. واضطُرت كاسندرا إلى قطع جزءٍ من الهيكل بمنشار للوصول إلى الصغار. في أثناء قطعها ذلك الجزء وإنزال الصغار على الأرض، ظلت الأم واقفة بعيدًا، تقرض ثمرة جوز أسود. لم يسبق لجيتس أن رأى هذا السلوك من قبل. رأى أن فعلها ذلك ليس نابعًا من الجوع. إنما بدا له سلوكًا نابعًا من التوتُّر، تُعبر به الأم المذعورة عن هلعِها وهي تُراقب عملاقين يأخذان أطفالها وتقف عاجزة. لحُسن الحظ، أخذت الأم جميع صغارها عندما ابتعد جيتس وكاسندرا، إذ التقطت كلًّا منها من إحدى رجليه الخلفيتَين — وهي حيلة تجعل الصغار تتكوَّر فيسهل عليها نقلها — واندفعت به عبر قمَّة السياج إلى عرينٍ آخر قبل أن تعود لتأخذ واحدًا آخر.

كثيرًا ما يُجانب الحظ صغار الراكون. عندما عاد جيتس وكاسندرا في صباح اليوم التالي، وجدوا أن الأمَّ لم ترجع لتأخُذ إلا واحدًا منها فقط. أما باقي الصغار فتصيح من الخوف والجوع، لكن الخبرة علَّمته أن محاولة إطعامها ستؤذي معِدتها التي اعتادت فقط على العناصر الغذائية والميكروبات الموجودة في حليب أُمها. في صباح اليوم التالي، كان الصغار لا يزالون موجودين. لا يعتقد جيتس أن سبب ذلك أن الأم لا تريد صغارها. إنما يظن أن الحادث كان صادمًا للغاية لها. وهذا نادر الحدوث، لكنه وارد. هو يبذل غاية وسعه لتجنُّب إيذاء الحيوانات، غير أنه ليس بوسعه، أو بوسع أي شخصٍ في هذا العالم، أن يمنع كل جرح. لا يسعه إلا أن يُحاول جاهدًا مُداواته، لكن لن تُشفى كل الجروح تمامًا.

لا يقتصر الحنان الأمومي لأُمهات الراكون على صغارها. إذ تتبنَّى الأمهات بسهولة أي صغارٍ عمرها متقارب مع عمر ذُريتها. يفتح جيتس وكاسندرا الصندوق ويأخذان الصغار إلى شاحنتهما. لحُسن الحظ، لديهما مهمة أخرى لإزالة عش راكون في مكانٍ قريب لاحقًا ذلك اليوم، وبعد أن أخذا منه الصغار، ضمَّا المجموعتَين. وعندما عادا في اليوم التالي، لم يجدا أيًّا من الصغار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥